الفصل الثامن

النجاح الأبدي … أحقًّا أبدي؟

اختبار الإبداع استعدادًا للتغيير النهائي

قبل بضعة أشهر فقط من اندلاع الأحداث الثورية في مصر، تَجَوَّلَتْ عائلتُنا في ميدان التحرير في القاهرة، سائحين هانئي البال. جَذَبْنَا الانتباه وتلقينا الاهتمام المعتاد بشعرنا الأشقر وما يقابله من توقعات بالحصول على العملة الأجنبية منا بسهولة، وكثيرًا ما ألحَّ علينا البائعون لشراء ساعات مقلَّدَة وتحف مُزَيَّفة، ولكن لم يحدث شيء خارج عن نطاق المألوف في تجربة سفر تقليدية، وعمومًا كنا نشعر بالأمان. بعد ذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى اجتاحت الشرق الأوسط موجة عارمة من الإصلاح. فشاعت صور ميدان التحرير تحت الحصار في جميع أنحاء العالم، وما كان مؤخرًا سوقًا مفتوحة آمنة تحول إلى ساحة قتال مسدودة بالمتاريس. وبعد فترة وجيزة من الابتهاج، تسلَّل نفس الظلام الذي سكن البلاد قبل الثورة مرة أخرى إليها مع صعود قوى جديدة.

في أَوْجِ الانتفاضة التي أطاحت بنظام مبارك الذي دام في الحكم لمدة ثلاثين عامًا، كانت المخضرمة الشقراء مراسلة سي بي إس، لارا لوجان، في مركز الاحتفالات في ميدان التحرير. وخلال هذه الفترة حيث كان التاريخ يسطر صفحاته والعالم يشاهد، ذكرت لارا أنها تشعر بالأمان. لكن بعدها بوقت قصير، شابت العدائية الجوَّ العام، وتعامل معها حشد قوي يبلغ عدده مائتي شخص معاملةً عدوانية، فهاجموها بوحشية واعتدوا عليها جنسيًّا.1
عقلية الحشود خطيرة. ويعتقد عالم النفس الاجتماعي سام كين2 أن قتلة العصابات حول العالم يستخدمون لغة التحيُّز والصور النمطية لاستغلال أكثر المشاعر الغريزية لدى الحشود. وبالإضافة إلى ذلك، يحدث شيء آخر أكثر تعقيدًا، وهو أن تفريق المسئولية بين عدد من الناس يجعل تنازل الفرد عن حسه بالقيم ممكنًا. أيبدو هذا السيناريو شبيهًا بأي مكان عملت فيه؟ يقول جوزيف كامبل3 إن تحت قناع العدو نرى أنفسنا في النهاية، ويصبح الوضع خطرًا عندما تستطيع العصابة دفع الحشود إلى هيستريا شعورية يُفقد فيها التواصل الشخصي.

قبل أن تستعد لمهاجمة قتلة الإبداع في بيئة العمل أو البيئة المعيشية، وقبل أن تتجمَّع حول زملاء عمل أو مواطنين ساخطين مثلك، ضع في الاعتبار أن هؤلاء القتلة المحتملين ليسوا إلا مشتبهًا بهم (وكلٌّ منهم يعيش داخل كل واحد منا بدرجات متفاوتة). ومن التحقيق في مسرح الجريمة، نعلم أن القضية التي نحقق فيها حقيقية، لكن العوامل التي تتضمنها القضية يمكن أن تكون معقدة بشكل لا يصدق. ولذا يجب على كافة الأفراد تقييم موقفهم الشخصي تقييمًا جادًّا لتحديد قتلة الإبداع دون ملاحقة المعارضين وإلقاء اللوم على عوامل خارجية.

(١) هل يمكن العفو عن القتلة … وهل رجال الإنقاذ أبرياء؟

بقدر ما وصفنا أنماط قتلة الإبداع المشتَبَه بهم وصفًا واضحًا وأبرزناهم سفَّاحين أشرارًا، فإننا نعترف بأننا استخدمنا رخصة إبداعية لإيضاح وجهة نظرنا. إن الأشخاص أو الأنظمة «الأخيار» بطبيعتهم يمكن أن تكون لديهم القدرة على القيام بأشياء مدمرة. وبالمثل، فإن الأشخاص أو الأنظمة «الأشرار» — فيما يبدو — يمتلكون القدرة أيضًا على فعل أشياء بناءة. وهذا الغموض هو في صميم الإبداع. فإذا كنت الآن قادرًا على تَقَبُّلِ هذا المستوى من الغموض، إذن أحسنت؛ فقد تَعَلَّمْتَ بذلك درسًا أساسيًّا. لا يمكنك اختزال قتلة الإبداع إلى أوغاد بسطاء، كما أن هؤلاء القتلة لن تُذكر أسماؤهم على الصفحات الأولى للجرائد وبجوارها كلمة «مطلوبون للعدالة» ونص المكافأة المستحَقَّة مقابل الحصول على أي معلومات عن أماكن تواجدهم أو أي بيانات تؤدي إلى اعتقالهم.

يعتمد استجلاب السلوكيات والسمات الإيجابية على البيئة المُحددة والعقلية التي تَنْشَأُ فيها، وعلى القدرة على التدريس والقيادة بكفاءة. على سبيل المثال، يقوم بعض الأفراد أو الأنظمة التي تبدي سمات التحكم أو البيروقراطية أو الخوف بتضمين هذه السمات بمقادير معتدلة من أجل تحقيق أغراض محددة. وفي كثير من الأحيان، لا يكون أولئك الذين يقمعون التفكير الإبداعي على دراية بتأثير ما يفعلون، بل يكونون على أُهْبَة الاستعداد للتغيير. انظر الآن في بعض الجوانب الإيجابية المحتملة لقائمة «أخطر المطلوبين للعدالة»:
  • التحكم: إنك لا تشاهد قائد فريق الاستجابة للطوارئ في خِضَمِّ حالة الطوارئ يسأل عما إذا كان الفريق يرغب في قضاء بعض الوقت في العصف الذهني. فهناك أوقات لا بد فيها من اتخاذ إجراءات بسرعة وبخبرة، وهذه هي الأوقات التي يُتَطَلَّبُ فيها التحكم.

