الفصل الرابع

لماذا ننقذ الإبداع؟

الاستجابة للطوارئ

يُجرى الآن تدريب فرقة إنقاذ جديدة للتعامل مع حالات الطوارئ الحرجة. وربما يكون اختيار أبعد المنقذين احتمالًا — الفرسان ذوو الدروع اللامعة الذين سنصفهم الآن — ليس راجعًا لقوتهم البدنية أو خبرتهم الواسعة بالطب. إنهم مدرَّبون بعناية، بيد أن أقدامهم لا تطأ غرفة التدريب أبدًا. وتحقق فرق الإنقاذ هذه معدلات نجاح مرتفعة للغاية عند إرسالها لأكثر المواقف خطورة، إلا أنها لا تحصل على مكافأة نظير الشجاعة التي تُبدِيها أو تنال التقدير الذي ربما تستحقه.

وفرقة الإنقاذ — في واقع الأمر — هي فريق من القوارض المكسوَّة بالفِرَاء، وهي جيش مصغر من المخاطرين من الجرذان المجهَّزين للخروج إلى المجهول واكتشاف مواطن الخطر. فالجرذان التي دربها العالم النفسي آلان بولينج تساعد في التعامل مع مشكلتين رئيسيتين مختلفتين كثيرًا في العالم النامي وهما؛ الألغام الأرضية ومرض السل. فالألغام الأرضية تقتل ما يزيد عن ٢٥ ألف شخص كل عام أو تتسبب في إصابتهم بعاهات مستديمة؛ مما يجعلها مصدرًا رئيسيًّا من مصادر المعاناة في العالم النامي. ومثال على ذلك دولة موزمبيق؛ حيث ما زالت الألغام الأرضية تمثِّل مشكلة كبيرة بعد الحرب الأهلية التي استمرت ستة عشر عامًا، بل وتُهدد سبل عيش آلاف المدنيين. وإن عاد الناس إلى الأراضي المزروعة بالألغام، يتعرضوا لخطر فقدان أحد أطرافهم، ولكنهم إن لم يتمكَّنوا من زراعة المحاصيل الغذائية، يتعرضوا لخطر المجاعة. وبعد ثمانية أشهر من التدريب المختَبَري الدقيق، تدربت الجرذان الجرابية الأفريقية، التي تتمتع بحاسة شم حادة جدًّا، على أن تكتشف الألغام في الحقل بدقة تصل إلى ١٠٠٪. ويجري الآن تدريب الجرذان على اكتشاف مرض السل الذي لا يزال يُودي بحياة قرابة مليونيْ شخص تقريبًا كل عام، وفقًا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية. ووُجد أن دقة الجرذان في التنبؤ بوجود مرض السل تزيد عن دقة الفحص المجهري المسحي المعياري بمعدل ٤٤٪.

والمفارقة إذن هي أننا بينما عادةً ما نربط الجرذان بالمرض والخطر والموت (تأمَّلْ مرض الطاعون الدبلي، وهو مرض نشرته القوارض عبر البراغيث التي تحملها، وقد أودى بحياة أكثر من ٢٠٠ مليون شخص حول العالم)، فإنها الآن قد تكون المنقذ في معركتنا ضد المرض والخطر والموت.1
ومما لا شك فيه أن ثمة العديد ممن يفضلون عدم معرفة الكثير عن ساكني المجاري ذوي الصرير هؤلاء، لكن رغم السمعة الشنيعة للجرذان، فإنها في الواقع حيوانات ذكية بالفعل غالبًا ما تجد سبلًا إبداعية للتعامل مع التحديات. ولإثبات مستوى الذكاء الإبداعي المرتفع لدى الجرذان، وضع اثنان من المدوِّنين قائمة بصفات الجرذان، مقترحين بضعة أسباب معقولة لأخذ الجرذان على محمل الجد عندما يتعلَّق الأمر بالتفكير الإبداعي وحل المشكلات:
  • قدرتها على تعلم خوض المتاهات خلال المحاولة والخطأ.

  • براعتها في الإقدام على المجهول والتعلم من أخطائها.

  • قدرتها على الاحتفاظ بالمعلومات واستخدامها في مواقف معينة (مثلًا، استغلال المعلومات حول أي من الغذاء صالح ولذيذ، وأي منه سام ويسبب المرض).

  • قدرتها على تأسيس هياكل تنظيمية في سن مبكرة وتعلُّم البقاء في أماكنها داخل هذا النظام (أغلب الوقت) حتى تُفيد المجموعة كلها.

