الرجل ذو الوجه الجامد

كانت لحظات حرجة … فلو اكتشف الشاويش حقيقة «تختخ»، أو هذا المراكبي الواقف أمامه لقلب الدنيا رأسًا على عقب … وبرغم أنه لم يعد يمثل رجال الشرطة؛ فإن في إمكانه أن يشكو، ويتعرض «تختخ» لمشاكل كثيرة ليس أقلها لوم والديه.

وفي نفس الوقت لن يستطيع المغامرون الخمسة الاشتراك في حل لغز الشاويش … أو مساعدته … كان الحل الوحيد هو الفرار … ووضع «تختخ» خطة سريعة جدًّا … كان يقف في طرف الغرفة والشاويش في الطرف الآخر، وبينهما مسافة ثلاثة أمتار تقريبًا، فلو قفز خارجًا قبل أن يتحرك الشاويش؛ فإنه سيصل إلى الباب قبله … ولكن المشكلة هي فتح الباب سريعًا قبل أن يصل إليه الشاويش … وكان هناك حل لهذه المشكلة … وهكذا قفز «تختخ» خارجًا، وبرغم سِمْنته؛ فقد كان سريع الحركة … ووصل إلى الصالة والشاويش خلفه يصيح … انتظر هنا أيها اللص … إنك من أعوان «دبانة»! …

نفذ «تختخ» خطته الصغيرة … كان هناك مقعد في الطريق … أخذه في يده وهو يقفز خارجًا … وعندما وصل إلى الباب مد إحدى يديه يفتحه … وقذف الكرسي بيده الأخرى تحت قدمي الشاويش … وكما توقع «تختخ» بالضبط اصطدم الشاويش المسرع بالكرسي وتكعبل فيه ووقع على الأرض … وكان «تختخ» قد فتح الباب فخطا خارجًا وأغلقه خلفه … ودون تردد أسرع إلى المنزل الخرِب في نفس الوقت الذي خرج فيه الشاويش من المنزل شاتمًا لاعنًا … وشاهد «تختخ» وهو يدخل المنزل فأسرع خلفه … جرى «تختخ» في دهاليز البيت المعتم … وكانت جلسته الأولى فيه قد أعطَتْه بعض المعرفة فلم يصطدم بشيءٍ، ولكن الشاويش الذي دخل خلفه أخذ يصطدم بالطوب والأحجار والشبابيك الساقطة، وصوته الشاكي يرتفع في الصمت.

كان المطر ما زال يهطل … وأخذ الرعد والبرق يتتابعان … وكان ضوء البرق يضيء المكان بين لحظة وأخرى … ووقف «تختخ» لاهث الأنفاس … لقد أصبح من الضروري ألا يمسك به الشاويش الآن … فلن يتركه إلا في قسم الشرطة … قرر أن يعود فورًا إلى شخصيته الطبيعية … وكان يحتفظ بملابسه الأصلية تحت ثياب المراكبي الفضفاضة، وبسرعة خلع الطاقية والسروال الكبير والصدار الممزق، ومسَحَ الأصباغ التي على وجهه، وكان ذلك سهلًا بعد أن سقط عليه المطر … ثم جمع كل هذه الملابس في ربطة واحدة، وانتظر البرق، ثم اختار مقعدًا قديمًا في ركن بعيد عن المطر ووضع الملابس تحته … ثم وقف لحظات، وهو يستمع إلى الشاويش، وهو يجوس خلال المنزل المهجور … وسمعه في لحظة وقد اصطدم بشيء ثم سقط على الأرض … وأخذ يسب ويلعن … وانطلق «تختخ» خارجًا، وعندما وصل إلى الباب الخارجي توقف لحظات كانت كافية ليجد الشاويش الذي سمع صوت خطواته يأتي مسرعًا …

أسرع «تختخ» يجري تجاه دراجته وجرى خلفه الشاويش … ولسوء حظ «تختخ» انزلقت قدمه، وكاد يسقط على الأرض، وعندما استطاع استعادة توازنه كان الشاويش قد لحق به.