  • الخوف: هذا هو أحد أكثر الاستجابات التكيفية لدينا، فالخوف يُبْقِينَا على قيد الحياة. فقط تصبح هذه الاستجابة الفسيولوجية ضارة عندما يتمُّ تطبيقها (أو التلاعب بها) بصورة خاطئة.

  • الضغط: يمكن أن يكون إيجابيًّا عندما يُعاش باعتباره «إجهادًا مفيدًا». ولقد تبيَّن أنه يمكِّن الناس من تحقيق النجاح رغم التحديات ويمكِّنهم كذلك من التركيز، خاصةً في الأحداث قصيرة الأمد.

  • العزلة: كُلٌّ منا لديه أداة ترشيح انتقائي تُمَكِّنُنَا من فرز المعلومات الواردة حتى نتمكَّن من التركيز على ما هو ذو قيمة. إذا كان لنا أن نستوعب كل جزء من المعلومات التي نُقَابِلُهَا، فقد نصاب بالجنون! ولذلك فإن العزلة يمكن أن تكون مزية هامة.

  • اللامُبالاة: إنَّ الأشخاص الذين يرغبون في إيجاد طرق ليكونوا أكثر كفاءة قد يكونون قادرين على توجيه هذا الدافع بطريقة إيجابية. فالعمل لساعات طويلة لا يؤدي بالضرورة إلى المزيد من النجاح أو الإنتاجية. وقد رأينا بالفعل أن أفضل الأفكار الإبداعية تتوارد عندما يكون العقل في حالة استرخاء (مثل النوم أو الاسترخاء العميق). لذلك احرص على ألا تعتبر أن الحاجة إلى الراحة والاسترخاء من علامات اللامبالاة.

  • التشاؤم: يمكن أن يسخِّر الناس قوة الأفكار السلبية لزيادة ثقتهم بأنفسهم وإحراز تقدم كبير نحو تحقيق الأهداف الشخصية.4 وكما هو مُوَضَّحٌ سابقًا، يُوَضِّحُ التشاؤم الدفاعي القيمة التكيُّفية للتفكير من خلال سيناريوهات أسوأ الحالات والتحرر من القلق لتحفيز وتنفيذ إجراءات فعَّالة.

وكما هو الحال مع العديد من الأشياء في الحياة، لا بدَّ من وجود مستوى توازن، فضلًا عن الحاجة لرؤية الأشياء ببصيرة حتى تعرف أين توجد نقطة التوازن؛ لأن التأرجح بين أقصى حدين من المُرَجَّح أن يأتي بنتائج عكسية. وأحيانًا تكون سمات «القاتل» هي الصفات اليومية التي يمكن استخدامها إما سلبًا وإما إيجابًا. ولكن تَذَكَّرْ أن أحد القرارات الرئيسية في هذا الكتاب هو أنه في الحالات الشديدة من الخوف والتشاؤم والضغط على المدى الطويل، سوف يُستهلَك النطاق الترددي للمخ وتُستنزف الطاقة اللازمة للتفكير الإبداعي.

على الجانب الآخر، قد لا يكون رجال الإنقاذ أبرياء دائمًا كما جعلناهم يبدون. على سبيل المثال، انظر كيف يمكن أن تكون الإيجابية العمياء في درجة خطورة التشاؤم الجبري نفسها؛ حيث إن المتفائلين بلا بصيرة يعجِزون عن اكتشاف المخاطر بسهولة. ولقد أتى المتفائلون والمثاليون بالخراب على مر القرون من خلال الجهل بحقائق الطبيعة البشرية والمجتمع البشري، والآمال الساذجة لما يمكن تغييره.5 بطريقة مماثلة، يمكن أن تؤدي الحرية المفرطة إلى الفوضى، وتأتي الاستقلالية المفرطة بنتائج عكسية للابتكار التعاوني، ولربما تَعْنِي المرونة المفرطة عدم وجود هيكل للنمو المنظم. وكما هو الحال في العديد من المجالات في الحياة، يجب علينا وضع حدود ومبادئ توجيهية واضحة من أجل التنمية الإبداعية البناءة.

(٢) طرفا الإبداع

ماذا عن الإبداع نفسه؟ ربما لا يكون الضحية البريئة التي صورناها؛ فربما يكون لديه تحديات شخصية خاصة به …

بينما كُنَّا نُفكر في هذا الفصل الأخير، احتاج كالن إلى المساعدة في إتمام واجب دراسي عن فنانين مشاهير، وقد أذهَلَنا الجانب السلبي للعبقرية الإبداعية؛ إذ اختار كالن للتركيز على لوحة لفان جوخ رسمها بنفسه بعد أن قطع أذنه بنفسه، وهذا انعكاس للذات ليس شديد الإيجابية لفرد مبدع ومُعَذَّب (وهناك، بالطبع، العديد من الأمثلة الأخرى على ذلك.) أظهر هذا الواجب الدراسي البسيط لنا — أكثر من غيره — المصاعب التي يمكن أن تصاحب العبقرية الإبداعية. ففي حين أننا قد نُعْجَبُ بما حققه المبدعون الاستثنائيون، فإنه من المهم أن ندرك أن العديد من العباقرة المبدعين هم في الواقع نفوس معذبة. وحساسيتهم الشعورية وشغفهم غالبًا ما يكونان مفرطين بدرجة تصيب حياتهم بالخلل الوظيفي العميق بل وتُشكلها عن طريق الصعاب المستمرة المتواصلة. وبالنسبة للبعض، في الواقع، يبدو أن هناك خيطًا رفيعًا يفصل بين العبقرية الإبداعية والجنون.

ليس من الصعب رؤية أن العديد من العباقرة المبدعين يحملون عناصر من الجنون ويتميزون بالصفات أو السلوكيات التي تصدم الآخرين لغرابتها. انظر إلى الأمثلة التالية:6
  • كان ألبرت أينشتاين يلتقط أعقاب السجائر من الشارع ليجمع التبغ لغليونه.

  • قضى هوارد هيوز أيامًا كاملة في منطقة خالية من الجراثيم بناها بنفسه في وسط جناحه بفندق بيفرلي هيلز.

  • اعتقد الموسيقار روبرت شومان أن بيتهوفن أخرج مؤلفاته الموسيقية.

  • أحب سلفادور دالي الاحتفاظ بحيوانات أليفة غريبة.

  • أظهر مايكل جاكسون هوسًا غير طبيعي بالجراحات التجميلية.

