الفصل الأول

التحقيق في مسرح الجريمة

تحقيقات مسرح جريمة مقتل التفكير الإبداعي

(صوت قرمشة.)

«انظر يا أبي، سفينة شراعية!»

كان ابننا كالن البالغ من العمر خمس سنوات يجلس في المقعد الخلفي في السيارة، وقد أخذ أوَّلَ قضمة من قطعة بسكويت كبيرة مستديرة؛ وفتح عالَمًا من الاحتمالات.

•••

(صوت قرمشة.)

«انظر، إنها قمرٌ الآن!»

غمرت الإثارة كالن، لكنه لم يحصل على استجابة من والده في البداية. فكان عقل أندرو منغمسًا في عمل جادٍّ، ولم يكن يحتمل أيَّ إلهاء بألعاب طفولية. فكان منشغلًا بالتفكير في محاضرة سيتحدَّث فيها بصفة رئيسية عن الأبحاث الجديدة الرائدة حول الإبداع والابتكار، لكنه كان يواجه صعوبة في الإتيان بافتتاحية إبداعية للمحاضرة. ومع شعور أندرو أنه تحت ضغط ليخرج بشيء برَّاق يُلَائِم محاضرته لمساء ذلك اليوم، أدرك أنه كان عليه الحفاظ على تركيزه في مهمته التي كانت بين يديه.

«آسف يا كالن، لديَّ عملٌ لأُنجزه.»

•••

(صوت قرمشة.)

«لكن انظر أبي، عليك أن تنظر! لقد صارت جبلًا.»

«بُنَيَّ، ليس الآن! أنا أُحاول أن أُبدع.»

•••

(صوت قرمشة متلاحق.)

الصبي (غير مرتدع): «أبي، إنها الآن طائر.»

•••

غالبًا بسبب شعور أندرو بالذنب والمسئولية الأبوية، وربما أيضًا رغبةً منه في أن يجد سبيلًا لإنهاء المقاطعات، التَفَتَ لينظر إلى ابنه الذي كان يحمل قطعة بسكويت على شكل مثلَّث، وقد التهم معظَمَها إلا قضمتين، فهمهم سريعًا في إشارة إلى أنه رآها، ثم عاد ليركِّز في التحدي الجاد الذي كان بصدد التعامل معه.

وفجأة طرأت الفكرة على ذهنه. وفي لحظة من لحظات الاكتشاف المفاجئ أدرك أندرو أنه بينما كان مشغولًا بمحاولة استحضار حلول إبداعية، كان كالن يطبِّق التفكير الإبداعي بخبرة. وتبيَّن أنه في حين نتعامل مع هذه المهام بصرامة وانضباط أكاديميَّينِ، فإن التنمية الإبداعية تتمثَّل في قدرتنا على التخيُّل والحلم. وفي هذه اللحظة، أدرك أندرو أن الإبداع توجهٌ أكثر منه عملًا، وأن التنمية الإبداعية تَسِير عكس تيَّار المعارف التقليدية. ورأى أنه ليس علينا أن نُصبح أكثر «خبرة» في المجال ولا أن نحشد المزيد من الحقائق حول التفكير الإبداعي وحلِّ المشكلات، إنما علينا أن نعرف كيف ننفتح على أفكار واحتمالات جديدة، وكيف نستغل ونسخِّر الفضول الفطري الذي نُولَد به.

كانت تلك القصة هي ما افتتح به أندرو محاضرته مساء ذلك اليوم؛ اشترى علبة من البسكويت، وفي افتتاح المحاضرة طلب من ستة مصرفيين من بين الحضور الذين بلغ عددهم ثلاثمائة شخصٍ أن يصعدوا إلى المِنَصَّة، وطلب من كل واحد منهم أن يَقْضِم قَضْمَةً من البسكويت. ثم سأل المشارِكة الأولى عما تراه، فحكَّت المصرفية رأسها وفكَّرت بعمق ثم أجابت في النهاية بصراحة واقتناع متناهيينِ: «قطعة بسكويت تنقصها قضمة!» إنَّ قدرة كالن على رؤية سبعة أشكال شديدة الاختلاف عن بعضها بسهولة ودون أي جهد بعد سبع قضمات متتالية أدخلتنا فجأة في أكثر المراحل أهمية في رحلتنا لاستكشاف الإبداع والابتكار. (من الشائق أن نذكر هنا تمرينًا بسيطًا لقياس مستوى الإبداع، حيث يُطلب من المشاركين التفكير في عدد من الاستخدامات المختلفة لشيء معتاد؛ قالب طوب على سبيل المثال. وفي حين يعاني أغلب المتسابقين كي يأتوا بأكثر من خمس أفكار، يستطيع الإنسان المبدع أن يأتي بأكثر من ذلك بكثير.)