ويقال إن الجرذان تبوَّأت المكانة التي بلغتها في الأبراج الفلكية الصينية بسبب إبداعها، وليس بسبب مهاراتها الجسمانية أو الفكرية الكبيرة. ويروي الصينيون في إحدى القصص أنَّ الجُرَذ تمكَّن من المنافسة والفوز في سباق الإمبراطور جايد عن طريق الدهاء. فتمكَّن من التفوق بدهائه وحيلته على صديقه القط حتى يدخل في السباق، وأثناء السباق اعتلى ظهر الثور الذي يُعد أكثر الحيوانات تسامحًا وشجاعة واجتهادًا في العمل. وعند اقتراب خط النهاية، قفز الجرذ من فوق رأس الثور ليحتل المركز الأول. وبذلك تمكن الجرذ من التقدم على مجموعة الحيوانات وذلك خلال العمل بطريقة أكثر ذكاءً، وليست أكثر كدًّا وجدية. وصورة هذا السباق بين الحيوانات ذات الأحجام والقوى المختلفة صورة طريفة، غير أن هذه القصة قد تُعطي درسًا للأفراد أو المؤسسات التي تواجه تحديات اقتصادية أو سياسية. فالتفكير الإبداعي مكَّن الجرذ من التركيز على هدفه وتحقيقه. وهذا هو النهج الذي سيساعدنا على خوض تحديات المستقبل.

لم يعد الابتكار ضربًا من الترف والرفاهية بل هو ضروري. ويَعِي أصحاب البصيرة أنه لا خيار باقيًا أمامهم سوى التحلِّي بالإبداع والاتخاذ من الابتكار سبيلًا. وربما علينا أن نبدأ في الإيمان بقدرتنا على صنع حظنا، أو بعبارة أدق، على خلق فرصنا من خلال تعمد اتخاذ القرارات الإبداعية. وهذا الدرس يمكن تعلُّمه جيدًا من الجُرَذ!

(١) الابتكار ضرورة وليس رفاهية

الحاجة إلى البراعة البشرية والمؤسسية أمر لا جدال فيه، لكنه لا يقتصر على استدامة النمو الاقتصادي ودعم النظام الرأسمالي حتى يتحقق النمو. فهناك عدد لا يحصى من القرارات والإجراءات الهامة التي نتخذها والتي تغير حياتنا. كما أننا محاطون بمشكلات ذات ثقل محلي وقومي ودولي تستجدي حلولًا إبداعية؛ بدءًا من الحفاظ على البيئة إلى إحلال السلام في أفغانستان وإنهاء بائقة الفقر. ولن نتمكَّن من استخلاص الحلول المطلوبة إلا من الأفراد والمجتمعات التي تأخذ على عاتقها عملية التفكير الإبداعي.

إنَّ الأوقات الاقتصادية الصعبة أو الظروف القاسية للسوق عادة ما تملي علينا التخلص أولًا من المجالات التي يُنظر إليها على أنها «إضافات» غير أساسية. عندئذ سيتخلى الفرد عن الرغبة في التنمية بطرق إبداعية وسيؤدي المهمة التي تدر عليه الأموال بكل بساطة. كما ستنقص المؤسسات الإنفاق الاختياري كي تركِّز على المجالات التي تُعد محورية لأعمالها. وفي مثل هذه الأوقات، يعد الابتكار من الكماليات؛ نوعًا من الرفاهية لا يمكنك دعمها إلا في أوقات الخير الوفير، عندما تبحث عن سبل لتسبق الآخرين بخطوة. لكن وتيرة الحياة تغيرت كثيرًا إذ أصبح الابتكار الآن بالفعل أحد المهارات الأساسية للبقاء؛ فهو ضرورة وليس رفاهية.

ولكي يواكب الناس الآخرين ولكي يتفادوا أن يتم استبعادهم وفقًا لآخر تدابير خفض التكاليف، عليهم بكافة مستوياتهم أن يتمكنوا من التفكير والتصرف بإبداع، وعلى المؤسسات أن تعيش وتتنفس ابتكارًا. وفي لحظة تحول تطورية، لا بدَّ أن تظهر الآن التكيُّفات الجديدة، ليس على مدى آلاف السنين أو على مدى أجيال على الأقل كما كانت في السابق، لكن لمرات عديدة في الحياة الواحدة. ويجب أن نفكر في المستقبل ونمضي قُدُمًا بطرق أكثر ذكاءً وبراعةً حتى نحمي أنفسنا من الزوال.