  • عُرف ستيف جوبز بهوسه ببعض الأشياء بطرق عدة، بما في ذلك النظام الغذائي.

على مرِّ التاريخ، كثيرًا ما تعرَّض العباقرة للاضطهاد، على الرغم من أن هؤلاء الأشخاص غير التقليديين كانت أمامهم الفرصة لتقديم مساهمات عظيمة للعلوم والمجتمع في عصورهم التنويرية.7
وفي الواقع، ربما يمكن أن يرتبط الإبداع والغرابة بيولوجيًّا ارتباطًا وثيقًا. فيقول البعض إن هناك أدلة على أن الصفتين هما نتيجة لتغيرات جينية تزيد من إزالة التثبيط المعرفي؛ أي فشل المخ في ترشيح المعلومات الغريبة.8 فحينما تصل المعلومات غير المرشحة إلى الوعي الإدراكي في عقول الناس ذوي الذكاء الشديد، وتكون لديهم القدرة على معالجة تلك المعلومات دون أن يشعروا بالارتباك، يمكن أن يؤدي ذلك إلى رؤًى استثنائية. كما أن بعض السمات الإدراكية الأخرى — مثل القدرة على عقد صلات غير عادية أو غريبة — تجدها منتشرة بين المصابين بالفصام والأشخاص الأصحاء المبدعين إلى حد بعيد الذين ينالون درجات مرتفعة في اختبارات التفكير التباعدي، تمامًا مثل المصابين بالأمراض العقلية. ومن المثير للاهتمام أن كلًّا من المجموعتين تتشابهان في وجود كثافة أقل في مستقبلات الدوبامين دي٢ في المِهاد البَصَرِيِّ بخلاف عامة الناس. ومع ذلك، لا ينبغي الخلط بين الارتباط والعلاقة السببية. وحول هذه النتائج الجديدة،9 يقترح دكتور فريدريك أولين — من معهد كارولنسكا في ستوكهولم — أنه: «يمكن أن يتيسَّر التفكير خارج الصندوق خلال وجود صندوق أقل كفاءة.» ففي المرحلة التي لا يستطيع فيها الصندوق دعم الأداء السليم تتوارد أفكار رائعة.
أما وقد عرضنا كل خصائص شخصيات قتلة الإبداع في هذا الكتاب، فلنذهب إلى ذكر شيء لم يُذكر من قبل؛ ولنتأمل لدقيقة فكرة أن يكون للإبداع ذاته سمات سلوكية فريدة من نوعها.10 إذا كان لنا أن نَصِفَ الإبداع بأنه نمط شخصية، فقد يسعنا القول إذن إن هناك جانبين مختلفين في شخصيته: أحدهما مستكشفٌ سريع الخطى نشيط، والآخر فنانٌ أبطأ وتيرةً؛ شديد التأمل. إنَّ الاضطراب ثنائي القطب (المعروف أيضًا باسم الاكتئاب الهوسي) يشتمل أيضًا من جانب على حالة محمومة مشابهة من الهوس — يمكن أن تتضمن لحظات إدراك مثيرة ومفاجئة — ومن جانب آخر على حالة اكتئاب أخف وطأة؛ يمكن أن تحمل في طياتها بصائر شعورية عميقة. ففي حالة الاضطراب ثنائي القطب، تفتح حالة الهوس المجال أمام التفكير الإبداعي عبر السماح للفرد بالإيمان بأنه ليست هناك حدود. ومثل الحالة الإبداعية النشطة، تكون حالة الهوس متأهبة جسديًّا وقادرة على الاستجابة بسرعة (وأحيانًا بطيش) عبر قدر من التغيرات (الشعورية والإدراكية والسلوكية على سبيل المثال). أما حالة الاكتئاب — على النقيض — فيمكنها أيضًا أن تحفز البصيرة الإبداعية من خلال تمكين الفرد من الوصول لجانبه الشعوري العميق. (في حالة الاكتئاب السريري للأسف، يكون لفترات الكآبة قوة مؤثرة ومدمرة على حد سواء من حيث المهارات). ويمكن أن يعبِّر الإبداع عن نفسه بأيٍّ من هاتين الطريقتين. ولعلنا نفتح المجال لأنفسنا أمام المستكشف والفنان عبر تعلُّم استخدام قدرتنا على التفكير الإبداعي، فنتوصل إلى مهارات ومشاعر أكثر عمقًا مما قد نصل إليه بأي طريق آخر.11

هذا لا يعني بالطبع أن الإبداع يساوي الجنون، وأنت بالتأكيد ليس عليك أن تكون مجنونًا حتى تكون مبدعًا. تذكر أن ٣٠ بالمائة من بيننا يستوفون معايير الاضطرابات النفسية الشديدة في مرحلة ما في حياتهم؛ لذا هناك وقت يعبر فيه الكثير منا حدود ما هو «طبيعي». ولعل الإبداع يظهر أحيانًا بطرق غير اعتيادية، لكن الإبداع في حد ذاته ليس صفة إيجابية ولا سلبية. إنه ببساطة ما هو عليه. والفكرة هي أننا علينا استخدام الإبداع بطريقة بناءة، مع استغلال كل ما يمكننا أن نستغله من جانبي شخصيته التأملي والنشط بتوازن.

فكِّر في أهمية الانفتاح بحق على مشاعرنا وعواطفنا الدفينة. وتأمل كيف يمكننا التواصل مع المشاعر العميقة التي تجلب على حياتنا شغفًا ومعنًى، عَبْر التعامل مع عواطفنا الدفينة والاستجابة لها، ما يُمَكِّننا ربما من إشعال حس التواصل والهدف. وبالتأكيد هذا شكل من أشكال التحرر الجديرة بالسعي وراءها على الرغم من التحديات المحتملة.

