الشاويش يتحدث على الورق

مرت ثلاثة أيام والمغامرون الخمسة يقومون بالرقابة الليلية على منزل الشاويش «علي» … دون أن يروا بصيصًا من النور … وفي صباح اليوم الرابع وصل رد «جلال»، واجتمع المغامرون في حديقة منزل «عاطف» لقراءة الرسالة، بعد أن اتصل بهم «عاطف» تليفونيًّا.

جلس المغامرون في الكشك الصيفي في شكل نصف دائرة … وبدأ «عاطف» يقرأ رسالته التي كانت تتكون من عدة ورقات. وقد أرهفوا آذانهم للسمع.

قال «جلال» في رسالته:

«أعزائي المغامرون الخمسة:

وصلتني رسالتكم وكانت مفاجأة لي … وإني أشكركم كثيرًا لاهتمامكم بأمر خالي العزيز الشاويش «علي»، وقد تأكدت عندما وصلتني رسالتكم أنكم تحبونه حقًّا … ولولا حبكم له لما كان هذا الاهتمام الكبير به، وأعتقد أنه سيُسَر كثيرًا لسؤالكم عنه.

إن اختفاء خالي الشاويش «علي» من المعادي له قصة طويلة … فقد حضر منذ ثلاثة أسابيع إلى القرية، وأثارت عودته الأقاويل والأحاديث، ولكنه قال إنه في إجازة طويلة مدتها شهر، وإنه جاء لقضائها بين أهله وأقاربه. وقد صدَّق الناس هذا التفسير … شخص واحد عرف أن هذا التفسير ليس صحيحًا، وأنه تغطية لشيء حدث … هذا الشخص هو أنا.

لقد لاحظت منذ حضور خالي أنه عصبي جدًّا … وأنه يحب أن يخلو إلى نفسه طويلًا، ولم يكن يرى الناس الذين قال إنه جاء ليقضي إجازته بينهم … كان ينفرد بنفسه في الحقول … بل إنني لاحظت أنه يحدِّث نفسه كأنه أصيب بمس من الجنون. أكثر من هذا أنني سمعته يحلم، وهو نائم، بصوت مرتفع … كان يدافع عن نفسه، كأنه أمام محكمة ويقول: أنا مظلوم.

وقد حاولت مرارًا أن أعرف منه السبب الحقيقي لحضوره إلى القرية، ولكنه رفض بإصرار أن يقول لي أي شيء، حتى كان ذات يوم، وكنت قد سرت خلفه، حتى جلس تحت شجرة الجميز العجوز التي ترتفع عالية خارج القرية … وفي هذا المكان الذي قضى فيه خالي أيام طفولته، كما حكت لي أمي، كان خالي يبدو هادئًا، وأفضل حالًا … وكأنه كان يجد الاطمئنان وراحة النفس في المكان الذي شهد ذكريات طفولته.

المهم، جلست بجواره فلم يحدثني … وبعد نحو نصف ساعة، قال لي بصوت هادئ: تريد أن تعرف لماذا جئت هنا؟

قلت له: طبعًا يا خالي … إنني ألاحظ أنك مشغول البال جدًّا … وأظن أن القول بأنك جئت في إجازة ليس الحقيقة!

صمت لحظات ثم قال لي: نعم … إنه ليس الحقيقة … والحقيقة أني موقوفٌ عن العمل … وسوف أواجه محاكمةً عسكرية، ستطردني من الخدمة حتمًا.

لم أعلق، فمضى يقول: إني مظلومٌ يا «جلال» … لقد أديتُ واجبي، ولكن الظروف التي مررت بها كانت فظيعة.

وصمت خالي فترة، ثم قال: لقد استغفَلني أحدُ المجرمين وهرَب مني. نعم! ضحك على الشاويش «علي» وفرَّ منه!

