الشعر وسقوط الدولة الفاطمية

لما فتح جوهر الكاتب — أحد قواد المعز لدين الله الفاطمي — مصر سنة ٣٥٨ﻫ، كتب أمانًا للمصريين، ونَصَّ على أن يُترك للمصريين حريتهم في اختيار العقيدة التي يرضونها لأنفسهم، وأن لا يَحْمِلَهُم كَرهًا على تغيير مذهبهم أو دينهم الذي دانوا الله به.١ ولكن الفاطميين لم يحترموا هذا الأمان، فقد قامت دولتهم على أساس عقيدتهم المذهبية، فكان من الطبيعي أن يعملوا على صبغ البلاد التي تخضع لِحُكْمهم بهذه الصبغة المذهبية التي تمايزوا بها. فلا غرابة أن رأينا دعاتهم ينشطون في كل البلاد، وفي كل المجتمعات يكالبون أصحاب المذاهب الأخرى، ويعقدون مجالس الحكمة التأويلية، ويأخذون العهد على كل مستجيب، واتخذوا للدعوة لمذهبهم وسائل وتدابير مختلفة، فاستجاب كثير من المصريين إلى دعوتهم وعقيدتهم، وظَلَّ بعض المصريين على عقيدته ومذهبه. ولكن عقائد الفاطميين شَغَلَتْ أذهان المصريين طوال الحكم الفاطمي حتى تأثر بها المصريون جميعًا، سواء مَنْ دَخَلَ منهم في الدعوة أو مَنْ ظَلَّ مستمسكًا بمذهب أهل السُّنة والجماعة، حتى خُيِّلَ إلى كثير من الباحثين أن المصريين جميعًا أصبحوا يتمذهبون بعقيدة الفاطميين ويتبعون التقاليد الفاطمية، أي أن مصر قد طُبِعت بطابع العقائد الفاطمية طوال السنين التي خَضَعَتْ فيها لحكم الفاطميين.
وبالرغم من أن نفوذ العقائد الفاطمية كان متغلغلًا في مصر، فإن هناك عدة عوامل عملت على إضعاف هذه العقيدة في نفوس المصريين. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا: إن هذا الضعف بدأ في عهد الحاكم بأمر الله «المتوفى حوالي سنة ٤١١ﻫ»، ولا سيما بعد أن وَفَدَ على مصر دعاةُ تأليه الحاكم أمثال الدرزي وحمزة والأخرم الفرغاني.٢ ونحن نعلم أن المصريين ثاروا على هؤلاء الدعاة، وقتلوا الأخرم سنة ٤٠٨ﻫ، وأن الدرزي وحمزة هَرَبَا، وأن الحاكم انتقم من المصريين فحرق الفسطاط وقتل عددًا كبيرًا من المصريين، وكانت خاتمة حياة الحاكم نهاية لهذه الدعوة الإلحادية الجريئة في مصر، ولكن كان من نتائجها أن بدأ الناس يَشُكُّون في عقيدة الفاطميين وفي كل ما قاله الدعاة عن الإمامة والأئمة.

وظهرت هذه النتيجة بشكل لافت في عهد المستنصر بالله (٤٢٧–٤٨٧ﻫ)، ولا سيما في تلك السنوات من حُكْمِه التي ضعفت فيها الحياة الاقتصادية، وبلغت درجةً من الانحطاط جعلت الناس لا يرعون للإمامة حُرمة ولا للعقيدة وزنًا، فضَعُفَتْ ثقة المصريين في عقيدة الإمام المعصوم وأنه الواسطة بين الله والخلق، وفي عقيدة النص على ولاية العهد، وهي العقيدة التي كانت أساس مذهب الإسماعيلية وسببًا في انقسام الشيعة الإمامية إلى إسماعيلية وموسوية، فتهاون المصريون بهذه العقيدة، مما سَهَّلَ الأمر للأفضل بن بدر الجمالي في تحويل الإمامة بعد المستنصر إلى المستعلي، وحَرَمَ منها صاحب النص نزار بن المستنصر.

فانقسمت الدعوة إلى فرعين رئيسيين، هما: الإسماعيلية النزارية التي عُرِفت بالإسماعيلية الشرقية أحيانًا وبالإسماعيلية الحشيشية أحيانًا أخرى، ويُعرفون الآن بالخوجة أو الأغاخانية، وإمامهم الآن هو أغاخان الرابع «كريم بن عليِّ بن محمد الحسيني». والفرع الآخر هو الإسماعيلية المستعلية أو الإسماعيلية الغربية، وهي التي ظَلَّتْ في مصر واليمن. فكان هذا الانفصال من عوامل ضعف العقيدة وزعزعتها من نفوس المصريين. أضف إلى ذلك أنه لما قُتِلَ الآمر بأحكام الله سنة ٥٢٤ﻫ، ولم يكن له ولد، ذهب الصليحيون أصحاب الدعوة في اليمن إلى أن الآمر لما قُتِلَ كانت إحدى جهاته حاملًا، وأنها أنجبت ولدًا له هو الطيب بن الآمر، وأن الإمامة للطيب هذا، وأنه دَخَلَ الستر وجعل الملكة الحرة الصليحية حجته وصاحبة الستر عليه، فَوُجِدَ بذلك فرع جديد للإسماعيلية، وعُرِفَتْ هذه الدعوة بالدعوة الطيبية، ولا تزال تُعرف بهذا الاسم إلى اليوم.