تأمَّل على سبيل المثال التوجه نحو تقليص العمالة في الأوقات العصيبة. تُعْرف هذه الحالة أحيانًا باسم «التحجيم السليم» (وتحدث بعدما تكون المؤسسات قد أفرطت في الثقة بنفسها وعيَّنت موظفين أكثر من احتياجاتها الحقيقية)، وفكرتها العامة هي اتخاذ تدابير جوهرية لتقليص حجم مؤسسة «زائدة الوزن» أو حتى «بدينة» إلى حجم صحي ومستدام. وبدلًا من البحث عن سبل لتعديل النظام الغذائي وممارسة الرياضة، لتصبح المؤسسات أكثر لياقة وقدرةً خلال العملية (للحفاظ على المجاز)، فإن معظم المؤسسات تفزع وتلجأ إلى إجراء جراحة كبيرة لاستئصال «الدهون الزائدة» التي يرونها. ومع ذلك، وكلما استمر الوضع، تبقى المشكلات الحقيقية في مكانها، بل قد تعاود الظهور مرة أخرى مثلها مثل النمو السرطاني، وربما حتى بعواقب أكثر خطورة. وهذا بغَض النظر عن حقيقة أن «أجزاء الجسم المبتورة» — أي الأشخاص الذين عوملوا على أنهم فائض غير مُرحَّب به — وبقية الجسم نفسه سيشعرون بالألم العميق والصدمة.

أي فريق أو مؤسسة تحتاج إلى «فقدان بعض الوزن الزائد» أو «التخلص من الدهون» عليه التأكُّد من عدم إزالة أطراف حيوية قد تحمل شرايين رئيسية تدعم الوظائف المؤسسية الصحية. فمن الضروري تحديد الأماكن التي يمكن أن تجْرَى فيها التغيرات الإبداعية، والتكاليف التي يمكن تقليصها دون الحاجة إلى اللجوء إلى عملية بتر جراحية كبرى.

لم تعد كلمات التفكير الإبداعي والابتكار طنَّانة لأكثر الناس إقدامًا ومجازفة، لكنها أُقِرَّت كمهارات ومناهج أساسية لأي استراتيجية استباقية للمؤسسات. ويمكن للابتكار أن يكون أداة النجاة الأساسية التي تفسح مكانًا للتقدم الإيجابي. وإذا فشلت في أن تبتكر، أو إذا كنت تقر وتعترف بفضله فحسب بدلًا من ضمان أنه جزء لا يتجزأ من الوظائف اليومية، فستتَّضِح العواقب سريعًا. وسيتحتَّم على كل الأفراد والمؤسسات التأكد من أن الابتكار يُستخدم في بناء المستقبل وأن ذلك يصل للجميع بوضوح.

ولقد اكتشفنا أنه في مثل هذه الأوقات لم يعد كافيًا الحفاظ على الوضع الراهن؛ أي استمرار العمل بلا أهداف حقيقية. فالبقاء يَعْنِي الوجود في طليعة الجماعة، مهما كانت الضغوط الخارجية. لا أعذار، ويجب النظر إلى الإبداع الجماعي الاستباقي على أنه إحدى الكفاءات الضرورية. فما كان مقبولًا العام الماضي قد لا يَضَعُك حتى عند خط البداية هذا العام. وقبل أن يصل الخبر إلى مسامعك، تكون فائدة الصدارة التي قد تمتعت بها مؤسستك من قبل بمثل فائدة قسم ضاربي الآلة الكاتبة في عصر الكمبيوتر. فشركة ويسترن يونيون — على سبيل المثال — بدأت أعمالها في القرن التاسع عشر حيث كانت تنقل الأموال على ظهور الخيل من مدينة إلى أخرى، لكنها نجحت في التكيف باستمرار مع الظروف السريعة التغير. وعلى مدى أكثر من مائة عام، استطاعت الإضافة إلى نقاط قوتها خلال تعديل المنتجات والخدمات التي تقدمها تعديلًا جذريًّا، مع الحفاظ على قيمها الأساسية. إنه التفكير الإبداعي الذي مكنَّها من الازدهار وسط كل هذه التحديات.

