الفصل الثالث

أين قُتل الإبداع؟

البحث عن مواقع القتل المحتملة

تخيَّل أنك تسير نحو مقعد في حديقة لتتناول غداءك. وفجأة يرنُّ هاتفك بنغمة سرية، تنبِّهك إلى حقيقة أنك على وشك الجلوس بجانب مرتكب جرائم جنسية مسجَّل، أو ربما حتى قاتلٍ. وهذا ليس سيناريو من فيلم رعب أو خيال علمي. فهذه التكنولوجيا موجودة حولنا منذ فترة. ومن الممكن فعلًا تحميل تطبيق على آي فون أو آندرويد يخبرك بعدد المجرمين الموجودين في محيط نصف قطر حول المنطقة التي أنت فيها. وقد تم اختباره مؤخرًا في أحد المواقع بالمدينة ليغطِّي منطقة محددة، فكشف عن اثنين من فئة المجرمين العنيفين، وأربعة من فئة المجرمين المدانين بالسرقة أو السطو، وخمسين من فئة المدانين بارتكاب جرائم متعددة، وحوالي اثنيْ عشر من فئة ذوي المخالفات المرورية أو غيرها من المخالفات القانونية الأخرى. هذا قد يُشعِرك بالارتياب ولو قليلًا. ما الذي ينتويه كل هؤلاء المجرمين؟ علق أحد المدوِّنين قائلًا: «بعد أن عشت هنا قرابة خمسة عشر عامًا، غالبًا سأبدأ في أن أوصد بابي ليلًا … يا إلهي! مدينتي يكتسحها المغتصبون والمتحرشون بالأطفال. عليَّ أن أكفَّ عن النظر في هذه الخريطة!»

في المملكة المتحدة، قامت مجموعة تسمى «المجموعة الخيرية لمانعي وقوع الجرائم» بوضع خريطة ﻟ «البؤر الإجرامية» التي يعيش فيها أكثر المجرمين شراسة في بريطانيا. وقد لا يثير الدهشة أن تكون المدن المزدحمة على رأس البؤر الإجرامية. فحسبما ذكر وزير داخلية حكومة الظل كريس جرايلينج: «إن أكثر المجرمين عنادًا غالبًا ما يخرجون من أكثر المناطق حرمانًا والتي يصعب التعامل معها في أكبر مدننا. وهذا يؤكد على كيفية تأثر تلك المناطق بالجرائم تأثرًا كبيرًا.»1 وتستخدم الشرطة هذه الإحصائيات عند البتِّ في أماكن توزيع الموارد وفي تركيزها على برامج منع الجرائم والتعليم.

وبالطريقة نفسها، كلما تعرفنا على أماكن وجود قتلة إبداعنا، كنا على استعداد أفضل لإيجاد سُبل لمنع أنشطتهم والتعامل معها. لذا من المفيد معرفة ما إذا كانت هناك أماكن معينة في المؤسسة من «البؤر الإجرامية» التي يتسكَّع فيها الأشرار.

(١) تحديد «البؤر الإجرامية»: من مكتب المدير إلى الكافيتريا

أغلب اللصوص كُسالى، فهم يستخدمون أسهل طريقة للدخول إلى موقعهم المستهدف.2 ووسيلتهم المفضلة للدخول هي ذات وسيلتنا: الدخول من الباب. قتلة الإبداع يفضلون أيضًا الدخول ببساطة خلال الباب الأمامي لغرف معيشتنا أو محالِّ عملنا، ثم يتمركزون بسعادة في البؤر المفضلة لديهم. ولأنهم غالبًا ما يكونون متنكرين بمهارة أو شديدي الجاذبية، فعادة ما يفلتون بجرمهم.

هناك تمرين شائق (وكثيرًا ما يكون مُسليًا)، وهو أن تتصفح قسم القتلة في هذا الكتاب وترى إن دخل كل قاتل مؤسستك دون أن يُكتشف، وإذا كان الأمر كذلك، فأين يمكن أن تكون أماكن تسكُّعه المفضَّلة. ويمكنك أيضًا محاولة مطابقة القاتل والسلاح مع أكثر الأماكن المحتملة. سيكون عليك أولًا أن تفكر فيمن فعلها: هل هو على سبيل المثال الإجهاد المفرط مستخدمًا الإرهاب المطبق في مكتب المدير؟ أم البيروقراطية مستخدمة الإرغام الساحق في قسم الحسابات؟ في ورش العمل التي نعقدها، نستخدم لعبة الألواح التي تحاكي الواقع مع هذه الشخصيات لإثارة النقاش حول هذا الموضوع، ثم تصوت المجموعات على أكثر الجناة والأسلحة والمواقع المحتملة، التي تختلف كثيرًا من مؤسسة إلى أخرى، وحتى من فريق إلى آخر.

عند النظر في الأماكن التي يُرجَّح وجود قتلة الإبداع بها، قد يثير اهتمامك أن تعود بذاكرتك إلى أيام المدرسة. هل تتذكر أين كان يتجمع الأطفال القساة؟ في حالتنا، وبالعودة بالذاكرة، لم يكن ذلك يحدث في الأماكن الجذابة أو المحببة؛ فكانوا حقيقةً يتجمَّعون في المراحيض! وكثيرًا ما كان الطلاب الصغار يحبسون أنفسهم عن التبول طوال النهار كي لا يجازفوا بمواجهة طلاب الصف الأعلى من المدخنين وسَلِيطِي اللسان في المراحيض. على الجانب الآخر، كانت مكتبةُ المدرسة، الساكنة والمملة — لكنها آمنة وهادئة — والتي كانت ملاذ الخجولين (خاصة إذا كانوا يتعرضون للتنمُّر) محجوزةً للمهووسين بالدراسة. وفي أبحاثنا، وجدنا أنه في مؤسسات العمل يميل قتلة الإبداع إلى التسلل إلى تلك المناطق الأكثر صرامةً وتنظيمًا والأقل تفتحًا ومرحًا.