وأتباع هذه الدعوة يُعرفون الآن بالبهرة، وداعيهم المطلق هو طاهر سيف الدين، وإمامهم من نسل الطيب بن الآمر لا يزال في دور الستر. أما في مصر فلم يَعْتَرِف المصريون بشيء اسمه الطيب بن الآمر، وأُقيم عبد المجيد بن محمد بن المستنصر — المعروف بالحافظ لدين الله — كفيلًا للإمام المُنتظَر في أول الأمر، ثم اعتُرِف بإمامته بعد ذلك، فكان الاعتراف بإمامته خارجًا عن أُسس الإمامة عند الإسماعيلية؛ إذ الإمامة عندهم لا تكون إلا في الأعقاب،٣ وأن الإمام ينص على حجته وولي عهده من أبنائه، ولا تنتقل الإمامة من أخ إلى أخ بل لا بد أن تكون من أب إلى ابن، والحافظ لم يكن ابنًا لإمام، فليس له حق في الإمامة، ومع ذلك اعترف به المصريون إمامًا تَهَاوُنًا منهم بالعقيدة الإسماعيلية، مما أدى إلى زيادة استخفافهم بالفاطميين وعقائدهم، وإلى تزعزعها فِي نفوس كثير ممن استجابوا لها من المصريين.
وبَلَغَ التهاون حدًّا بعيدًا حين نرى الوزير الفاطمي أبا الحسن بن السلار — المنعوت بالملك العادل سيف الدين الذي تولى الوزارة للظافر سنة ٥٤٤ﻫ — يتظاهر بالتسنن على مذهب الشافعية، ولما وَصَلَ الحافظ أبو طاهر السلفي إلى الإسكندرية واتخذها دار مقامه احتفل به العادل بن السلار، وعَمَرَ له هناك مدرسة فَوَّضَ تدريسها إليه، ولم يكن للشافعيين بالإسكندرية سواها،٤ وهو عمل لا يُقدم عليه الوزير إلا إذا كان على ثقة تامة أن أتباع العقيدة الفاطمية لا يستطيعون مقاومته؛ وذلك لِضَعْفهم ولتزعزع العقيدة من نفوس أكثر المصريين. وهناك قصة عمارة اليمني مع سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء صهر الملك الصالح طلائع بن رزيك، وهي إن دَلَّتْ على شيء فإنما تدل على أن الشك في العقيدة الفاطمية دبَّ في نفس سيف الدين.٥ وقصة أخرى — ذكرها عمارة أيضًا — تُرينا كيف كان الداعي ابن عبد القوي والوزير شاور وابنه الكامل يفكرون في تسيير الدعوة لولدي صاحب عدن، ونقل مركز الدعوة إلى عدن، فاستشاروا عمارة في ذلك فقال: «إن أهل اليمن إنما يبعثون لكم الهدايا والتحف والنجاوى، ويتولونكم لأجل الدعوة، فإذا تبرعتم بها فقد هونتم حُرْمَتَها.»٦ فهذه كلها أدلة نسوقها على ما نذهب إليه عن مدى ضَعْف العقيدة في نفوس أكثر المصريين في أواخر أيام الفاطميين حتى في نفوس بعض الدعاة وكبار رجال الدعوة.
ومع هذا الضعف الذي حَلَّ بمذهب الفاطميين في مصر، فقد كان مظهر التشيع واضحًا بين بعض المصريين، وليس أدل على ذلك من تلك الصورة القوية التي رسمها القاضي الفاضل في إحدى رسائله يصور فيها مدى تظاهر المصريين بالتشيع وبالتقاليد الفاطمية، فقد قال: «إن كلمة السُّنة بها وإن كانت مجموعة فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يُعلم، وتلك الضلالات فيها على ما يُفتى فيه بفراق الإسلام ويُحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نُصِبت آلهةً تُعبد من دون الله؛ تُعَظَّم وتُفَخَّمْ. فتعالى الله عن شَبَه العباد، وويل لمن غَرَّهُ الذين كفروا في البلاد. ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أَقْدَر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السِّر فيهم أَنْفَذ من العزيمة في الجهر، وبها راجل من السودان يزيد على مائة ألف، كلهم أغنام أعجام، إن هم إلا كالأنعام، لا يعرفون ربًّا إلا ساكن قصره، ولا قِبلةً إلا ما يتوجهون إليه من ركنه وامتثال أمره. وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية موضوعة عنهم الجزية، كانت لهم شوكة وشكة وحُمة وحمية، ولهم حواشٍ لقصورهم من بين داعٍ تتلطف في الضلال مداخله، وتُصيب القلوب مخاتله، ومن بين كُتاب تفعل أقلامهم أفعال الأسل، وخُدام يجمعون إلى سَواد الوجوه سواد النِّحَل، ودولة قد كبر نملها الصغير، ولم يُعرف فيها غير الكبير، ومهابة تمنع ما يُكِنُّه الضمير، فكيف بخطوات التدبير، هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة جارية جائرة، وتحريف للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله بالتنزيل، وكُفْر سُمِّيَ بغير اسمه، وشَرْع يُتستر به ويُحكم بغير حكمه، فما زلنا نَسْحَتهم سَحْت المبارد للشفار، ونتَحَيَّفهم تَحَيُّف الليل والنهار، بعجائب تدبير لا تحتملها المساطير، وغرائب تقدير لا تحملها الأساطير، ولطيف توصل ما كان من صلة البشر ولا قدرتهم لولا إغاثة المقادير.»٧

هذه صورة لحالة الدعوة الفاطمية في مصر حين قام صلاح الدين الأيوبي بمحوها من البلاد، رسم هذه الصورة رجل عاش في بلاط الفاطميين في أواخر أيامهم، فقد كان كاتبًا من كُتَّابِهِم مُطلعًا على أسرارهم، ثم انقلب عليهم، واستوزر لصلاح الدين وكان عضده الأيمن في القضاء على الفاطميين. ولسنا في مجال الحديث عن القاضي الفاضل، وإنما الذي يهمنا في وصفه أن العقيدة الإسماعيلية قد خالطت من المصريين اللحم والدم، وأنه دَبَّرَ تدابير مختلفة للقضاء على الفاطميين، وكان نجاحه من المقادير.

والذي يقرأ هذه الرسالة للقاضي الفاضل يَرُوعه وَصْف القاضي لتغلغل العقيدة الفاطمية في المصريين، بينما نذهب نحن إلى أن العقيدة ضعفَتْ عند المصريين؛ فالقاضي الفاضل قد وَصَفَ القصر والحاشية من كبار رجال الدولة من دعاة وكُتَّاب، وهؤلاء بحكم صِلَتِهم بالإمام الفاطمي كانوا على نحو ما ذَكَرَه القاضي الفاضل.

ثم إن القاضي الفاضل قد بالغ في تصويره هذا ليضفي على ما قام به صلاح الدين الأيوبي من تقويض أركان الدولة الفاطمية قيمة وخطرًا. ولم يتحدث القاضي الفاضل عن الشعب نفسه؛ فالشعب المصري كان مُوَزَّع الهوى بين هذه التقاليد الفاطمية التي ورِثها عن قرنين من الزمان، وبين ما طرأ على هذه العقيدة الفاطمية من ضعف، لهذا تحول عدد من شيعة مصر إلى مذهب أهل السُّنة والجماعة، وبقي عدد آخر على تشيُّعه وتأثُّره بالفاطميين، ولا سبيل لصلاح الدين الأيوبي — ولا لغير صلاح الدين — إلى انتزاع عقيدة من العقائد بحد السيف، أو بالتدابير التي أشار إليها القاضي الفاضل في رسالته السابقة، فليس من السهل اليسير أن يُقتلع دين من الأديان بمجرد تغيير النظام السياسي في بلد من البلاد، إنما يحتاج التغيير إلى سنوات عديدة، وإلى تدابير ليست هي من تدابير القوة والبأس والبطش فحسب.

