الفصل الخامس

الشفافية

أدرك ستيف سميث محرر صحيفة سبوكين أن الخبر من شأنه أن يمس الكثير من الأوتار الحساسة. انتخب قراؤه جيم وست للهيئة التشريعية لولاية واشنطن مراتٍ عديدة، وهذه المرة كان عمدة المدينة. أتت شعبيته جزئيًّا من موقفه المساند للكيان الأسري، وما يُعد — حسب وصف البعض — «منهاجه المناهض للمثلية الجنسية». في هذا الوقت، كانت «سبوكسمان ريفيو» — الصحيفة التي يعمل بها سميث — على وشك أن تنشر خبرًا مفاده أن السياسي الشهير كان «يتصيد الشبان من موقع ويب على الإنترنت» وأنه عرض مؤخرًا مزايا وتدريبًا داخليًّا تابعًا لمجلس المدينة على صبي مراهق كان يلاحقه. اكتشفت الصحيفة أن وست كان قد اتُّهم في سبعينيات القرن الماضي بالتحرش جنسيًّا بما لا يقل عن صبيَّيْن حينما كان يشغل منصب قائد فتية الكشافة، وأنه أنكر التهم الموجهة إليه.

توقع سميث ما سيحدث ما إن يظهر الخبر: «علمنا أن العمدة سيلاحق الصحيفة بكل وسيلة في ترسانته السياسية العامرة.» وأن العمدة سينكر الأخبار، وسيقول أصدقاء العمدة إنه لا بد أن المراسلين قد حرَّفوا كلماته، وأخرجوا الاقتباسات من سياقها. وأن الصحيفة ستُتهَم بجعل أفعال بريئة للعمدة تبدو شريرة وبنصب فخ للعمدة. وحتى الأشخاص الذين لا يروق لهم العمدة سيعترضون على الكشف المتعمد عن المثلية الجنسية للعمدة وانتهاك خصوصيته.

عادةً ما يتعين على العاملين بالصحيفة ألا يَلينوا في مواجهة الانتقادات وأن يأملوا أن يركن القراء إلى نقل الصحيفة للأخبار، إلا أن سميث كان لديه خطة أخرى: «قررنا أن يعتمد دفاعنا على الكشف الكامل والصريح للمعلومات التي تستند عليها أخبارنا.» حسبما أوضح سميث في دورية «نيمان ريبورتس». وتتيح الصحيفة للقراء «أن يستعرضوا جميع المواد التي كنا نتعامل معها بحيث يكون في مقدورهم أن يقرروا بأنفسهم إذا ما كنا منصفين مع العمدة، وإذا ما توخينا الدقة بصدد السياق ومن ناحية سرد الوقائع، واختصارًا، إذا ما كنا نتمتع بالمصداقية.»

نشرت الصحيفة على موقعها الإلكتروني نصوصًا مدونةً حرفيًّا لمحادثات أجراها العمدة مع مستشار يتظاهر بأنه صبي في السابعة عشرة، ونصوصًا مدونة حرفيًّا لجميع المقابلات التي أجراها المراسلون مع العمدة ومع موجِّهي الاتهامات الرئيسيين له، ونسخًا من كل الوثائق الرسمية التي استخدمتها الصحيفة في تحرياتها، والملاحظات الأولية التي أخذها سميث حينما دعاه العمدة «ليوضح له باكيًا حياته التعسة كرجل منعزل خلف الستار، ومتناقضٍ، والآن رجل متهم بأنه مِثْلي الجنس.»

قال سميث إن فتح ملفات الصحيفة حقق الغرض المطلوب؛ فعلى الرغم من أن معدل التوزيع اليومي للصحيفة يبلغ نحو ٩٠ ألف نسخة، فإن موقعها الإلكتروني مع وجود الوثائق اجتذب ٥١٩ ألف زيارة للصفحة من أشخاص مختلفين. «مرارًا وتكرارًا قال لنا القراء كم بلغ تقديرهم لإطلاعهم على المعلومات الأساسية.» حسب قوله.1
أقر سميث أن هذا كان ظرفًا غير اعتيادي، وأن الصحيفة لن تنشر في الظروف الاعتيادية ملاحظات المراسلين أو نصوصًا مدونة حرفيًّا من المقابلات. إلا أنه قال إنه كان ملتزمًا بغرفة أخبار ذات شفافية أتاحت للقراء أن يفهموا قراراتها، وفي بعض الحالات أن يشاركوا فيها. ومن ضمن الأمور التي تفعلها صحيفته كي تكون أكثر شفافيةً:
  • كل يوم يوجه خمسة مدونين نقدًا لاذعًا للصحيفة على موقعها الإلكتروني.

  • يشارك خمسة محررين في مدونة على الإنترنت تجيب على أسئلة القراء. بعض الأسئلة والإجابات تُعاد طباعتها كل أسبوع على صفحات الرأي بالصحيفة.

  • تُبث الاجتماعات التي يتخذ فيها المحررون قرارات جديدة، ويختارون ما سيوضع في الصفحة الأولى، على الإنترنت على موقع الصحيفة.

  • تلك الاجتماعات هي كذلك مفتوحة للجمهور، الذي يمكنه أن يُشارِك في المناقشات. يُعلَن وقت ومكان الاجتماعات كل يوم في الصفحة الأولى.

  • يقوم أستاذ جامعي في مجال الصحافة المحلية بوظيفة محقق في الشكاوى بدوام جزئي لحساب الصحيفة، وأحيانًا يكتب عمودًا، ويحلل شكاوى القراء.

إن أفعال سميث تتناقض تناقضًا صارخًا مع الطريقة التي كانت وما زالت تُمارس بها الصحافة. في هذا الفصل، نبحث الكثير من الطرق الجديدة التي تخوض فيها وسائل الإعلام الإخباري في تنظيم ذاتي للسلوك وتوضيح موقفها للجمهور لتجعل أفعالها أكثر شفافية، وكذلك نرى كيفية مساءلة الجمهور لوسائل الإعلام.

