العودة إلى أيام زمان

ساد صمت طويل بعد أن انتهى «عاطف» من قراءة رسالة «جلال» التي تحدث فيها عن لقائه مع خاله الشاويش «علي»، وحديث الشاويش «علي» عن سبب وقفه عن العمل.

كان في ذهن كل واحد من المغامرين الخمسة كثير من علامات الاستفهام … وكل منهم يريد أن يلقي بمجموعة أسئلة عما حدث للشاويش … ولكن … كالعادة … كان المتحدث الأول هو «تختخ»، وكالعادة أيضًا بدأ حديثه بقوله: نريد تلخيص كل ما جرى في هذه الأحداث من تفاصيل.

قالت «نوسة»: إنك أفضل من يقوم بهذه المهمة.

فكر «تختخ» لحظات ثم قال: المعلومات التي احتوتها الرسالة يمكن تلخيصها كالآتي:
  • أولًا: الشاويش «علي» يتسلم مجرمًا مشهورًا بقدرته على الإفلات والهرب، اسمه «دبانة» من إدارة البحث الجنائي؛ لتوصيله إلى نيابة «حلوان».
  • ثانيًا: الوسيلة المستخدمة في النقل سيارة حكومية … وقد تعطلت السيارة في الوصول إلى الشاويش حتى اقترب هبوط الظلام في الخامسة مساءً، فنحن في شهر فبراير.
  • ثالثًا: السيارة تتحرك، وتصل إلى كورنيش النيل بعد «مصر القديمة»، ثم تتعطل مرة أخرى ويصعب إصلاحها.
  • رابعًا: تأتي سيارة عليها من يُدعى «شوقي السيد»، وتتوقف بجوار السيارة المعطلة للمعاونة في إصلاحها، ولكن العطل كبير.
  • خامسًا: يطلب الشاويش من السائق أن يرجو صاحب السيارة في نقله هو و«دبانة» إلى قسم شرطة «المعادي»، ويوافق صاحب السيارة.
  • سادسًا: في أثناء سير السيارة يتشاجر صاحبها مع راكب يجلس بجوار السائق، فيقوم الراكب بإطلاق الرصاص من مسدسه على صاحب السيارة، ويصيبه إصابات مميتة.
  • سابعًا: تحت تهديد المسدس يوقف السائق السيارة، ويهرب الراكب.
  • ثامنًا: يطلب الشاويش من السائق التوجه إلى مستشفى الدكتور «إسماعيل» على كورنيش النيل، وعندما يصلون إلى هناك يطلب الشاويش من السائق النزول وطلب النجدة من المستشفى.
  • تاسعًا: يتأخر السائق طويلًا، فيربط الشاويش المجرم «دبانة» في باب السيارة وينزل لطلب النجدة من المستشفى.
  • عاشرًا: يعود الشاويش ومعه النجدة المطلوبة، ولكنه لا يجد السيارة، ولا يجد أي أثر لها على الأسفلت، فقد محته مياه الأمطار.

وسكت «تختخ» لحظات ثم قال: هذه النقاط العشر تشمل الوقائع التي جرت منذ حوالي ثلاثة أسابيع للشاويش «علي»، ومن الواضح أن رجال الشرطة لم يعثروا على أثر للسيارة ولا ﻟ «دبانة» … فماذا يمكننا نحن أن نفعل لمساعدة الشاويش؟

ردَّ «عاطف» على الفور: في الحقيقة أننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا على الإطلاق، فإذا كان رجال الشرطة غير قادرين على العثور على السيارة ولا على «دبانة»؛ فماذا يمكننا نحن أن نفعل؟

محب: إذا أخذنا بهذا الأسلوب الذي يفكر فيه «عاطف»؛ فلن يكون عندنا في أي يوم لغز للحل، ولا مغامرة … والصحيح أننا نحتاج إلى معلومات أكثر لنبدأ العمل.

تختخ: إنني أوافق «عاطف» على صعوبة البداية، وأوافق «محب» على أننا نحتاج إلى معلومات أكثر!

