المعلومات الدلالية
لنعد إلى محادثة جون مع الميكانيكي، تقدِّم النظرية الرياضية للاتصال تحليلًا مفصلًا لكيفية تبادل البيانات عبر الهاتف. فيما يتعلق بالنظرية الرياضة للاتصال، كان يمكن أن يدور حديث جون والميكانيكي حول الطقس، أو مشكلة ما في نظام فرامل السيارة، أو أي شيء آخر، يرجع ذلك إلى أن النظرية الرياضية للاتصال تدرس المعلومات بصفتها ظاهرة احتمالية، ويدور السؤال الرئيسي للنظرية حول ما إذا كان بالإمكان تشفير ونقل كمية غير مفسرة من البيانات بصورة فعالة عن طريق أبجدية محددة ومن خلال قناة معينة أم لا، وكيفية عمل ذلك، ولا تهتم النظرية الرياضية للاتصال بالمعنى، أو المرجع، أو العلاقة، أو الاعتمادية، أو الفائدة، أو التفسير الخاص بالمعلومات المتبادلة، بل فقط بمستوى التفاصيل ومعدلات التكرار في البيانات غير المفسرة التي تكوِّنها. من هنا، يمكن مقارنة الفرق بين المعلومات وفق معنى شانون في النظرية والمعلومات الدلالية بالفرق بين وصف نيوتن للقوانين الطبيعية التي تصف آليات مباراة تنس ووصف اللعبة نفسها كمباراة نهائية في دورة ويمبلدون من خلال مُعلِّق. لا شك أن المفهومين مترابطان، لكن يظل السؤال هو إلى أي درجة. في هذا الفصل، سننظر إلى تعريف المعلومات الدلالية، ثم سنقوم باستكشاف أساليب متعددة تسعى إلى تقديم تفسير مقبول عمَّا يمكن أن يعنيه كون الشيء ذا دلالة معلوماتية. ثم سنبحث مشكلتين مهمتين تؤثران على هذه الأساليب؛ ألا وهما متناقضة بار-هيليل كارنب وفضيحة الاستدلال، وكيف يمكن حلهما.
(١) المعلومات الدلالية الحقائقية
ربما يكون المحتوى الدلالي «إرشاديًّا»؛ وذلك مثلما أُخبر جون عبر الهاتف عن كيفية استخدام أسلاك التشغيل لتشغيل محرك السيارة، أو «حقائقيًّا»؛ وذلك عندما يخبر جون الميكانيكي أن البطارية فارغة (انظر الفصل الثاني). ولكن ما هو الفرق بين المحتوى الدلالي والمعلومات الدلالية عندما يكون كلاهما حقائقيًّا؟ تذكَّر كذبة جون. أخبر جون الميكانيكي أن زوجته نسيت إغلاق مصابيح السيارة، على الرغم من أنه هو من نسي ذلك. هل قدَّم جون أي معلومات إلى الميكانيكي؟ بالمعنى الدقيق للاصطلاح: قدم جون «قصة» غير حقيقية. بعبارة أخرى: مجرد محتوًى دلالي ما عن موقف منطقي، في حقيقة الأمر، فشل جون في إبلاغ الميكانيكي نظرًا لأن المحتوى الدلالي لم يكن صحيحًا. إذا وضعنا هذا في صيغة أكثر رسمية، يتمثل تعريف المعلومات الدلالية في:
| [تعريف] | تعتبر معلومة دلالية حقائقية إذا — وفقط إذا — كانت (تؤلفها) «بيانات» «مصوغة جيدًا»، و«ذات معنى»، و«حقيقية». |