(٣) اللعب بالنار والمزيد من الابتكارات الهدامة

من المشاهد الغريبة جدًّا التي نراها عند القيادة في المناطق النائية في أستراليا رؤية رجال الإطفاء مع قاذفات اللهب بدلًا من خراطيم المياه. لماذا يُضْرِم عمال الطوارئ هؤلاء النيران في الأدغال بدلًا من إطفاء الحرائق، كما تتوقع منهم أن يفعلوا؟ السبب هو أنهم يعرفون سرًّا تعلموه من أهل البلاد الأصليين في أستراليا، وهو أمر قد عرفه السكان الأصليون لآلاف السنين. تحتاج الأدغال الأسترالية للتجديد بانتظام. فالحريق المتعمد يساعد على حماية المناطق المأهولة بالسكان عبر الحد من تراكم الوقود بطريقة محكمة، وحرق الأدغال يشجع أيضًا على تجديدها على المدى الطويل. فبعد الحريق، تنبت الأشجار والشجيرات الأصلية نباتات وبراعم جديدة، وتنمو من جديد أكثر سمكًا وصلابة مما كانت عليه. لكن لا بدَّ من تقييم ممارسة الحرائق المتعمدة في سياق دورة الحياة الكاملة للأدغال. فدون هذا الحريق، لا يزدهر الموطن الطبيعي.

إنَّ جلب الإبداع إلى حياتك أو مؤسستك يشبه الإجراءات الوقائية التي يتخذها رجال الإطفاء الأستراليون. وحريق الغابات المتعمد ربما يُعَدُّ نوعًا من جرائم الحريق العمد (إذ يسبب الدمار ويخلِّف الخراب) أو عملية إنقاذ استباقية (إذ يؤدي الحريق المتعمَّد المحكم إلى الحماية على المدى الطويل وإلى حياة جديدة في نهاية الأمر). ويُعَدُّ الحريق المُتَعَمَّد تدبيرًا وقائيًّا، فدون الحرق العمد المُنفَّذ بحرص، ستلتهم النيران الشرسة البيئة بلا رحمة في نهاية الأمر.

يمكن مقارنة الحريق المتعمد بما يعرف في علم الاقتصاد السلوكي باسم «الابتكار الهدام»؛ أي التدخل بتصرف ثوري وتخريبي ظاهريًّا، سعيًا وراء هدف أسمى. فقد تكون هناك حاجة إلى إجراء عملية الأرض المحروقة هذه للوصول إلى لُب المشكلة المؤسسية ولتفتيت الأساسات الضعيفة قبل إمكانية إعادة التعمير بطريقة بناءة. لكن بعض المؤسسات قد لا تكون مستعدة لاتخاذ هذه الخطوة. وأحيانًا ما يكون التحول اللازم للابتكار الحقيقي تحديًا شديد القسوة،12 وأحيانًا ما يكون الناس غير مستعدين للجوانب الغامضة الرمادية الضبابية التي ينطوي عليها الإبداع نفسه. فالتشكيك في المعتقدات والأنظمة والعمليات الحالية يمكن أن يكون إجراءً مؤلمًا وقاسيًا، وتعقُّب القتلة المشتَبَه بهم قد يكون أمرًا متواصلًا، ولكنه شر لا بدَّ منه للتوصُّل إلى نتائج إيجابية على المدى الطويل.
حتى إن اتفقنا على أن الأفكار الإبداعية الجديدة سوف تُسْفِرُ عن نتائج أفضل وأنها ضرورية للمضي قدمًا، فما عدد الأشخاص الذين سيحفزون مثل هذه العملية الهدامة طوعًا، سواء في حياتهم الخاصة أو في مؤسساتهم؟ وأي قائدٍ يمكن أن يتحمل شن ثورة ابتكارية كبرى عبر تحريك الشركة نحو مرحلة «الحريق المتعمد»؟ مَن على استعداد لهدم شركة لإتاحة المجال لها لتنمو من البداية فتصبح أقوى وأصلب؟ مَن سيبدأ هذا الترميم الهائل مع العلم بأن الفوائد لن تكون محسوسة إلا مع الجيل المقبل، في حين أن الضغط المباشر على الرئيس التنفيذي متمثل في إعداد ميزانية لهذا العام؟ انظر إلى أغلب السياسيين؛ فهم يترددون في القيام بأي شيء يحتمل ألا يكون مرحَّبًا به على المدى القصير، حتى لو كان ذلك يعني أن البلاد سوف تستفيد على المدى الطويل؛ لأنهم لن يخاطروا بخسارة الانتخابات.13

دعنا نقلب الطاولة على الفرضية الرئيسية لهذا الكتاب في تمرين تأملي ممتع، ونفكر في سيناريو «مَن فعلها؟» عكسيًّا. دعونا نتخيل للحظة أن الإبداع هو القاتل المشتبه به وأنه المتهم بتهديد أو قتل القيم الأخرى التي قد تكون أساسية للبقاء، مثل الاستقرار أو الاستمرارية أو طول الأمد. وبعدها يمكننا أن نطرح الأسئلة مثل: «مَن قتل النظام الذي يوفر الاستقرار؟» أو «مَن الذي تحدى الوضع الراهن؟»

يرى جيفري ويست أن عمر الشركة العادية لا يزيد عن أربعين عامًا؛ لأن القادة لا يلمسون الحاجة إلى خوض «الحريق المتعمد» والتجديد أو أنهم لا يريدون المجازفة بخوضه بينما تنمو الشركة وتدر الربح. ووفقًا لويست، فالشركات لا خيار لديها إلا أن «تموت» بطريقة ما كي تبقى بعد دورة النمو والانتكاس الحتمية. ولكن إذا تعاملت مع هذه الحتمية بمهارة، فستستعدُّ لها عبر بدء دورات حياة جديدة تمامًا، من الموت الافتراضي للشركة المبدئية. وعلى الرغم من أن ذلك يمكن أن يمثل لكمة للنظام — مثلما يصدم جهازُ الرجفان القلبَ لإعادته إلى الحياة بما تحمله الكلمة من معنى — فإنه سيعيد البناء من جديد ويُفْسِح المجال أمام بدء حياة منتجة.14 ومثلما يلزم حدوث ذلك على المستوى المؤسسي وعلى نطاق واسع، فيجوز له بل عليه أن يحدث على المستوى الفردي على النطاق الضيق.
في القرن التاسع عشر، عندما اكتظت شوارع نيويورك بالعربات التي تجرها الخيول، أصبحت المدينة مهددة بمشكلة ملحة بسبب روث الخيول. وبالفعل كادت المدينة ألا تنجو من هذه الكارثة البيئية، لكنها خرجت من الوحل نتيجة إيجابية؛ إذ أدت هذه الأزمة إلى ضرورة البدء من جديد عبر ابتكار تكنولوجي هائل جديد، وهو الإنتاج الغزير للآلة الجديدة المعروفة آنذاك ﺑ «السيارة». وقد طُرح الابتكار في اللحظة الأخيرة، لكن نتيجة لذلك، كان من المحتمل أن يفقد كل من كان يعمل في مجال العربات التي تجرها الخيول مصدر دخله لو لم يتابعوا هذه التغييرات.15