دفعتنا هذه التجربة الأولى إلى التساؤل عن سبب ابتعادنا عن الأسلوب البريء المَرِح للحياة مع تقدُّمنا في العمر، وعن سبب فقداننا للقدرة على التفكير بإبداع. ومع تزايد الحاجة إلى التفكير والتصرف بإبداع بسبب النمو الهائل في متطلَّبات الحياة الحديثة وضغوطاتها، أصبحت إعادة اكتشاف هذه القدرة أكثرَ أهميةً الآن من ذي قبل.

(١) هل التفكير الإبداعي بهذه الأهمية؟

لمَّا كان الإبداع روحًا حرة قد تتهرَّب من المدرسة أو العمل بسعادة وتقضي ساعات في أحلام اليقظة بالحقول الفسيحة، فإنه يمثِّل الطفل الكامن بداخلنا جميعًا الذي يتوق للحرية. وعندما يُقيَّد الإبداع بالروتين أو يُحصر بالتوقعات، فإنه يصارع من أجل البقاء. فهو يعتمد على الفرص الجديدة في طرح أفكار جديدة من شأنها أن تمدَّ العقل والروح بالأكسجين. ومتى خُنق أيٌّ منهما بأيِّ عدد من العوامل الخفية أو مُعْلنة القسوة، يُقتل الإبداع.

التفكير الإبداعي يمكِّن الناس من التعامل مع المشكلات والحلول بطرق أكثر ابتكارًا. وفيما يتعلَّق بالقدرة على دمج الأفكار الموجودة بالفعل في تركيبات جديدة، فإننا لا يمكننا — دون التفكير الإبداعي — أن نتعلَّم كيف نتأقلم من أجل أن نتمكَّن من التعامل مع المستقبل؛ فسنبقى دائمًا عالقين في الماضي ولن نتمكن من البقاء.