لوزة: إن هناك أسئلة يجب الرد عليها.

تختخ: بالضبط … هناك أسئلة لا يجيب عليها إلا أحد أبطال حادث السيارة … السائق … أو الأستاذ «شوقي السيد»، أو الرجل الذي أطلق الرصاص أو الشاويش …

نوسة: والشاويش هو الشخص الوحيد الموجود من هؤلاء!

تختخ: إنه موجود وغير موجود!

لوزة: خطر لي شيء الآن … هل عثر رجال الشرطة على أي واحد من أبطال الحادث؟

تختخ: لا نعرف!

لوزة: إننا في حاجة إلى معاونة الشرطة!

تختخ: الرجل الوحيد الذي يمكن أن نسأله غير موجود … المفتش «سامي»!

لوزة: في آخر مغامرة لنا، التقيت أنت بالرائد «سيد هندي» في قسم حلوان، لماذا لا نذهب لسؤاله؟

تختخ: إن الحادث لم يقع في دائرة عمله!

لوزة: ولكن «دبانة» كان منقولًا إلى هناك، فلا بد أن الرائد «هندي» عنده بعض المعلومات!

تختخ: معك حق … سأذهب لمقابلته حالًا.

عاطف: الساعة الآن الواحدة بعد الظهر … والرحلة طويلة إلى حلوان والظلام يهبط مبكرًا … من الأفضل الانتظار إلى الغد … ونذهب مبكرين، وفي الوقت نفسه علينا مراقبة منزل الشاويش «علي» هذه الليلة … من يدري؟ ربما يأتي!

نوسة: إن الدور الليلة عليك يا «تختخ».

تختخ: سأقوم بالمراقبة من السادسة مساءً.

محب: إذن نفُض هذا الاجتماع على أن نلتقي جميعًا غدًا في التاسعة صباحًا.

ووافق بقية المغامرين وتفرقوا … انصرف «محب» و«نوسة» … معًا، وانصرف «تختخ» وحده، فلم يكن «زنجر» قد حضر معه هذا الاجتماع.

•••

عندما هبط المساء على المعادي كان «تختخ» يستعد للخروج … بقي دقائق في فراشه يفكر وهو يضع كفيه خلف رأسه … كانت عشرات الأسئلة تدور في ذهنه حول حادثِ السيارة وهرَبِ «دبانة»، وكان يعيد النقاط التي لخص بها خطاب «جلال»، ويحس أن هناك حلقة مفقودة في القصة … يمكن أن تكشف الستار عن حقيقة هذا الحادث … هل وقع مصادفة … أم بتدبير محكم؟

وتصور «تختخ» في جلسته هذه أنه لو وجد الشاويش «علي»؛ هل يمكن أن يدلي له الشاويش بمعلومات أخرى تفيده في البحث عن «دبانة» … إن الشاويش الذي يرى في المغامرين الخمسة مجرد أولاد يعطلون عمله لا يمكن أن يحدثه بصراحة أو يطلب منه المساعدة … وفجأة قفزت إلى ذهنه فكرة جعلته يقفز من فراشه، ثم يفتح الباب الصغير المختفي خلف ستارة زرقاء في غرفته، ثم يقفز إلى غرفة التنكر … الغرفة التي تحوي جميع ملابس وأدوات التنكر التي يحتاج إليها المغامر … والتي لم يدخلها «تختخ» منذ زمن بعيد.

فكر «تختخ» في الشخصية التي سيتقمصها … واستقر رأيه على ملابس مراكبي ممن ينتشرون على شاطئ النيل، وبعد ساعة من العمل الشاق تحول الصبي السمين إلى «صياد» في منتصف العمر، يضع على رأسه الطاقية والشال … مع قميص ممزق عليه الصِّدار الذي يستخدمه الصيادون … ثم سروال قديم قد حال لونه … وببعض الأصباغ على أسنانه أصبحت مكسرة … وببعض الغُضون على وجهه تحول «تختخ» إلى صياد لوَّحت بشرته الشمس … وانتظر لحظات، حتى تأكد أن كل من في الفيلا في أماكنهم بجوار المدفأة؛ اتقاء للبرد القارس، وانسل بهدوء خارجًا إلى الشارع الذي تعصف فيه الريح.