يوفر [التعريف] عدة مميزات، يستحق ثلاث منها تسليط الضوء عليها في هذا السياق؛ أولًا: يوضح هذا [التعريف] حقيقة أن المعلومات الخاطئة ليست نوعًا حقيقيًّا من المعلومات؛ إذ لا يعتبر من يتحدث بمعلومة خاطئة مثل من يتحدث بجملة خاطئة، وهي جملة تصادف خطؤها، لكنه يتحدث بالطريقة نفسها كمن يشير في جملته إلى صديق غير حقيقي. بعبارة أخرى: ليس صديقًا على الإطلاق. يترتب على ذلك أنه عندما يكون المحتوى الدلالي خاطئًا، تعتبر هذه حالة «إبلاغ معلومات خاطئة». أما في حال إذا ما كان مصدر إبلاغ المعلومات الخاطئة واعيًا بطبيعتها، وذلك مثلما كذب جون عامدًا على الميكانيكي، تصبح الحالة هنا حالة «تشويه معلومات». يعتبر إبلاغ المعلومات الخاطئة وتشويه المعلومات كلاهما محل انتقاد أخلاقي لكنهما قد ينجحان في تحقيق الغرض منهما. في مثالنا، قدَّم الميكانيكي المشورة الصحيحة إلى جون، على الرغم من تشويه جون للمعلومات عن السبب الحقيقي للمشكلة. بالمثل، قد لا تنجح المعلومات في تحقيق الهدف منها. تخيل لو أن جون اكتفى بإخبار الميكانيكي أن السيارة لا تعمل فقط.
تتمثل الميزة الثانية لهذا [التعريف] في أنه يصوغ علاقة حيوية وبديهية بين المعلومات الدلالية الحقائقية والمعرفة. تتضمن المعرفة الحقيقة نظرًا لأنها تتضمن المعلومات الدلالية التي بدورها تتضمن الحقيقة، مثل ثلاث عرائس ماتريوشكا. تنتمي المعرفة والمعلومات إلى عائلة المفاهيم نفسها. لعل ما تمتاز به المعرفة وما تفتقر إليه المعلومات، فضلًا عن تشابههما العائلي، هو شبكة العلاقات المتبادلة التي تجعل جزءًا منها يكون جزءًا آخر. فإذا نحيت ذلك، فلن يبقى لديك سوى كومة من الحقائق أو قائمة عشوائية من وحدات بيانات المعلومات التي لا تستطيع تفسير الواقع الذي تسعى إلى معالجته. ببناء أو إعادة بناء تلك الشبكة من العلاقات، تبدأ المعلومات في تقديم تلك النظرة الشاملة للعالم التي نربط بينها وبين أفضل جهودنا المعرفية. وبناءً عليه، بمجرد توافر بعض المعلومات، يمكن بناء المعرفة في إطار التفسيرات أو الروايات التي تفسر المعلومات الدلالية المتاحة. ففي مثالنا يصل جون إلى معرفة أن البطارية فارغة لا عن طريق التخمين الصحيح وإنما نظرًا لأنه يربط في رواية صحيحة بين المعلومات البصرية التي تشير إلى أن الضوء الأحمر لمؤشر البطارية المنخفضة يومض، وبين المعلومات السمعية التي تشير إلى أن المحرك لا يصدر عنه أي صوت، وبين الانطباع العام بأن السيارة لا تعمل، وفق هذا المعنى، تمثِّل المعلومات الدلالية نقطة البداية الأساسية لأي استقصاء علمي.
ستبدو فائدة الميزة الثالثة بصورة أكبر مع نهاية هذا الفصل، عندما يلعب [التعريف] دورًا مهمًّا في حل ما يُعرف بمتناقضة بار-هيليل كارنب. قبل ذلك، نحن بحاجة إلى فهم ما يعنيه أن ينقل شيء ما معلومات مفادها أن كذا وكذا هو واقع الأمر. بعبارة أخرى: بأي طريقة تصبح المعلومات الدلالية مفيدة معلوماتيًّا بصورة أو بأخرى، وما إذا كانت درجة هذه الإفادة خاضعة لعملية الحساب الكمي الدقيق.