وقد كشف استطلاع لنا أجريناه على الإنترنت عن بعض العوامل البيئية الرئيسية التي ترتبط بموت الإبداع من وجهة نظر المشاركين. فأشار العديد إلى أنه كلما ترقى الفرد في المؤسسة (على سبيل المثال الرئيس التنفيذي، وأعضاء مجلس الإدارة، والمديرون التنفيذيون، وموظفو الحسابات والموارد البشرية)، زاد احتمال قتل الإبداع. وكان من بين التعليقات: «الموارد البشرية والمالية هما أكثر المجالات المنظمة في حقل عملي تقييدًا للإبداع» وكذلك «يُقتل الإبداع في أي مكان يُصغَى فيه إلى الناس ويُقدَّرون بسبب مكانتهم لا مواهبهم وقدراتهم.»3

العامل البيئي الهام الآخر الذي ينبغي وضعه في الاعتبار هو البيئة الاجتماعية. في المدرسة لديك من جهةٍ المتنمِّرون أو الأولاد القساة (وسنسميهم هنا أطفال ثقافة المرحاض لاستحضار صورة معينة في ذهنك)، ومن جهة أخرى المهووسون بالمذاكرة (ولنسمِّهم أطفال ثقافة المكتبة)، لكن معظم الأطفال يقعون في مكان ما في المنتصف بين هذين الطرفين. فهؤلاء الأطفال غالبًا ما يتأثرون بسهولة بأحد الطريقين؛ بثقافة المرحاض أو ثقافة المكتبة. والأمر متروك للمدرسة لإرساء أجواء إيجابية وخلق ثقافة بنَّاءة، مع الحرص على إنشاء مرافق توصلهم إلى مهمتهم. ومثله مثل تأثير المصوت المتأرجح، فإن تأثير الطالب المتأرجح يمكن أن يكون هائلًا إذا استُثمر بكفاءة. فلا ينتهي تأثير الأقران عندما نتخرج من المدرسة. فنحن نحب إرضاء الناس الذين نقضي وقتنا معهم، وإن كان هذا يعني أن نكون مسيطرين أو ساخرين أو ضيقي الأفق، فسيفعل الكثير منا ذلك. وإن كان يعني أن نشجع الآخرين، فسنفعل ذلك أيضًا، ما دام هناك حافز. وإذا أوقف من حولك الإبداع، فسيصعب الخروج بأفكار جديدة، لكن إذا تمَّ التشجيع عليه فسيشارك الجميع بحماس. فثقافتا المرحاض والمكتبة تنتشران في كل مكان.

في المؤسسات أيضًا يمكن خلق بيئة إيجابية تضمن وجود تحيز بنَّاء نحو التفكير الإبداعي وبعيدًا عن قتلة الإبداع الذين قد يبسطون نفوذهم. ومفهوم «نقطة التحول»4 لمالكوم جلادويل يتعلق بديناميكيات الفريق كما يتعلق بمجالات أخرى.5 فأحيانًا يتسبب تغيير طفيف في العاملين في الفريق إلى تغيير البيئة بأكملها. إن لأي مؤسسة ثقافة من شأنها تشجيع أيٍّ من المجرمين أو المحفزين على الازدهار.
انظر إلى البنك الوطني الأسترالي ومجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية. فقد أعلنت كلتا المؤسستين أنهما حريصتان على تغيير طريقة عملهما. وكلتا المؤسستين تستخدمان نهجًا مطابقًا للتغيير (يُسمى برنامج البنك الوطني الأسترالي «الانطلاق»، ويسمى برنامج مجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية «الاندفاع»)، وقد صممت شركة ماكينزي للاستشارات الإدارية كلا البرنامجين سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وكلاهما يركزان على السلوكيات الاجتماعية التي تحتاج إلى التعديل حتى تُحدث تغييرًا ثقافيًّا إيجابيًّا. وفقًا لمهندسي برامج مجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية، فإن أنواع القيم المؤثرة التي سوف تحدد هذه السلوكيات وتنشئ تغييرًا ثقافيًّا إيجابيًّا تشمل الثقة والشفافية والمساءلة والتمكين.6 وإن لم يحدث هذا الأمر، أو إن سيطرت المنافسة المدمرة وعدم الثقة على المؤسسة، فلا يمكن أن يبقى الإبداع على قيد الحياة.
إذن، كيف تتعامل مع ثقافة المرحاض في المدرسة أو مؤسسة العمل؟ حاول أن تعقد اجتماعاتك هناك، وتحويلها إلى درس عملي! قرر مدير تنفيذي إقليمي مبدع في شركة جرايهاوند أن يذهب دون إخطار إلى محطة للحافلات تكثر بها المشكلات وعقد اجتماعًا مفاجئًا للموظفين في المراحيض ليسلط الضوء على حقيقة أنهم عليهم التشديد على الحفاظ على نظافة المراحيض.7 كان هذا درسًا عمليًّا واضحًا ذا تأثير قوي بلا شك. وفي درس عملي آخر مماثل، عقدت مدرسة خاصة اجتماعًا في المراحيض تُوِّجَ بنجاح مبهر مماثل. فقد كانت هناك مجموعة من الفتيات يبلغ عمرهن اثنيْ عشر عامًا يجتمعن بانتظام في المراحيض ويتركن بصمات أحمر الشفاه على المرايا. وكلما أزال عامل النظافة الآثار، ظهر المزيد في اليوم التالي. وباءت بالفشل كل جهود الناظرة لتأديب الفتيات، واستمرت آثار أحمر الشفاه في الظهور، حتى جاءت أخيرًا بحل إبداعي. فدعت الفتيات إلى الحمام مع عامل النظافة، وشرحت لهن مقدار الجهد الذي يُبذل في تنظيف المرايا. ثم طلبت من عامل النظافة توضيح ذلك. فأخذ عامل النظافة ممسحة، وغمسها في مقعد المرحاض، ونظف بها المرآة. توقَّفت المشكلة بعد ذلك!

هذا الفصل سوف يبحر في بعض الأماكن العامة التي تجدها في معظم المنظمات والمؤسسات، سواء الحكومية أو الخاصة، على كافة المستويات. انظر ما إذا كان يمكنك معرفة أين يتمركز قتلة الإبداع في مؤسستك!

