الخاتمة
«هل يُمكنكِ رؤيتها؟» اتَّخذَت ماري لي ماكروبرتس موضعَها قُبالة الجدار. «أرخي جفنَيكِ وانظري بخمول.» هكذا أوصتني. «لستِ بحاجةٍ إلى التحديق.» كنا في حجرةٍ صغيرة مُعتِمة في منزل ماكروبرتس في مدينة ميل كريك، وهي مجتمعٌ محلِّي خاص في ولاية واشنطن. تُحيط رفوف الكتب بالمكان، وتشغَل حيِّزَه الأكبرَ طاولةُ تدليكٍ استلقيتُ عليها، وتراصَّت عليها الوسائد، وغطاها دِثارٌ مخمليٌّ ناعم. ماكروبرتس خبيرةٌ في ممارسة الريكي الروحانية، وكانت إذ ذاك تُحاول أن تُريَني هالتها.
لم تبدأ جلستي بدايةً حسنة. إن مجالاتِ طاقتِنا تشعُّ دون سيطرة أجسادنا، كما قالت ماكروبرتس، ونستطيع رؤيتها حين نُمعن النظرَ بدرجةٍ كافية. إلا أن كل ما رأيته كان ماكروبرتس والحائط. عدَّلَت الستارَ وظللتُ أحدِّق حتى زاغ بصَري. «يصعب ملاحظة الأمر.» قلتُ ذلك مُترددةً، غيرَ راغبةٍ في مضايقتها ونحن في البداية. ظلَّت مُعالِجتي على عزمِها. قالت لا مُباليةً إن الأطفال أفضلُ في ذلك الأمر، وبدأنا الجلسة.
إن ماكروبرتس لطيفةٌ وبَشوشة، وذاتُ وجهٍ مشدود أسمر وأوشحةٍ مُسترسِلة. أخبرتني أنها اليومَ ستدمج بين الريكي والعلاج الروحاني. واستدعت أرواحها المُرشدة ومُعاونيها لينضمُّوا إلينا، ثم استدعت أرواحي المُرشدة أيضًا. قالت برقَّةٍ إنه لا يُهمُّ إن كنتُ أصدِّق. فسيأتون على أي حال. وضَعَت يدًا على بطني ورفَعَت الأخرى، وأخذت تنقرُ بأصابعها وتُحركها سريعًا في الهواء فوق جسمي.
قالت إن مجالَ طاقتي مغلق، ومُصْمَت تمامًا مثل الجانب السُّفلي لقاربٍ من الألياف الزجاجية. طلبَت مني أن أتنفَّس بعمق وأسترخيَ لتليينه. كان صوتها مُريحًا، وكنت مُسترخيةً تحت الأغطية، وقد تصاعَد من مكانٍ ما صوتٌ هادئ لماءٍ مُترقرق. بدأت أشعر بالخدر، والتنميل في أطرافي، كأنني أطفو. ثم أتت إلى ماكروبرتس رؤيا لي وأنا طفلة، «طويلة ونحيفة»، أصيح قائلةً شيئًا ما بشأنِ عدم الإنصاتِ لي. وسألتني إن كان ذلك صحيحًا، لكن، وإن كنت لا شك قد مررتُ بلحظاتِ إحباطٍ في نشأتي، إلا أنني كنت ضئيلةً ومُمتلئة وأنا طفلة، ولم أكُن طويلةً ونحيفة قط، وكنت مُتأكدةً تمامًا من أنني كنتُ دومًا أجعل الآخَرين يُنصتون إليَّ.
سألتني ماكروبرتس إن كان أحدٌ قريب لي قد «عبَر»، فقلت لها جَدِّي. استطعت أن أُخمن ما سيحدث، وقد كان؛ إذ قالت لي إنه في الحجرة. سألتني، هل كان من دأبه أن يقولَ شيئًا ما بشأنِ سدَّادة فلِّين؟ «ضعي السِّدادة في الزجاجة … لا، ليس كذلك بالضبط.» تساءلتُ في نفسي عما إذا كان المفترَض أن أنتقل إلى العبارة المتوقَّعة، «ضعي فلينًا في فمِكِ» (تعبير إنجليزي يعني «أمسِكْ عن الحديث»)، لكنني لا أذكر أن جَدِّي قال هذا قط؛ لذلك لُذتُ بالصمت.
سألتني، ماذا عن والدي، فقلت لا، إنه على قيد الحياة. قالت إنها تستطيعُ رؤيته هو الآخَر؛ إذ راودَتها رؤيةٌ لساقَي رجل؛ واحدة فوق الأخرى، وسرواله متجعِّد، وينقر بقدمه. كرَّرت صورة شخص قاسٍ ومتعنِّت وغير مُتسامح. ربما هكذا تتخيَّل الآباء البريطانيِّين، لكنني لم أتعرَّف عليها؛ وهنا بدأتُ أستاء من نفسي لاستمراري في خِذلانها.
انتقلت ماكروبرتس إلى رأسي، وراحت تضغط بأناملها على جبهتي وقاعدة جُمجمتي، وتُدلِّك خلف أذني. لست مُصابة بأي حالات جسمانية خطيرة، لكن ماكروبرتس شخَّصت أنني مُصابة بالخوف. إن صدرَكِ يجيش به، هكذا قالت لي. إنكِ تخشين أن تستسلمي، فيتداعى كلُّ شيء. هذا منطقي بعضَ الشيء؛ إذ بصفتي أمًّا عاملةً أشعر أن عليَّ المُواءمةَ بين أشياءَ كثيرة. أدعو هذا توترًا، لكن ماكروبرتس تقول إنه خوفٌ نابع من عدم تلقِّي الحب غيرِ المشروط وأنا طفلة.