(٢) تحليل الإفادة المعلوماتية
تختلف أساليب بحث الإفادة المعلوماتية للمعلومات الدلالية عن النظرية الرياضية للاتصال من وجهتين رئيسيتين؛ أولًا: تسعى هذه الأساليب إلى تفسير المعلومات بصفتها محتوًى «دلاليًّا»، وتبحث عن إجابات عن أسئلة مثل: «كيف نعد شيئًا ما معلومات؟ ولماذا؟» «كيف يمكن أن ينقل شيء معلومات عن شيء آخر؟» «كيف تتولد وتتدفق المعلومات الدلالية؟» «كيف ترتبط المعلومات بالخطأ، والحقيقة، والمعرفة؟» و«متى تكون المعلومات مفيدة؟» ثانيًا: تسعى أساليب بحث المعلومات الدلالية أيضًا إلى ربطها بمفاهيم المعلومات الأخرى ذات الصلة وبالأشكال المعقدة للظواهر المعرفية والعقلية؛ وذلك من أجل فَهم ما يمكن أن يعنيه كون شيء — مثل رسالة ما — مفيدًا معلوماتيًّا. على سبيل المثال: ربما نحاول أن نؤسس المعلومات الدلالية الحقائقية في المعلومات البيئية، وهو أسلوب يُعرف باسم «تطبيع المعلومات».
في أقصى طرفي الطيف، يُفترض أن النظرية الرياضية للاتصال تقيِّد أي نظرية حول المعلومات الدلالية الحقائقية تقييدًا «قويًّا جدًّا»، بل ربما كانت تحددها تحديدًا زائدًا عن الحد، مثلما تقيِّد فيزياء نيوتن الهندسة الميكانيكية. يعتبر تفسير ويفر المتفائل لأعمال شانون — وهو ما أشرنا إليه في المقدمة — مثالًا نموذجيًّا على ذلك.
على الجانب الآخر من الطيف، يُفترض أن النظرية الرياضية للاتصال تقيِّد أي نظرية حول المعلومات الدلالية الحقائقية تقييدًا «ضعيفًا»، بل ربما كانت تحددها تحديدًا أقل ممَّا ينبغي، مثلما تقيِّد فيزياء نيوتن لعبة التنس؛ أي تقيدها بالمعنى الأكثر مللًا والأقل أهمية؛ ومن ثَمَّ بما يمكن التغاضي عنه.
أدى ظهور النظرية الرياضية للاتصال في خمسينيات القرن العشرين إلى بعض الحماس المبدئي الذي خَفَتَ تدريجيًّا في العقود التالية. تاريخيًّا، انتقلت النظريات حول المعلومات الدلالية الحقائقية من حال «مقيدة تقييدًا شديدًا» إلى حال «مقيدة تقييدًا ضعيفًا». مؤخرًا، نجد بعض الآراء التي تعترف بفضل النظرية الرياضية للاتصال، وذلك فقط بسبب ما توفره من نظرية إحصائية قوية ومتطورة للترابطات بين حالات الأنظمة المختلفة (المرسل والمستقبل) وفق احتمالاتها.
على الرغم من أن تحليل المعلومات الدلالية صار مجالًا مستقلًّا بصورة متزايدة عن النظرية الرياضية للاتصال، ظلت هناك صلتان مهمتان مستقرتان بين النظرية الرياضية للاتصال وأكثر النظريات حداثة؛ ألا وهما نموذج الاتصال، الذي جرى تناوله في الفصل الثالث، وما يُعرف باسم «مبدأ العلاقة العكسية».
ظل نموذج الاتصال لا يواجهه أي تحدٍّ فعلي، حتى إذا كانت النظريات الحالية تميل بكثرة إلى أن تأخذ في الاعتبار — باعتبارها حالات أساسية — نظمًا مُوزعة متعددة الوسائل تتفاعل بالتوازي، بدلًا من الوسائل الفردية التي ترتبط ببعضها من خلال قنوات اتصال بسيطة ومتتالية. في هذا المقام، صارت فلسفتنا للمعلومات أقل ديكارتية وأكثر «اجتماعية».