(٤) الابتكار أو الموت: العواقب التجارية والاجتماعية للتجديد

إذا لم تكن موجودًا لتشهد تحول نيويورك من عصر العربات التي تجرها الخيول إلى السيارات، أو إذا فاتك التحول إلى الطاقة الكهربية النظيفة نسبيًّا في المنازل بعد عصر حرق الوقود الأحفوري المستنزف — مثل الفحم الذي تسبَّب في تسميم رئات أجيال — ربما تكون لا تزال محظوظًا بالقدر الكافي لتكون شاهدًا على مرحلة تجديد جديدة للحضارة الإنسانية. فشهيتنا النهمة للحصول على أشياء أكثر «على نحو أسرع وأفضل، وبسعر أرخص» تتطلب منا المزيد والمزيد من التفكير الابتكاري.

لذا ما الشكل الذي ستتخذه إعادة ضبط الإبداع التالية؟ إنَّ المشكلة الكبرى الحالية حول الاحتباس الحراري تقدم فرصة كبيرة «لإعادة ضبط الإبداع»؛ إذ تبدو الآن تجسيدًا بارزًا لمبدأ «التصرف أو الموت»، خشية أن يصل بنا المطاف إلى خراب يَبَابٍ على شاكلة ما تَجَسَّدَ في فيلم «ماكس المجنون». وفي مجالات أخرى، نشهد الآن صعود مؤسسات صغرى وبارعة، يمكنها منافسة الشركات الأكبر والأكثر رسوخًا على عدد من الأصعدة. انظر كيف ينال الطفل المبدع الذي يملك جهاز كمبيوتر محمول — ويعمل في مرأبه — احترام المدير التنفيذي الذي كانت له اليد العليا من ذي قبل، بل ويُثِيرُ خوفه في الوقت نفسه.

هناك أيضًا مجال آخر شهد تغييرًا سريعًا، وهو مجال نشر الكتب. إذا كنت تقرأ حاليًّا كتابًا في نسخة مطبوعة، فعليك أن تحافظ عليه؛ فربما يكون الأخير في سلالة قيد الانقراض. لكن الأكثر احتمالًا أن يكون بيدك الآن كتاب تقرؤه في نسخة إلكترونية. فعندما بدأنا في تأليف هذا الكتاب، كانت المكتبات ودور الناشر تعاني من انهيار في المجال الذي يعتمدون عليه، والذي كان في طور عملية الميلاد من جديد ولكن على شبكة الإنترنت (رغم أن الإنكار كان هو الاستجابة الشعورية السائدة كما هو الحال عادةً عند مواجهة احتمالية الموت الجسدي). وكانت إحدى نقاط التحول في ثورة التجديد هذه هي إعلان موقع أمازون في عام ٢٠١١ أن مبيعات الكتب الإلكترونية قد تجاوزت مبيعات الكتب المطبوعة، وأنهم كانوا يتعاقدون مع المؤلِّفين أنفسهم، مستبعدين ناشري الكتب المطبوعة من الأمر.16 وشهد نفس العام اختفاء سلاسل مكتبات كبيرة من مراكز التسوق المحلية في جميع أنحاء البلاد.
لماذا لم تَلْحَقْ هذه المؤسسات بِرِكَاب التحول الابتكاري، ومن ثَمَّ ماتت من الاحتراق غير الخاضع للسيطرة؟ وفقًا لتيم هارفورد:
الابتكارات الهدامة هدامة تحديدًا لأن التكنولوجيا الجديدة لا تروق للعملاء التقليديين؛ والمشكلة لدى قادة السوق في التكنولوجيا القديمة ليست بالضرورة أن هذه التكنولوجيا تفتقر إلى القدرة على الابتكار، بل إنها تفتقر إلى الإرادة. وعندما تظهر التكنولوجيا الهدامة، فإنها ربما تربك لاعبًا موجودًا بالفعل في السوق لأن التكنولوجيا ذاتها مختلفة جذريًّا؛ إذ يتجاوز الابتكار — الذي يكون هدامًا على نحو كافٍ — تقريبًا كُلَّ أولئك المهمين بالشركة: باختصار، فإن كل من هو ذو ثقل بالشركة سوف يفقد منصبه إذا شاع الابتكار الهدام داخل تلك الشركة، وسواء بوعي أم بغير وعي، سيحرص أولئك في الغالب على ألا يَشِيع. ونتيجة لذلك، ربما تجد الشركة نفسها في ورطة خطيرة، بل وربما تموت.17
شركة لونلي بلانيت هي مثال لناشر استطاع التكيف مع العصر الرقمي واحتياجات المسافرين المتغيرة؛ وقد تَمَكَّنَتْ من ذلك عبر ابتكار جولات صوتية رقمية جديدة وإتاحة إمكانية «الانتقاء والمزج» التي تتيح للعملاء تحميل فصول من الكتب وطبعها.18 أما مكتبة إنديجو — أكبر مكتبات كندا — فتروِّج للكتب على أنها «أسلوب حياة» وليست مُنْتَجًا، وتَبِيع الهدايا ولُعَبَ الأطفال وألعاب الفيديو والموسيقى وطعام الذوَاقة بل وحتى الأزهار إلى جانب كتبهم. فهي مثال لمكتبة معاصرة مستقلة تستغلُّ حب الناس للكتب ورغبتهم في تقديم الهدايا الجميلة. بالإضافة إلى ذك، بينما تَحَطَّمَ واحترق المساعد الرقمي الشخصي نيوتن الذي أنتجته شركة أبل، ظهر من أنقاضه الآي باد، والكيندل، وأجهزة القراءة الإلكترونية المحمولة الأخرى.