(١-١) موقع الجريمة المحتمل الأول: مكتب المدير

ترك القتلة بصماتهم هنا بالتأكيد. يكافح الرؤساء التنفيذيون وغيرهم من المديرين الرفيعي المستوى عادةً لمواكبة بيئات العمل المتقلبة والآخذة في التعقيد. إنهم بحاجة إلى التركيز على قضايا الشركة الأساسية البارزة. وكشفت دراسة أجرتها شركة آي بي إم8 أن أقل من نصف المديرين التنفيذيين العالميين الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أن مؤسساتهم مستعدة للتعامل مع التحولات الهائلة في الطريقة التي ينبغي أن تدار بها الأعمال. إنهم يدخلون في تحديات يومية بمحاولتهم التعامل مع مجالات رئيسية مثل اللوائح الحكومية الجديدة، والتغيرات في مراكز القوة الاقتصادية العالمية، والتحول الصناعي المتسارع، والأحجام المتزايدة للبيانات، وتفضيلات العملاء التي تتطور بسرعة. وهنا تنبع الحاجة إلى الإبداع بلا شك؛ لكن أيضًا مع الحاجة للتوافق مع هذه التوقعات واسعة النطاق، غالبًا ما لا يكون هناك مجال للتفكير الإبداعي.
ولقد وصف الرئيس التنفيذي لإحدى المؤسسات الكبيرة التي أجرينا استطلاعًا للرأي فيها الإحباط الذي ينتج عن اضطراره إلى إدارة الشركة وفقًا لأوامر مجلس الإدارة، وأثره على ثقته الإبداعية. فأوضح كيف أن منظوره الإبداعي الذي بدأ به قد توقَّف عن العطاء؛ إذ تعيَّن عليه أن يلبِّي الإرشادات شديدة الصرامة. وقال: «عندما كنت صغيرًا لم تكن أمامي أي حواجز، لم أكن أعرف أي شيء أفضل، لم أكن أعمل وفق برنامج محدد، ولم أهتمَّ بما يظنه الناس، لم يكن لديَّ أي جانب سلبي؛ كان العالم لَوْحَتِي. لكني الآن أدرك أنه رغم أنني لديَّ المزيد لأبذله والمزيد من الدافع لأتحرك، فأنا مقيد بأوامر مجلس الإدارة.»9

إنَّ المديرين على كل المستويات وفي كل المؤسسات يضطرون إلى التعامل مع الضغوط التي تأتي من أعلى ومن أسفل، وعليهم التوصل إلى طرق مبتكرة لإعادة تشكيل المستقبل.

(١-٢) موقع الجريمة المحتمل الثاني: غرفة اجتماعات مجلس الإدارة

الكثير من الموظفين لا يدركون أن كل شخص له مدير. وغالبًا ما توجَّه النميمة والسخرية صوب المناصب العليا، ويفترض الغالبية أن المسئولية النهائية تقع على أعتاب مكتب الرئيس التنفيذي. لكن الرؤساء التنفيذيين يشغلون أكثر الوظائف عزلة في العالم، كما أنهم يخضعون للمساءلة أيضًا. فيحتاج الرئيس التنفيذي إلى إدارة الشركة والحفاظ على ربحها من النقصان، بالإضافة إلى تقديم تقاريره إلى مجلس الإدارة. وفي المقابل، على مجلس الإدارة ضمان أن القرارات التي تُتخذ تُرضي حَمَلَة الأسهم. لذا فكل شخص تقريبًا مسئول أمام شخص آخر. وجماعة الضغط وعائلة الخوف وفوج التشاؤم يترددون كثيرًا على اجتماعات مجلس الإدارة. كما أنك كثيرًا ما تجد زمرة العزل وعصابة ضيق الأفق هناك. وفي ظل الانتباه الشديد الموجَّه لهذا الجمع ذي الشأن، فإن تخطي حدود المألوف من الكلام أو اقتراح شيء جديد وإبداعيٍّ عادةً ما لا يكون جديرًا بالمخاطرة. فلا يُحتفى بالإبداع إلا إذا استطاع تقديم ربح قصير الأمد، ومكاسب مالية صافية. وعادةً ما تكون الضغوط بالغة الشدة فلا يبقى مجال حتى للتفكير في ابتكارات أو تحوُّلات جذرية قد تغيِّر مجريات الأمور.

(١-٣) موقع الجريمة المحتمل الثالث: قسم الحسابات/المالية

كان هناك صاحب عمل يُجري مقابلات مع مرشحين لشغل منصب مدير قسم. وقرر اختيار المتقدم الذي يستطيع أن يقدم أفضل إجابة على السؤال: «كم يساوي ٢ + ٢؟» أخرج المهندس مسطرته الحاسبة، وحركها إلى الأمام والخلف، ثم أعلن أخيرًا، «إن الإجابة تقع بين ٣٫٩٨ و٤٫٠٢» وقال المتخصص في الرياضيات: «خلال ساعتين يمكنني أن أثبت أنها تُساوي ٤ خلال البرهان القصير التالي …» وقال المحامي: «في قضية سفينسون ضد الولاية أُعلن أن ٢ + ٢ تساوي ٤»، وسأل التاجر: «هل أنت مشترٍ أم بائع؟» ونظر المحاسب إلى صاحب العمل ثم نهض من على كرسيه وذهب ليعرف إن كان هناك من يتنصَّت عند الباب، وأسدل الستائر. ثم أخيرًا عاد إلى صاحب العمل، وانحنى عليه فوق المكتب وقال بصوت منخفض: «ماذا تريدها أن تكون؟»

يُستخدم مصطلح «المحاسبة الإبداعية» كثيرًا لوصف كيفية استخدام الأفراد والشركات الممارسات المحاسبية لتقليل ضرائبهم وتضخيم أصولهم أو التصريح بحجم ديون أقل من الحقيقي. ويُعرَّف المحاسب على أنه «شخص يحل مشكلة لم تكن تعرف أنك تعاني منها بطريقة لا تفهمها وبتكلفة لا تستطيع تحملها.» ورغم هذا، لا يرى المحاسبون أنفسهم مبدعين!