وعاد خالي إلى الصمت لحظات، ثم مضى يقول: والقصة بدأت عندما ذهبت إلى محكمة «باب الخلق» لأخذ أحد المجرمين الخطرين، ويدعى «سيد دبانة»؛ لنقله إلى محكمة «حلوان» لمحاكمته على إحدى جرائمه التي وقعت في دائرة «حلوان»، وقد تم تسليم المجرم لي، حيث قمت بتركيب القيد الحديدي (الكلبش) في يده اليمنى ويدي اليسرى؛ حتى لا يهرب مني، ووضعت مفتاح القيد في جيبي، وكانت الساعة الثانية بعد الظهر. وانتظرت سيارة السجن لتحضر لأخذنا، ومضى وقت طويل قبل أن تصل السيارة، وقال لي السائق: إن السيارة أُصيبت بعطل في الطريق؛ لهذا تأخر. وركبت مع «دبانة» الذي اشتهر بهذا الاسم؛ لأنه قادر على الهرب أو الطيران من الفخاخ التي نُصبت له … كما أنه يشم رائحة رجال الشرطة، فيهرب دائمًا قبل أن يصلوا إليه … وقد وضعت هذا في اعتباري فكنت شديد الحذر، فقد ربطته بالكلبش كما قلت لك، وفي الوقت نفسه كان معي مسدسي الرسمي … وركبت السيارة حوالي الساعة الخامسة … وقد بدأ الظلام يهبط، والجو بارد، وهناك إنذار بالمطر.»

ومضى «عاطف» يقرأ رسالة «جلال» والذي استمر يقول: «وسكت خالي لحظات، ثم مضى يقول: تحركت السيارة وأنا أجلس بجوار «دبانة» الذي جلس ساكنًا حتى ظننت أنه نائم، وسارت السيارة حتى تجاوزنا مصر القديمة … وانطلقنا على كورنيش النيل، وكلما مضى الوقت أحسست بالاطمئنان؛ لأنني سوف أسلم «دبانة»، وأنتهي من مشكلته … ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

وسكت خالي فترة طويلة كأنه يتذكر الأحداث التي مر بها، ثم قال: سمعت صوتًا غير عادي يصدر من محرك السيارة، ثم اتجه بها السائق إلى جانب الكورنيش وأوقفها وهو يزمجر: لقد توقفت مرة أخرى!

ونزل السائق، وكان المطر قد أخذ يهطل بشدة … ورفع السائق غطاء المحرك وأخذ يحاول إصلاح العطل … ولكن يبدو أن العطب كان هذه المرة شديدًا؛ فقد عاد الرجل إلى كابينة القيادة وهو يلعن ويسخط، وأخذ بعض الأدوات وعاد لمحاولة إصلاح المحرك.

كان المطر قد تحول إلى سيل … ولم يعُد هناك شخص واحد يسير في هذا الظلام والبرد القارس والمطر الشديد …

ومضى الوقت وأحسست بأعصابي تتوتر … وجاء السائق وطلب مني مساعدته في الإمساك ببعض الأدوات، فنزلت وأنا أجر المجرم الخطير «دبانة» معي … ولكنه أعاق حركتي فلم أستطع مساعدة السائق، فأخرجت مفتاح القيد الحديدي وفتحته، ثم ربطت «دبانة» في مقبض باب السيارة، وأخذت في مساعدة السائق، ولكن كل ذلك كان عبثًا، فلم تتحرك السيارة من مكانها، واشتد الظلام والمطر … وتوقفت سيارة بجوارنا لحظات، وحاولت أن أشير إليها ولكنها انطلقت.»

كان المغامرون الخمسة يستمعون إلى الرسالة مبهورين … لقد كانت مغامرة الشاويش مع المجرم الخطير «دبانة» مثيرة، خاصة في الظلام والبرد … وأسلوب «جلال» في السرد.

ومضى «عاطف» يكمل الرسالة كما كتبها «جلال» على لسان خاله:

«ووقفت بجوار «دبانة» وقد أحسست بالتعب الشديد … ومضت نحو ساعة ثم توقفت سيارة بجوارنا، وكان واضحًا أن سوء موقفنا لفت أنظارهم … وجاء السائق يسأل عما إذا كان في إمكانه أن يساعدنا، فأشرنا إلى محرك السيارة، ووقف مع سائقنا يتحدثان قليلًا، ثم أعلن السائق أن لا فائدة من إصلاح السيارة، وخطر ببالي في هذه اللحظة شيء، سألت السائق عن سيارته فقال: إنها سيارة شخص يُدعى الأستاذ «شوقي السيد» … وأنه يركب معه هو وشخص آخر، فطلبت منه أن يذهب إلى الأستاذ «شوقي»، الذي كان يجلس في المقعد الخلفي، ويطلب منه أن يأخذنا أنا و«دبانة» … معه إلى قسم «المعادي» …

فذهب وعاد بالموافقة، وفككت قيد «دبانة»، وذهبنا إلى السيارة بعد أن ربطت يدي في القيد، وركبت بجوار الأستاذ «شوقي»، وشكرته على معونته.