إنَّ العديد من المؤسسات التي تعمل في مجال الترفيه — والتي تكافح من أجل البقاء إثر التغيرات التكنولوجية السريعة — تستخدم التفكير الإبداعي لتوليد حلول ذكية. على سبيل المثال، كثيرًا ما كانت تُقلَّد العلامات التجارية الناجحة للملابس قبل أن تصبح قرصنة الموسيقى والبرامج التليفزيونية مشكلة خطيرة. وفي أسواق بالي — ولعديدٍ من السنوات — كافحت شركات ملابس رياضة التزلج على الماء كي تنافس البضائع المقلدة الرخيصة التي كانت تُباع في كل زاوية في الشارع؛ إذ كانت كل سلعة مقلدة تباع بحفنة قليلة من الدولارات وتجذب السياح الراغبين في اقتناص صفقة سريعة بجزء ضئيل من تكلفتها الطبيعي أَيَّمَا انجذاب. نتيجة لذلك، تَوَصَّلَ صاحب إحدى أكبر العلامات التجارية لملابس التزلج على الماء إلى وسيلة بارعة للتعامل مع هذه المشكلة. فبعد أن توصل إلى هوية أكبر المذنبين في سوق الملابس المقلدة الرخيصة، عرض عليهم فرصة الحصول على ترخيص العلامة التجارية الأصلية وتمثيلها في بالي. وفي المقابل، تعهَّدوا بأن تظل العلامات التجارية المزيفة مشكلة قائمة. ففي حين أنه لم يكن لدى أصحاب العلامات التجارية الكبرى القدرة على السيطرة على ما كان يحدث في الأسواق المحلية وفي شوارع كوتا، تمتع السكان المحليون بهذه القدرة. وكان النجاح السريع لهذه الترتيبات مذهلًا.

وما نشهده اليوم ليس دورة طبيعية ومذهلة للنمو والوفاة فحسب، بل هو نموذج تجديد أصبحت فيه المخاطر أعلى مما كانت عليه في أي وقت مضى. وعلى التفكير الإبداعي أن يُطبق لحل مشكلات العالم، وليس لمجرد بيع المزيد من المنتجات وكسب المزيد من الأموال، وزيادة الدخل الفردي على نحو ضخم، ودعم دورة الرأسمالية المحدودة. وبقوة الأفراد، يستطيع القيام بذلك كلُّ مَن أدرك أنه قادر على صنع مستقبله بيديه. وفي ظل سهولة اندلاع ثورة الابتكار بلا قيود، سيتسع نطاقها وستصبح أكثر انتشارًا من أي شيء سبقها. كما ستكون اختبارًا لمدى استعدادنا للتعرف على الاحتياجات المحددة في هذه العملية التمكينية الجديدة والاستجابة لها بإبداع.

(٥) حتمية التغيير والتغلب على الصعاب المستقبلية بطريقة بناءة

التغيير حتمي؛ ودائمًا ما ستكون هناك صعاب جديدة علينا تَخَطِّيهَا، وسنحتاج دائمًا إلى الابتكار كي نتغلب على هذه الصعاب التي تواصل ظهورها بحجم متزايد. والابتكار ليس صالحًا ولا خبيثًا؛ فما هو إلا ابتكار. فإما سنشارك بإيجابية في العملية وإما لا؛ ولذا فالأمر متروك لنا لنقرر إن كنا سنمثل جزءًا إيجابيًّا من العملية أم سنصبح ضحاياه قَلِيلِي الحظ.

سيتحتَّم على المؤسسات أيضًا أن تُدْرِكَ أثر هذا الابتكار على مستقبلها. إن لم يخرج الإبداع من المؤسسة، فسوف ينبع من الناس، وإن لم تقدر المؤسسة على التغيير فستُصبح بائدة. أمَّا «الإبداع الهدام»، فسيظهر بمساعدة من المؤسسة أو موافقتها أو بدونهما. وسوف يبتكر العملاء بمساعدة أو من تلقاء أنفسهم. لقد بدأ الناس تنزيل البرامج التليفزيونية ليس لأنهم بالضرورة يستمتعون بتصرفهم بشكل غير قانوني، لكن ببساطة لأنهم لا يريدون أن يُملى عليهم ما يشاهدونه ووقت مشاهدته. ففي النهاية، إنَّ الصبي المراهق الذي ينزل — على نحو غير قانوني — آخر البرامج التليفزيونية من موقع ذا بايريت باي باستخدام برنامج يو تورنت، غالبًا ما سيفضِّل تحميله من موقع محطة إيه بي سي التليفزيونية بدون فيروسات وبجودة عالية الوضوح. وحتى إن اضطروا إلى تحمُّل الإعلانات التقليدية، فسيكون ذلك أفضل من اضطرارهم إلى تحمُّل شريط الإعلان عن المواقع الإباحية التي تصاحب صفحات يو تورنت، وكذلك أفضل مما إذا حدث ونقروا بالصدفة على زر «تحميل» الخاطئ!

وترى باتريشيا بي سيبولد أن: «العملاء قد بسطوا سيطرتهم؛ فتسوُّقهم الجامح القائم على المقارنات يؤدي إلى تآكل هوامش أرباحك. وسلوكهم المتمرِّد يتحدى نماذج أعمالك ويُعَرِّض ملكيتك الفكرية للخطر. وتوقعاتهم الملحة حول منتجات مصمَّمة حسب الطلب، وتجارب مذهلة، ومستويات خدمة عالية، تستنزف مواردك. إنَّ إصرار العملاء على سهولة الوصول إلى ما يريدون دون معوقات يهدد سياسات عملك ويتحدى عملياتك التجارية غير المرنة.»19

لأن الابتكار ينشأ عن التوتر الهيكلي بين واقع الأمور والشكل الذي نتخيَّلها عليه، فإن الفجوة بين ما يستطيع الناس فعله اليوم وما يريدون أن يتمكَّنوا من فعله تقود التغيير إلى ما هو أبعد من توقعات أيِّ شخص. ولذا سوف يتحتم اتخاذ خطوات استباقية للتعامل مع تغير المناخ بدلًا من انتظار الطبيعة الأم لِتُجْرِيَ إعادة ضبط حتميَّة للبيئة. وبدلًا من صناعة المنتجات أو تقديم الخدمات للعملاء، سيتعيَّن على المؤسسات أن تتعلم إتاحة المجال للعميل لتحديد الابتكار وتحفيزه.

