ماذا فعل القرد؟

عاد الرجل داخل الكشك وتبعه «تختخ»، والمدهش أنه لم يجد الرجل الآخر الذي كان يتحدث … ولاحظ وجود ستارة تقسم الكشك إلى قسمين … وأدرك أن الآخر قد اختفى في الجزء الثاني.

شاهد «تختخ» الرجل. كان متوسط القامة … غليظ الرقبة … تبدو عليه الشراسة ويلبس ملابس السهرة … وإن بدت غير منسجمة عليه؛ فقد كانت ذراعاه قصيرتين بطريقة ملفتة للنظر … ويداه غليظتين، مما يؤكد أنه بدأ حياته يعمل عملًا يدويًّا … وكان «تختخ» قد أعد بجوار الكاميرا «الرولي فليكس» الكبيرة كاميرا أخرى صغيرة جدًّا من طراز «مينولتا» يمكن أن تصور في أي ضوء … وتظاهر «تختخ» أنه يبحث عن مكان للجلوس، ومكان يضع فيه الكاميرا بجواره … وضغط على زرار «المينولتا» الصغيرة، والتقط صورة للرجل، ثم قال: هل أنت الأستاذ «عوني»؟

ردَّ الرجل: نعم … أنا عوني … من أنت؟

تختخ: إنني مصور متجول … أريد أن آخذ إذنًا منك بالعمل في السيرك؛ لأصور الزبائن!

عوني: ومن قال لك إنني أريد مصورًا في السيرك؟

تختخ: إنها فكرة طيبة … فأكثر الناس يحبون أن تؤخذ لهم صور تذكارية في الحدائق والمسارح والسيرك وغيرها …

بدا الارتياب على وجه «عوني»، وقال: ولماذا جئت إلى هذا السيرك بالذات؟

تختخ: ليس هناك سبب معين … سوى أنني علمت أنه سيرك ناجح يدخله عدد كبير من الناس.

بدا الارتياح على وجه «عوني» … عند سماع هذه الجملة، وقال: وماذا يستفيد السيرك من عملك هذا؟

تختخ: إنني أبيع الصورة بخمسة وعشرين قرشًا … وسأدفع للسيرك خمسة قروش عن كل صورة ألتقطها.

أخذ «عوني» يفكر لحظات، ثم قال: سنجرب هذه الليلة ونرى!

ووقف «تختخ» منصرفًا، فقال عوني: تعالَ معي.

نزلا من الكشك إلى الظلام مرة أخرى، وكانت الريح تهب وتلعب بالخيام، حتى وصلا إلى الخيمة الرئيسية وقد ارتفعت أنغام الموسيقى … وفتح الرجل باب الخيمة، وأعمت الأضواء القوية عيني «تختخ» لحظات، ثم شمل المكان بنظرة واسعة … كانت النمرة الأولى قد بدأت، وعادة ما تكون نوعًا من فتح الشهية للمشاهدين ببعض الألعاب الرياضية الصعبة … يتخللها بعض الضحكات من مهرج وزميله … وقال الرجل: هيا ادخل.

دخل «تختخ» الخيمة وأعد الكاميرا الكبيرة للعمل، وأخذ يتنقل بين الصفوف يشير إلى الناس عارضًا تصويرهم … وكان يراعي في نفس الوقت أن يصور كل العاملين في السيرك بالكاميرا الصغيرة … وكان «تختخ» سعيدًا بما يفعل … لقد أراد أن يدخل السيرك فقط، ويرى عن قربٍ الشخصياتِ التي تعمل به؛ لعله يعثر على «سيد دبانة» أو «شوقي السيد»، ولكن الظروف أتاحت له أكثر من هذا … أن يصورهم أيضًا.

استمر العرض من التاسعة تقريبًا حتى تجاوزت الساعة الواحدة صباحًا … وكان «تختخ» قد انتهى من تصوير نحو عشرين شخصًا … وكان راضيًا عن عمله في أول ليلة … وقرر أن ينسحب قبل النمرة الختامية … وأخذ يتسلل بهدوء حتى وصل إلى باب الخيمة الرئيسية وفتحه … وكانت في انتظاره مفاجأة … كان «عوني» واقفًا خلف الستار يرقب العرض، وحوله عدد من المصارعين من ذوي العضلات … وقال «عوني»: هل انتهيت من عملك؟

رد «تختخ»: نعم … التقطت نحو عشرين صورة.