«التخلص من الدهون» عملية استباقية ستظل ضرورية لإبقاء المؤسسة صحية وعلى أهبة الاستعداد للأداء العالي في كل الأوقات. لكن كل ما يفعله تخفيض حجم العمالة التفاعلي المفاجئ، الذي يحفزه الخوف من الركود أو من وقوع أزمة لن تتكرر، هو إخافة الموظفين؛ مما يزيد من نوبة الفزع الإعلامية السلبية، ويؤدي إلى مستويات تحفيز أقل وإلى الشلل. فكيف يأتي الموظفون إلى العمل كل يوم مستعدين لتقديم أفضل ما لديهم في حين أنهم في شك مما سيطرأ على وظائفهم من تغيير أو ما إذا كانت ظروف عملهم ستتغير؟

(٢) ابتكر، لا تبتر

يجب تعزيز الإبداع بصفته مهارة عمل أساسية في بيئتنا التنافسية المعاصرة. فوفقًا لمصمم العلامات التجارية بروس هادون، سرعان ما يسأم المستهلكون من ابتكارات الأمس، ونظرًا لأن البيئات التي تتسم بالتغيير السريع تتطلب أفكارًا جديدة باستمرار، على المؤسسات الناجحة أن تتوصل إلى أفكار أفضل قبل منافسيها.

أطلعَنَا فندقٌ ست نجوم يزيد سعر الليلة فيه عن ١٠٠٠ دولار — وقد عملنا معه من قبل — على قصة نجاحه الكبيرة على مدار سنوات. فبدون مجهود إضافي في المبيعات والتسويق، استمر النزلاء في التوافد على الفندق. لكن على الرغم من أنهم استفادوا من معدلات الإشغال والرسوم العالية، لم يتوقف أحد ليسأل عن سبب نجاحهم. فلم يبدءوا في طرح الأسئلة الهامة ولم يدركوا مدى أهمية الاستمرار في الابتكار إلا بعد المرور بأزمة وبعد انخفاض حاد مفاجئ في حجم الأعمال.

وشركة أخرى عملنا معها في الآونة الأخيرة كانت أيضًا عالقة في مشكلة كبيرة. فهذه الشركة الرائدة في مجال إنتاج زيوت تشحيم الآلات أتت بمنتج جديد رائع، غير أن عملاءها لم يتمكنوا من استخدامه كما ينبغي؛ مما أتى بنتائج ضارة. في واقع الأمر، كان هذا عيبَ مستخدِم وليس عيبًا في المنتَج، لكن العملاء ألقوا باللوم على المنتج. فقد أخذت في التلف والتعطُّل أفضل آلات العملاء لأن المستخدمين لم يغيروا الزيت بقدر كافٍ. فكلما قدُم الزيت بَلِيَت الآلات، وصارت سمعة شركة زيت التشحيم في خطر التعرض للتشويه الأزلي. وخلال ورشة العمل الجماعية التي أقمناها حول «التعاون الإبداعي»، شجعنا فريق المشروع على البحث عن حلول إبداعية. وفي غضون بضع ساعات، توصل الفريق إلى تصميم جديد للمنتج أدى إلى التخلص من مشكلة المستخدمين بكفاءة. فعندما أدخلناهم في عملية التفكير الإبداعي، اكتشفنا أنه من الممكن تطبيق مبدأ فُرَش الأسنان التي يتغير لونها عندما تبلى على هذه الآلات. وكان الحل في تغيُّر لون الزيت أو حتى رائحته عندما يكون في حاجة إلى الاستبدال. فقد توصل الفريق إلى حل عملي رائع للمشكلة التي كلفتهم خسائر مالية شديدة كما كلفتهم سمعة الشركة.

وفي مثال آخر بسيط، وفرت إحدى شركات الطيران مئات الآلاف من الدولارات عندما اكتشف فريق المضيفين كمية الكافيار التي تُهدر في الدرجة الأولى. وتمكنوا من تصميم عملية جديدة أدت إلى تقليل هذا الإسراف غير الضروري وحافظت في الوقت نفسه على سعادة الركاب.