حتى التغييرات البسيطة وُجد أنها تُحَقِّقُ فرقًا كبيرًا. تأمل «الكافيتريا دون الصواني» التي تُطبق في بعض الجامعات بالولايات المتحدة. فبمجرد الكَفِّ عن استخدام الصواني، أهدرت كميات أقل من الطعام، واستُخدمت كميات أقل من المياه والطاقة في التنظيف، ونتجت كميات أقل من الفضلات ومياه الصرف، واستهلكت كميات أقل من الطعام، وكلها فوائد إيجابية. فقبل تطبيق هذا النظام لأول مرة في قاعات الطعام بجامعة نبراسكا، لوحظ أن الطلاب بددوا ١٣٠٠ رطلٍ من الطعام الصلب، و٨٠٠ رطلٍ من السوائل و٩٠ رطلًا من الورق في غضون خمس ساعات فقط. وقد أظهرت الدراسات أن برامج تناول الطعام بدون صواني يحد من تبديد الطعام بنسبة من ٢٥ إلى ٣٠ في المائة للشخص الواحد.20

وفي مجال بيع الملابس بالتجزئة الذي يواجه صعوبات الآن، على تجار التجزئة المنافسة مع المتسوقين معدومي الضمير الذين يقيسون الملابس للتأكد من أنها مقاسهم ثم يتحقَّقُون من أفضل الأسعار على الإنترنت عبر هواتفهم الذكية. وتتعامل بعض المتاجر مع هذا الأمر بفرض رسوم لقياس المعروضات، بقيمة ٥٠ دولارًا لأحذية التزلج، و٣٠٠ دولار لفستان الزفاف! وبينما وجدت العديد من الشركات أنها تتكبَّد الكثير بسبب هذه الرسوم التي أتت كرد فعل، بدأت متاجر — مثل ماير — عملية «الحريق العمد» الاستباقية مستجيبةً إلى «الابتكارات الهدامة» عبر تأسيس متاجرهم الخاصة على شبكة الإنترنت بالخارج (في هونج كونج) لتثبيت أقدامهم في مدخل سوق الإنترنت المتنامية أسرع فأسرع.

وتقول سيبولد إنه بدلًا من افتراض أن المؤسسة بها «الخبراء» الذين هم أكثر ذكاءً من عملائها — وهو لم يعد الحال دومًا — ستنفتح المؤسسات الذكية على مساهمات العملاء أو الزبائن وستقدِّرها. وجرت التقاليد على أن تُشيَّد المؤسسة على أنها هي المختصة، وأن تُصمم المنتجات لِتَوَقُّعِ ما قد يرغبه العميل. وبعدها يعمل فريق التسويق على بيع هذا المنتج عبر خلق حاجة فعلية له. واليوم — رغم ذلك — أصبحت المنتجات أكثر ملاءمة للمستخدمين وأكثر صلة بهم، كما أنها تَبِيع نفسها إلى حد بعيد، من خلال البدء اعتمادًا على مساهمات العملاء. ويرى البعض أن هذه إحدى الاختلافات الجوهرية بين مايكروسوفت وأبل؛ فمايكروسوفت ركزت الابتكار حول منتجاتها، بينما ركزت أبل الابتكار حول عملائها.

على سبيل المثال، تخطَّت أبل الحدود الإلزامية المعتادة لمنحنى البُعدية عبر إتاحة المجال للجميع لتصميم تطبيقات جديدة لأجهزة آيفون أو الآي باد التي تُنْتِجُها. أَدَّى هذا إلى زيادة القوى العاملة لديها بأكثر من ١٠٠ ألف شخص بدون أَيٍّ من التكاليف أو الالتزامات المقترنة بها! ومثَّل تحولًا كاملًا من الطريقة التي كان يُفرَّق بها بين أبل ومايكروسوفت من قبل. فقد أسست مايكروسوفت أولًا نظامًا مفتوحًا جعل من الممكن استخدام منتجاتها مع أي جهاز، بينما بقيت أبل مقيدة، لكن الآن قلبت أبل الطاولة بهذه الفرصة من أجل الاستخدام المفتوح. وما قد يدل عليه هذا هو أن المؤسسات القادرة على توسيع نطاق استخدام منتجاتها تتحرر أكثر لتصبح أكثر إبداعًا، وهذه هي المؤسسات التي ستفوز في نهاية المطاف.

ربما حان الوقت الآن للبدء من جديد ولإتاحة المجال للإبداع لإيجاد طرق جديدة أفضل نحو النمو. ومثلما كانت هناك طرق قليلة للتغلب على الصعاب الحالية بأمان — مع ضمان أنك لن تسقط سقوطًا حرًّا فتنهار أو تنزلق بلا سيطرة على منحنيات العمل الحادة — قدمنا لك في هذا القسم بعض المناهج لتجتاز التغيرات التي سيأتي بها المستقبل. ومثل المتزلج الذي يَبْرَعُ في الخروج عن المسارات، يمكنك تمرين عقلك وممارسة مهاراتك الشخصية لتتعلم أن تستجيب بسرعة وبخبرة لأي عقبات خفية. ومثل أولئك الذين ينزلون من على الارتفاعات عن طريق سلسلة من المراحل التي يتمكَّنون من قطعها بعد التخطيط لها، يمكنك أن تخصص وقتًا لمواجهة التحديات المحددة، ببطء وبعناية، وخطوة بخطوة، مع إبقاء مداركك منفتحة لاحتمالات إبداعية جديدة، في الوقت الذي ستدخل فيه الابتكارات العملية إلى فريقك ومؤسستك.

