غرفة التنكر مرة أخرى

مسح الشاويش شفتيه بلسانه، وأخذ يسعل بشدة، فقال محب: إنك مريض يا حضرة الشاويش، ويجب أن تعود إلى منزلك فورًا وتبقى في فراشك.

أخذ الشاويش يشير بيديه معترضًا … فلم يكن يستطيع الكلام، وأسرعت «نوسة» تلحق ﺑ «لوزة» داخل المنزل، وتعودان ومعهما أقراص الأسبرين والشاي … ووقف المغامرون الخمسة حول الشاويش يسقونه الأسبرين والشاي … وبدأ يهدأ قليلًا … ولم يكَد يتمالك أنفاسه حتى قال: ومن أين علمتم بما حدث؟

تختخ: سنقول لك … ولكن ليس الآن يا حضرة الشاويش … إننا نرجوك أن تعود إلى منزلك الآن وترتاح، فدرجة حرارتك مرتفعة، ومن الواضح أنك أُصبت بنزلة برد شديدة.

كان الشاويش شديد الاسترابة فيما يسمع، ولكنه كان متعبًا، فقد قضى بقية الليل ساهرًا يفكر فيما يحدث حوله … وفي نفس الوقت كان خروجه بملابسه المنزلية الخفيفة في البرد والمطر سببًا في إصابته بالسعال … وهكذا جلس صامتًا يشرب الشاي حتى إذا أتمه قام، وحيا المغامرين بهزة من رأسه ثم انصرف … ولأول مرة لم يمارس «زنجر» هوايته المحببة في معابثة الشاويش.

لم يكد الشاويش يغادر الحديقة، حتى عاد المغامرون إلى مناقشاتهم … كانوا قد توقفوا عند استنتاج «نوسة» … الذي يشير إلى أن مدبر الحادث والمدعو «شوقي السيد» ما هو إلا ممثل في مسرح أو سيرك، حيث تتوفر أدوات التنكر والمسدسات الصوتية … وقال محب معلقًا: إذا اعتبرنا هذا الاستنتاج صحيحًا أو قريبًا من الصحة … فإن عندنا شيئًا هامًّا … فقد كان هناك سيرك يعمل في «المعادي»، في نفس الفترة التي تم فيها هرب «سيد دبانة» من الشاويش.

ساد الصمت بعد هذه الجملة … فهذا يعني أن نسبة الصحة لاستنتاج «نوسة» يصل إلى ٧٠٪ أو ٨٠٪، وكان السؤال الهام بعد ذلك … أين ذهب السيرك؟ وانطلق السؤال من فم «لوزة» قائلة: المهم الآن أين ذهب السيرك؟

لم يرد أحد، ولكن «عاطف» قال: إن أي سيرك متجول لا بد أن يحصل على تصريح للعمل في المنطقة التي سيعمل فيها … وعن طريق الشرطة يمكن أن نعرف مكانه!

محب: المشكلة أن المفتش «سامي» ليس موجودًا.

نوسة: ولكن هناك الضابط «سيد هندي» في حلوان، لقد ساعدنا في حل اللغز الماضي، وربما لو طلبنا منه المساعدة مرة أخرى لفعل.

نظر «تختخ» إلى ساعته … كان الوقت مبكرًا بما يكفي للذهاب إلى حلوان … فأشار إلى «محب» قائلًا: سأذهب أنا و«محب» … فالمسافة بعيدة، وعندما نعود سنتصل بكم.

وقفز الاثنان إلى دراجتيهما … ولم يتردد «زنجر» وقفز إلى السلة في نهاية دراجة «تختخ» وقبع فيها، وقد أدرك أن صاحبه ذاهب إلى رحلة بعيدة … وسرعان ما كان المغامران يصلان إلى الكورنيش، ثم ينطلقان بأقصى سرعة في الطريق إلى «حلوان». ولكنهما عندما وصلا إلى القسم كان في انتظارهما مفاجأة سيئة … فعندما سألا الشرطي الواقف على الباب عن الرائد «سيد هندي» اتضح أنه في إجازة ثلاثة أيام بدأت في نفس اليوم.

وأحس المغامران بضيق شديد … واندفع «محب» قائلًا للشرطي: من القائم بأعمال الرائد «سيد هندي» في غيابه؟

ردَّ الشرطي: إنه النقيب «أشرف شوقي» وهو موجود الآن.