الدليل دامغ على أن الإبداع في الوقت الحالي مهارة شديدة الأهمية للعمل والحياة. ويقول باحثون عديدون إن عدم القدرة على التفكير على نحو إبداعي هو عامل خطر ذو شأن لأيِّ مؤسسة. ففي تحدٍّ تقليدي للتفكير التباعدي التقاربي والذي قاس القدرة على التفكير على نحو إبداعي، تبيَّن أن أولئك الذين كانوا أكثرَ نجاحًا في مهامِّ تحديد المشكلات وحلها يمتلكون علاقات أفضل. إذ مكَّنهم التفكير الإبداعي من اكتساب مزيد من المرونة، التي بدورها عززت قدرتهم على التعامل مع الضغط وإيجاد الحلول بدلًا من النظر إلى المشكلات على أنها عوائق. وقد وجدت دراسة أجريت على ١٥٠٠ طالب أمريكي في المرحلة الإعدادية أن أولئك الذين يمتلكون مهارات تفكير إبداعي جيدة غلب عليهم امتلاك مزيد من الثقة في المستقبل، موقنين أنهم سيقدرون على التوصل لحلول إبداعية لأي مشكلة تظهر في طريقهم. تبيَّن كذلك أن الطلاب الذين زاد معدل خوضهم تجربة الإبداع، تزيد درجة التزامهم في المدرسة، ويتحصَّلون على نتائج أكاديمية أفضل، ويزيد احتمال مكوثهم بالدراسة لمدة أطول.1
من المسلَّم به الآن على نطاق واسع أن الإبداع مهارة عمل بالغة الأهمية. وفي استطلاع حديث أجرته شركة آي بي إم2 لأكثر من ١٥٠٠ مديرٍ تنفيذيٍّ من ٣٣ مجالًا مختلفًا ومن ٦٠ دولة مختلفة، صُنف الإبداع على أنه أكثر خصال القيادة أهمية (تبلغ نسبة أهميته ٦٠ بالمائة) وأنه أكثر أهمية حتى من النزاهة (التي تبلغ نسبة أهميتها ٥٢ بالمائة) والتفكير العالمي (تبلغ نسبته ٣٥ بالمائة). وحدَّدت آي بي إم عددًا من العوامل التي تميِّز «القادة المبدعين»، وتوصَّلتْ إلى أن ٨١٪ منهم يُصنِّفون الابتكار على أنه «مقدرة أساسية». فأولئك القادة يستطيعون الابتعاد عن كل المناهج والنماذج الاعتيادية للتوصل إلى حلول جديدة تميِّزهم عن العامة.3
لا يمكِّننا التفكير الإبداعي من التعامل بكفاءة مع المشكلات الحالية فحسب، بل يمكِّننا أيضًا من توقُّع المشكلات المحتملة والتوصل إلى حلول مُثْلَى. ومع ذلك يُقوَّض الإبداع دون قصد كلَّ يوم في بيئات العمل التي تأسست — لأسباب منطقية تمامًا — بغرض تحسين مستويات ضرورات العمل إلى أقصى حد مثل تنسيق الأعمال والطاقة الإنتاجية والسيطرة. فلا يُتوقع من المديرين تجاهل ضرورات العمل، لكن في سعيهم لتلبية هذه الضرورات قد يصمِّمون نُظُمًا تَسْحَقُ الإبداع بصورة منهجية دون قصد.4 وشرح أحد الرؤساء التنفيذيين لمؤسسة مالية من بين الذين التقينا بهم الوضعَ قائلًا: «إذا طلبتُ من أعضاء فريقي تسلُّق ذلك الجبل فإنهم رائعون، أما إذا سألتهم أن يختاروا الجبل ليتسلقوه فسوف يحدقون بي تحديقًا.»
ووفقًا للدكتور جيفري ويست الذي أُجريت معه مقابلة حول موضوع «لماذا تستمر المدن في النمو وتنهار الشركات ويموت الناس دائمًا، وتزداد وتيرة الحياة؟»5 إن الابتكار ضروريٌّ لبقاء حضارتنا، بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. ويعتقد ويست بصفته عالم فيزياء والرئيس السابق لمعهد سانتا في أَنَّك إذا كنت تسعى للحصول على دورات لا نهائية من النمو (كما في نظامنا الرأسمالي الحالي)، يجب أن تمتلك الابتكار لدعم هذه الدورات. لكن المشكلة هي أننا بحاجة إلى الابتكار في وقت أسرع وأسرع حتى نواكب وتيرة النمو. اكتشف ويست أن وتيرة الحياة تزداد سرعة أيضًا مع زيادة تعداد السكان. فيقول: «إن كل ما يجري في نيويورك اليوم يَسيرُ بوتيرة نظامية أسرع مما يجري في سان فرانسيسكو ومما يجري في سانتا في، وذلك حتى ينطبق على سرعة سير الأقدام هناك، فالوقت هناك يمر بسرعة أكبر فأكبر. لذا عليك أن تأتي بابتكارات بوتيرة أسرع فأسرع حتى تتجنَّب الانهيار. وينتج كل ذلك من النمو الأُسِّي الذي يحفزه التوسع الخطي الفائق.» ويوضح ويست أن الحضارات والمؤسسات كافة تتبع ما يسمى بمنحنى النمو السيني حيث تتوقف أو تعيد ضبط اتجاهها بعد فترة زمنية معينة. وبالنسبة لجميع المؤسسات، فإن النمو عادةً ما يتوقف عند نفس النقطة — حوالي نصف تريليون دولار — أو بعد أربعين عامًا أو ثلاثة أجيال. وحتى هذه اللحظة، يشير المنحنى السيني إلى أن المبيعات آخذة في الزيادة بثبات، لكن نسبة الأرباح إلى المبيعات آخذة في التناقص بثبات. ونظريًّا يوضح المنحنى أن هذه النسبة تصل في نهاية المطاف إلى الصفر، إلا أن تقلبات السوق تُنهي حياة المؤسسات قبل الوصول إلى هذه النقطة.

عادةً ترى المؤسسات هذا النذير لأول مرة عند هذه النقطة، فتبدأ في تقليل النفقات على الابتكار، مثلًا من خلال تقليص ميزانيات الأبحاث والتطوير، في الوقت الذي تشتدُّ فيه الحاجة إليه. وما يقتل المؤسسات في نهاية المطاف هو قلة البصيرة التي عادة ما تتسم بها المؤسسات في تلك المرحلة الحرجة من دورة حياتها. وتخنق الضروريات الشركات عندما تسمح لنفسها بأن تقع تحت سيطرة البيروقراطية والإدارة بدلًا من الإبداع والابتكار، وهو أمر لا مَفَرَّ منه وفقًا لويست.