(٦) كيف يمكن لسكان مقلب النفايات بالمكسيك أن ينقذوا الكوكب؟

إذا كان هناك مكان للتخلِّي عن الأمل في الحضارة، فإنه سيكون في ضواحي واحدة من أكبر المدن في العالم وأكثرها تلوثًا، في منطقة من أفقر المناطق على وجه الأرض. فلا تزال لدينا صورة واضحة في مخيلتنا لطفلين يبلغان من العمر تسعة أعوام يطيِّران طائرات ورقية مصنوعة في المنزل ويجريان بأسرع ما يمكنهما. ترتفع الطائرات الورقية إلى أربعة أمتار فوق رءوسنا قبل هبوطها فجأة على كومة من القمامة النتنة. ولكنها لم تكن مجرد كومة منزوية من القمامة، بل كان هذا التل جزءًا صغيرًا من جبل ضخم من القمامة التي امتدت على مد البصر بما لا يقل عن ميل أو ميلين في كل اتجاه. وجبل القمامة هذا — دائم الاحتراق داخليًّا — هو موطن لمجتمع كامل من الناس الذين يُفَتِّشُون فيه عن بقايا طعام ويجمعون المواد القابلة للتدوير لبيعها. المئات من الناس يعيشون هناك في بيوت أنشئت على عجالة بطريقة بدائية من قطع القصدير والخشب؛ أشخاص انتقلوا من الريف بحثًا عن عمل، أشخاص مروا بأوقات عصيبة. وهذا ليس أكثر من واحد من أربعة مجتمعات من جبال القمامة التي تطوق مدينة مكسيكو سيتي، وتُؤْوِي فعليًّا آلاف الفقراء (لمشاهدة مقابلة بالفيديو مع الأطفال، ادخل على www.whokilledcreativity.com).
لأول مرة في التاريخ، يعيش الناس الآن بعدد أكبر في المدن عنه في المناطق الريفية. ومع سباقنا نحو المستقبل ستستمر وتيرة التمدن في الازدياد. وسوف تنتقل مليارات أخرى من الناس إلى المدن خلال هذا القرن، وأثناء ذلك، ستستمر هذه المجتمعات الهامشية في النمو والتطور. فضخامة التغييرات وسرعتها لا تسمح للمخططين وواضعي السياسات بالاستجابة بالطريقة المناسبة.21 فالجانب السلبي من التمدن ليس حتميًّا، وسيكون هناك سباق بين النمو السيني الذي يمكن أن يؤدي إلى إعادة ضبط لا مَفَرَّ منها وموت محتمل ونشأة جديدة من التدخل الإبداعي والتجديد المتعمَّد (الحريق المتعمَّد).

وبقدر ما يبدو مقلب القمامة بمدينة مكسيكو سيتي مكانًا محبطًا للغاية، فإننا وجدناه مجتمعًا نابضًا بالحياة به أشخاص ذوو عزم وابتسامات ساحرة وروح إيجابية. كانت منازلهم مشيدة على طول شوارع نظيفة، قُطعت عبر أكوام القمامة وكانت تُكنس بعناية كل يوم لإعطاء بعض مظاهر النظام وسط الفوضى. أمَّا «الحدائق» الصغيرة (وكانت شتلات نباتية تعاني داخل علب صدئة قديمة، وبرطمانات صلصة زجاجية قديمة ملونة، وداخل إطارات)، فجسَّدت روح الأمل والمرح الإبداعيين للمجتمع. ورغم أن الأطفال كانوا يعملون بكد كلَّ يوم في جمع المواد القابلة للتدوير للمساهمة في دخل الأسرة، كان أيضًا لديهم الوقت للعب، والإبداع. فصنعوا طائراتهم الورقية من البلاستيك والعصي المهملة، وصنعوا ألعابهم المبتكرة من الدُّمَى التي نبذها الأطفال الأثرياء، فجمعوا الأجزاء والقطع الصغيرة التي وجدها الأطفال الآخرون عديمة الفائدة. فمن العدم — ربما لأنهم لم يملكوا شيئًا — تَحَلَّوْا بالاختراع والابتكار. وبدلًا من مشاهدة القصص الجاهزة على التليفزيون واللعب بالدُّمَى الجاهزة، بدءوا من الصفر، واستخدموا خيالهم لخلق ما لم يكن لديهم.

لقد أمعنا التفكُّر مليًّا في المفارقة التي انطوى عليها الموقف؛ فما كان هناك مكان أبعد ما يكون عن هذا المجتمع من منطقة نورذرن بيتشيز الرغدة في سيدني التي أتينا منها، والتي يشكو فيها الأطفال من الشعور بالملل وعدم وجود شيء ليفعلوه رغم إمكانية حصولهم على أي عدد من الأدوات الجاهزة والألعاب ووسائل التسلية. كان المجتمع المكسيكي أبعدَ ما يكون أيضًا عن فِرْدَوْسِنَا في بالي، حيث أدت القوى الخارجية القوية إلى موت الشاطئ البسيط وفقدان البراءة الإبداعية وزوال الروح الإبداعية في المجتمع القروي. لقد وجدنا خلاصة التفكير الإبداعي المبتكر في آخر الأماكن غير المتوقعة. وأدركنا في ذلك اليوم مدى أهمية اكتشاف العقلية — بل والتعلم منها — التي مَكَّنَتْ هؤلاء الذين لا يمتلكون أي وسائل من بناء شيء من العدم، والتَّحَلِّي بالأمل المستمر في مستقبل أفضل.

ليس على مدننا وحضاراتنا أن تموت، وعلينا ألا ندع الإبداع يقضي نَحْبَه. وفي أثناء سباقنا نحو المستقبل، علينا أن نُحَفِّزَ تبادل الأفكار بدءًا من الطبقات العليا عند مكتب الرئيس التنفيذي ونزولًا إلى مقلب القمامة ثم الصعود مرة أخرى. قد يبدو الوضع مجنونًا للغاية، لكن التطبيق الذكي للإبداع يضمن أنه سيواصل انبعاثه في المزيد من الأماكن الملهمة، في ظل وجود صلات أفضل من أجل النمو المتواصل الإيجابي.

كلما دُمر الإبداع ينبعث مرة أخرى في آخر الأماكن غير المتوقعة، حتى في حطام حضارتنا التي يتصاعد منها الدخان، مثل طائر العنقاء بَرَّاق اللون الخرافي الذي ينبعث من الرماد. فكلٌّ منا لديه القدرة على صناعة شيء رائع من الأشياء التي أُعطيت إلينا. فسواء الأطفال الذين صنعوا الطائرات الورقية ليطيروها فوق مقلب القمامة الذي هو بيتهم، أو معلم المدرسة الذي يُلْهِم تلاميذه لاستكشاف أفكار جديدة، أو موظفو المكاتب الذين يخلقون مصادر إبداعهم في مقارِّ عملهم غير الملهمة، أو القائد الذي بإمكانه أن يغير الشركة بأكملها، فكلٌّ منا لديه مهاراته الفريدة التي يظهرها وأشياء مُمَيَّزة ليقدمها.

عندما نبدأ العمل بهذه الطريقة، فإننا نُضعف قوة قتلة الإبداع ونبثُّ الحياة في العملية الإبداعية؛ مما يساعد على جعل العالم مكانًا أفضل. ونأمل أن تكون قد تلقيت الإلهام لتفتح آفاقك العقلية للبدء بهذه العملية وأن تجد وسيلةً لتقدم بها مساهمتك الإيجابية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