(١) توضيح مواقفنا

ليست صحيفة «سبوكسمان ريفيو» التي يعمل لحسابها سميث هي الصحيفة الوحيدة التي تحاول أن تكون أكثر شفافية، ومحرروها ليسوا الوحيدين الذين يؤمنون بأن الصحافة تنتفع من المجاهرة. عندما أُدين ريتشارد ديفيز في محاكمةٍ حظيت بتغطية إعلامية كبيرة لاتهامه بقتل بولي كلاس، استدار ناحية عائلة القتيلة، وأشار إشارة بذيئة بكلتا إصبعيه الأوسطين (انظر الشكل ٥-١). إنه ليس من الأمور التي يتوقع القراء أن يرَوْها عندما يفتحون جريدة صباحية. رغم ذلك، نشرت صحيفة «سان خوسيه ميركري نيوز» صورًا لإشارة القاتل، وشرحت قرارها في خطاب في الصفحة الأولى للقراء، قالت فيه إن الصورة أوضحت شخصية قاتل طفلة، واحتقاره للمجتمع. نشرت صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» أيضًا الصورة، ولكن دون رسالة المحرر.2 تلقت صحيفة «ميركري نيوز» ما يصل إلى ١٢٠٠ استجابة، بنسبة اثنين إلى واحد يؤيدون النشر، وتلقت صحيفة «كرونيكل» ١٣٠ مكالمة، كانت كلها تقريبًا تتضمن انتقادات. لم يكن محرر الصحيفة في ذلك الوقت مندهشًا من النتيجتين المختلفتين. قال جيري كيبوس لصحيفة «أمريكان جورناليزم ريفيو»: «يود الناس أن يعرفوا كيف ولماذا تُتخذ القرارات؛ إنها طريقة سهلة لاستعادة بعضٍ من مصداقيتنا.»3
بعض الصحف تستخدم المدونات لتوضيح مواقفها؛ في صحيفة «دالاس مورنينج نيوز» لا يكتفي المحررون بشرح قراراتهم في المدونات، ولكنهم يتيحون أيضًا للقراء أن ينضموا إلى المناقشات؛ فهم يأملون أن تجعل المدونات القراء يفهمون أن الكُتاب المحررين لا يلتقون «في غرفة ما مظلمة، رطبة، ممتلئة بالدخان، وينتظرون أوامر من جهة عليا بشأن ما سيفعلون ويقولون.» كان رد فعل القراء إيجابيًّا، وتستقبل المدونة آلافًا من الزيارات يوميًّا.4

(١-١) تصحيح سجلات الوقائع

التصحيحات هي الطريقة الأكثر وضوحًا — والأكثر إيلامًا — التي تستخدمها وسائل الإعلام لتوضيح مواقفها للجمهور، وتشير الأبحاث إلى أن القراء يحترمون هذا الصدق. في استقصاء وطني، قال ٧٨ بالمائة إن التصحيحات جعلت «مشاعرهم تتحسن» تجاه صحيفتهم. ونحو نصف القراء يتحققون بطريقة روتينية من التصحيحات.

الصحف الأمريكية هي قائدة الصحف في العالم في نشر التصحيحات، وتتباهى بعض الصحف بتصحيحها لأصغر الأخطاء، بل إن صحيفة «هارتفورد كورانت» تبين أنه إذا ما كُتِب أحد الحروف الأُول من الاسم الأوسط بطريقة غير صحيحة؛ يبلغ معدل تصحيحات صحيفة «كورانت» ١٠٠ تصحيح في الشهر. والاتجاه السائد لدى غالبية الصحف هو نشر تصحيحات أكثر. قالت جينا لوبرانو — ممثلة القراء لدى صحيفة «سان دييجو يونيون تريبيون» — إن صحيفتها نشرت سبعة تصحيحات فقط في ستينيات القرن الماضي، وفي الوقت الحالي تنشر أكثر من ٧٠٠ في العام. وكتبت تقول: «لا أعتقد أن صحيفة «يونيون تريبيون» الحالية ترتكب أخطاءً أكثر مما ارتكبت سابقاتها منذ عقود.» «كل ما في الأمر أن تصحيح الأخطاء — الكبيرة وكذلك الصغيرة — يُعد من الأولويات.» في عام ٢٠٠٥م، كان لدى صحيفة «ذا بوسطن جلوب» أكثر من ١٠٠٠ تصحيح؛ و٨٠٠ لصحيفة «ذي أوريجونيان»؛ و٧٧٩ لصحيفة «أورلاندو سنتينل»؛ و٦١١ لصحيفة «ستار تريبيون» في مدينة مينيابوليس؛ و٤٨٢ لصحيفة «كنساس سيتي ستار»؛ و٤٥٠ لصحيفة «أكرون بيكون جورنال».5 بل إنه يوجد موقع إلكتروني — www.regrettheerror.com — يُدرِج تصحيحات وسائل الإعلام الإخباري في قوائم، وبعضها مضحك على نحو مذهل؛ مما يجعل الموقع مشهورًا لدى كل من الصحفيين وغير الصحفيين.
fig2
شكل ٥-١: قاتل بولي كلاس. أخذت صحيفة «سان خوسيه ميركري نيوز» تدبيرًا احتياطيًّا بإدراج خطاب في الصفحة الأولى يوضح سبب اتخاذها لقرار نشر هذه الصورة لإشارة ريتشارد ألين ديفيز البذيئة. (الصورة مهداة من صحيفة «سان خوسيه ميركري نيوز».)