وكثيرًا ما يتم الاستشهاد بشركة إنرون على أنها تجسيد للمحاسبة الإبداعية، وأنها خير مثال على ما يحدث عندما تتخطى الممارسة المهنية الحدود. كانت مؤسسة آرثر أندرسن — وهي المدقق المحاسبي للشركة — واحدة من كبرى شركات المحاسبة الموقرة في هذا المجال في ذلك الوقت؛ لذلك تفاجأ الجميع بأن الاحتيال قد بلغ المدى. والذين يعرفون مدى انتشار هذا النوع من الاحتيال المحاسبي يظنون أنهم ألقي القبض عليهم لحظِّهم العاثر.

وبصرف النظر عن هذا النموذج الملتبس فيه للإبداع، لا تستخدم «المحاسبة» و«الإبداع» كثيرًا في الجملة نفسها. فعلى قسم المحاسبة أن يكون «دقيقًا» و«صحيحًا» بصرامة؛ لذلك عليه اتباع نظم وإجراءات صارمة في إطار إرشادات ثابتة، وأن يُولِيَ عناية خاصة بمصادر الربح. ويرى مستشار الأعمال جيم كولينز أنه في حين أن الربح ضروريٌّ لبقاء المؤسسة على المدى الطويل، فإنه مثل الأكسجين؛ شيء نحتاج إليه للعيش لكنه ليس ما نعيش لأجله.10 فيجب رَأْبُ الصَّدْع المحتمل بين الهدف والربح، بصفته الدافع الأساسي، بفعالية حتى ينمو التفكير الإبداعي ويترعرع في هذا الجزء من المؤسسة.

(١-٤) موقع الجريمة المحتمل الرابع: مكاتب المديرين التنفيذيين

أصحاب النفوذ يجدون صعوبة في الرؤية من أي منظور عدا منظورهم الخاص، وَفْقَ ما انتهت إليه دراسة حديثة.11 فعندما طلبت الدراسة من المشاركين استخدام إصبع يدهم للتظاهر برسم حرف E على جباههم، وُجد أن أكثر الناس نفوذًا كانوا يرسمون هذا الحرف وفقًا لمنظورهم، ووجدوا صعوبة في تخيل كيف يراه الآخرون. وأفضى الاستنتاج إلى أن النفوذ يدفع الأفراد إلى تحميل وجهة نظرهم الخاصة أهمية زائدة عن الحد.
وعلى المديرين التنفيذين الحذر من ألا تُشعِر لغتهم الآخرين بالاغتراب في محل العمل، أو تمنعهم من المساهمة في المؤسسة. وإليكم كيف يرى الفيلسوف سام كين إحدى المشكلات:
كل مؤسسة ومهنة … لديها لغتها الخاصة. وطبيعة المهن والمؤسسات هي استحداث لغات خاصة يفهمها العاملون بالداخل، لكنها مبهمة لغيرهم؛ ويعني أن تكون مهنيًّا أن تتحدَّث بالشفرات. وبالنسبة لعديمي المعرفة بالمجال، تعد قراءة الوثائق الداخلية مثلها مثل فك رموز الشفرة. فليس من غير المألوف للمهنيين على جميع المستويات استخدام التشويش والتعقيد والإبهام لادعاء المعرفة — ومن ثَمَّ النفوذ — غير المتوفر للشخص العادي.12

(١-٥) موقع الجريمة المحتمل الخامس: قسم الأبحاث والتطوير

أحرز الجزء الخامس من فيلم «السريع والغاضب»13 نجاحًا ماديًّا كبيرًا، محطمًا العديد من الأرقام القياسية لشباك التذاكر من خلال نوع جديد من قصص «مطاردات السيارات» التي لا تركز على سباقات السيارات بقدر تركيزها على السرقات المسلحة، والهدف هو نقطة الشرطة الفاسدة. وبينما يراقب فريق المجرمين نقطة الشرطة ويتفكرون فيما إذا كان باستطاعتهم اقتحامها، يظن أغلبهم أنه ضَرْبٌ من المستحيل. لكنَّ بطلنا موضع الثقة دومينيك توريتو (فين ديزل) يشرح لهم أن معظم نقاط الشرطة والسجون مصمَّمة لإبقاء الناس في داخلها، لا إبعادهم عنها، ويظن أن نقطة الضعف هذه يمكن استغلالها. وبطبيعة الحال يحقق المجرمون هدفهم في نهاية المطاف ويقودون سياراتهم نحو نقطة الشرطة البعيدة عنهم في مطاردة شديدة السرعة (وهو جُلُّ غرض الفيلم). ويعكس الفيلم النمط التقليدي للرجال الطيبين في مقابل الأشرار خلال حصر الأشرار في نقطة الشرطة، ويقدم رسالة شائقة هي أن المجرمين يُعثَر عليهم في آخر الأماكن التي يُتوقع أن يكونوا بها.

في مؤسسات الأعمال، قد يكون قسم الأبحاث والتطوير على الأرجح هو آخر مكان يبحث فيه فريق التحقيق في مسرح الجريمة عن قتلة الإبداع. ففي نهاية المطاف، يُفترض أن ينشأ الإبداع هناك. فقد تنعدم احتمالية موت الإبداع في مختبرات الأبحاث والتطوير، لكن ربما يكون ذلك هو نقطة ضعف القسم الكبرى، فلا يحدده أحد على أنه مسرح جريمة. تخيل مقابلة شخص يعمل في قسم الأبحاث والتطوير يعلن أنه ليس مبدعًا؛ سيكون الأمر مثل فندق يقول مسئولوه إنه ليس به أسرَّة!