ومضت السيارة، ولكن بعد دقيقة واحدة أخذ الراكب الذي يجلس بجوار السائق في الحديث إلى الأستاذ «شوقي» الذي كان يجلس بجواري … كان يكلمه بلهجة غاضبة، ويرد عليه «شوقي» بغضب أشد … وتطورت المشاجرة، وإذا بالراكب الذي يجلس بجوار السائق، يخرج مسدسًا ويطلق الرصاص على الأستاذ «شوقي»، ويطلب من السائق التوقف تحت تهديد المسدس … وقبل أن أمد يدي لإخراج مسدسي كانت السيارة قد توقفت، وقفز منها الرجل واختفى.»

تحدثت «نوسة» لأول مرة منذ أن بدأ «عاطف» يقرأ الرسالة، وقالت: كان من الصعب على الشاويش أن يتصرف، وإحدى يديه مقيدة!

محب: لا داعي للتعليق الآن … إن الرسالة كلها تحتاج إلى فحص، استمر يا «عاطف».

ومضى «عاطف» يقرأ: «وطلبت من السائق التوجه على الفور إلى مستشفى الدكتور «إسماعيل» على كورنيش النيل، وأسرع السائق يدير سيارته وينطلق … وبإرشادي وصلنا إلى باب العمارة التي بها المستشفى، وطلبت من السائق أن يصعد إلى المستشفى، ويعود بأحد يساعده في نقل المصاب الذي كان يتأوه بشدة … وخرج السائق من باب السيارة، وظللت أحاول تهدئة المصاب … ومضت عشر دقائق دون أن يعود السائق، ثم ربع ساعة، ووجدت الرجل يصل إلى مرحلة الاحتضار … ولا بد من نجدة سريعة.

فنزلت وربطت «دبانة» إلى باب السيارة مرة أخرى، ثم صعدت سريعًا سلالم المستشفى وأنا أنادي أطلب النجدة، وعندما وصلت إلى قاعة الاستقبال، وجدت إحدى الممرضات تجلس فطلبت منها المساعدة في نقل مصاب … واستدعت اثنين من الممرضين ومعهما نقالة، ونزلنا السلالم مسرعين إلى الشارع وكانت المفاجأة …»

وسكت «عاطف» ونظر إلى المغامرين الذين كانوا في أشد حالات الانتباه إلى حكاية الشاويش «علي» وقال «محب»: استمر يا «عاطف»، ولا داعي للتوقف!

مضى «عاطف» يقرأ: «كانت المفاجأة أنني لم أجد السيارة ولا «دبانة» طبعًا ولا المصاب … وأخذت أنظر هنا وهناك، وأجري هنا وهناك، ولكن السيارة ومن فيها كانت قد اختفت في الظلام والمطر … ونظر إليَّ الممرضان في استنكار شديد، وكأنني كنت أضحك عليهما، ثم صعدا المستشفى وهما في غاية الضيق.

وأخذت أجري في الشوارع كالمجنون، حتى وصلت إلى القسم وقمت بالاتصال بإدارة البحث الجنائي، وأبلغتهم بما حدث … وسرعان ما جاءت سيارة وبها بعض رجال الإدارة … ولكن لم يكن هناك أي شيء يمكن عمله … فقد أخفت الأمطار آثار السيارة … واختفت بمن فيها إلى الأبد … وهكذا قُدمت إلى مجلس عسكري، وصدر أمر بإيقافي عن العمل لحين استكمال التحقيق.»

سكت «عاطف» ثم قال: هكذا ينتهي حديث الشاويش «علي» إلى ابن شقيقته «جلال» …

أما «جلال» فيكمل الرسالة قائلًا: «إنني أتمنى أن تساعدوا خالي … فمن المؤكد أن الظروف كانت أقوى منه … وأنه رجل لم يقصر في واجبه. وتحياتي لكم وإلى اللقاء.»

جلال

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