تعالج بعض المحطات التليفزيونية الإخبارية المحلية التصحيحات بجدية بالغة، ولديها إرشادات مكتوبة يجب على العاملين بالأخبار اتِّباعها. إذا ما اكتشفوا الخطأ في الوقت المناسب، ينشرون تصحيحًا فوريًّا. ولأن المشاهدين قد لا يشاهدون النشرة الإخبارية المحلية — التي مدتها ٩٠ دقيقة — كلها، يُكرر المعدون التصحيحات في اليوم التالي. وستصحح المحطات الأقلُّ جديةً الخبرَ الذي حدث في نقل مباشر في المرة التالية التي يُبث فيها الخبر، وبعض المحطات الأخرى ليست أمينة البتة، ويتسترون على أخطائهم بقولهم: «لقد أُطلِعنا الآن.»

بل إن الكثير من المحطات المحلية أقل صراحةً وتعاونًا من ذلك؛ فرغم النتائج التي تشير إلى أن ما يصل إلى ثلث أخبارها يتضمن معلومات غير دقيقة، لا ينشر سوى سدس المحطات تصحيحات مرة واحدة في الشهر، طبقًا لإحدى الدراسات. ووجدت دراسة أخرى أن نحو ثلث المحطات المحلية لا تصحح أخطاءها مطلقًا، أو نادرًا جدًّا ما تفعل ذلك في بث مباشر. وروى أحد الصحفيين التليفزيونيين لباحثين في مركز أبحاث «نيوز لاب» أن مسألة نشر محطته لتصحيح اعتمدت على الشخص أو الجهة التي اكتشفت الخطأ. «عادةً ما تتغاضى غرفة الأخبار أيضًا عنه، إلا إذا أشار إليه أحد المشاهدين.» وكان لمحطة أخرى سياسة مشابهة: «معظم الأخطاء تُخفَى أو تُتجاهَل على أمل ألا يتصل بنا أحد المشاهدين بشأنها.» في محطات أخرى، تُناقَش الأخطاء فيما بين أعضاء فريق العاملين بالأخبار، ولكن لا يُبلَّغ عنها بصورة علنية.6
كانت الشبكات الإخبارية أبطأ من الصحف في اعتماد طرق منهجية لتصحيح الأخطاء، ورغم أن الإصلاحات الفورية إلزامية بموجب قواعد أخلاقية في كل الشبكات التليفزيونية، فالتصحيحات تظل نادرةً. «نشرت صحيفتا «ذا واشنطن بوست» و«ذا نيويورك تايمز» مجتمعتين ٢٠٠٠ تصحيح في العام الماضي.» حسبما قال مايكل جارتنر، الرئيس السابق لشبكة «إن بي سي» الإخبارية. «نشرت الشبكات التليفزيونية أقل من ستة. ينبغي ألا تكون التصحيحات نادرة إلى درجة أنه عند القيام بها تصبح من الأخبار الهامة.»7 تضع بعض البرامج التليفزيونية المنفردة معاييرها الخاصة بها. كان برنامج «عذرًا للمقاطعة» على شبكة إي إس بي إن — الذي يشتمل على مناقشات ومجادلات بين كُتَّاب في مجال الرياضة — واحدًا من البرامج الإخبارية القليلة على الكابل التي خصصت على نحو منتظم وقتًا للتصحيحات.
الإقرار بالأخطاء هو جزء لا يتجزأ من الكثير من المدونات الإخبارية الجادة. كتب ستيف أوتينج في موقع «بوينتر أونلاين»: «إنهم يضعون تصحيحات للأخطاء على نحو بارز، ناشرين إياها سريعًا.» وبعضهم يضع التصحيحات باعتبارها الفقرة الأولى في الصفحة فيكون من المرجح أن يراها القراء.8 من وجهة نظر بعض المدونات، التصحيحات جزء ضروري من النهج الذي يتبعونه في نشر الأخبار. وبخلاف وسائل الإعلام التقليدية التي تحاول أن تستوثق من الوقائع قبل نشرها، ترى بعض المدونات أن دورها هو نشر الشائعات أولًا ثم تصحيحها إذا ثبت أنها خاطئة، ويأملون أن استعدادهم لنشر تصحيحات سوف يساعدهم على الاحتفاظ بثقة قرائهم.

(١-٢) التشكيك في التغطية علانيةً

لا يكتفي بعض محرري الصحف بمجرد تصحيح الأخطاء الفعلية؛ فهم يُطلِعون القراء حينما يعتقدون أن تقديراتهم بشأن الأخبار كانت خاطئة. راجع المحررون في صحيفتي «ذا نيويورك تايمز» و«ذا واشنطن بوست» كلتيهما تغطية الصحيفتين أثناء الأيام التي سبقت الغزو الأمريكي للعراق. اعترف المحررون في كلتا الصحيفتين أن نقل الأخبار لم يكن بنفس القدر من الدقة التي كان ينبغي أن يكون عليها. في صفحتها الأولى، قالت صحيفة «تايمز»:
في بعض الأحيان، لم تكن المعلومات التي كانت خلافية بما يكفي في ذلك الوقت — وتبدو محل شك الآن — جديرةً أو مسموحًا لها بأن تمر دون التصدي لها. حينما نتطلع إلى الماضي، نتمنى لو أننا كنا أكثر جرأة في إعادة النظر في المزاعم مع ظهور دليل جديد أو عدم ظهوره.9
بالمثل كانت صحيفة «بوست» مستاءة، وأقرت بأن التقارير التي كانت متشككة بشأن إذا ما امتلكت العراق في عهد صدام حسين أسلحة للدمار الشامل قد وُوريت بداخل الصحيفة، بينما وُضِعَت التقارير التي كانت تُردد ادعاءات إدارة بوش بأن صدام كان لديه تلك الأسلحة، في الصفحة الأولى.10
بعد مرور عامين على مساندة محرري صحيفة «أورلاندو سنتينل» لبيع قاعدة بحرية مهجورة لمستثمر من شيكاجو، أقرت الصحيفة بأنها لم تكن انتقادية بما يكفي للصفقة التي سمحت للمستثمر أن يشتري «أرضًا قيِّمةً بسعر متدنٍّ للغاية» وقُدمت له حوافز ضريبية مبالغ فيها. استشهدت الصحيفة بقول أحد مراسلي أخبار مجلس المدينة إنه كان مرتابًا في الصفقة في ذلك الحين، إلا أنه لم يكتب أي شيء لأنه اعتقد أنه كان ثمة سياسة غير رسمية متبعة في الصحيفة تقضي بعدم نشر «أي شيء انتقادي عن جليندا هوود (التي كانت حينذاك تشغل منصب عمدة أورلاندو).»11 تلقت الصحيفة خطابات للمحرر تهنئ الصحيفة على صراحتها.