إننا نتوقع من قسم الأبحاث والتطوير أن يكون حاضنًا للإبداع (وأحيانًا يكون المكان الوحيد الذي يزدهر فيه الإبداع). لكن القتلة أمثال اللامبالاة والعزل لا تزال لديهم القدرة على توجيه الضربات بسهولة هناك. من المشكلات وراء إبقاء الأبحاث والتطوير كقسم منفصل أنه يمكن تقسيمه إلى مثيري الأفكار الذين يأتون بغالبية الأفكار الإبداعية، وآخرين لا يوكل إليهم هذا الدور، فيُغَضُّ النظر عنهم ولا يَجْرِي تشجيعهم على الإتيان بأفكار إبداعية. كما أنه — إلى حد ما — يمكن للإبداع هنا أن يُخمِد الحماس الإبداعي في أقسام أخرى من المؤسسة. وإذا ظن الشخص العادي أن التفكير الإبداعي هو دور قسم الأبحاث والتطوير، فسيستمر في المجاهدة بغير فاعلية في عمله. لذا، بينما لم يُقتل الإبداع في قسم الأبحاث والتطوير، فهو يُخمد خِلسة ودون علم في كل مكان آخر لمجرد وجود دور لقسم الأبحاث والتطوير.

ومن المشكلات الأخرى أن قِسْم الأبحاث والتطوير رغم أنه قد يولِّد أفكارًا خلابة، فإن تطبيق هذه الأفكار ليس مضمونًا. ويشكو العديد من العاملين في ذلك القسم من أنهم مجرد قسم وحيد منعزل، ومن أن أفكارهم الإبداعية كثيرًا ما يحدُّ منها الآخرون. فكل العاملين في قسم الأبحاث والتطوير الذين التقيناهم يشعرون بأنهم مقيدون من الأقسام الأخرى. ولأنه يصعب تقييم نجاح القسم خلال معايير قياسية مثل دوران العمالة أو الإيرادات، فإنه قد يُستنزف القسم كاملًا من حيث الموارد ونطاق قدراته في حالة الضغوط المالية الشديدة. فالطبيعة غير المنتظمة لهذه الوظيفة، وحقيقة أنها لا تتحرك بالعوامل السوقية المعتادة هما من القضايا الهامة التي ينبغي أخذها في الاعتبار في هذا الصدد.

إذا رغب قسم الأبحاث والتطوير في ازدهار الإبداع والابتكار وفي تأثيرهما على المؤسسة بأكملها، فعليه التأكد من أنه ليس ببساطة غارقًا في مشروعاته الخاصة. فقد يحتاج إلى المرور على قسمي العلاقات العامة والمبيعات من أجل الإتيان ببعض التلميحات حول كيفية «بيع» أفكارهم الجديدة داخل الشركة مع ضمان قبول شراء أفكارهم. وقد يخبرك العديد من البائعين عن الأفكار الرائعة التي لم تستطع الخروج من ورشة العمل بسبب ضعف مهارات التواصل أو الإقناع. فيحتاج العاملون في قسم الأبحاث والتطوير إلى إجادة قوة التأثير التي ربما تكون أكثر الأمور التي حاولوا تجنبها في دورهم البحثي!

ولقد أوضح أحد الباحثين الذين تحدثنا إليهم أن قسم الأبحاث والتطوير يحتاج لاستمرارية تزويده بالموارد والمهارات إلى جانب التطور الإبداعي بدلًا من تكديسه في غرفة ومطالبته بالإتيان بالنتائج. أما في حالة رغبته في أن يكون معقلًا للإبداع، وإذا أراد ضمان إبراء ساحته من حيث إمكانية أن يكون موقعًا لجريمة قتل الإبداع، فعليه التأكد من أن جميع أبوابه مفتوحة على مصاريعها أمام تدفق الأفكار إلى الداخل وفيض الابتكارات إلى الخارج. وعلى العاملين فيه أيضًا ضمان عدم شعور الآخرين داخل المؤسسة بالتهديد بسبب حنكتهم في هذا المجال، بل والحرص على شعورهم بأنهم مرحَّب بهم بصفتهم شركاء مبدعين.

اقتحم أبطال فيلم «السريع والغاضب» نقطة الشرطة بسهولة كبيرة لأن أحدًا لم يتوقع هذا العمل الخطير أو يخطط لمثله. خذ الحذر كي لا يتسلل القتلة إلى قسم الأبحاث والتطوير بهذه السهولة.

(١-٦) موقع الجريمة المحتمل السادس: قسم المبيعات والتسويق

قتلة الإبداع في قسم المبيعات والتسويق لديهم طريقة ذكية لإبادته هناك. إنهم ببساطة يحرضون مختلف فرق المبيعات والتسويق بعضهم ضد بعض أو ضد الأقسام الأخرى في المؤسسة، وفي النهاية يقتل الجميع بعضهم بعضًا، كما هو الحال في أفلام العصابات القديمة.