ومن ثم، فإن الإبداع شديد الأهمية لبقاء الأفراد والمؤسسات. والأكثرُ أهميةً التفكيرُ الإبداعي الذي يعاوننا على إنقاذ العالم؛ لأنه يمكِّننا — نحن البشرَ — من الحلم وتخيل مستقبل أفضل ومن تنفيذ هذه الرؤيا. عندما حدَّد مارتن لوثر كينج رؤيته للمستقبل في خطبته الشهيرة «لديَّ حلمٌ …» فإنه جسَّد موهبة التفكير الإبداعي ومقدرتها على خلق الدافع للتغيير وعلى التحفيز لثورة حقيقية. ودوَّن هذه الشرارة الإبداعية، وهي شرارة لا بدَّ لها أن تشتعل إلى حد ما داخلنا جميعًا، فإن جذوة الحياة ذات المعنى، ووجودنا برمته سيكون بلا مضمون أو غرض حقيقي. فالتفكير الإبداعي ضروريٌّ لتطور الجنس البشري واستمرار الحياة لما هو أسمى من مجرد البقاء المادي. وإذا أعدنا النظر إلى الماضي، فسنجد أن العديد من الأفكار والمُثل العليا التي أصبحت سائدة الآن (مثل حركة الحفاظ على البيئة) بدأت بحلم إبداعي لعدد قليل من الأفراد الثوريين المنعزلين الذين كان يُنظر إليهم على أنهم متطرفون، لكن أصبح لهم اليوم كبيرُ الأثر على مستقبل الكوكب بأكمله.

(٢) هل الموت الإبداعي وشيك؟

الإحصاءات الجوهرية
أدت الأبحاث التي أجريت على تراجع الإبداع إلى بعض النتائج المذهلة. ففي عينة شملت ١٥٠٠ طفلٍ تتراوح أعمارهم بين ثلاث وخمس سنوات، صُنف ٩٨٪ منهم على أنهم «عباقرة» في التفكير التباعدي؛ أما الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ثماني وعشر سنوات، فإن النسبة انخفضت معهم إلى ٣٢٪ فقط؛ وعند الوصول إلى العمر بين ثلاث عشرة وخمس عشرة سنة، انخفضت النسبة مرة أخرى إلى ١٠٪. بمعنى آخر، يصبح الأطفال أقل إبداعًا مع نموِّهم. بالإضافة إلى ذلك، في تجربة خاضعة للتحكم أجريت على ٢٠٠٠ شخص بالغ (تبلغ أعمارهم ٢٥ عامًا فأكثر)، لم يصنف منهم باﻟ «عباقرة» سوى ٢٪.6 فعندما بدأ عالم النفس الأمريكي إي بول تورانس — منذ أكثر من خمسين عامًا — تحديد العوامل الرئيسية للتفكير الإبداعي وتقييم الأفراد وفقًا لهذه المعايير، لم تكن لديه أدنى فكرة عمَّا ستكشفه هذه التقييمات في نهاية المطاف. وتوصَّل تورانس وزميله جارنيت ميلر — اللذان تابعا الأفراد على مر الزمن — إلى أن الصفات التي حدداها في الأطفال الصغار كانت مؤشرات أساسية للنجاح المهْني الإبداعي. وأصبحت هذه التقييمات هي المعيار الذهبي في مجالهما واستُخدمت منذ ذلك الوقت كمؤشر موثوق به لإنجازات البالغين. وخلال استعراض البيانات التي جمعها تورانس وزملاؤه طوال الحياة وإعادة تحليلها، وُجد أن الإنجازات الإبداعية على مدى الحياة ترتبط بالإبداع بقوة تبلغ ثلاثة أضعاف قوة علاقتها بنسبة الذكاء في مرحلة الطفولة.7
وهناك نتيجة جديدة صادمة أخرى تمَّ التوصل إليها من تحليل البيانات التي جمعها تورانس على مر الزمن؛ وهي أنه رغم ازدياد مستويات ذكاء كل جيل بحواليْ عشر نقاط بسبب البيئات المعززة (ما يسمى بتأثير فلين)، فإن درجات الإبداع حقيقةً تأخذ في الانخفاض مع مرور الوقت. وبعد تحليل ما يزيد عن ٣٠٠ ألف درجة من درجات تورانس الخاصة بالأطفال والبالغين، وُجد أنه رغم ارتفاع درجات الإبداع مع ارتفاع مستويات معدل الذكاء حتى العام ١٩٩٠، فإن درجات الإبداع هبطت منذ ذلك الوقت بشكل ملحوظ.8
ومثال آخر على تراجع الإبداع مع التقدم في العمر يوجد في تمرين يسمى «تحدي المارشميلو». في هذا النشاط، يُطلب من المشاركين بناء أطول هيكل دون دعامة يمكنهم بناؤه باستخدام حلوى المارشميلو وعيدان المكرونة الاسباجيتي فقط، يتفوق الأطفال على البالغين بثبات. وفي واقع الأمر، لم يقدر على بناء الهيكل القائم بذاته سوى نصف البالغين، بينما يبني الأطفال هياكل أطول وأجمل وفقًا لجميع مقاييس الابتكار. أما البالغون فهم حرفيًّا دون المستوى.9