(١-٣) مفوَّضو الشَّعب

حولت صحف عديدة التواصل مع القراء إلى وظيفة بدوام كامل؛ فقد أصبح لديها وظيفة مفوَّضي الشَّعب، ويُطلَق عليهم كذلك ممثِّلو القارئ أو محرِّرو الجمهور. وبالإضافة إلى تعاملهم مع شواغل القراء، يكتب معظمهم أعمدة يفسر فيها كيف اتُّخِذَت القرارات التحريرية. في بعض الأحيان، تكون الأعمدة صريحة صراحةً قاسيةً؛ فقد انتقد مفوَّض الشعب في صحيفة «ذا بوسطن جلوب» واحدًا من كُتاب الأعمدة في الصحيفة لتوجيهه اتهامات لا أساس لها لمرشح سياسي.

جربت صحف متنوعة وظيفة مفوَّضي الشعب في ستينيات القرن الماضي، وصَرَفت صحفٌ كثيرةٌ النظرَ عن هذا المنصب في الثمانينيات والتسعينيات من القرن نفسه. إلا أنه بعدما أصبحت الصحف أكثر إدراكًا للحاجة إلى الشفافية، بُعِث ثانيةً الاهتمام بوظيفة مفوَّض الشَّعب، ولكن هذا الدور غير شائع في الولايات المتحدة، ويُعارض محررون كُثُر وجوده، ويزعمون أن مفوَّضي الشَّعب هم عائق غير مرغوب فيه بين القراء والصحفيين الذين ينبغي أن «يشعروا بسخط القراء» بعد اتخاذهم لقرارات تحريرية مثيرة للجدل. ويفضل محررون آخرون إنفاق موارد محدودة على تعيين عدد أكبر من المراسلين بدلًا من تعيين ناقد داخلي.12 كذلك، فإن الكثير من الصحفيين لديهم حساسية مفرطة لا تمكِّنهم من تقبل النقد. لقد شكا أحد مفوَّضي الشَّعب في صحيفة «ذا نيويورك تايمز» في عموده من أن المحررين والمراسلين لم يكونوا متعاونين في الإجابة على أسئلته.
يشيع دور مفوَّضي الشَّعب أكثر في الصحف الكندية وفي الكثير من البلدان الأوروبية. عينت صحيفة «الجارديان» مفوَّض الشَّعب الأول في بريطانيا في ١٩٩٧م، مع أن الصحف البريطانية الأخرى اتسمت بالبطء في الانضمام إلى الركب.13

(١-٤) القواعد الأخلاقية

منذ عشرينيات القرن الماضي، اعتمدت المؤسسات الصحفية قواعد أخلاقيةً، وطلبت من أعضائها الالتزام بها. لاحظ استخدامنا لكلمة «طلبت»؛ فالقواعد لم يكن لها مخالب وأنياب، ولم يكن الأعضاء يُعاقَبون إذا ما خالفوها. تحقق زخم كبير في سبعينيات القرن الماضي حينما اعتُمِدَت قواعد من جمعية الصحفيين المحترفين وجمعية مديري أخبار الإذاعة والتليفزيون وجمعية مديري تحرير صحيفة «أسوشيتد برس»، والجمعية الأمريكية لمحرري الصحف والمنظمات الوطنية للكُتاب السياحيين والكُتاب الرياضيين وكُتاب المقالات الافتتاحية والكُتاب الاقتصاديين. كل هذه القواعد كانت اختيارية تمامًا.

بدأت أقسام الأخبار في الصحف والتليفزيون تدريجيًّا في كتابة قواعدها الخاصة بها التي تحدد أشكالًا معينة من السلوك لن يكون ثمة تهاون إزاءها، والكثير منها يعالج قضايا صعبة مثل المصادر المجهولة والخصوصية والدقة، وغالبًا ما تبين هذه القواعد بإيجاز عقوبات مخالفة الضوابط، وتتراوح ما بين التحذير الشفهي إلى الفصل.

الكثيرون ممن لديهم التزام قوي تجاه تحسين الصحافة ليسوا متأكدين من أن القواعد الأخلاقية سوف تعالج مشكلات الإعلام، ويلاحظون أن القواعد عادةً ما تتناول فقط أيسر المشكلات الأخلاقية مثل المنح والهدايا، ولكنها لا تُجدي نفعًا في تحديد ضوابط من شأنها أن تؤديَ إلى صحافة أفضل. ويزعم آخرون أن الكثير من القواعد لا يساعد الصحفيين على التعامل مع المشكلات الحقيقية التي يواجهونها في نقل الأخبار. على سبيل المثال، تقول قواعد أخلاقية كثيرة إن الإعلام الإخباري «يجب أن يتحاشى انتهاك حقوق الأشخاص في الخصوصية.» ذلك النص لا يقدم إلا قدرًا ضئيلًا من الإرشاد للصحفيين العاملين. تقول لوري إيه زينر المحامية الإعلامية: «الكثير من الأخبار الهامة تتطلب من المراسلين أن يحددوا الخط الرفيع الفاصل بين الوقائع الخاصة والمعلومات التي يحتاج الجمهور إلى معرفتها.»14
تنشر معظم المؤسسات الإخبارية قواعدها الأخلاقية على مواقعها الإلكتروني. يمكن العثور على مدونة القواعد الأخلاقية الخاصة بجمعية الصحفيين المحترفين على الموقع www.spj.org، ومدونة القواعد الخاصة بجمعية مديري أخبار الإذاعة والتليفزيون منشورة على الموقع www.rtnda.org. وثمة مجموعة من مدونات قواعد الصحف والقنوات التليفزيونية متاحة على الموقع www.asne.org. واقترحت جمعية الأخبار عبر الإنترنت قواعد أخلاقيةً للمدونين تُحاكي القواعد الأخلاقية الخاصة بجمعية الصحفيين المحترفين والمتاحة على الموقع www.cyberjournalist.net.