غالبًا ما يكون قسم المبيعات والتسويق مبدعًا في منهجيات البيع وأفكار التسويق، ولكنه يصطدم بطريق مسدود مرارًا وتكرارًا عندما يصل الأمر إلى التنفيذ. فعندما يبدأ قسم المالية في الضغط لتلبية الأهداف المالية أو خفض الإنفاق، فحتمًا يُخمد الحماس في قسم المبيعات والتسويق وتموت الأفكار الإبداعية. والمفارقة هي أن كل العاملين المهرة بقسم المبيعات والتسويق عليهم التعامل بالأرقام، التي قد تتحول إلى حمل دائم على عاتقهم. في المواقف التقليدية، يلوم قسم المبيعات قسم التسويق في حالة الفشل، لكنه يسند فضل النجاح إلى نفسه. ويظن أربع وخمسون في المائة من فرق المبيعات أنهم سيحققون أهداف المبيعات بسهولة أكثر إذا كان قسم التسويق قادرًا على إصدار رسائل تسويقية أكثر جاذبية؛ ومن ناحية أخرى يعتقد ٣٤٫٤٪ من المُسوِّقين أنه على فرق المبيعات متابعة خطواتهم باستمرار، كما يشعر ٢٦٪ منهم أن فِرَق المبيعات لا تُجِيد استخدام الرسائل والأدوات التي تستحدثها فرق التسويق.14 إنَّ المنافسة وانعدام الثقة داخل أقسام المبيعات والتسويق يمثِّلان مشكلة كبيرة حيث يتم غالبًا إهدار ٨٠٪ من نفقات التسويق ووسائل المَبِيعات.15
مَن قتل الإبداع في قسم المبيعات والتسويق؟ لقد كان قاتلًا ذكيًّا؛ حيث مهَّد الطريق ثم جلس ليراقب. قد يتحوَّل مسرح الجريمة بسهولة إلى مشاجرة مكتملة الجوانب تنتهي بعواقب دموية. وإذ لا يمكن التحكم في هذا الأمر، تتحول حلقات العصف الذهني بسهولة إلى «حلقات لتبادل اللوم»، وسرعان ما يرى أعضاء الفريق أنه من الأسهل توجيه النقد بدلًا من تنمية الإبداع.16 وعندما يتحقق العكس — أي عندما يتشارك قسم المبيعات والتسويق مع الأقسام الأخرى ويتبادلون الأفكار الإبداعية — إذن ستزيد الإيرادات وتظهر فرص الابتكار.
شركة وول مارت (للبيع بالتجزئة)، على سبيل المثال، أتت ببعض الأفكار الإبداعية حول العرض والطلب. فبعد أن أخذوا بعض الوقت لدراسة قواعد بياناتهم في عام ٢٠٠٤، لاحظوا بيع عدد كبير من الكشافات والبطاريات، ولم يكن هذا مفاجأة، لكن في الوقت نفسه ارتفعت مبيعات بسكويت الإفطار الأمريكي الخفيف المُحَلَّى الذي يسمى بوب تارتس إلى أقصى حد. لم تتوقع شركة التجزئة هذه أنها بحاجة إلى تكديس منتج مثل هذا قبل الإعصار (وفترات انقطاع الكهرباء التي صاحبته)، لكن بعض التحليلات الإبداعية — التي استفادت من قسم المبيعات بالتعاون مع سلسلة التوريد وفرق التحليل — ساعدت في العثور على فرصة للمبيعات. قد لا يكون أمرًا مفاجئًا أن تصل أرباح شركة وول مارت إلى حوالي ٤٠٠ مليار دولار؛ وهو ما يزيد على إجمالي الناتج المحلي للعديد من الدول برمتها. وبوجود أكثر من مليونيْ موظف يتعاملون مع أكثر من ٢٠٠ مليون صفقة للمستهلكين في الأسبوع وأكثر من ٨٤٠٠ متجر يتطلَّب المتابعة في أنحاء العالم، إنه من الإعجاز أنها قادرة على متابعة هذه البيانات، لكن من الواضح أن هذا ساهم في نجاحها كثيرًا. فالفكرة الإبداعية البسيطة التي تدعمها التكنولوجيا الحديثة غيَّرت من نموذج أعمال كامل وأتت بفائدة على مجال الأعمال على نحو لا يمكن تقدير أبعاده.17

(١-٧) موقع الجريمة المحتمل السابع: الكافيتريا

قد تكون الكافيتريا نقطة محورية للاجتماع وتبادل الآراء. وفي أي مدينة مزدحمة — حيث تزيد فرص تبادل المعلومات — تُعَدُّ الكافيتريا هي المركز. فبعض الكافيتريات تكون مفتوحة على مصاريعها وعرضة لقتلة الإبداع للتسكُّع فيها، بينما يرحب الكثير منها بالإبداع بحماس. لكن المشكلة قد تكمن في تأثُّر العديد من الأشخاص أشدَّ تأثُّرٍ بأعضاء جماعة الضغط بدرجة تمنعهم من التوجه نحو الكافيتريا من الأساس. وعندما يمنعنا انشغالنا عن الالتقاء ومعرفة آخر الأخبار، نبدد فرصًا في الالتقاء بالآخرين لنتبادل الأفكار الإبداعية.

كانت غلاية القهوة المشتركة في أوقات الاستراحة تعطي فرصة للتواصل مع زملاء العمل والأصدقاء خلال اليوم. وكانت الثرثرة العابرة والأنباء المقتضبة الشائقة حول المؤسسة مهمة في الحفاظ على باب الحوار مفتوحًا ولتقوية العلاقات داخل المؤسسة. لكن الآن — إذ يُعِدُّ الناس فنجان القهوة لأنفسهم كلٌّ على حدة، ويحصلون على كوب من الماء من مبرِّد المياه أو يعرجون إلى ستاربكس لشراء مشروب مناسب يحتسونه في الخارج — كم أصبحوا سريعًا منعزلين اجتماعيًّا. ومن العلامات الدالة على هذا التغير الذي طرأ بمرور الزمن أن تخلصت شركة مايكروسوفت في الولايات المتحدة من كل ما لديها من غلايات القهوة في عام ٢٠١٠ وجاءت بدلًا منها بآلات صنع القهوة التي تصنع كوبًا واحدًا في المرة الواحدة. يمكن إذن لصنع القهوة في وعاء مشترك أن يساعد على تعزيز الإبداع التعاوني.18
أصبح جدول أعمال الموضوعات التي تأتي على هامش العمل كهذه من الأهمية بمكان؛ حيث إنَّ المديرين التنفيذيين في المؤسسات قد أخذوا في التنبه لها. ومنذ أكثر من عشرين عامًا مضت، كان عالم النفس الأمريكي إدجار شاين في كتابه «ثقافة وقيادة المؤسسات» أول من ذكر أن هذه التفاصيل الخفية في ثقافة الشركات بحاجة إلى أن ندركها.19 كما أن إيان ديفيز — المدير المنتدب الإقليمي لشركة ماكينزي — أكَّد أيضًا على حاجة القادة إلى فهم كيفية استخدام هذه «السلطة الودية». فإذا استطاعوا أن يتعلَّموا إدارة القضايا الداخلية والخارجية المعقدة المتأصلة في المؤسسات المعاصرة اليوم، فسيتمكنون من تعزيز الإبداع والابتكار. وربما حان الوقت كي يتنبه عدد أكبر من الناس لهذا الموضوع!