وقف الاثنان تحت المطر ينظر كل منها إلى الآخر … وقد بدت الدهشة على وجه الشاويش … بينما وقف «تختخ» ساكنًا، ثم قرر أن يهاجمه فقال: ماذا تفعل هنا يا شاويش «علي»؟

وكما توقع «تختخ» انفجر الشاويش صائحًا: أنت تسألني ماذا أفعل هنا؟! إنني الذي أسألك ماذا تفعل هنا؟

تختخ: كما ترى يا شاويش … إنني أتمشى!

الشاويش: تتمشى في الظلام والبرد والمطر؟

تختخ: هل هناك قانون يمنع المشي في الظلام والبرد والمطر؟

الشاويش: لا تحدثني بهذه اللهجة … فأنت لم تأتِ إلى هنا لتتمشى!

تختخ: إذن ماذا أفعل هنا؟

الشاويش: لا أدري … ولكن؟

وتردد الشاويش لحظات، فقال «تختخ»: ولكن ماذا يا شاويش؟

الشاويش: ألم ترَ أحد المراكبية في هذا المكان؟

تختخ: لا يا شاويش … وماذا يفعل مراكبي في هذا المكان؟ إننا بالتأكيد لسنا في النيل.

رد الشاويش بصوت كالرعد: أنا الذي أسأل!

تختخ: لا ترفع صوتك يا شاويش … الناس قد ناموا وسوف تزعجهم … ولاحظ أنك في ملابس البيت وقد يراك أحد!

تنبه الشاويش إلى ملابسه … وأخذ يسعل … وانتهز «تختخ» الفرصة وأخرج دراجته، ثم قفز عليها وانطلق عائدًا إلى منزله.

فتح باب المطبخ بمفتاحه الخاص، وتسلل في سكون … كان كل من في الفيلا قد نام، فصعد متسللًا حتى دخل غرفته وأسرع إلى الحمام فأخذ دشًّا ساخنًا، واستبدل ملابسه واستلقى في فراشه يفكر في حصيلة المغامرة … لم تكن المعلومات التي قالها الشاويش ذات قيمة؛ فقد استنتج أكثرها … لم تكن هناك معلومة واحدة يمكن عن طريقها الوصول إلى كشف حقيقة ما جرى في تلك الليلة التي هرب فيها «سيد دبانة»، لم يكن هناك سوى نوع السيارة «الرينو» الصفراء … ولكن هل هذا يكفي؟

ظل «تختخ» يفكر في كل ما سمعه، حتى أدركه النوم فاستسلم له.

•••

في صباح اليوم التالي اجتمع المغامرون الخمسة في حديقة منزل «عاطف» كعادتهم … وكان «تختخ» قد تأخر في الحضور، فتوقع الجميع أخبارًا هامة … وفي التاسعة والنصف ظهر «تختخ» وخلفه «زنجر»، وكان يومًا مشرقًا جميلًا لا علاقة له بالأمس الممطر البارد.

وتبادلوا التحيات. وقالت «لوزة» متلهفة: هل من أخبار؟

رد «تختخ»: كمية هائلة من الأخبار … ولكنها تدخل في باب الطرائف!

عاطف: هل هناك أطرف من هذا؟!

قالت «لوزة» متلهفة: ماذا حدث أمس؟ هل عثرت على شيء؟

تختخ: عثرت على الشاويش «علي» شخصيًّا.

بدا الاهتمام على وجه المغامرين الأربعة، وقال «عاطف»: لا تعطنا المعلومات بالقطارة!

تختخ: لو كانت مهمة، ما أخفيتها عنكم … والحكاية كلها أني جلست مع الشاويش أمس نحو نصف ساعة … انتهت بمطاردة في المطر!

بدا الحماس على وجوه المغامرين، وقال «محب»: وهل أمسك بك؟

تختخ: نعم … أمسكني، ولكنه لم يمسك الشخص الذي قضى معه نصف ساعة!

نوسة: هذا لغز!

لوزة: المسألة بسيطة … لا بد أنك ذهبت إليه متنكرًا!

ابتسم «تختخ» وقال: ألم أقل لكم دائمًا إن «لوزة» تفهمني بسرعة.

محب: المهم … ماذا حدث؟

أخذ «تختخ» يروي لهم ما جرى منذ غادرهم، حتى آوی إلى فراشه … وكان الجميع يستمعون باهتمام شديد، ثم أنهی حديثه قائلًا: وهكذا لم أخرج من هذه المناقشة الطويلة إلا بأن السيارة التي قامت بالعملية، هي سيارة ماركة «رينو» صفراء … وما أكثر السيارات «الرينو» الصفراء.