(٢) المُساءَلة

في الوقت الحاضر يوجد رقباء على الإعلام الإخباري أكثر من أي وقت مضى. بدايةً، عادةً ما يكون لدى مؤسسات إخبارية أمريكية كثيرة الاستعداد التام لكشف النقائص بعضها في بعض. فنُقِلَت أخبار تجاوزات جيسون بلير من صحيفة «ذا نيويورك تايمز» وجاك كيلي من صحيفة «يو إس إيه توداي» في الصحف وفي الأخبار التليفزيونية في أنحاء البلاد. (سنستعرض حالة بلير وكيلي في الفصل السادس.) تُعيِّن صحف مثل «لوس أنجلوس تايمز» و«ذا واشنطن بوست» بعضًا من أكثر كُتَّابها غزارة في الإنتاج من أجل تغطية وسائل الإعلام الإخبارية. تحظى مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو» وصحيفة «أمريكان جورناليزم ريفيو» والموقع الإلكتروني «أونلاين جورناليزم ريفيو» ومدونة «رومينيسكو» على موقع «بوينتر أونلاين» بنسبة اطِّلاع واسعة من الصحفيين. تمتلك شبكة «سي بي إس» مدونة تسمى «بابليك آي» (عين الجمهور) على الموقع الإلكتروني cbsnews.com وتتضمن أخبارًا حول التغطية الإخبارية، وتتيح للقراء الاشتراك في مناقشات عن قضايا في الصحافة. ولا يقتصر الموقع على شبكة «سي بي إس» الإخبارية؛ فعادةً ما يُناقش شبكات أُخرى، بما في ذلك وضع روابط بمقاطع فيديو لزلاتها.
أحدث مصدر لنقد وسائل الإعلام هو المدونات المتنوعة التي ظهرت في الأعوام الأخيرة. يقول بيل باورز، الناقد الإعلامي في صحيفة «ناشيونال جورنال»:
فجأة، زاد عدد النقاد الإعلاميين عما كان عليه الحال منذ ١٠ أعوام بنحو ١٠ ملايين ناقد. في الواقع، أعتقد أنه يوجد الكثير من المدونين الذين يجيدون هذا الجانب إجادة كبيرة، حتى إنني نوعًا ما أتمنى أن تلتقطهم منافذ الإعلام الرئيسية، وأن يؤدوا كلا الدورين.15
تُراقِب المدوناتُ وتَضْبِط وسائلَ الإعلام بطريقتين؛ فهي في بعض الأحيان تطعن في صحة التقارير الإعلامية. استند دان راذر في تقرير إخباري لبرنامج «سيكستي مينتس» يتعلق بالسجل العسكري للرئيس جورج بوش على مذكرات أُعطيت له. في غضون ساعات من البث، استبعد كُتَّاب من المدونة المُحافِظة «فري ريببليك» موثوقية المذكرات. لاحظ أحد المشاركين، ويستخدم اسم «باكهيد»، أنه بدا أن المذكرات أُعِدَّت باستخدام تجهيزات مكتبية لم تكن قد اختُرِعَت في عام ١٩٧٢م الذي من المفترض أن المُذكرات كُتِبَت فيه.16 عندما قصفت طائرات إسرائيلية لبنان في عام ٢٠٠٦م، أشار كُتَّاب في مدونة «ليتل جرين فوتبولز» أن صور الدخان المتصاعد في سماء بيروت بعد القصف الإسرائيلي قد تم التلاعُب فيها. لاحقًا أقالت وكالة «رويترز» المصور عندما اعترف بأنه قد عدَّل الصورة ليجعل الدخان يبدو أكثر كثافة.17 ولعل أكثر المهمات رواجًا لدى كثير من المدونين هي اكتشاف نوع من التحيز فيما يطلقون عليه: وسائل الإعلام الرئيسية. عادةً ما تكون المدونات ذات توجه سياسي حزبي، وتحتج باستمرار بأن وسائل الإعلام الرئيسية مفرطة في الليبرالية أو محافِظة أكثر مما ينبغي.

(٢-١) مجالس الأخبار في الولايات المتحدة

ثمة وسيلة شائعة للتنظيم الطوعي في أوروبا وكندا إلا أنها تكاد تكون بلا وجود في الولايات المتحدة؛ وهي مجالس الأخبار. وحدها ولاية مينيسوتا لديها مجلس مستقر. ابتُكِرَت المجالس في ولاية واشنطن وولاية هاواي، واقتُرِحَت في كاليفورنيا الجنوبية ونيو إنجلاند.

تتيح مجالس الأخبار للناس الذين يشعرون بأن وسائل الإعلام قد أضارتهم أن يرفعوا شكاوى، وغالبًا ما يكون ذلك بالمجان. ومع أن كل مجلس أخبار له طريقته الخاصة به في التعامل مع الحالات، إلا أن النقاط التالية تنطبق بوجه عام:
  • تنضم المؤسسات الإخبارية طوعًا إلى المجلس، وغالبًا ما تقدم الجانب الأكبر من أموال التشغيل. في ألمانيا وبعض الدول الأوروبية، تموِّل الحكومة المجلس.

  • يمكن لأي أحدٍ أن يتقدم بشكوى ضد وسائل الإعلام دون معاونة محامين.

  • قبل أن تستمع المجالس لشكوى ما، يجب أن تتفق كل الأطراف على أنهم لن يقيموا دعاوى في القضية محل الشكوى.