(١-٨) موقع الجريمة المحتمل الثامن: قاعة المحاضرات أو الفصل المدرسي

عندما يتعلَّق الأمر بالتعلُّم، أو التدريب والتنمية، فعلينا أن نغير توقعاتنا كي ندرك حقيقة أن الحياة غامضة، وأن نتقبَّل احتمالية وجود العديد من الإجابات «الصحيحة»، وذلك بناءً على ما تبحث عنه. فمنهج «الإجابة الصحيحة الواحدة» يقتل الإبداع؛ لأن الناس يكفُّون عن البحث بمجرد عثورهم على تلك الإجابة. وهكذا لا يلبث الفضول الذي يخلق حبًّا متواصلًا للتعلم أن يخمد. ومثل البيت القديم الذي كان يجمِّع التذكارات لأعوام، تصبح عقولنا مكتظة بمعلومات عديمة الفائدة، ولن نملك المساحة العقلية ولا الطاقة للانطلاق والاستكشاف. وكما يقول مستشار الإبداع روجر فون أويك في كتابه «ضربة على جانب الرأس»: «ليس لدينا فرصة قَطُّ لطرح الأسئلة التي تأخذنا من طريق متهالك من كثرة الاستخدام إلى وجهات جديدة. فإذا نجحنا باستمرار، نستهوي الظن بأننا قد وجدنا وصفة النجاح ولم نعد مُعرَّضين لأخطاء البشر.»20 ويصف تيم هارفورد هذا النهج بأنه اتخاذ «خطوات متوقعة عبر مسار مختار بعناية»، ويندب حال المؤسسات التعليمية مثل جامعة هارفرد التي تحوَّلت إلى معاقل «للرضاء قصير الأجل».21
والتحول إلى مؤسسة تعليمية حقيقية ليس عملية سلبية. فكلما ترسَّخت جذور هياكل الشركات، مات الدافع إلى التعليم والنمو، ما لم تكن هناك مبادرة فعالة لضمان استمراره.22 وإذا لم يكن هناك سوى منهج تعليمي ذي حلقة واحدة، فستستمرُّ المشكلات في إعادة الظهور في المستقبل إذا لم يتم التعامل معها بأسلوب سليم على المدى القصير.23

وللأسف، ومما قد يثير الصدمة، إن العديد من المشاركين في استطلاعنا للرأي أشاروا إلى أن قسم الموارد البشرية أيضًا يقتل الإبداع. فبدلًا من دعم التنمية الإبداعية وتعزيزها — وهو ما تتوقعه من معقل الموارد البشرية/التدريب — يتم التركيز على القفز بين الحلقات لمجاراة الأمور بدلًا من التفكير والتخطيط المسبق في فرص النمو في المستقبل.

(١-٩) موقع الجريمة المحتمل التاسع: الملعب

لربما نُصاب بالصدمة عندما يصل الجيل المقبل من الأطفال إلى عالم الأعمال. ووفقًا لسوزان لين مؤلفة كتاب «الأطفال المستهلكون»، يجري الآن تعليم الأطفال أن ما يؤدي بهم للسعادة هو ما تُنتجه المؤسسات الكبيرة. فتقول إن الصغار لا يميلون إلى نحت عصا هاري بوتر من قطعة خشب، لكنهم يريدون العصا البلاستيكية ذات العلامة التجارية البارعة التي شاهدوا دعايتها في التليفزيون. وتعتقد لين أنهم الآن يستكشفون العالم بناءً على الأفضل للشركات التجارية وليس الأفضل بالنسبة لهم، ولا يمكن أن يكون ذلك مبشِّرًا بالخير. ولقد تغيَّرت الألعاب محوريًّا منذ الوقت الذي ابتكر فيه الأطفال عالم المرح لأنفسهم — من العمر الذي صدقت فيه كلمات أفلاطون الشهيرة «الحاجة أُمُّ الاختراع» — إلى عالم يصممه الكبار بدوافع غير صادقة في الغالب؛24 حيث لم يعد الأطفال بحاجة إلى الإبداع.25

يجب أن يكون الملعب مستنبتًا للإبداع؛ أي بيئة مفتوحة للاستكشاف والتجريب الحر، لكنه ربما لم يعد يوفر هذه الفرصة. فعلى اللعب الحر أن يخلق حالة ذهنية تمكنك من الشعور بالأمن والأمان واستكشاف الأفكار دون قيود. لكن يجري الآن تحويل اللعب الحر إلى «لعب مكبوح».

تُظهِر الأبحاث بوضوح أن الأفراد الذين توفر لهم وقتٌ قليلٌ للعب في صغرهم، يكونون أقل إبداعًا في كبرهم. والأطفال (والحيوانات) الذين لا يمارسون اللعب الحر في صغرهم قد يتحوَّلون إلى بالغين مصابين بالقلق وغير متلائمين اجتماعيًّا.26 واللعب الحر هو أحد القنوات اللازمة لضمان أن موارد العقل قد غيَّرَتْ مسارها بعيدًا عن التعامل مع وظائف البقاء الأولية فحسب، فتتمكن من التوصل إلى التفكير الإبداعي. وقد لا توفر مؤسساتنا اليوم هذه الفرصة. عندما دُرست تفصيلًا حياة تشارلز ويتمان — القاتل الذي أردى العديد من الناس من برج جامعة تكساس — وُجد أنه كان جدًّا محرومًا من اللعب في طفولته؛ مما كان عاملًا مؤثرًا عرَّضه للجريمة التي ارتكبها. وقد وُجد أيضًا أن هذا الحرمان كان عاملًا أساسيًّا في العديد من الجرائم الأخرى المشابهة مثل مذبحة جامعة فرجينيا تيك.27
إنَّ فرص أخذ استراحات في العمل وإتاحة الوقت للتفكير واللعب الحر — وتصميم أماكن للتعلم والعمل لتشجيعهما — أمر مهم للتطور الإبداعي في المستقبل. وفي الواقع، وُجدت أدلة غير متوقعة على أن هذا الانتقال قد يكون طور التحقيق الآن. وهناك نظرية جديدة تسلط الضوء على نزعة اجتماعية شائقة، إذ يُعتقد أن البالغين الآن يتشبَّثون بالسلوكيات والتصرفات التي ترتبط بصورة تقليدية بالشباب كآلية من آليات البقاء.28 ويُعتقد أن عدم النضج هذا يمكِّن البالغين اليوم من التفكير إبداعيًّا والاستجابة أيضًا بإبداع للمتطلبات المعاصرة المتغيرة. وبينما كان النضج والحكمة والخبرة قديمًا خصالًا ثمينة في بيئة متوقعة «ثابتة»، فإن العقلية المنفتحة الشابة تبدو استراتيجية أفضل للتكيُّف مع بيئة سريعة التغير. وتقول جينيفر فيجاس عن النظرية إن «ما يتطلَّبُه الاقتصاد الجديد هو الاستجابة الطفولية والمرونة الإدراكية؛ بمعنًى آخر إن روح الشباب والمرح هي استجابات تكيفية للتغيير حينما تكون الوظائف والمهارات والتكنولوجيا في حالة تغير مستمر. وهذا يوضح بالتأكيد سلوك المراهقين الظاهري للمبتكرين أمثال ريتشارد برانسون وستيف وزنياك. وإذا صح ذلك، يكون لهذا السلوك آثار كبيرة على كل شيء بدءًا من سياسة الموارد البشرية حتى تصميم المكاتب.»