ويعتقد آلان نوبل — الذي يعمل بشركة جوجل في أستراليا — أن نجاح جوجل يُنسب إلى الابتكار. فيقول: «يجب أن يكون الابتكار موجودًا، فهو مثل الهواء الذي تتنفَّسه؛ فأنت تبتكر لكي تبقى على قيد الحياة، وليس هناك ما نمنهجه، فالابتكار ببساطة يتعلق بما تقوم به.» ويحتاج الأمر إلى رؤية عظيمة وثقافة واضحة ومحددة للشركات وقيادة تمكينية للوصول إلى مستوى النجاح الذي حققته شركة جوجل، لكن عليك أن تبدأ من نقطة ما. فلا يمكنك الاعتماد على الأمل والحظ فحسبُ للبقاء في المقدمة.2

وأكثر الأشخاص الذين يزيد احتمال توصلهم إلى أفكار إبداعية هم الذين يعملون بالفعل في اتصال مباشر بالعملاء، فهم أول من يدركون المطلوب. لكن الشركات القليلة التي تتفهم الحاجة إلى التنمية الإبداعية عادة ما تبدأ التنفيذ من المستويات العليا. وإذا لم يكن هناك تركيز عملي محدد في هذا المستوى، فقد ينتهي الحال بالتنمية الإبداعية إلى مجرد تمرين «للتفكير الجماعي» لا يحدث فيه سوى تعزيز أفكار راسخة. ونادرًا ما تعكس هذه العملية ما يجري على أرض الواقع في المؤسسة ونادرًا ما تصل إلى المؤسسة بأكملها.

إنَّ السعي لتكون «الأفضل» و«الأسرع» و«الأقل ثمنًا» دون تشييد روابط واضحة مع العملية الإبداعية يمكن أن يأتي بنتائج عكسية أو حتى مدمرة.3 ولقد أدركت وكالة ناسا هذا الأمر بعد التجربة المريرة التي عاشتها أثناء كارثة المكوك الفضائي المشئومة في فبراير عام ٢٠٠٣. فقد لحقت أضرار بالجناح الأيسر للمكوك الفضائي بسبب الحطام الذي خلفه المكوك عند الإقلاع؛ مما تسبَّب في شق تجويف في بدن المركبة الفضائية. وانفجر المكوك أثناء عودته إلى الغلاف الجوي. وعلى الرغم من أن فريق الفضاء بوكالة ناسا كان قد حدد المشكلة بالفعل بعدما تسبب الحطام في إلحاق أضرار بالمكوك عند الإطلاق مرتين قبل ذلك، لم تتمكن ناسا من حل هذه المشكلة.4 وفي هذه الحالة، فإن الضغوط الناتجة عن الحفاظ على مسار البرنامج الفضائي بدون أخذ الوقت لتحليل المشكلة من جميع الزوايا أدى إلى وقوع كارثة.

ذكرنا في المقدمة الدمار الذي لحق بمجتمعنا الشاطئي المفضل بجزيرة بالي. فقد رأينا هذا المجتمع يموت ببطء على مدار فترة من الزمن، ثم هُرِع إلى الموت في النهاية بوقوع تفجير إرهابي. لم يتعمد المسئولون في قرية جيمباران تدمير القرية، لكنها تدمرت رغم ذلك بمرور الوقت. ولكن هذه ليست نهاية القصة؛ لأن المجتمع بقي واستمر الناس في العيش. وكان أحد الردود تجاه ذلك هو أن الكهنة الهندوسيين المحليين في بالي أقاموا مراسم تطهير ضخمة. وفي إطار بحثهم عن تفسير لما حدث، درسوا قضايا أعمق فأدركوا أن مواطني بالي ككل كانوا يسعون وراء مكاسب على المدى القصير على حساب مبادئ طويلة الأمد.

لقد قدمنا حجج قوية لمحاكمة قتلة الإبداع المحتملين، لكننا نعلم أنه لم يتعمد أحد الشروع في تدمير الإبداع، كما أن استطلاعات الرأي التي نجريها تشير إلى أن مسارح الجريمة تنتشر بالتساوي في معظم أرجاء المؤسسة دون وجود مشتبه به بعينه واضح. إذن، فالمضي قدمًا قد يعني طرح الضغائن جانبًا والبحث عن سبل للإنقاذ والإصلاح بدلًا من الثأر. وقد يعني أيضًا البحث في أعماق أنفسنا لنتعرَّف على المبادئ التي أغفلناها في سباقنا نحو المستقبل.