  • يجب على الصحفيين والشاكِين أن يبذلوا جهدًا لتسوية الأمر قبل أن يستمع المجلس إلى قضيتهم. في ولاية مينيسوتا، نحو ٩٥ بالمائة من الشكاوى تسقط أو يُفصَل فيها في هذه المرحلة.

  • خلال جلسة الاستماع، يَعرِض كل طرف قضيته على المجلس، ويستمع المجلس إلى القضية، ويوجه أسئلة. ولكون المجالس ليست محاكم؛ فهي ليست مضطرة لأن تتبع قواعد الإثبات التقليدية الخاصة بالمحاكم الابتدائية العادية.

  • عادةً ما تحاول المجالس أن تضم مزيجًا من الأعضاء بما يشمل وسائل الإعلام ومن الجمهور.

  • مجالس الأخبار ليست محاكم قضائية؛ إذ لا يمكنها أن تفرض عقوبات على الأفعال الخاطئة، ولا أن تمنح تعويضًا ماليًّا. الشيء الوحيد الذي يمكن أن تجنيه الوسائل الإعلامية هو الشعور بالرضا لكون المجلس متفقًا معها. إذا ما أيد المجلس شكوى ما، يجب على المؤسسة الإعلامية أن تنشُر خبرًا تورِد فيه النتائج المُتوَصَّل إليها. تلك هي العقوبة الوحيدة التي يمكن للمجلس أن يقضي بها.

  • عادة ما تستمع المجالس إلى قضايا تنطوي على مسائل تتعلق بالإنصاف التي من شأنها ألا يُستَمَع إليها في المحاكم العادية؛ لأن الأمور التي تنطوي عليها هذه القضايا خارج حدود قوانين التشهير والخصوصية.

  • وقف مجلس أخبار مينيسوتا إلى جانب وسائل الإعلام فيما يُقارِب نصف قراراته.18
يؤمن مؤيدو المجالس بأنه يمكنهم تحسين الصحافة بمعاقبة النقل السيئ للأخبار، وبتغيير نظرة الجمهور للصحفيين. قال كاتب المقالات مارتن شرام: «المجلس الإخباري على ما يبدو بديل وسطي معقول للاستجابة التقليدية القديمة التي كانت تصدر من جانب وسائل الإعلام إزاء الشكاوى ضدها: (١) اكتب خطابًا إلى المحرر أو (٢) فلتُقاضينا.»19 وذهب مايك والاس، المراسل الشهير لبرنامج «سيكستي مينتس» على شبكة «سي بي إس»، إلى القول بأن مجالس الأخبار قد تقود الجمهور إلى استعادة الثقة في وسائل الإعلام الإخبارية:
قد يكون ممكنًا طمأنة الجمهور الأمريكي من خلال استعدادنا للانفتاح على هذا النوع من الرقابة العامة التي نستخدمها نحن أنفسنا في تقييم عمل وإنجازات — وإخفاقات — الآخرين.20
لا يتفق الجميع على أن المجالس هي فكرة جيدة. ستانلي هَبارد من محطة «كيه إس تي بي» التليفزيونية في مينيسوتا قال إنه لم يجد ضرورة لوجود تلك المجالس:
إذا ما شعر أحدهم أننا ارتكبنا أمرًا خاطئًا، يمكنه أن يتحدث إلينا مباشرةً، أو أن يلجأ للمحاكم. إنني لا أود أن أكون في موقف تجلس فيه لجنة من الناس للحكم على آرائنا.21
وآخرون يساورهم القلق من أن مجالس الأخبار قد تُضعف حماس البحث عن الأخبار المثيرة للجدل بتقييد المراسلين والمحررين بشكاوى لا يُسمح أن تُنظَر في أروقة المحاكم، ويزعمون أنه حتى الشكاوى التافهة قد تتطلب ساعات من الوساطة والتحضير. مدير الأخبار السابق في محطة «دبليو سي سي أو» التليفزيونية جون لانسينج يشعر بالانزعاج من أنه نظرًا لأن المجالس الإخبارية ليست مقيدة بنفس القواعد التي تتقيد بها المحاكم، فإنها سوف تمنح المؤسسات القوية «حماية إضافية بفضل الرقابة العامة وأداة ترهيب للصحف.» ولا يقيد المجلس ما يمكن للمشاركين قوله قبل أو بعد جلسات الاستماع الخاصة به؛ فحينما تقدمت شركة طيران نورث ويست إيرلاينز بشكوى ضد محطة «دبليو سي سي أو»، قال لانسينج إن الشركة أثارت الرأي العام ضد المحطة من خلال استخدام «قنوات الإعلانات والنقابات العمالية ووسائل الإعلام المنافسة في استعراض منهجي لألاعيب القوة التي تمارسها الشركات الكبرى. سوف يفكر أي منفذ إعلامي في مينيسوتا مرات قبل أن يتعرض لخطوط طيران نورث ويست ثانيةً.»22
تحديد أعضاء هذه المجالس يشغل اهتمام صحفيين كثيرين. قال محرر صحيفة «ذا واشنطن بوست» السابق بن برادلي أن المجلس القديم الذي كان يُعرَف بالمجلس الوطني للأخبار «استولى عليه غريبو الأطوار.»23 رفضت صحيفة «ذا سياتل بوست إنتلجينسر» حضور جلسة استماع مجلس أخبار واشنطن في عام ٢٠٠٦م لأن المحررين لم يظنوا أن بعض أعضاء اللجنة سيكونون حياديين.24

