الرجل الذي جاء للمساعدة

حدث كل شيء بسرعة … وعبر ستار المطر والظلام لم يكن في إمكان «تختخ» أن يرى ويتأكد من الذي نزل … هل كان الشاويش «علي» أو شخصًا آخر؟

سواء أكان هذا أم ذاك … فقد كان على «تختخ» أن يتخذ قرارًا … ماذا يفعل؟ … ومضى بعض الوقت وهو يدير السؤال في رأسه … واشتد هطول المطر واشتدت قتامة الظلام … ولم يعد في الشارع الصغير إلا الأضواء الصغيرة التي تلمع من النوافذ المغلقة.

ماذا يفعل؟ وأخيرًا استقر على رأي … إذا كان هذا هو الشاويش «علي» فلا بد أن يتحدث معه … إنها فرصة لا تتكرر … وربما لا يعود الشاويش إلى منزله مرة أخرى إلا بعد وقت طويل … وإذا كان شخصًا آخر غير الشاويش؛ فلا بد أن يعرف من هو … فمن المؤكد أن له علاقة بالأحداث الجارية … وهكذا وقف «تختخ» ثم عاد يسير بين دهاليز البيت المهدم، حتى وصل إلى الباب المكسور، وتوقف قليلًا ثم اجتاز الشارع الممطر جريًا، ووقف أمام باب الشاويش ودق الجرس.

مضت فترة طويلة قبل أن يسمع «تختخ» صوت أقدام تقترب من الباب، ثم فتح الباب وظهر رجل … كان الشاويش «علي»، ولكنه كان قد فقد كثيرًا من وزنه ومن قوَّته، وكأن الأسابيع القليلة التي قضاها بعيدًا عن منصبه ووظيفته قد حولته إلى عجوز متهالك.

قال الشاويش بضيق: من أنت؟ ماذا تريد؟

رد «تختخ» بصوت خشن: إنني صديق!

الشاويش: إنني لم أرَك من قبل!

تختخ: هذا صحيح … ولكني رأيتك كثيرًا يا شاويش «علي».

الشاويش: وماذا تريد؟

كان ذهن «تختخ» يعمل بسرعة البرق، ماذا يقول؟ … واستقر على رأي.

ورد قائلًا: لقد شاهدت ما حدث على الكورنيش!

الشاويش: أي كورنيش؟

تختخ: ألا تسمح لي بالدخول لأتقي هذا البرد والمطر؟

تردد الشاويش لحظات ثم قال: ادخل!

اجتاز «تختخ» عتبة باب الشاويش، وهو يدير في رأسه ما سيقوله … وعندما استقر بهما المكان في غرفة الجلوس البسيطة الأثاث … أخذ الشاويش «علي» يرمق «تختخ» في حدة … وكأنه يحاول أن يكشف عن شخصيته … أحس «تختخ» بالقلق؛ فإن الشاويش «علي» يعرفه جيدًا، لهذا تحدث على الفور بصوته المقلد قائلًا: لقد رأيت ما حدث على الكورنيش، عندما كنت تقبض على أحد المجرمين، وعندما ربطته في باب السيارة!

بدا الاهتمام على وجه الشاويش، وقال: أين كنت؟! إنني لم أرَك ساعتها.

تختخ: إني مراكبي كما ترى … وقد كنت أجلس في مركبي … وكنت أرى ما يحدث على الشاطئ، وقد شاهدت السيارة الحكومية عندما تعطلت … وشاهدت السيارة الأخرى عندما ركبت فيها.

الشاويش: ولماذا جئت؟

كان هذا هو السؤال الحاسم الذي يجب أن يرد عليه «تختخ» بكل دقة، فقال: إنني أعرف بالطبع أنك الشاويش «علي» … وقد سمعت عنك كثيرًا، وأعرف أنك رجل تؤدي واجبك، وقد حللت كثيرًا من الألغاز الغامضة.

بدا الرضا على وجه الشاويش، وأدرك «تختخ» أنه لمس من نفسه وترًا حساسًا، فمضى يضرب على هذه النغمة: لهذا عندما ذهبت إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن سرقة بعض أدوات مركب الصيد، ولم أجدك هناك تضايقت.

الشاويش: وبعد؟

تختخ: وسألت عنك الشاويش الجديد، فعلمت منه أنك تركت الخدمة!

بدا الضيق على الشاويش محل الرضا، فاستمر «تختخ» يتحدث: وأخذت أسأل هنا وهناك، حتى علمت أن المجرم الذي كنت تحرسه في السيارة قد استطاع الفرار.

تنهد الشاويش في ضيق، فمضى «تختخ» يقول: وقد قررت أن أساعدك، وأدلي بشهادتي لمصلحتك إذا لزم الأمر.

قال الشاويش بيأس: وكيف تساعدني؟ لقد قضيت حتى الآن ثلاثة أسابيع أبحث عن هذا المجرم الهارب، ولكني لم أعثر له على أثر، كأنه «فص ملح وداب».

تختخ: واللذان كانا معكما في السيارة الثانية … ألم تعثر لهما على أثر؟

الشاويش: لا … وأحدهما مصاب بطلقات مسدس … وكان يلفظ أنفاسه الأخيرة … وفي محاولة لإنقاذ حياته هرب اللص.

تظاهر «تختخ» بأنه لا يفهم وقال: كيف حدث هذا؟

أخذ الشاويش يروي القصة … وركز «تختخ» ذهنه فيما يسمع … صحيح أنه سمع القصة من قبلُ في رسالة «جلال»، ولكن عندما يروي بطل الحادث القصة يصبح لها أهمية أكثر … خاصة التفاصيل الصغيرة التي كان «تختخ» يتمنى أن يعرفها.