إذن لماذا يحدث ذلك؟ من الواضح أن هناك نوعًا من التدخل، ولسوء الحظ تُشير كل الأدلة إلى الهيكل ذاته الذي عليه أن يشجِّع على الإبداع ويرعاه أكثر من غيره؛ وهو نظام التعليم. فقد رأينا — على سبيل المثال — أن حماس كالن نحو الاختراع والاكتشاف قبل أن يلتحق بالمدرسة كان ملهمًا. وفي الوقت نفسه، بدا أن أخته الكبرى زوي قد وقعت بالفعل ضحية لهذا النظام. فزوي كانت منحصرة بالكامل وفعليًّا داخل الهيكل الذي بدا كأنما يوجه نحو تحديد رؤية الأطفال في مجالات بعينها وتعطيل التفكير التباعدي. وحقيقةً، لقد بدأنا نتساءل عما إذا كان نظام التعليم يقتل التفكير الإبداعي فعليًّا بدلًا من إلهامه.

فقررنا إجراء مقابلات مع الأطفال في سياق المدرسة لنحاول أن نفهم ما يحدث للأولاد حينما ينخرطون في نظام التعليم.10 فذهبنا إلى مدرسة أولادنا الدولية في بالي ولا سلاح معنا سوى سلسلة من الأسئلة وكاميرا للفيديو، لكننا انبهرنا من الردود الصارخة التي حصلنا عليها من مجموعات العينات الصغيرة. مع سيرنا في المدرسة، مررنا بملاعب بها حدائق مبهجة وأدوات ألعاب رائعة، وبعدها انتقلنا إلى فصول الصغار التي تزيِّنُها كلُّ أنواع المنتجات الإبداعية التي صنعها الأطفال بأنفسهم. وعندما أجرينا مقابلات مع هؤلاء الأطفال الصغار، كان هناك حماس بالغ. أجل، شعر جميعهم بأنهم مبدعون وطبعًا كانوا فخورين بذلك! ونحن شعرنا براحة وأمل بالغين بأن الإبداع لا يزال بخير وحيًّا في المدرسة. أما فصول الكبار، فكانت قصة أخرى. فحلَّت جداول الرياضيات ورسومات العلوم محلَّ الأعمال الفنية على الحائط، وجلس الأطفال في صفوف مهذَّبِين وخانعين. ورأى المدرِّسون الذين التقينا بهم أنه «لا داعي للمزيد من التحفيز في البيئة» حيث يتم «إعداد الطلاب للمدرسة الثانوية» ثم «إعدادهم للجامعة». وكانت إجابات الطلاب على الأسئلة التي طرحناها سلبية بشكل ملحوظ. وذُعرت زوي لرؤية والديها يدخلان الفصل ويطرحان أسئلة محرجة حول الإبداع. ولم تُبْدِ ابنتنا الثرثارة الودود أيَّ اهتمام بالموضوع. ومثلها مثل زملائها، اكتفت بهزِّ كتفيها والنظر بعيدًا عندما سألناها إذا كانت تشعر بأنها مبدعة. ومنذ ذلك الحين تدنَّى مقدار حبها للتعلم بسرعة كبيرة.
كنا قد افترضنا سابقًا أن الأطفال قد يشعرون بأنهم أقلُّ إبداعًا، وأنهم بالمجمل يُظهِرون مستويات إبداع أضعف في سياق المدرسة أثناء ترقِّيهم في النظام، وأكدت انطباعاتنا الأولى مخاوفنا. وحسب فرضية أن الأطفال بطبيعتهم مفكرون إبداعيون (سنناقش أسباب هذه الفرضية في هذا الكتاب)، أردنا أن نرى إن كان من الممكن أن تدعم العقول البريئة غير الأكاديمية الأبحاث الأكاديمية حول الإبداع، وانبهرنا بعدما اكتشفنا أن الكثير من الإجابات المرتجلة التي حصلنا عليها توافقت مع نتائج الأبحاث. فقد أظهر لنا الأطفال في عمر الخامسة فِراسةً مذهلة؛ مثل: كيف أن التفكير الإبداعي يبحث عن أنماط مختلفة «ويتوصل إلى أفكار مختلفة ويوصل كل الأمور ببعضها» (شاهد الفيديو بعنوان Hands up على الموقع الإلكتروني (www.whokilledcreativity.com)).