(٢-٢) المجالس في دول أخرى

عادةً ما يُصدَم الأمريكيون عندما يطالعون الصحف في المملكة المتحدة للوهلة الأولى؛ فبدلًا من الصحف المفرطة في الاحتشام نوعًا ما المعتادة في معظم المدن الأمريكية، هم يلتقطون صحف التابلويد التي تحوي الكثير من الجريمة والإثارة وصورًا لنساء عاريات الصدور. في يوم كتابة هذا الفصل، احتوت الصفحة الأولى لأشهر صحيفة في إنجلترا «ذا صن» العناوين التالية: «آكل لحوم بشر يأكل مسنًّا متقاعدًا حيًّا» و«جندي «يُعاقَب حتى الموت»»، بالإضافة إلى تحقيق حول الممثلات في المسلسلات التليفزيونية البريطانية. ومع أن الغِلاف قد يُذَكِّر الأمريكيين بصحيفة «ناشيونال إنكوايرر»، فقد تضمنت الصحيفة تغطية موجزة ولاذعة للبرلمان والسياسة والاقتصاد، وكل هذا جرى تناوله من خلال نزعات سياسية يمينية؛ إنها صحيفة واقعية. أجرى جورج بوش مقابلة حصرية مع صحيفة «ذا صن» في أغسطس ٢٠٠٦م، واعتبرت رئيسة الوزراء السابقة المنتمية لحزب المُحافِظين مارجريت ثاتشر رسالة تأييد نشرتها صحيفة «ذا صن» أحد أسباب انتخابها.

يشتري البريطانيون صحفًا أكثر من الأمريكيين بكثير، ويطالعون صحف التابلويد بنهم كبير، ويكاد يُعادل توزيع صحيفة «ذا صن» ضعف توزيع صحيفة «يو إس إيه توداي» أو «ذا وول ستريت جورنال» رغم أنها تُغطي تعدادًا سكانيًّا أقل بكثير. ظلت صحف التابلويد البريطانية لفترة طويلة عالقة في حروب توزيع محتدمة، وكثيرًا ما تنحرف عما قد يُطلَق عليه معايير الصحافة المسئولة.25

في الجزء الأخير من القرن العشرين، كثيرًا ما استُهدِف أعضاء من العائلة المالكة — وتحديدًا الأميرة ديانا والأمير أندرو والأمير تشارلز — من صحف التابلويد. في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، قاضت الملكة إليزابيث الثانية صحيفة «ذا صن» بعد أن شرعت في سلسلة من التحقيقات المستندة على مقابلات مع موظف سابق بالقصر. أحد التحقيقات ذكر بالتفصيل الحياة الجنسية للأمير أندرو ذي الثلاثة وعشرين عامًا في قلعة ويندسور. حينما نشرت صحيفة التابلويد تحقيقًا مثيرًا بعنوان «عندما وصلتُ إلى ذروة الجِماع مع ديانا حافية القدمين»، أوقفت الملكة سلسلة المقالات، وكما ذكر الكثيرون مازحين، لم يكتشف البريطانيون أبدًا التفاصيل التي كانت ممتعة على الأرجح. وازدادت صحف التابلويد جرأةً بعدما بدأت الشائعات تحوم حول انهيار زواج تشارلز وديانا.

وحتى وفقًا للمعايير البريطانية، كانت صحف التابلويد خارجة عن نطاق السيطرة. وعيَّن البرلمان لجنة ترأسها السير ديفيد كالكوت لفرض ضوابط أكثر فاعلية على الصحف. اقترح كالكوت لجنة حكومية يمكنها فرض غرامات مالية، بل حتى إصدار أوامر للصحف بأن تدفع تعويضات للأشخاص الذين رأت اللجنة أنهم تعرضوا للإساءة والظلم، واقترح تدابير متعلقة بالخصوصية كان من شأنها أن تسمح للحكومة بأن تأمر الصحف بعدم نشر أخبار تعتقد أنها مسيئة.

وخوفًا من هذه الرقابة الصارمة، قرر محررو الصحف في عام ١٩٩١م أنه من الأفضل لهم أن يُنظموا أنفسهم، واتفقوا على إنشاء لجنة شكاوى الصحف، التي من شأنها وضع المعايير اللازمة وحث المحررين على اتِّباعِها. وتتلقى اللجنة — التي تشبه إلى حد بعيد في دورها مجلس أخبار مينيسوتا — أكثر من ٥٠٠٠ شكوى في العام. إذا ما سلَّمَت اللجنة بأن الصحيفة على خطأ، فإنها تطلب منها أن تنشر اعتذارًا أو تصويبًا. من بين أوائل الشكاوى كانت شكوى قَدَّمَها الأمير أندرو الذي رأى أن وسائل الإعلام كانت تضايق أطفاله الصغار باستمرار، وقد حصل على حكم لصالحه في الدعوى المقامة، إلا أن الصحف لم تترك العائلة المالكة وشأنها؛ فقد نشرت صحف التابلويد صورًا التُقطت خفية بينما كانت الأميرة ديانا تتمرن في صالة للألعاب الرياضية، وكتبت خبرًا، استنادًا على مكالمة تليفونية جرى اعتراضها وتسجيلها، يقول فيها الأمير تشارلز لحبيبته إنه يُخلَق ثانيةً على هيئة سدادتها القطنية المهبلية.

لم ينخرط الصحفيون في معظم أجزاء أوروبا في سلوك متطرف كهذا. ومع ذلك، لدى معظم الدول مجالس منذ زمن طويل. أنشأ السويديون — الذين نالوا حرية الصحافة منذ عام ١٧٦٦م — أول مجلس أخبار في عام ١٩١٨م. تُعنى المجالس الأوروبية بإلزام وسائل الإعلام بمعايير خصوصية أكثر صرامة من القوانين الأمريكية. من ضمن الشكاوى الشائعة، تلك المتعلقة بما إذا ما كان ينبغي ذكر أسماء ضحايا الجرائم والمشتبه فيهم. قدَّم لاعب كرة قدم شهير شكوى بعدما نشرت أكبر صحيفة في السويد صورة مأخوذة له عن طريق كاميرا مراقبة وهو يدخل ملهًى ليليًّا؛ وقررت الصحيفة تسوية المسألة معه بدلًا من المثول أمام مجلس الصحافة. في أمريكا، إذا رُئِيَ أحد المشاهير في شارع عام وهو يدخل ملهًى ليليًّا فسيُعتبر لقمة سائغة للصحفيين والمصورين.26