سكت الجميع … ولكن «نوسة» بدت كأنها تفكر في شيء ما … وأخذت تنظر إلى «تختخ» بعينين ثابتتين، وأخيرًا قالت: إنك تقول إن العملية كلها كانت تمثيلية متقنة، فلا الرصاص الذي أطلق كان حقيقيًّا، ولا الدماء التي سالت من الأستاذ «شوقي السيد» كانت دماءه …

تختخ: أعتقد هذا … فما هو رأيكم؟

نوسة: إنني أوافقك تمامًا على استنتاجاتك … وهناك شيء يؤكدها!

تختخ: ما هو؟

نوسة: ألم توقفك هذه الجملة العابرة التي قالها الشاويش «علي» أن وجه الأستاذ «شوقي السيد» برغم إصابته بالرصاص كان جامدًا.

كان المغامرون الثلاثة ينقلون أبصارهم بين «نوسة» و«تختخ»، وهما يتبادلان هذا الحوار العجيب … ورد «تختخ»، وهو يغمض إحدى عينيه: ماذا يعني هذا؟

نوسة: ببساطة أنه كان يلبس قناعًا … فحتى لو كانت الرصاصات مجرد صوت، فلا بد أنه كان سيمثل دور المصاب فيلوي وجهه ألمًا … أما أن وجهه ظل جامدًا، فهذا يعني شيئًا واحدًا … إنه كان يلبس قناعًا.

تختخ: معكِ حق … ولكن ماذا يعني هذا بالنسبة لنا؟

نوسة: إنه يعني الكثير … فهناك رجل يلبس قناعًا على وجهه … وهناك مسدس يطلق رصاصًا صوتيًّا … وهناك دماء هي مجرد ألوان أو أدهان، معنى هذا أننا أمام ممثل محترف … ممثل مسرحي أو ممثل سيرك …

ففي هذين المكانين تتوفر المسدسات التي تُحدث صوتًا ولا تحدث جرحًا، والأقنعة، والدماء المزيفة.

كان استنتاجًا جريئًا يمكن أن يقرب المغامرين الخمسة من الصورة الكاملة للموقف، ويمكن أن يضع أيديهم على بداية الطريق إلى لغز السجين الهارب … وقال محب: لقد توصلت «نوسة» إلى استنتاج!

وقبل أن يكمل جملته حدث ما لم يكن في الحسبان … ظهر الشاويش «علي» على باب الحديقة هذه المرة … ولأول مرة دون ملابسه الرسمية … كان يلبس جلبابًا واسعًا على طريقة أولاد البلد القادمين من الصعيد … وكان يلبس عليه معطفًا سميكًا أسود اللون، ويضع على رقبته كوفية ويمسك بِعَصًا.

وقف المغامرون جميعًا احترامًا لصديقهم اللدود … ووقف الشاويش «علي» ينظر إليهم في هدوء … كان واضحًا أنه فقد كثيرًا من وزنه … وكان يسعل بشدة، ويضع على فمه منديلًا.

رحب المغامرون بالشاويش الذي جلس، وأسرعت «لوزة» تعد كوب الشاي الثقيل الذي يحبه … ولكن الشاويش لم يظل هادئًا إلا لحظات، فسرعان ما أخذ وجهه يحمر تدريجيًّا، ثم قال وهو يكتم سعاله: لقد كان «توفيق» أمس يتجول أمام منزلي ليلًا، إن هذا يعني شيئًا!

قال «تختخ» على الفور: اسمع يا شاويش «علي»، لقد علمنا أنك في موقف حرج بالنسبة لعملك، ونحن نحاول أن نساعدك!

صاح الشاويش كعادته: أنتم تساعدونني أنا؟! … أنا الشاويش «علي» الذي يرتعب اللصوص والمجرمون لسماع اسمه؟!

كاد «تختخ» يقول له الحقيقة: إن أحد المجرمين قد هرب منه وعرضه للعزل من عمله … ولكن حفاظًا على كرامة الشاويش، قال «تختخ»: إننا نحترمك ونحبك أيها الشاويش … لهذا نتقدم لك بكل احترام، ونرجو أن تسمح لنا بالتدخل من أجلك، إننا نعرف الكثير مما حدث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