سنختم هذا القسم الأول بقصة من مكان آخر في إندونيسيا، وهو شاطئ جزيرة جميل ولكنه بعيدٌ جدًّا لم يستولِ عليه السياح بعدُ. في هذا المكان أسَّس المدير العام للفندق بيئة داخلية جميلة لنزلائه، إلا أنه كانت هناك بعض المشكلات بسبب الهجمات العشوائية وحوادث السرقة من أهل القرى المجاورة. وكان يُضطَرُّ العاملون إلى تحذير السياح بأنهم إن ذهبوا إلى الشاطئ فسيذهبون على مسئوليتهم الشخصية، وهو الأمر الذي حتمًا سبَّب القلق للكثير منهم. وخاض الناس في الحديث، وثَنَت التقارير السلبية المنشورة على الموقع الإلكتروني للسفر «تريب أدفايزور» السياح عن الذهاب؛ مما يعني أن قسم التسويق كان يفقد سيطرته. والأشخاص الذين كانوا يتجرءون على الخروج إلى الشاطئ كانوا كثيرًا ما يعودون دون كاميراتهم، شاحبي اللون رغم السمرة التي عملوا جاهدين على اكتسابها في الصباح، وكما بدت على وجوههم ملامح الخوف جراء التعرض للسرقة في وضح النهار.

لكن المدير العام كان مبدعًا. فقد علم أن اللصوص الذين يسطون على السياح كانت لديهم احتياجاتهم الخاصة؛ إذ كانوا يفتقرون إلى ما يكفيهم للعيش وإطعام عائلاتهم (ولا بدَّ أنه من الصعب مشاهدة سائح يحمل كاميرا تبلغ قيمتها قيمة راتب ثلاث سنوات في حين لا يجد أطفالك الطعام.) ومن المفهوم أن أهل المنطقة كانوا منزعجين من تشييد مالك أجنبي فندقًا في قريتهم ثم نقله جميع الأرباح التي يجنيها بعيدًا إلى مكان آخر. كانوا قد فقدوا قوتهم وكبرياءهم، وأصبحت الفجوة الآن بين من يملكون ومن لا يملكون واضحة على نحو موجع للغاية. فلجأ بعض القرويين إلى الجريمة بعدما كانوا فيما مضى أناسًا مسالمين سلميين. بالطبع لم يكن يعرف الكثير من السياح هذا السياق أو يفهمونه؛ فمعظمهم لم يرَ إلا مجرمين ينصبون أكمنة للسياح الذين لا حول لهم ولا قوة ويسرقونهم ما إن يخرجوا من المنتجع.

علم المدير أنه عليه التعامل مع المشكلة الحقيقية، وقرر أنه لن يستطيع مواجهتها بمجرد زيادة الأمن كما فعل المديرون الآخرون قبل ذلك غالبًا. بدلًا من ذلك، التقى بالقرويين حتى يعرف ما هي احتياجاتهم الخاصة. وعندما استوعب وضعهم، توصَّل إلى ما قد يُدرك متأخرًا أنه حل بسيطٌ (لكن هذا هو الإبداع أغلب الوقت!) وهو أن يتحمَّل نفس الأشخاص الذين كان يسرقون السياح مسئولية الأمن على الشاطئ، ودَفَع أموالًا لهم من أجل حماية النزلاء بدلًا من عزلهم وسلب قوتهم مثلما كان يَجْرِي من قبل. فوفر لهم ذلك دخلًا لائقًا كما أعاد لهم شعورهم بالكرامة. وحُلَّت المشكلة بإشعار هؤلاء الناس بأنهم ذوو قيمة وبإعطائهم هدفًا يسعون لتحقيقه. والقرويون الذين اتسموا بالعداوة من قبل أصبحوا جزءًا من الحل، وبين نحو عشية وضحاها أُزيلت اللافتات وتعايش الفندق ونزلاؤه والقرويون في وئام. ويقول روبرت جرين وجوست إلفيرز في كتاب «القوانين الثمانية والأربعين للقوة»:5 «كلما استطعت، ادفن ضغينتك حيال عدوك، واحرص على جعله في خدمتك.» وقال أبراهام لنكولن جملته الشهيرة: «أفضل طريقة لتدمير العدو … هي كسب صداقته.»

يمكنك التعامل بفاعلية مع التأثيرات السلبية دون اللجوء إلى تدابير قاسية وخلق عداوات، إذا توصَّلت إلى صُلب الموضوع وحددت الاحتياجات والدوافع الدفينة، وإذا بحثت عن حلول تفيد الجميع. ويمكن التعامل مع قتلة الإبداع بالطريقة نفسها. فبعزل القتلة أو إصلاحهم، وبتحديد الأسلحة وطرحها جانبًا، يُتاح للناس استقبال الإبداع مرة أخرى في حياتهم ومؤسساتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