وإذا نظرنا إلى الذين استجابوا إلى صلاح الدين وناصَرُوه فسنجد أن جلَّهم بين هؤلاء الذين لم يعتنقوا المذهب الإسماعيلي، ولم يتحولوا عن عقيدتهم — عقيدة أهل السُّنة والجماعة — وثبتوا أمام دعاة الإسماعيلية وسلطان أئمتهم. وبين هؤلاء الذين استجابوا إلى مذهب الإسماعيلية، ولكن ضعفت عقيدتهم من نفوسهم لما رأوا أن القائمين على هذه العقيدة انحرفوا عنها، ولم يعملوا بأصولها ولا بفروعها، فتحول هؤلاء عن إسماعيليتهم وهم مطمئنون بعد أن دب الشك في نفوسهم. وفريق ثالث من الذين ساعدوا صلاح الدين في قطع الخُطبة للفاطميين وتحويلها إلى العباسيين، هم هؤلاء الذين يُعرفون بأنهم يأكلون على كل الموائد ولا يعملون إلا لأنفسهم، ويحاولون الإفادة من كل تغيير، فهم أتباع كل جديد لا لشيء سوى الإفادة من النُّظم الجديدة، فكثير من رجال الدولة الفاطمية أصبحوا من ألدِّ أعدائها في عصر الأيوبيين، ومن هؤلاء: القاضي الفاضل نفسه، والقاضي ابن سناء الملك، والقاضي ابن الزبير، وابنا القاضي الجليس بن الحباب … وغيرهم. أما الشعب — ولا سيما طبقة الجهال — فقد ظلوا على إسماعيليتهم. ويكفي أن أُثْبِتَ هنا إحدى مقطوعات القاضي الفاضل في مدح أحد خلفاء الفاطميين، وأخرى في مدح صلاح الدين، لنتبين كيف أصبح القاضي الفاضل بين عشية وضحاها عدوًّا لتلك الدولة التي أكرمته ورَفَعَتْه، والتي أشاد بها هو أيام حُكْمهم، فلما دالت دولتهم انقلب عليهم. فهو يقول في قصيدته التي مطلعها: «تزهو بدولتك الدنيا وتفتخر» يمدح الخليفة الفاطمي:

وإن أساءت بنا الدنيا وما اعْتَذَرَتْ
لنا فإنك تعطينا وتَعْتَذِرُ
أما الكواكب والأنوار شاهدة
فتستعير سناه حين تَسْتَعِرُ
وجه ندى بِشْره مِفْتاح كل مُنى
مرامها وعرٌ أو فِعْلُها عسرُ
لكل ظامئة من مائه رَمَق
في كل داجية من نُورِه قَمَرُ
مستعظم الخبر المسموع إذ ظفرَتْ
عيني بطلعته فاستصغر الخبرُ
قد كان يَبْلغ سمعي في مكارمه
فقلت هيهات أن يحظى بذا بَشَرُ
فالحمد للَّه حمدًا غَيْر مُقْتَصِرٍ
إن قَصَّرَ السمع عما ناله النظرُ
في كل سَمْع له من شاكرٍ خَبَرٌ
في كل كَفٍّ له من آملٍ أَثَرُ
وكيف أختار أن أحظى بزورَتِهِ
فاليوم قد جُمِعَتْ لي عنده الخيَرُ
مكارمٌ لا يَنَال الحصرُ غايَتَها
فلا عجيب إذا ما نالني الحصرُ
هذي الموارد والآمال واردة
فَلْيُنْسِكَ الصفوُ منها ما جنى الكدرُ
مواردٌ ببروق البشر قد مُزِجَتْ
كذلك السُّحب فيها البرق والمطرُ
ألْقَتْ على مائها أنوارَ غُرَّتِهِ
يا حُسْنَ ما خفي الإحسان والخفرُ٨

ثم نراه يمدح الملك الناصر صلاح الدين بعدة قصائد، إن دلت على شيء فإنما تَدُلُّ على غلوٍّ في المديح وإسباغ الصفات، على نحوِ ما كان يَفْعَله مع الخلفاء الفاطميين. فانظر إليه وهو يقول في إحدى قصائده في الناصر صلاح الدين:

لِأَمْرِكَ أَمْرُ الله بالنجح عاضِدُ
فَصُلْ آمرًا فالدهر سَيْف وساعِدُ
وقُلْ ما اقْتَضَتْ علياك فالعز قائم
بأمرك والمجد المؤثَّل قَاعِدُ
ونَم وادعًا فالمجد يقظانُ حارسٌ
لمجدك والعادي لبأسك راقِدُ
فما تبرم الأيام والله ناقض
ولا تنقض الأيام والله عاقِدُ
وقد برَزت بكر المكارم والعُلا
وفي جيدها من راحتيك قلائدُ
فحفت بها الأملاك وهْي مواهب
وسارت بها الركبان وهْي مَحَامِدُ
وزفت لها النعماء وهْي مصادر
رفعنا لها الأمداح وهْي مواردُ
فنَثَّرَها الإحسان وهْي لآلئ
ونَظَّمها الإفضال وهْي فرائدُ
فلا زِلْتَ محروس العُلا يا ابْنَ صاعدٍ
وجدُّكَ في أُفْق السيادة صاعِدُ
تُسرُّ بك الدنيا ويَبْتَهِج الورى
وتستوكف النعمى وتحوى المقاصِدُ٩

ومهما يكن من شيء، فإن شعراء مصر والشام أكثروا من مدح صلاح الدين بمجرد إعلان قَطْع الخُطبة عن الفاطميين، ولا سيما هؤلاء الشعراء الذين أحاطوا بصلاح الدين وعُدُّوا من شعرائه. فمن ذلك ما قاله العماد الأصفهاني:

قد خَطَبْنا للمستضيء بمِصْرِ
نائب المصطفى إمامُ العَصْرِ
وخَذَلْنَا لنُصْرَة العضد العا
ضِدِ والقاصِرِ الذي بالقَصْرِ١٠
وأشَعْنَا بها شِعَار بني العبـ
ـاسِ فاسْتَبْشَرَتْ وجوه النَّصْرِ
وتَرَكْنا الدعيَّ يدعو ثُبورًا
وَهْو بالذل تحت حِجْرٍ وحَصْرِ
وتباهت مَنَابِرُ الدين بالخُطـ
ـبة للهاشمي في أَرْضِ مِصْرِ
ولَدَيْنَا تضاعَفَتْ نِعَم الله
وجَلَّتْ عن كُلِّ عدٍّ وحَصْرِ
فاغتدى الدين ثَابِتَ الركن في مِصـْ
ـرَ مَحُوط الحمى مَصُون الثغْرِ
واستنارَتْ عزائم المَلِك العا
دل نور الدين الكريم الأغر
وبنو الأصفر القوامص منه
بوجوهٍ من المخافةِ صُفْرِ
عَرَفَ الحقَّ أهْلُ مصر وكانوا
قَبْلَه بين مُنكِرٍ ومُقِرِّ
قل لداعي الدعيِّ حَسْبك فالله
أَقَرَّ الحقوق خَيْرَ مقرِّ
هو فَتْح بكر ودون البرايا
خصنا الله بافتراع البِكرِ
وحصلنا بالحمد والأجر والنصـ
ـرِ وطيب الثنا وحُسْن الذِّكرِ
ونَشَرْنا أعلامنا السود قهرًا
للعِدَى الزُّرق بالمنايا الحُمرِ
واسْتَعَدْنا من أدعياء حقوقًا
يُدَّعَى بينهم لزيد وعمرِو
والذي يَدَّعِي الإمامة بالقا
هرة انحط في حضيض القَهْرِ
خانَهُ الدهر في مُناه ولا يَطـْ
ـمع ذو اللُّب في وفاء الدهْرِ
ما يُقام الإمام إلا بحَقٍّ
ما تُحاز الحسناء إلا بمَهْرِ
خلفاء الهدى سُراةُ بني العبـ
ـاس والطيبون أهل الطُّهرِ
بِهِمُ الدين ظافر مستقيم
ظاهر قوة قوي الظهرِ
كشموس الضحى كمثل بدور الـ
ـتم كالسُّحب كالنجوم الزُّهْرِ
قد بَلَغْنَا بالصبر كُلَّ مرادٍ
وبلوغ المراد عُقْبى الصَّبْرِ
ليس مُثْرِي الرجال مَنْ مَلَكَ الما
لَ ولكنما أخو اللُّب مُثْرِي
ولهذا لم ينتفع صاحِبُ القَصـ
ـرِ وقد شارف الدثور بدثْرِ
دام نَصْرُ الهدى بمُلْكِ بني العبـ
ـاس حتى يقوم يوم الحشْرِ١١

ولما توفي الخليفة العاضد الفاطمي في ليلة عاشوراء سنة ٥٦٧ﻫ، قال العماد الأصفهاني:

توفي العاضد الدَّعِيُّ فَمَا
يفتح ذو بدعة بمِصْرَ فَمَا
وعصر فِرْعَوْنها انقضى وَغَدَا
يُوسُفُها في الأمور مُحْتَكَمَا
وانطفأت جَمْرَة الغُوَاة وَقَدْ
باخ من الشرك كُلُّ ما اضْطَرَمَا
وصار شمل الصلاح ملتئمًا
بها وعقْدُ السداد مُتْنَظِمَا
لما غدا معلنًا شعار بني الـ
ـعباس حقًّا والباطل اكتتمَا
وبات داعي التوحيد منتصرًا
ومن دعاة الإشراك مُنْتَقِمَا
وظَلَّ أهل الضلال في ظُلَلٍ
داجية من غيابة وعَمَى
وارتبك الجاهلون في ظُلَمٍ
لما أضاءت منابر العُلَمَا
وعاد بالمستضيء مُمْتَهِدًا
بناء حق قد كان مُنْهَدِمَا
واعتلت الدولة التي اضْطُهِدَتْ
وانتصر الدين بعد ما اهْتُضِمَا
واهْتَزَّ عِطْفُ الإسلام من جذَلٍ
وافْتَرَّ ثغر الإيمان وابْتَسَمَا
واستبشرت أَوْجُه الهدى فَرَحًا
فلْيَقْرَع الكفْرُ سِنَّهُ نَدَمًا
عاد حريم الأعداء مُنتهك الـ
ـحمى وفيء الطغاة مُقْتَسَمَا
قصور أهل القصور أخربها
عامِرُ بَيْت من الكمال سَمَا
أزعج بعد السكون ساكنها
ومات ذُلًّا وأنفه رغمَا١٢

وقال بعض الشعراء في مدح الأيوبيين مُعرِّضًا بالفاطميين:

ألستم مزيلي دولة الكفر من بني
عبيدٍ بمصر إن هذا هُوَ الفَضْلُ
زنادقة شيعية باطنية
مجوس وما في الصالحين لَهُمْ أَصْلُ
يُسِرُّون كفرًا يُظْهِرُون تشيعًا
ليستتروا شيئًا وعَمَّهُم الجَهْلُ١٣

ويقول عرقلة في استيلاء صلاح الدين على مصر وخلع الخُطبة الفاطمية:

أصْبَحَ المُلْكُ بَعْد آل عليٍّ
مُشرِقًا بالملوك من آل شاذي
وغدا الشرق يَحْسُد الغَرْبَ للْقَوْ
م ومصر تزهو على بغداذ
ما حَوَوْهَا إلا بحزمٍ وعزم
وصليل الفولاذ في الفولاذ
لا كفرعون والعزيز ومَنْ كا
ن بها كالخصيب والأستاذ١٤

انقسم المصريون بين مؤيد لصلاح الدين وحركته في إبادة التشيع من مصر، وبين مستمسك بتشيعه يَنْدُب أيامَ الفاطميين ويبكي على أئمته، وقد حاوَلَ هؤلاء مرارًا أن يعيدوا الخلافة الفاطمية، فكان يظهر من حين لآخر مَنْ كان يدعو في البلاد إلى الفاطميين فيلْتَفُّ الناس حَوْلَه وتخف جنود الأيوبيين للقضاء على حركته. فمن ذلك ما كان في سنة ٥٦٩ﻫ؛ إذ قام بعض رجال الدولة الفاطمية برياسة هبة الله بن كامل — قاضي القضاة وداعي الدعاة — بحركة لإعادة مُلك الفاطميين في مصر، وأسهم في هذه الحركة عمارة اليمني بالرغم من تسَنُّنه، والداعي عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوي وغيرهما، وامتدت هذه الثورة إلى حَدِّ أنهم كاتبوا الصليبيين وشيخ الجبل «راشد الدين سنان» زعيم الإسماعيلية النزارية في الشام، ولكن هذه الحركة فَشَلَتْ وقُبِضَ على رؤسائها وقُتلوا صَلْبًا.