عوني: وهل معك إيصالات؟

تختخ: لا … اكتفيت بأن أعطي ورقة صغيرة بها رقم … وحسب ترتيب الصور في الفيلم سأسلم الصور غدًا.

عوني: وأين ستقوم بتحميضه؟

وقبل أن يتم جملته ظهر أحد مدربي القردة، وبيده قرد يقفز، وقال موجهًا حديثه إلى «عوني»: هذا القرد الذي اشتريته مؤخرًا مشاكس … وهو لا يكف عن ضرب بقية القرود، ولا بد أن تجد له مكانًا آخر.

عوني: لقد اشتريته من «عتريس» مدرب القرود، وقال لي: إنه هادئ جدًّا. لا بد أنك تسيء معاملته.

قال المدرب محتدًّا: أبدًا … وسترى الآن.

وفك المدرب سلسلة القرد الذي لم يكَد يشعر بحريته حتى قفز بضع قفزات، ثم دار حول الواقفين، وفجأة انقض على «تختخ»، وكم كان فزع المغامر السمين؛ لأن القرد المشاكس جذب الكاميرا الصغيرة من يده بشدة، ثم قفز مبتعدًا … وقبل أن يتمكن أحد من الواقفين من تدارك ما حدث كان القرد قد دخل إلى ساحة العرض، وأخذ يقفز هنا وهناك معاكسًا الناس … وارتفعت صيحات الضحك ممزوجة بصرخات الفزع … وأخذ القرد يصعد على الحبال حتى صعد إلى حيث كان لاعبو «الترابيز» يؤدون حركاتهم … ولعبة «الترابيز» تعتمد على الهدوء وضبط الأعصاب، حيث يتعلق اللاعبون بالحبال … ويسبَحون في الهواء معتمدين على إيقاعات مضبوطة. ولكن القرد أثار الاضطراب في توقف اللعبة … وكان أحد اللاعبين يطير بين منصة عالية ومنصة أخرى … وشهق الجميع خوفًا عليه … ففي اللحظة التي كان عليه فيها أن يمسك بالعقلة السابحة في الهواء، قفز إليها القرد الشقي واختلت حركة اللاعب وسقط، ولحسن الحظ كانت شبكة الإنقاذ مفروشة فسقط عليها … وأصيب ولم يستطع الحركة … وضج المكان بصيحات الفزع … واختلط اللاعبون بالمتفرجين … وأخذ «عوني» ورجاله يَجْرون هنا وهناك … وفي وسط الاضطراب الذي حل وقف «تختخ» غاضبًا حائرًا لا يدري ماذا يفعل … ففي الكاميرا الصغيرة كانت مجموعة صور العاملين في السيرك، وكان يعتمد عليها في معرفة ما إذا كان «سيد دبانة» و«شوقي السيد» بينهم.

أخذ مدربو القرود ينادون على القرد الذي أخذ يقفز في سماء الخيمة الكبيرة، وهو يمسك بالكاميرا في يده … وكاد قلب «تختخ» يقف من فرط الخوف عليها … فلو وقعت في يد «عوني» … لكانت مشكلة قد تؤدي إلى عدم خروجه حيًّا من هذا المكان … وقد كان في إمكانه أن ينتهز فرصة الهرج والمرج هذه ويهرب … ولكن كان يدرك أنه إذا لم يحصل على الكاميرا في هذه الليلة؛ فسوف يخسر الكثير وربما لا يستطيع إعادة التجربة مرة أخرى.

صعد بعض مدربي القرود على الحبال … وأخذوا يغرون القرد بالطعام … وقذفوا له بجزرة كبيرة … وإذا بالقرد الشقي يلقي الكاميرا من يده ويمسك بالجزرة … وراقب «تختخ» الكاميرا وهي تهوي في الفضاء، ثم تسقط بين مقاعد المتفرجين … ولم يهتم بمن يراقبه في هذه اللحظة؛ فقد اندفع حيث وقعت الكاميرا منتهزًا فرصة انشغال الجميع باللاعب المصاب، وهبط تحت المقاعد يبحث.