يعتقد أستاذ علم الطب النظري بروس تشارلتون أن المجتمع لم يعُد يُعِد الصغار رسميًّا لمرحلة «البلوغ» من خلال طقوس قاسية، ولذلك، ليس غريبًا على الأطفال أن يحتفظوا بالكثير من عاداتهم الطفولية في مرحلة البلوغ. وتعمل «استدامة مرحلة الطفولة نفسيًّا» أثناء التعليم المستمر على تحفيز نوع معين من مرونة العقل والانفتاح على الأفكار الجديدة. والذين يستمرون في إبقاء عقولهم متفتحة بعد إنهائهم تعليمهم الرسمي يتمكَّنُون بصفة عامة من البقاء والنجاح أفضل من نظرائهم.

(٢) الإبداع يُقتل في أي زمان ومكان

بالطبع لا تقتصر مواقع جريمة القتل على مكاتب أو أقسام أو أماكن بعينها. ومن ضيق الأفق الشديد افتراض أن موت الإبداع مقصور على مكان واحد بعينه. فأي عدد من حالات موت الإبداع يمكن أن تجده في أي مكان وزمان، بل ويتنقَّل موت الإبداع في العادة من مكان لآخر ليستقر أحيانًا في موقع واحد، ويمر أحيانًا أخرى على المواقع في زيارة عابرة فحسب. وأحيانًا تكون هذه الحالات مصاحبة لأشخاص أو مواقف أو أنظمة معينة، وعادةً ما يثيرها مزيج من العوامل المختلفة.

وكثيرًا ما توجِّه أماكن أو أقسام معينة أصابع الاتهام إلى الأقسام الأخرى وتُلقِي عليها اللوم لموت الإبداع. والمنخرطون في هذا المجال — على سبيل المثال — غالبًا ما سيقولون إنَّ القتلة موجودون في المكاتب الإدارية العليا، و«لعبة اللوم» هذه قد تستنفد فاعلية الفريق. إن أكثر من ٥٠٪ من الفرق التي يعمل أعضاؤها في مواقع بعيدٌ بعضُهم عن بعض يفشلون في تحقيق أهدافهم، عادةً لشعورهم بأنهم مقيدون أو معطَّلون بسبب مهامَّ يرونها منفصلة عن الاحتياجات والخبرات الحقيقية.29
وفي آخر المطاف، تشيِّد الكثير من المؤسسات «صوامع» فيها «يُحاصَر» الآخرون أو «يُسجنون» بسبب التحامل عليهم والتوقعات المنتظرة منهم، ووقتها يسهل إلقاء اللوم على الآخرين «من فوق الأسوار». يقول البعض إنَّ شركة سوني خسرت سباق صناعة الموسيقى أمام شركة أبل بعد انطلاقتها القوية المذهلة؛ وذلك لأن سوني جعلت من الأقسام صوامع بلا رؤية إيجابية مشتركة. وأشار أحد الموظفين قائلًا: «لقد ازدهرت شركة سوني لفترة طويلة معتمدةً على ثقافة تنافسية شديدة، حيث حُفز المهندسون على تفوق بعضهم على بعض وليس عمل بعضهم مع بعضٍ.» وفي تلك الأثناء في شركة أبل، كلما ترسَّخت ثقافة تعاونية إيجابية، زاد إبداعهم، وسرعان ما تبخرت الحدود بين الأقسام. ويوضِّح أحد موظفي شركة أبل التباين قائلًا: «كنا جميعًا نعمل معًا في وقت متأخر من الليل، وكان عملًا مليئًا بالنشاط. لقد كان مشروعًا جماعيًّا مذهلًا. لم تكن هناك أي حدود. موظفو البرمجيات وموظفو صيانة الأجهزة وموظفو البرامج الثابتة.»30
لقد أُدين مؤخرًا اللص البريطاني ستيوارت ماكورميك وحُكِم عليه بالسجن لارتكابه جريمة واحدة فقط، ولكنه اعترف بعدها بارتكاب ٥٠٥ جرائم أخرى لم تُكتشف فيما سبق! فباكتشاف الأماكن التي يفضل المجرمون قضاء الوقت فيها، ثم عزل أولئك المجرمين والتعامل معهم، ربما يمكن الكشف عن مجموعة من قضايا أكثر تعقيدًا لم تكن قد لوحظت من قبل والتعامل معها. وسيكون أمرًا لطيفًا أن يكون لدينا تطبيق ينبهنا خلال نغمة سرية في كل مرة نذهب لمكان يُعد بؤرة إجرامية ينشط بها قاتلو الإبداع. ونظرًا لعدم وجود مثل تلك التكنولوجيا (ونظرًا لجنون الشك الذي يمكن أن ينتج عنها)، علينا أن نعتمد على غريزتنا أو على الأقل نتأكد أننا نتشارك معًا في نقاش مفيد وصحي حول الموضوع حتى نتمكن من التعرف على القتلة في أي مكان في المؤسسة.31

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