وأخذ «تختخ» يستمع في صبر وانتباه … وعندما جاء ذكر السيارة التي وقفت أولًا بجوارهم، ثم سارت سأل الشاويش: هل عرفت نوع هذه السيارة؟

ردَّ الشاويش: إنني لست خبيرًا في السيارات … ولكنها كانت من طراز شائع في بلادنا، إنها سيارة نصر ١٢٨.

هزَّ «تختخ» رأسه آسفًا، ثم قال: من الصعب تتبُّع سيارة من هذا النوع، فهناك ألوف السيارات منها في مصر!

الشاويش: ولكن ما دخل هذه السيارة فيما حدث؟ إننا لم نركب فيها؟

تختخ: سأجيب عن هذا السؤال، عندما تنتهي من سرد القصة.

بدت الريبة على وجه الشاويش … فهذا المراكبي البسيط يتحدث بلغة رجال الشرطة، وفهم «تختخ» ما يدور في ذهن الشاويش، فقال: لا تندهش إذا وجدتني مهتمًّا إلى هذا الحد، وأسأل بعض الأسئلة الغريبة؛ فإنني قطعت شوطًا لا بأس به في التعليم، وأقرأ كثيرًا خاصة الروايات البوليسية … وعندي فكرة عن أسلوب التحقيق والاستنتاج!

وبدا بعض الاقتناع على وجه الشاويش، واستمر يسرد القصة … واستمع «تختخ» بانتباه شديد إلى الجزء الخاص بإطلاق الرصاص على الأستاذ «شوقي السيد» صاحب السيارة التي نقلتهم … وسأل الشاويش: كم رصاصة أصابت صاحب السيارة؟

فكر الشاويش لحظات، ثم قال: خمس رصاصات!

تختخ: وهل تظن أن أي رجل في العالم يمكن أن تطلق عليه خمس رصاصات على هذه المسافة القصيرة، ثم يبقى حيًّا ولو للحظة واحدة؟

قال الشاويش: مستحيل طبعًا! … وهذا ما يدهشني! … خاصة أنه كان يطلب إسعافه، ويرجو أن تذهب به إلى أقرب مستشفًى، وكان وجهه يبدو جامدًا.

تختخ: إنها مسألة تحتاج إلى إعادة نظر على كل حال … ماذا كان نوع السيارة الثانية ولونها ورقمها؟

الشاويش: سيارة صفراء من طراز «رينو»، وقد عرفت ذلك من سائق السيارة الحكومية عندما سُئل في التحقيق.

قال «تختخ»: إنها سيارة ليست كثيرة العدد كما هو الحال بالنسبة للسيارة نصر ١٢٨، فهل بحث رجال الشرطة عنها؟

الشاويش: نعم … وقد حفظت الرقم عندما ذهبت لأركب مع «دبانة»، ولكن اتضح أن الرقم لسيارة أخرى … إنه رقم مسروق وهم يتابعون الآن هذه السيارة.

تختخ: لقد بدأت أفهم بعض الأشياء في هذه القصة.

الشاويش: مثل ماذا؟

تختخ: إنني أعتقد أن هذه السيارة لم تأتِ بالمصادفة، وأن العملية كلها مدبرة!

الشاويش: لا يمكن … فكيف عرفوا أن السيارة الحكومية تعطلت، وكيف عرفوا مكاننا على الكورنيش؟

تختخ: مسألة بسيطة جدًّا … السيارة الأولى نصر هي التي نقلت المعلومات إليهم، فدبروا هذه العملية كلها!

الشاويش: ولكن كيف عرفت السيارة الأولى مكاننا؟

تختخ: لا أستطيع أن أجيب على هذا السؤال الآن … ولكن من الممكن أن يكون ذلك بالمصادفة … سيارة تسير على الكورنيش، فتشاهد رجلًا مربوطًا بسلسلة حديدية، إن هذا المشهد يلفت النظر طبعًا … وعندما يقتربون يعرفون أنه «دبانة» المجرم الشهير … ولعل أحدهم كان يعرفه … وبسرعة تم تدبير المسألة!

الشاويش: ماذا تعني بتدبير المسألة؟

تختخ: إن الحكاية كلها تمثيلية متقنة … فالأستاذ «شوقي السيد» لم يصَب بالرصاص … إنه كان رصاصًا فارغًا يسمونه «الفشنك»، وهو رصاص يُحدث صوتًا قويًّا ولكنه لا يؤدي إلى شيء … رصاص صوت!

صرخ الشاويش: كيف تقول هذا؟ … إن الأستاذ «شوقي» أصيب أمامي بالرصاص، ونزف دمًا كثيرًا!

تختخ: هل فحصت هذا الدم؟

الشاويش: ولماذا أفحصه؟

تختخ: لأنه ليس دمًا على الإطلاق … إنه مجرد سائل لزج أحمر اللون يمكن أن يكون حبرًا أو دهنًا … أو دمًا … ولكن دم فرخة أو أرنب!

قفز الشاويش واقفًا وهو يصيح: إنك تتهمني بالغباء … إنني لست غبيًّا … وأنت لست مراكبيًّا؛ إن حديثك لا يمكن أن يكون لبحَّار … فمن أنت؟

ذهل «تختخ» وقال: آسف جدًّا … يبدو أنني تدخلت فيما لا يعنيني … سأنصرف فورًا.

وتحرك «تختخ» في اتجاه الباب، ولكن الشاويش وقف وهو يصيح: إنك لن تخرج من هنا … لا بد أن أعرف من أنت!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