كان أكثر المتفرجين قد غادروا أماكنهم … واندس «تختخ» تحت المقاعد وأخذ يبحث ولكن بلا جدوى … كان متأكدًا أن الكاميرا قد وقعت في هذا المكان … ولكن طال البحث دون أن يعثر على شيءٍ … وأطفأ عامل الإضاءة الأنوار … ووجد «تختخ» نفسه وحيدًا في الظلام … ولم يعد هناك فائدة من البحث … خاصة بعد إطفاء الأنوار … ولم يكن ضوء البطارية الصغير يكفي للبحث، وقد يلفت إليه الأنظار … ولم يكن أمامه إلا شيء واحد … هو أن يغادر المكان الآن، وأن يعود في الصباح … ومشى متثاقلًا ناحية الباب، كان حزينًا لأن الصور التي التقطها قد تكون أهم الأدلة التي يعثر عليها للكشف عن حقيقة هؤلاء العاملين في السيرك.

لم يكد «تختخ» يغادر باب الخيمة الكبيرة، حتى وجد بعض الرجال يبحثون عنه … وتوجس شرًّا … ماذا يريدون منه؟ … وقال أحدهم: الأستاذ «عوني» يبحث عنك.

ولم يكن أمام «تختخ» إلا الذهاب … سار خلفهم حتى وصل إلى كشك الإدارة، وصعد السلالم، وقلبه يحدثه أنه مقبل على شيء مزعج، وكان حديث قلبه صحيحًا … فلم يكد يظهر أمام «عوني» حتى صاح: أين كنت؟

رد «تختخ»: كنت أبحث عن شيء ضاع مني!

عوني: هذا الشيء الذي اختطفه القرد؟

تختخ: نعم.

عوني: وماذا كان هذا الشيء؟

تختخ: إنه جهاز ضبط الضوء.

عوني: وأين الفيلم الذي صورته؟

تختخ: إنه أكثر من فيلم!

عوني: هات كل ما صورته!

تختخ: ولكنه محتاج إلى تحميض وطبع.

عوني: إنك جلبت علينا النحس، فما كدت تدخل السيرك، حتى هرب القرد وأُصيب اللاعب، لا تَعُد هنا مرة أخرى.

تختخ: ولكن هؤلاء الزبائن ما ذنبهم؟

عوني: قف أمام باب الدخول، وسيأتون لتسلم صورهم، فأعطهم الصور، وستدفع لي ما اتفقنا عليه.

لم يجد «تختخ» مفرًّا من القبول … لقد كان يريد العودة إلى السيرك للبحث عن الكاميرا … ولكن ها هو ذا «عوني» يطرده، ولا يستطيع أن يخالف له أمرًا … وفكر أن يكمن في مكان مظلم حتى يطلع ضوء النهار … ولكن «عوني» صاح بأحد أعوانه: خذه من يده، واقذف به خارج السيرك، ولا تدعني أرى وجهه مرة أخرى.

قال الرجل: وماذا سنفعل في القرد «يا ريس»؟

عوني: سأذهب غدًا صباحًا لإحضار «عتريس»، إنه الوحيد القادر على استعادة القرد من سقف الخيمة.

وسار «تختخ» ومعه الرجل حتى خرج من السيرك، وركب دراجته وبدأ رحلة العودة الطويلة إلى المعادي … كان يفكر في كل ما حدث … خاصة الحديث الذي دار بين «عوني» وبين «الشخص المجهول» هل هذا الحديث يعني شيئًا؟ ثم الكاميرا التي سقطت تحت مقاعد المتفرجين … كيف يعثر عليها؟ بل كيف يدخل السيرك مرة أخرى بعد أن أمر «عوني» بطرده وعدم عودته.

فكَّر طويلًا واستطاع بعقليته اللامعة أن يصل إلى حلين … أولًا: أنه يستطيع أن يعود غدًا في ملابس تنكرية أخرى. ثانيًا: أنه يستطيع أن يعود غدًا بشخصيته الحقيقية كمتفرج … ويبحث عن الكاميرا … ولكن كان هناك حل آخر أحسن من الحَلَّين السابقين … هو الحل العملي الوحيد السريع والممكن … وابتسم «تختخ» وهو يفكر في الحل الثالث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