(٣) فضيحة الاستدلال
أطلق سي دي برود على المشكلات غير المحلولة المتعلقة بالاستقراء فضيحةَ الفلسفة. يبدو لي أنه — بالإضافة إلى هذه الفضيحة — توجد فضيحة أخرى لا تقل في فداحتها؛ ألا وهي فضيحة الاستدلال. يمكننا إدراك حجم هذه الفضيحة عن طريق أي طالب جامعي نابهٍ في السنة الأولى يسأل، عندما يُقال له إن الاستنباط يعتبر «حشوًا» أو «تحليلًا» وإن الحقائق المنطقية ليس لها «محتوى تجريبي» ولا يمكن استخدامها في توليد «تأكيدات حقائقية»: بأي معنى إذن يمنحنا الاستنباط معلومات جديدة؟ ألا يعتبر من البديهي للغاية وجود بعض المعنى، وإلا ما فائدة المنطق والرياضيات إذن؟
كانت هناك محاولات كثيرة لحل هذه المشكلة، يشير البعض إلى الطبيعة النفسية للإفادة المعلوماتية المنطقية، ووفق هذه الرؤية، يتمثل دور التفكير المنطقي في مساعدتنا على استخلاص المحتوى المعلوماتي كاملًا للجُمَل، بحيث يستطيع المرء ملاحظة أن النتيجة موجودة في الأفكار الأساسية عن طريق إجراء عملية تمحيص بسيطة. يشبه الأمر كما لو كانت الأفكار الرئيسية لعملية الاستدلال المنطقي تشبه الزنبرك الحلزوني المضغوط. لا تولد الأفكار الرئيسية معلومات جديدة، بل تخزنها فقط ثم تطلقها مجددًا بمجرد استعادتها شكلَها الأصلي، وتحديدًا بمجرد طرح الاستدلال كاملًا بحيث يتضمن النتائج. يولد المنطق والرياضيات زيادة في المعلومات فقط لعقول محدودة كعقولنا التي لا تستطيع رؤية كيف أن النتائج متضمنة بالفعل في الأفكار الرئيسية. بصفة عامة، يعتبر الاستنباط ذا قيمة عالية جدًّا في الأغراض العلمية. فلو كانت جميع النظريات «مشمولة» في الفرضيات البديهية لأي نظرية، لكانت الاكتشافات الرياضية مستحيلة. بالإضافة إلى ذلك، عادةً ما يصعب إثبات النظريات الشائقة باستخدام الموارد الحسابية. في المقابل، أظهرت أساليب أخرى أن عمليات الاستنباط الكلاسيكية، المنطقية-الرياضية تعتبر مفيدة معلوماتيًّا؛ نظرًا لأن إثبات صحتها يتطلب بصورة أساسية الإدخال (المؤقت) «للمعلومات الافتراضية» التي يجري الاستعانة بها، واستخدامها، ثم التخلص منها؛ ومن ثَمَّ لا تخلف أثرًا في نهاية العملية، وإن كانت تسهم إسهامًا كبيرًا في نجاحها. لنُعْطِ مثالًا بسيطًا لتوضيح هذه النقطة:
- (١)
- (٢)
- (٣)
يعتبر الثراء المعلوماتي لعمليات الاستنباط المنطقية-الرياضية نتيجة الاستخدام البارع للموارد المعلوماتية غير المشمولة بأي حال من الأحوال في الأفكار الرئيسية، ولكنها مع ذلك يجب أن تؤخَذَ في الاعتبار من أجل الحصول على النتيجة.
(٤) متناقضة بار-هيليل كارنب
- (أ)
سيكون هناك أو لن يكون هناك بعض الضيوف على العشاء الليلة.
- (ب)
أو سيكون هناك بعض الضيوف الليلة.
- (جـ)
أو سيكون هناك ثلاثة ضيوف الليلة.
- (د)
سيكون هناك ولن يكون هناك بعض الضيوف الليلة.