محب: هل نستطيع مقابلته؟

الشرطي: بالطبع … إن الشرطة في خدمة الشعب. وبعد أقل من دقيقة كان المغامران يجلسان أمام شاب أسمر طويل القامة … وكانت البداية علاقتهما بالرائد «سيد هندي» أنه صديق «توفيق»، ثم قال «تختخ»: جئنا نسأل عن سيرك كان مُقامًا في المعادي منذ نحو ثلاثة أسابيع! كان رد النقيب الأسمر مفاجأة مفرحة للمغامرين … فقد رد على الفور بأنه يعمل الآن في حلوان … طلب إذنًا منذ نحو أسبوعين، وقد أقام الخيام وغيرها في المساحة الفارغة من الأرض بجوار ركن حلوان.

تختخ: شكرًا لك … إنها مساعدة كبيرة لنا!

النقيب: لا بد أنكما تريدان مشاهدة ألعاب السيرك! لم يشأ «تختخ» أن يغوص في التفاصيل معه فقال: نعم! وودعاه بحرارة، ثم خرجا مسرعين … وانطلقا على الفور في الطريق إلى ركن حلوان، وقبل أن يصلا إليه شاهدا خيام السيرك العالية.

لم تكن الحياة قد دبت في السيرك بعد … فالعاملون في السيرك يسهرون كثيرًا، ويتأخرون في اليقظة … كان بعض العمال يقومون بتنظيف حيوانات السيرك … من كلاب وحمير وأسود وغيرها … وكانت بعض الملابس منشورة لتجف في شمس الشتاء الكليلة.

توقف «تختخ» و«محب» تحت الأشجار العالية في الجانب الآخر من الطريق … وأخذا يراقبان السيرك فترة، ثم قال محب: كيف السبيل إلى الدخول الآن؟

قال «تختخ»: صعب جدًّا … وقد نلفت إلينا الأنظار، ويجب أن نعمل في سرية تامة … فلو كان استنتاج «نوسة» صحيحًا، وأن عملية تهريب «دبانة» قد تم تدبيرها وتنفيذها بوساطة رجل أو أكثر من رجال السيرك، فلا بد أنه سيكون شديد الحذر … وأي عمل غير مدروس قد يؤدي إلى نهاية غير سعيدة.

كان «تختخ» يتحدث وينظر في نفس الوقت … لو كان يستطيع أن يدخل السيرك بحثًا عن عمل، أي عمل … ربما استطاع أن يصل إلى أسرار السيرك وما يحدث فيه … وكان الحل موجودًا … أن يلجأ إلى التنكر مرة أخرى.

ظلا واقفين فترة طويلة يراقبان حركة الحياة وهي تدب في السيرك، والكلاب المدربة وهي تستمتع بالشمس … والأسد العجوز في قفصه يتناول وجبة من اللحم … وقال «محب» فجأة: إن الحياة في السيرك تستهويني!

رد «تختخ»: نعم؛ إنها حياة مثيرة!

ثم أضاف بعد لحظات: من الأفضل أن نعود الآن … لقد عرفنا مكان السيرك، وعلينا أن نكتشف الحقيقة إذا كانت موجودة فيه.

وقفزا إلى الدراجتين … وانطلقا، ومرة أخرى قفز «زنجر» إلى السلة … وبعد نحو ساعة كانا في المعادي … وقال «تختخ» وهو يرفع يده مودعًا: لا أظن أننا سنلتقي في المساء … نلتقي غدًا صباحًا؟

محب: سأحكي ﻟ «نوسة» ما وجدنا … ستسعد كثيرًا أننا وجدنا السيرك حقًّا … وسأتصل ﺑ «عاطف» و«لوزة».

تختخ: عظيم … وسأراكم جميعًا غدًا … عند «عاطف» … طبعًا.

عاد «تختخ» إلى منزله متعبًا … وتناول غداءه بشهية رائعة، ثم استلقى على فراشه ونام … وعندما استيقظ في المساء أحس بنشاط كبير، وطلب من الشغالة «هنية» أن تعد له كوبًا من الشاي … أخذ يرتشفه على مهل، ثم دخل غرفة التنكر مرة أخرى … وجلس ساكنًا يتأمل كل شيء حوله … كان يريد شخصية يستطيع أن يدخل بها السيرك دون أن يثير الشك والريبة … ووقعت عينه على كاميرا فاخرة، كان والده قد اشتراها له بمناسبة نجاحه … كاميرا من طراز «رولي فليكس» … وهبط عليه الوحي أن يتنكر في ملابس مصور متجول داخل السيرك.