(٣) هل نحن مفرطون في الشفافية؟

رأى الصحفيون في وقت مضى أنه لا حاجة لتوضيح ما يفعلونه، وقللوا من أهمية الأسئلة بقولهم: «عملنا يتحدث عن نفسه.» يساور القلق البعض من أن الأمر ربما يكون قد خرج عن نطاق المعقول؛ إذ يرَوْن أنه بدلًا من التقييم الذاتي، تتحول الشفافية إلى جَلْد للذات. تساءلت ريتشل سمولكين، مديرة تحرير مجلة «أمريكان جورناليزم ريفيو»:
هل نحن نبالغ في توضيح ما نفعله، أنبالغ في متطلباتنا، ونضيع الكثير والكثير من الوقت ونحن نقوم بدور المريض النفسي، وخليط غير متجانس من المدونين والحزبيين والنقاد والمثقفين يلعبون دور معالجنا النفسي؟ هل المزيد من الشفافية دومًا أفضل؟ أم أنه يوجد أخطار كامنة في هذا الحراك الذي، عدا ذلك، هو حراك صحي؟ باختصار، هل الضغط الممارَس لأجل التوضيح يؤدي بالأمور إلى الانفلات؟27

المحرر العام لصحيفة «ذا نيويورك تايمز» بايرون كالامي هو كذلك غير متيقن من أن الانفتاح مع القراء في أمر القرارات سيؤدي بالضرورة إلى إرضائهم. ويخشى من أن النقاد الإعلاميين على كلا الجانبين مستقرون من ذي قبل على آرائهم. ورغم أن الشفافية قد تزيد من تفهم الكثير من القراء لوسائل الإعلام الإخبارية، فإنه يتشكك في أن الشفافية سوف تغير من أفكار الكثير من الناس الذين يشكُّون في حيادية وجودة التغطية الإخبارية.

سميث الذي يعمل لحساب صحيفة «سبوكسمان ريفيو» قال لمجلة «أمريكان جورناليزم ريفيو» إنه يشعر بالخوف إزاء الإيحاء بأن الشفافية هي ببساطة الهوس الذي أصاب العمل الصحفي في هذه الأيام. وقال سميث: «إنها ليست حلًّا سحريًّا … إنها ليست حلًّا لمشكلاتنا المستمرة؛ إنها مجرد جزء واحد صغير من أشياءَ كثيرة نحن بحاجة للقيام بها، وحتى تلك الأشياء قد لا تكون كافية.»28

هوامش

(1) Steve Smith, “Sharing all that reporters knew with readers,” Nieman Reports, Fall 2005.
(2) Jerry Ceppos, “Dear reader,” San Jose Mercury News, June 19, 1996, p. 1.
(3) Susan Paterno, “I can explain,” American Journalism Review, July/August 1998.
(4) Keven Ann Willey, “Readers glimpse an editorial board’s thinking,” Nieman Reports, Fall 2003.
(5) Gina Lubrano, “Errors and a newspaper’s credibility,” The San Diego Union-Tribune, February 6, 2006, and “Readers respond to corrections in print,” The San Diego Union-Tribune, April 15, 2001, p. 7B.
(6) “Making it right,” NewsLab Report, Winter 2003.
(7) “TV news: Truth? Consequences?” Newsworthy, Summer 1993.
(8) Steve Outing, “What journalists can learn from bloggers,” Poynter Online, December 20, 2004.
(9) “The Times and Iraq,” The New York Times, May 26, 2004.
(10) Howard Kurtz, “The Post on WMDs: An aside story,” The Washington Post, August 12, 2004.
(11) Manning Pynn, “Behind the scenes of an old story,” Orlando Sentinel, November 11, 2001.
(12) Kate McKenna, “The loneliest job in the newsroom,” American Journalism Review, March 1993, pp. 41–44.
(13) Ian Mayes, “Trust me—I’m an ombudsman,” British Journalism Review, No. 2, 2004.
(14) Laurie A. Zenner, “Code violations: Codes run afoul of First Amendment,” Newsworthy, Spring 1995.
(15) “Interview: Bill Powers,” PR Week, August 28, 2006.
(16) See Corey Pein, “Blog-Gate,” Columbia Journalism Review, January/February 2005. The posts were on freerepublic.com and may still be in its archives.
(17) Maria Aspan, “Ease of alterations creates woes for photo editors,” The New York Times, August 14, 2006.
(18) Kristin Tillotson, “Watching the watchdog,” Star Tribune, November 2, 1996, p. A12.
(19) Martin Schram, “Bring back National News Council,” The Montgomery Advertiser, January 9, 1997, p. 15-A.
(20) Mike Wallace, Remarks at the 19th Annual Frank E. Gannett Lecture at the Media Studies Center, New York, December 4, 1996.
(21) Tillotson, op. cit.
(22) John Lansing, “National News Council would lead to more timid press,” Star Tribune, December 21, 1996, p. 21-A.
(23) Troy Clarkson, “News councils: Pro and con,” Presstime, May 1998, p. 35.
(24) Craig Harris, “P-I won’t participate in news council hearing,” Seattle Post-Intelligencer, August 15, 2006.
(25) A standard history of British journalism is Power Without Responsibility by James Curren and Jean Seaton, London: Routledge, 2003.
(26) Reported on the Global Electronic Web site of the University of Stockholm, “Journalism & Ethics 2003,” at www.jmk.su.se/global03/project/ethics/index.htm. Also see the Allmänhetens Pressombudsman-Pressens Opinionsnämnd Web site at www.po.se.
(27) Rachel Smolkin, “Too transparent?” American Journalism Review, April/May 2006.
(28) Ibid.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