ومن الغريب أن عمارة اليمني كان ممن مَدَحَ صلاح الدين الأيوبي أيام وزارته، ومَدَحَ أباه نجم الدين، ويظهر في مدائحه فَضْل صلاح الدين في إعادة مجد الإسلام ووحدة المسلمين، كما مَدَحَ تورانشاه أخا صلاح الدين وحَبَّذ إليه فتح اليمن. فمما قاله في مدح صلاح الدين عندما غزا غزة سنة ٥٦٦ﻫ؛ أي: قَبْل انقراض الدولة الفاطمية بعدة أشهر:

غزوا عقر دار المشركين بغزة
جِهَارًا وطَرْف الشرك خزيان مطرِقُ
وزاروا مُصَلَّى عسقلان بأرعن
يفيض إناءُ البِر منه ويفهِقُ
وكانت على ما شاهد الناس قَبْلَهُمْ
طرائقَ من شَوْكِ القنا ليس تُطْرَقُ
وما عَصَمَتْهُمْ منك إلا مَعَاقِلٌ
تَأَنَّوْا على تحصينها وتأَنَّقُوا
جَلَبْتَ لهم من سورة الحَرْبِ ما الْتَقَى
بوادره سور عليهم وخَنْدَقُ
وأَخْرَبْتَ من أعمالهم كُلَّ عامرٍ
يَمُرُّ به طَيْفُ الخيال فيغرَقُ
أَضَفْتَ إلى أَجْرِ الجهادِ زيارة الـ
ـخليل فأبْشِرْ أنت غازٍ مُوَفَّقُ
وهَيَّجْتَ للبيت المُقَدَّسِ لوعةً
يطول بها منه إليك التشوُّقُ
تنشق مِنْ ملقاك أعظم نفحةٍ
تطيب على قَلْب الهدى حين تنْشقُ
وغزوك هذا سُلَّم نَحْو فَتْحِه
قريبًا وإلا رائد ومطَرَّقُ
هو البيت إن تفتحه، والله فاعل
فما بعده باب من الشام مُغْلَقُ١٥

كما قال في مدح نجم الدين:

ثغْرُ الزمان بنَجْمِ الدين مُبْتَسِمُ
ووجهه بدوام العز مُتَّسِمُ
أضحى بك النيل محجوجًا ومعتمَرًا
كأنما حَلَّ فيه الحِلُّ والحرَمُ
جاءت بنوك وشمل الدين منْتَثِرٌ
فقارعوا عنه فهْوَ اليوم منتَظِمُ
وما درى أَحَدٌ من قَبْل رُؤيتِهِمْ
أن الحظوظ بلثم الأرض تَقْتَسِمُ
نامت عيون الورى في عَدْل سيرتِهِمْ
كأن يَقْظَتَنَا في عصرهم حلمُ
والناصر ابنُكَ كافٍ كُلَّ معضلةٍ
إذا الحوادث لم يُكْشَفْ لها غممُ
أَعَزَّ بالبأس والإحسان حوْزَتَنَا
فلم يُلِمَّ بنا خوْفٌ ولا عَدَمُ
تبسم الدست من أيوب عن مَلِكٍ
تَنْحَطُّ عن قَدْرِه الأقدار والهِمَمُ١٦

ولما توفي نجم الدين رثاه عمارة بعدة قصائد، نَذْكُر منها قوله:

صَفْو الحياة — وإن طال المدى — كَدَرُ
وحادث الموت لا يُبْقِي ولا يَذَرُ
وما يزال لسان الدهر يُنْذِرُنَا
لو أَثَّرَتْ عندنا الآياتُ والنذُرُ
فلا تَقُل عَزَّت الدنيا مطامعنا
فما مع الموت لا غش ولا كدرُ
كأسٌ إذا ما الردى حيَّا الحياة بها
لم يَنْجُ من سُكرِها أنثى ولا ذَكَرُ
كم شامِخِ العز لاقى الذل مِنْ يَدِهَا
ما أضْعَف القدر إن ألوى به القَدَرُ
في كل جيلٍ وعصر من وقائعها
شعواء يَقْطُر منها الناب والظُّفرُ
أودى عليٌّ وعثمانٌ بمخلَبِهَا
ولم يفتها أبو بكر ولا عُمَرُ
ومن أراد التأسي في مصيبته
فلِلْوَرَى برسول الله مُعْتَبَرُ
نجمٌ هوى من سماء الدين مُنْكَدِرًا
والنجم من أُفْقِهِ يهوى وينْكَدِرُ
منظومة أَبْحَرَ الجوزاء مِنْ جزَعٍ
له وعقد الثريا منه مُنْتَثِرُ
وكيف ينسى مُحَيَّاه الكريم ومَنْ
نعماه في كل عَيْشٍ صالِحٍ أَثَرُ
جدَّدْتَ مِنْ أسد الدين الشهيد لنا
حزنًا به يتساوى الصبر والصبرُ
قد كان للدين والدنيا بعزمكما
ذِكْر يعبر عنه الصارم الذكرُ
إن فاحَ نَشْرُ كلام تمدحان به
مِسكًا فعترة أيوبٍ هي العِطْرُ
تُخفى ذبال مصابيح إذا طلعوا
صُبحًا وتُنسى ملوك الأرض إن ذُكِرُوا
كأنما صوَّر الله الكمالَ بِهِمْ
شخصًا ويوسف منه السمعُ والبصرُ
لا شوبكٌ منه معصومٌ ولا كركٌ
ولا خليل ولا قدس ولا زغرُ
لم يرتحل قافلًا إلا وساكِنُها
إما مباح حِمَاه أو دَمٌ هدرُ
ما مات أيوبُ إلا بعد معجزة
في المجد لم يُؤْتَها من جنسه بشرُ
مضى سعيدًا من الدنيا وليس له
في رتبة أرَب باقٍ ولا وطَرُ
وطَوَّلَ اللهُ منه باع أربعة
منها الندى والتُّقى والمُلْكُ والعمرُ
وأشرف الملك ما امتدت مسافته
في صحة أخواها العقل والكِبَرُ
ومن سعادته — إن مات — لا سأم
يشكوه منه معانيه ولا ضَجَرُ١٧

ومع ذلك كله، فقد تآمر عمارة على صلاح الدين، وكاتَب المتآمرين أعداءَ الدين من الصليبيين في فلسطين، والنورمنديين في صقلية لغزو مصر، فلما صُلِبَ هو وأصحابه، أنْشَدَ شعراء مصر في ذلك، فالشاعر تاج الدين الكندي يقول:

عمارةُ في الإسلام أَبْدَى جِنَايَةً
وبايع فيها بيعة وصليبا
وأمسى شريك الشرك في بُغْضِ أَحْمَدَ
فأصبَحَ في حُبِّ الصليب صَلِيبَا
وكان خبيثُ الملتقى إن عجمْتَهُ
تَجِدْ منه عُودًا في النفاق صَلِيبَا
سيلقى غدًا ما كان يسعى لأجْلِهِ
ويُسقى صديدًا في لظى وصَلِيبَا١٨

«يقصد بالصليب الأول النصارى، والثاني بمعنى مصلوب، والثالث من الصلابة، والرابع ودك العظام، وقيل: هو الصديد؛ أي يُسقى ما يسيل من أهل النار.»