وقفز واقفًا من الفرحة … وأخذ يختار بعض الملابس المناسبة … ووضع على رأسه قبعة صغيرة … وبعد ساعة كان قد تحول إلى مصور عظيم … يضع الكاميرا على كتفه وتسلل مرة أخرى إلى الشارع، وقفز على دراجته وانطلق إلى حلوان … كان الجو باردًا … ولكن لم يكن هناك مطر … وأحس بالدفءِ يسري في جسده إثر المجهود الذي يبذله، حتى إذا وصل إلى قرب السيرك أحس أنه يتصبب عرقًا.

أخفى دراجته خلف إحدى الأشجار الضخمة التي اشتهرت بها هذه المنطقة في حلوان … ووقف لحظات يرقب أنوار السيرك … كانت الموسيقى تصدح … وبعض مهرجي السيرك يقفون في الخارج يؤدون بعض الحركات المضحكة … ومصارع ضخم يقف على كرسي مرتفع يحرك عضلاته … وعدد من المتفرجين يقف للفرجة … وبعضهم يقطع تذكرة للدخول.

تقدم «تختخ» وهو يضع الكاميرا في ذراعه، حتى وصل إلى الباب … وتقدم ليدخل، ولكن أحد الرجال أمسكه قائلًا: التذكرة يا أستاذ؟

قال «تختخ» بثبات: لقد جئت للعمل في السيرك؟

الرجل: هل قابلت الأستاذ «عوني»؟

تختخ: سأقابله الآن!

أخذ الرجل يرمق «تختخ» لحظات، ثم قال: ادخل، الأستاذ «عوني» الآن في غرفته.

دخل «تختخ» السيرك ومر بجوار أقفاص الحيوانات … ثم انثنى يسارًا وأصبح أمام إدارة السيرك … كانت مجموعة من الأكشاك الخشبية المقامة فوق السيارات الطويلة … ودُهش «تختخ»؛ لأن الظلام كان دامسًا … ولكن كانت هناك بعض الأضواء التي تنفذ من نوافذ الغرف الخشبية الضيقة … واقترب «تختخ» من أكبر الغرف وأخذ يدور حولها … وسمع حديثًا عاليًا يدور بين اثنين … كان أحدهما يلوم الآخر قائلًا: إنك بهذه الطريقة سوف تلفت إلينا الأنظار.

قال الآخر: إنني لا أستطيع الخروج؛ فأنت تعلم أنهم يبحثون عني في كل مكان.

الأول: هذه ليست مسئوليتي … لقد انتهى دوري.

الآخر: لا تنسَ يا «عوني» … أننا زملاء قدماء … إن أكثر الناس لا يعرفون … من أنت … وأنا وحدي الذي أعرف.

الأول: هل تهددني؟

الآخر: أبدًا … فقط أُذكرك بزمالتنا القديمة، فأنت الآن تتخلى عني.

كان «تختخ» يستمع بانتباه إلى هذا الحوار … وقد أحس أنه حوار مهم … وسمع آخر جملة في الحوار، وكان الأول يقول: إنك بتصرفاتك هذه تضعنا هنا في موقف حرج … حاول أن تبتعد.

الآخر: لقد وعدني «بظاظة» أن ينهي أوراق سفري في نهاية هذا الأسبوع، وهكذا ربما لا تراني مرة أخرى.

وسمع «تختخ» صوت باب الكشك يفتح، وظهر شعاع من الضوء القوي على الأرض، ثم ظهر شبح رجل نزل السلم. وتردد «تختخ»: هل يحدثه ويسأله عن الأستاذ عوني … أو يختفي في الظلام ويتنظر؟ … وفضل أن يتقدم؛ حتى لا يطرده بعد ذلك، فقال: من فضلك … هل الأستاذ «عوني» هنا؟

لم يرد الرجل فورًا … وعندما تحدث كان صوته غاضبًا: من أنت؟

قال «تختخ»: لقد أخبروني على باب الدخول أن أقابل الأستاذ «عوني»، إنني مصور متجول أريد عملًا في السيرك.

قال الرجل بصرامة: تعالَ هنا!

وتقدم «تختخ» وقلبه يدق سريعًا … إلى فتحة الباب …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