نحن لا نكبر لنصبح مبدعين، بل نكبر بسبب الإبداع؛ بل إننا نتعلم منه.

السير كين روبنسون

(٣) هل أنت مبدع؟

بعد زيارتنا المدرسية، استطلعنا آراء الآلاف من المشاركين في الحلقات الدراسية الدولية من الشركات التي عملنا معها. وعند سؤالهم عما إذا كانوا يظنُّون بأنهم كانوا أكثر إبداعًا في صغرهم عن كبرهم، ردَّ أكثر من ٨٠٪ منهم بالإيجاب. واعترف الكثير منهم بأنهم يجدون مشقة في التحلِّي بالإبداع في بيئات عملهم الحالية، وهذا الأمر ليس مفاجئًا عندما تنظر إلى تركيز الشركات على تحقيق أهداف عملية وعلى المحصلة النهائية. وأفاد غالبيتهم في استطلاعنا أنهم كانوا أكثر إبداعًا عند بدء عملهم بالمؤسسة. فيبدو أن كلًّا من أنظمة التعليم وأنظمة العمل عملت على كَبْت الإبداع بطريقة ما.

ما الذي يمكن أن تقوم به المؤسسات إذن لحلِّ هذه المشكلة؟ ستبدأ الشركات الذكية بتحمُّل بعض المسئولية تجاه التعليم التفاعلي وليس تجاه مهارات التدريب فحسب. وستُدرك أولًا أن التدريب لا يساوي دائمًا التعليم. فالتدريب يدور حول تنمية مجموعة مهارات محددة ونقل المعارف والحقائق على أمل أن يستفيد العاملون من هذه المعلومات عند الضرورة. أما التعليم، فيدور حول تنمية المهارات اللازمة للتعلم والبحث المستمرينِ؛ أي إنه في نهاية المطاف يُعنى بتعلم كيفية التفكير بإبداع. وربما علينا أن نتدارك أوجه القصور في كثير من الأنظمة الحالية التي تعتمد على «بنك المعرفة» كما يسميها المعلِّم والمنظِّر باولو فريري، وأن نفكر في طريقة لإدخال عمليات تعليمية فعلية في مؤسساتنا بدلًا منها.

من الخطأ أن نفترض أن المشاركين في برامج تدريب الشركات يرغبون في التعلم والاستماع إلى ما يقوله المدرب، فليس هناك من هو أشد مقاومةً للتعلم من المتهكِّمين البالغين. فسوء تجاربهم مع نظام التعليم غالبًا ما ينزع منهم الرغبة في المزيد، ومن ثَمَّ يكونون غير مستعدين لمواكبة التغيير. وهم يواجهون صعوبة في الإتيان بأفكار جديدة وفي التفكير بإبداع، وعندما ينتهي المطاف بهؤلاء في مناصب إدارية، فسيكون للخلاف الذي ينشأ بسبب رؤيتهم لطريقة سير الأمور ونظرتهم للآخرين آثار بعيدة المدى، وقد يؤدي إلى توقف نمو الشركة تدريجيًّا.

مفتاح الإبداع هو الحفاظ على التخيُّل الطفولي الحر وتغذيته بالمعرفة بدلًا من إحلال المعرفة محله.

بروس هادون

ولإعادة بناء الإبداع خلال العمليات التعليمية الموجهة (وليس التدريب البسيط)، عليك أولًا أن تتعرَّف على القَتَلَة وتتعامل معهم لتتأكد من أنهم ليس لديهم أي تأثير سلبي على البيئة. وهذا هو ما نعتزم القيام به الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