وفي هذه المؤامرة كتب القاضي الفاضل رسالة شرح فيها قضية من صُلِبَ جاء فيها:

قصر هذه الخدمة على متجددٍ سار للإسلام وأهله، وبشارة مؤذنة بظهور وَعْد الله في إظهاره على الدين كله، بَعْد أن كانت لها مقدمات عظيمة، إلا أنها أسفرت عن النُّجح، وأوائل كالليلة البهيمة إلا أنها انفرجت عن الصبح؛ فالإسلام ببركاته البادية وفتكاته الماضية قد عاد مستوطنًا بعد أن كان غريبًا، وضَرَبَ في البلاد بجرانه بعد أن كان كالكفر يتم عليه تخيلًا عجيبًا، إلا أنَّ الله سبحانه أطلع على أمرها من أوله، وأظهر على سرها من مستقبله، والمملوك يأخذ في ذِكْرِ الخبر ويعرض عن ذِكْرِ الأثرِ، لم يزل يُتوسم من جند مصر ومن أهل القصر بعد ما أزال الله مِنْ بِدْعَتِهِم، ونَقَضَ من عُرى دولتهم، وخَفَضَ مِنْ مَرْفُوع كلمتهم، أنهم أعداء وإن تَعَدَّتْ بهم الأيام، وأضداد وإن وَقَعَتْ عليهم كلمة الإسلام، وكان لا يَحْتَقِر منهم حقيرًا، ولا يَسْتَبعد منهم شرًّا كبيرًا، وعيونه لمقاصدهم موكَلَة، وخطراته في التحرُّز منهم مستعمَلَة، لا تخلو سنةً تَمُر، ولا شهرًا يكر، مِنْ مَكْر يجتمعون عليه، وفسادٍ يتسرعون إليه، وحيلة يُبرمونها ومكيدة يُتَمِّمُونها. وكان أكثر ما يتعللون به ويستريحون إليه المكاتَبات المتواترة، والمراسَلات المتقاطرة إلى الفرنج — خَذَلَهُم الله — التي يُوسِعُون لهم فيها سُبُل المطامع، ويَحْمِلُونهم فيها على العظائم والفظائع، ويُزَيِّنُون لهم الإقدام والقدوم، ويَخْلَعُون فيها ربقة الإسلام خَلْع المرتد المخصوم، ويد الفرنج — بحمد الله — قصيرة عن إجابتهم، إلا أنهم لا يقطعون حَبْلَ طَمَعِهم — على عادتهم. وكان ملك الفرنج كلما سوَّلت له نفسه الاستتار في مراسلتهم، والتحيل في مفاوضتهم، سَيَّرَ «جرج» كاتِبَه رسولًا إلينا ظاهرًا وإليهم باطنًا، عارضًا علينا الجميلَ الذي ما قَبِلَتْهُ قط أنفُسُنا، وعاقدًا معهم القبيحَ الذي يَشْتَمِلُ عليه — في وقته — عِلْمُنا، ولأهل القصر والمصريين في أثناء هذه المُدد رُسُل تَتَرَدَّد، وكُتب إلى الفرنج تُجدد.

ثم قال:

والمولى عالِم إن عادة أوليائه المستفادة مِنْ أَدَبِه ألَّا يَبْسُطوا عقابًا مؤلمًا، ولا يُعذِبوا عذابًا مُحْكَمًا، وإذا طال لهم الاعتقاد ولم ينجع السؤال أُطلق سراحُهم وخُلِّيَ سبيلُهم، فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة، وعند وصول جرج في هذه الدفعة الأخيرة رسولًا إلينا بزعمه، ورد إلينا كتاب ممن لا نرتاب به من قومه، يذكرون أنه رسول مُخَاتَلة لا رسول مجاملة، وحامل بَلِيَّة لا حامل هدية، فأوهمناه الإغفال عن التيقظ لكل ما يَصْدُر منه وإليه، فتَوَصَّلَ مرة بالخروج ليلًا، ومرة بالركوب إلى الكنيسة، وغيرها نهارًا إلى الاجتماع بحاشية القصر وخُدامه، وبأمراد المصريين وأسبابهم، وجماعة من النصارى واليهود وكِلَابِهِم وكُتَّابِهِم، فدسَسْنَا إليهم مِنْ طائفتهم مَنْ داخَلهم، فصار ينقل إلينا أخبارهم، ويرفع إلينا أحوالهم، ولما تكاثرت الأقوال، وكاد يشتهر عِلْمُنا بهذه الأحوال، استخرنا الله تعالى، وقبضنا على جماعة مُفسدة، وطائفة من هذا الجنس متمردة، قد اشتملت على الاعتقادات المارقة، والسرائر المنافقة، فكُلًّا أَخَذَ الله بذنبه، فمنهم مَنْ أَقَرَّ طائعًا عند إحضاره، ومنهم من أَقَرَّ بعد ضَرْبِه فانكشفَتْ أمور أخرى كانت مكتومة، ونوب غير التي كانت عندنا معلومة، وتقريرات مختلفة في المراد، متفقة في الفساد.

ثم ذَكَرَ تفصيلًا حاصِلُهُ، أنهم عَيَّنُوا خليفة ووزيرًا مختلفين في ذلك، فمنهم من طَلَبَ إقامة رجل كبير السن من بني عم العاضد، ومنهم مَنْ جَعَلَ ذلك لبعض أولاد العاضد وإن كان صغيرًا، واختلف هؤلاء في تعيين واحد من ولدين له. وأما بنو رزيك وأهل شاور فكل منهم أراد الوزارة لبيتهم من غير أن يكون لهم غرض في تعيين الخليفة.

ثم قال:

وكانوا — فيما تقدم — والمملوك على الكرك والشوبك بالعسكر، قد كاتَبُوهم وقالوا لهم: إنه بعيد، والفرصة قد أَمْكَنَتْ، فإذا وصل المَلِكُ الفرنجيَّ إلى صدر أو أيلة ثارت حاشية القصر وكافَّة الجند وطائفة السودان وجموع الأرمن وكافة الإسماعيلية، وفَتَكَتْ بأهلنا وأصحابنا في القاهرة.

ثم قال:

ولما وَصَلَ جرج كتبوا إلى الملك الفرنجي أن العساكر متباعدة في نواحي إقطاعاتهم، وعلى قُرْب من مَوْسم غلاتهم، وأنه لم يَبْقَ في القاهرة إلَّا بعضهم، وإذا بعثت أسطولًا إلى بعض الثغور أنهض فلانًا من عنده وبقي في البلد وحده، ففعلنا ما تَقَدَّمَ ذِكْرُه من الثورة.