تحرك «زنجر» محاولًا اللحاق بصاحبه … ولكن «تختخ» أمرَه بالبقاء، ثم انسلَّ على دراجته خارجًا دون أن يراه أحد … وبعد لحظات، كان يقطع الشوارع التي تمسحها الريح الباردة … كان قلبه يحدثه أنه مقبل على مغامرة … وأحس بدماء المخاطرة تتدفق في عروقه … وبعد دقائق كان قد وصل إلى الشارع الذي يسكن فيه الشاويش «علي»، وبسرعة اختار المكان الذي سيقبع فيه … لقد واتته الظروف ووجد أفضل مكان ممكن … منزل خرب قد تهدم جزء كبير منه … وواضح أن صاحبه سيتم هدمه … ودخل من باب مكسور إلى الغرف الخالية التي تساقط بعض جدرانها … كان المنزل الخرب يقع في مواجهة منزل الشاويش «علي» تقريبًا … بزاوية تمكنه من رؤية منزل الشاويش بوضوح … وكان الشاويش يسكن في الطابق الأرضي … والنوافذ مغلقة … ومظلمة.

وأخذ «تختخ» يبحث عن أفضل مكان يجلس فيه، حتى وجد كرسيًّا قديمًا مكسورًا، أخذ يضع تحته الأحجار حتى جعله في مستوى النافذة … ثم جلس عليه، وكان قد أعد نفسه لبضع ساعات من الصمت والمراقبة.

وقد وضع برنامجه على أساس أن يفكر في وقائع الحادث … وأخذ يستعين بما رواه «جلال» في رسالته نقلًا عن الشاويش «علي». وأخذت الوقائع تمر في ذهن المغامر السمين، كأنها شريط سينمائي يُعرض أمامه … الشاويش والسجين الداهية والسيارة الحكومية التي تعطلت … وسيارة الأستاذ «شوقي السيد». وتوقف لحظات عند هذه النقطة … إنه يتذكر في الرسالة أنه جاء ذكر لثلاث سيارات، وليس لسيارتين فقط فأين السيارة الثالثة؟

عاد يفكر من جديد في الرسالة، والوقائع التي ذُكرت به، وفجأة قفزت إلى ذهنه السيارة الثالثة … لقد قال الشاويش إنه عندما تعطلت السيارة الحكومية وبعد مرور فترة قصيرة توقفت سيارة خلفهم … وقبل أن يتحدثوا إلى من فيها سارت مسرعة. فهل كانت مجرد مصادفة أن تقف هذه السيارة … ثم تعاود سيرها؟ أم أن وقوفها كان متعمدًا، وأنه أسهم في دفع عجلة الأحداث بعد ذلك؟

أخذت هذه الفكرة تدور برأسه دون أن يقطع برأي … ثم قفز إلى ذهنه سؤال آخر … هل قام رجال الشرطة بالبحث عن الأستاذ «شوقي السيد» المصاب بطلقات الرصاص؟ إن أي طبيب إذا ما عالج شخصًا مصابًا بالرصاص، لا بد أن يبلغ عنه الشرطة … فهل تم إبلاغ الشرطة بذلك؟ ولماذا لم يستجوبوا المصاب؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة ستكشف الستار عن حقيقة الأحداث التي جرت في تلك الليلة البعيدة … ولكن كيف الوصول إلى هذه الأجوبة؟ فجأة و«تختخ» في حالة التأمل العميق، وعيناه تنظران خلال ستار المطر الذي بدأ يهطل؛ شاهد سيارة تقف أمام منزل الشاويش … وفي اللحظات التالية كان مسرح الأحداث قد تهيأ … فقد نزل رجل من السيارة، وبسرعة دخل منزل الشاويش وأضاء النور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