ثم قال:
وفي أثناء هذه المدة كاتبوا سنانًا صاحب الحشيشية، بأن الدعوة واحدة، والكلمة جامعة، وأن لا بين أهلها خلاف إلَّا فيما لا يفترق به كلمة، ولا يجب به قعود عن نُصرة، واستدعوا منه مَنْ يُتمم على المملوك غيلة، أو يُبَيِّت له مكيدة وحيلة، والله من ورائهم محيط، وكان الرسول إليهم عن المصريين خال ابن قرجلة، المقيم الآن هو وابن أخته عند الفرنج، ولما صحَّ الخبر وكان حُكْم الله أولى ما أُخِذَ به، وأَدَبُ الله أمضى فيمن خرج عن أدبه، وتناصرت من أهل العلم الفتاوى، وتوالت من أهل المشورة بسبب تأخير القتل فيهم المراجعات والشكاوى، قتل الله بسيف الشرع المطهَّر جماعة من الغواة الغلاة، الدعاة إلى النار، الحاملين لأثقالهم وأثقال من أضلوه من الفجار، وشُنِقوا على أبواب قصورهم، وصُلِبوا على الجذوع المواجِهة لِدُورِهم، وَوَقَعَ المُتَتَبِّع لأتباعهم، وشُرِّدَتْ طائفة الإسماعيلية ونُفُوا، ونُودِي بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد. فأما مِنْ جِهَة القصر فقد وقعت الحوطة عليهم إلى أن ينكشف وَجْهُ رأي يُمْضَى فيهم، ولا رَأْيَ فوق رأي المولى، والله سبحانه المُستخار وهو المستشار، وعنده مِنْ أهل العلم مَنْ تطيب النفس بتقليده، وتمضي الحدود بتحديده. ورأى المملوك إخراجهم من القصر، فإنهم مهما بقوا فيه بَقِيَتْ مادة لا تتحشم الأطماع عنها، فإنه حبالة للضلال منصوبة، وبيعة للبدع محجوبة … إلخ.١٩

ولعل ثورة كنز الدولة بن المتوج كانت من أكبر الثورات وأشدها ضِدَّ صلاح الدين، فقد كان كنز الدولة أميرًا لأسوان، وكان مَقْصِد الشعراء لِجُوده وشجاعته، مَدَحَهُ عدد كبير من شعراء مصر، نَذْكُر منهم الشاعر محمد بن عليِّ بن الغمر المتوفى سنة ٥٧٤ﻫ، فمن قوله فيه:

أَرَاعَكَ في جُنْحٍ من الليل طارِقُ
كما سَلَّ مِنْ غِمْد السحابة بارِقُ
وكالنيل هذا الودق يروي أباطحًا
ويحرم أدنى الري منه الشواهِقُ
ستبقى على الأيام مني مآثر
غرائب تبقى دونهن المهارِقُ
إذا جال فرسان العلوم فإنني
بأيسر تقريب هناك أُسَابِقُ
وسائلة بهرام كيف لقاؤُهُ
وفي الوجه منه مُخْبِر عنه صادِقُ
رآك وقد طارَتْ شعاعًا قُلوبُهُنْ
فطارت بهنْ تلك العِتَاقُ السوابِقُ
فيا مَنْ حوى عصر الشبيبة أَشْيبًا
وجاز وفاء الشيب وهْو مراهِقُ٢٠

ومَدَحَهُ الشاعر محمد بن رائق المكين أبو عبد الله الأسواني، فمن قوله:

بالسفح مِنْ رَبع سلمى مَنْزِل دَثَرَا
فاسفح دموعك في ساحاته دُرَرَا
واستوقف الركب واستسقِ الغمام له
والْثِمْ صعيدًا تراه الأذْفَرَ العَطِرَا
واستخبر الدار عن سلمى وجيرتها
إن كانت الدار تعطي سائلًا خبرا
وكيف تسأل دارًا لم تَدَعْ جلدًا
لسائليها ولا سمعًا ولا بَصَرَا٢١

ومَدَحَهُ أبو محمد الحسن بن الزبير، فمن قوله فيه:

وينجده إن خانه الدهر أوسطًا
أُناس إذا ما أنجد الذل أَنْهَمُوا
أجاروا فما تحت الكواكب خائفٍ
وجادوا فما فوق البسيطة مُعْدِمُ
ويقال إن كنز الدولة أجازه على تلك القصيدة بما يساوي ألف دينار، ووَقَفَ عليه ساقيةً تساوي ألف دينار.٢٢

ومما قاله الشاعر محمد بن أحمد الأسواني في مدح كنز الدولة:

هل المجد إلا ما اقتنته الصوارِمُ
أو المجد إلا ما بَنَتْهُ المكارِمُ
أو العز إلا ما أشاد مَنَارَهُ
وقائعُ يبقى ذِكْرُها وملاحِمُ
أو الفخر إلا المتوج لَابِسٌ
حلاه وراق في عُلاه وراقِمُ
إذا أخْلَفَتْ سُحْبٌ فغيث مساجم
وإن سُجِّرَتْ حربٌ فليث ضيارِمُ
وكفت فينا يدٍ وكفت ردى
فلا الحرب مَخْشِيٌّ ولا الخطب قادِمُ
ويعصي بفضل والحلوم سفيهة
ويَقْضِي بفضل والرماح تخاصِمُ٢٣

ونذكر أيضًا من شعرائه أحمد بن محمد الروزبي، وعبد الله بن محمد بن زُريق، وعبد الله بن أحمد بن سلامة … وغيرهم.

أراد كنز الدولة هذا أن يُعيد مُلك الفاطميين، فجمع حَوْلَه عددًا كبيرًا من السودان، وتقدم بجيوشه حتى بَلَغَ مدينة قوص، وهناك لقيه الملك العادل أخو صلاح الدين في جيش كثيف سنة ٥٧٠ﻫ، هُزِمَ كنز الدولة وتَفَرَّقَ عنه السودان، وهرب أكثرهم إلى بلاد النوبة فاستقروا في السودان ولم يعودوا إلى مصر. وفي كتاب صُبْح الأعشى رسالة بقلم القاضي الفاضل في ذِكْر هذا الانتصار، وما لقيه جيش صلاح الدين من عناء، ثم من انتصار في هذه الموقعة، فليَرْجِع إليها الباحثون.٢٤

وفي هذه الموقعة أنشد النظام المصري جبرائيل بن ناصر يمدح الأيوبيين قائلًا:

ومَنْ ذا يطيق الترك في الحرب إنهم
بَنُوها وكل الناس زور وباطلُ
حماة كماة كالضراغم، خَيْلُهُمْ
معاقلهم، والخيل نِعْمَ المعاقلُ

ومنها:

بجَيْشٍ يَضِيع الليل فيه إذا سرى
وتخفي نجومَ الجوِّ منه القساطِلُ
إذا ما خَبَتْ فيه المشاعلُ عَاضَهَا
منَ ايْدِي الجياد المنعلات مَشَاعِلُ
وتَطَّرِد الرايات فيه كأنها
أفاعٍ إلى أوكارهنَّ جوافِلُ
فما لاح ضَوْءُ الصبح حتى تَحَكَّمَتْ
لهم في أعاديهم قنًا ومناصِلُ
كأن مثار النقع سُحبٌ وبيضَهُمْ
بروقٌ تلألأ فيه والدمُ وابِلُ

ومنها:

لكم يا بني أيوب في البأس والندى
مذاهب تُعْيِي غيركم ومداخِلُ
ألَنْتُم لنا الأيام من بعد قسوة
وحلَّيْتُمُوها وهْي قَبْلُ عواطِلُ
وقَلَّدْتُمُونَا البيض تثْقَلُ بالحُلي
عواتقنا أغمادها والحمائِلُ
ضربنا بها أعداءكم فجيادنا
لها من دماء المارقين خلاخِلُ٢٥
وله قصيدة أخرى في نفس الموقعة، وفيها يقول:٢٦
أما ملَّ مِنْ عذلي عاذِلِي
فيطرح حبلي على كاهلي
لقد أطمع النفس في سلوةٍ
يُخَيِّبُها طَمَعُ العاقِلِ
ومن غير هذا الهوى إنني
لَأَعْشَقُ من عشقه قاتلي
أُحِبُّ فأقتل نفسي فلا
أفوز من الحب بالطائِلِ
ولي كُلَّ يوم وقوف على
حمًى وسلام على راحِلِ
متى يسأم القلب من هجركم
فيصغي إلى عَذْلِ العاذِلِ
ويبطل سحر الجفون التي
بها يعمل السحر في بابِلِ
ويخلو فؤاد امرئٍ لم يزل
من الوجد في شُغُلٍ شاغِلِ
متى ما وجدت لَكُمُ وحشةً
تَعَلَّلْتُ بالشبح الماثِلِ

ومنها:

صِلُوا واعطفوا وارحموا واحْسِنُوا
وجودوا فلا خير في باخِلِ
فلست بتاركِ حَقِّ الهوى
ولو أنني منه في باطِلِ
ولكن إذا مضَّنى جَوْرُكُمْ
شكوت إلى المَلِكِ العادِلِ
مليك مشى الناس في عَصْرِهِ
من العدل في مَنْهَجٍ سَابِلِ

ومنها:

أقام الجهاد على سوقه
وحرب كحرب بني وائِلِ
ففي كل يوم له جحفلٌ
يُغير على الشرك بالساحِلِ

ويقول أبو الحسن بن الذروي يهنئ السلطان صلاح الدين بالانتصار في هذه المعركة:

فقدم العزم فذا مبتداه
يقصر عن ملك الأرض منتهاه
واسحب ذيول الجيش حتى ترى
أنجمه طالعة عن دُجاه
سواك من ألقى عصاه بها
قناعة لما استقرت بواه
عليك بالروم ودع صاحب التا
ج إذا شئت وتورانشاه
فقد غدت أبريم في ملكه
تُبْرم أمرًا فيه كبت العداه
لا بدَّ للنوبة من نوبة
ترضي لسخط الكفر دِينَ الإله
تظل من نوبة منسوبة
لعزمة كامنة في أناه
تكسو الغزاة القاطِنِي أرْضَها
ما نسجت للحرب أيدي الغزاه
سُود وتحمر الظبا حولها
كأعين الرمد بَدَتْ للأساه
للَّه جيش منك لا ينثني
إلا بنصل دميت شفرتاه
ما بين عقبان ولكنها
خيل وفرسان كمثل البزاه
آساد حرب فوق أيديهم
أساور الطعن فهم كالحواه
تقلدوا الأنهار واستلأموا الـ
ـغدران فالنيران تجري مياه٢٧
ويروي ابن الأثير أن جماعة من الشيعة في مصر ثاروا سنة ٥٨٤ﻫ بالقاهرة، ونادوا ليلًا بشعار الشيعة: يا آل عليٍّ يا آل عليٍّ، وسلكوا الدروب ينادون الناس ظنًّا منهم أن أهل البلد يُلَبُّون دعوتهم ويخرجون معهم لإعادة الدولة العَلوية وإخراج مَنْ كان محبوسًا في القصر مِنْ أسرة الفاطميين، ولكن لم يلتفت إليهم أحد من المصريين ولا أعارهم سَمْعه، فلما رأوا ذلك تفرقوا ثم أُخِذوا، وكُتِبَ بذلك إلى صلاح الدين فأهمَّه أمْرُهم وأزعجه،٢٨ وفي أواخر القرن السابع في سنة ٦٩٧ﻫ ظَهَرَ شخص في الصعيد ادعى أنه داود بن العاضد الفاطمي، ودعا لنفسه، فاستجاب له عدد كبير من أهل الصعيد، ومَدَحَهُ بعض الشعراء، ولكن حركته فشلت.

نتبين من ذلك أن الأيوبيين لم يستطيعوا أن ينتزعوا العقيدة الفاطمية من نفوس المصريين دفعة واحدة، وأن أثر الدولة الفاطمية ظَلَّ في مصر بعد انقراض هذه الدولة الشيعية.

١  المقريزي: اتعاظ الحنفاء، ص١٤٨–١٥٣، (طبع دار الفكر العربي).
٢  راجع الرسالة الواعظة لأحمد حميد الدين الكرماني، نشر محمد كامل حسين «بمجلة كلية الآداب عدد مايو سنة ١٩٥٢».
٣  المجالس المؤيدية، ج١، ص٥، (نسخة خطية بمكتبتي). والمجالس والمسايرات، ورقة ٧٩، ونسخة خطية بمكتبتي.
٤  ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج١، ص٣٧٠، (طبع المطبعة اليمنية).
٥  عمارة اليمني: النكت العصرية، ص١٢٦، (طبع سالون).
٦  نفس المرجع السابق، ص٩٢.
٧  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص٢٤١.
٨  ديوان القاضي الفاضل «نسخة خطية بدار الكتب المصرية».
٩  ديوان القاضي الفاضل «مخطوط بدار الكتب المصرية».
١٠  أراد بالعضد وزير بغداد عضد الدين ابن رئيس الرؤساء. قال العماد في كتاب الخريدة: «قَصَدْتُ بالعضد والعاضد المجانسة ونصرة وزير الخليفة كنصرته.»
١١  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص١٩٨-١٩٩.
١٢  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص١٩٥.
١٣  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص٢٠٢.
١٤  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص٢٠٠.
١٥  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص١٩٣.
١٦  نفس المصدر، ص٢١١.
١٧  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص٢١٢.
١٨  نفس المصدر، ج١، ص٢٢٢.
١٩  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص٣٣١.
٢٠  الإدفوي: الطالع السعيد، ص٣٠٩.
٢١  الإدفوي: الطالع السعيد، ص٢٨٨.
٢٢  المقريزي: ج١، ص٣٢١.
٢٣  الإدفوي: الطالع السعيد، ص٦٦.
٢٤  صبح الأعشى، ج٦، ص٥٠٦.
٢٥  العماد الأصفهاني: الخريدة، ج٢، ص١٤٠.
٢٦  نفس المرجع، ص١٤١.
٢٧  أبو شامة: الروضتين، ج١، ص٢٠٩.
٢٨  ابن الأثير: الكامل، حوادث سنة ٥٨٤ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