سألتني إن كنتُ مُتزوجة. فأجبت بالنفي، لكنني أعيشُ مع صديقي. لم أذكر الأطفال لأنها لم تسأل، وإن كانت ماكروبرتس استطاعت بحقٍّ أن ترى هالتي؛ فإنها على ما يبدو لم تكشف لها عن هذا الجزء الأهمِّ من هُويتي (إذ أخبرتني فيما بعدُ أنها لا تتوقع رؤيةَ أطفال الشخص «إلا إذا كان هذا هو الجزءَ الذي يحتاج إلى علاج»). ونبَّهَتني إلى أن لديَّ مشكلاتٍ خطيرةً في علاقاتي أيضًا، وعليَّ اتخاذ قرار. يبدو أنني أُكرِّر أخطاءَ حياتي الماضية، وأستحقُّ أن أكون مع شخص يُحبُّني مهما يكُن الأمر. جعلَني هذا أتساءل ما إذا كانت قد اعتبرَتني امرأةً أنتظر دون جدوى أن يعرض عليَّ صديقٌ وضيعٌ الزواجَ لا أمًّا مستقرَّةً لطفلَين.
حان وقتُ المعالجة. راحت ماكروبرتس تُحرك يدَيها بهِمَّة لأعلى وأسفل فوق جسدي، قائلةً لي إنها تفتح قناةً للطاقة في أسفل عمودي الفقري لإطلاق الخوف والألم الذي كنت أختزنه. ثم نبَّهتني لتوقُّع «تحوُّل عميق في الوعي.» لا يهمُّ إن كنتِ تُصدِّقين ذلك أو لا، هذا ما قالته. فسوف يتولَّى جسدك المهمَّة.
•••
شرَعت في هذا الكتاب في المتنزَّه ذاتَ يومٍ صيفي، مُتسائلةً عما إذا كان من الممكن، بتسخيرِ طاقة العقل، أن تُقدم العلاجات البديلة شيئًا أغفله الطبُّ التقليدي.
وبعد اثنَي عشَر فصلًا، عرَفت كيف تتحكَّم أدمغتُنا في جوانبَ عديدةٍ من حالتنا الفسيولوجية، بما في ذلك الأدوات المُتاحة للجسم — من هرمونات ومسكِّنات طبيعيَّة إلى أسلحة جهاز المناعة — لتخفيف الأعراض ومقاومة المرض. بدلًا من الاستجابة للظروف المادية فحَسْب، رأيت كيف يستخدم المخُّ تصورنا لبيئتنا، بما في ذلك ذكريات الماضي وتوقُّعات المستقبل؛ ليُقرِّر أفضلَ سبيل لتخصيصِ موارده. من الممكن أن ينتهيَ تأثيرُ هذه العمليات في غضون ثوانٍ، أو أن تؤثِّر على حالتنا الفسيولوجية لسنواتٍ مُقبِلة.
نادرًا ما نستطيع تسخيرَ هذه الأدوات وَفقًا لمشيئتنا؛ فلا يُمكننا أن «نرغب» ببساطة في أن نكون أفضلَ حالًا. لكن كما جاء في هذه الصفحات، ثَمة طُرقٌ نستطيع بها استخدامَ عقلنا الواعي للتأثير عليها، من تصديقِ أننا تناوَلْنا حبةَ دواء، أو التركيز على اللحظة الراهنة، إلى التماسِ دعمٍ من شخص نُحبُّه.
في صميم جميع المسارات التي تعرَّفت عليها تقريبًا يوجد مبدأٌ توجيهي واحد؛ إننا إذا شعرنا بالأمان والرعاية والسيطرة — في لحظةٍ حَرِجة أثناء إصابة أو مرض، أو على مدار حياتنا عامةً — نصير أفضلَ حالًا. فإننا نشعر بألمٍ أقل، وإرهاقٍ أقل، وإعياءٍ أقل. ويعمل جهازُنا المناعيُّ لصالحنا بدلًا من العمل ضدَّنا. وبهذا تُخفِّف أجسامُنا من إجراءاتها الدفاعية الخاصة بحالات الطوارئ، وتستطيعُ التركيز على الإصلاح والنمو.
ما أهمية هذا للطبِّ البديل؟ لم تُقنعني جلستي للعلاج بالريكي بقوةِ مجالات الطاقة العلاجية (فضلًا عن الأشباح الصديقة). لكنني بعد أن تعرَّفتُ على شتَّى الطُّرق التي يستطيع بها العقلُ التأثيرَ على الجسد، صار بإمكاني أن أُدرك أنه حتى إن كانت علاجاتهم لا تُفلح على النحوِ الذي يزعمونه، ربما لا يزال المُعالجون أمثال ماكروبرتس يُقدمون مزيجًا قويًّا من العناصر العلاجية التي ذُكِرَت في هذا الكتاب.
علاوةً على توفير استشارةٍ فردية اتَّسمَت بالاهتمام مع الكثير من تأثير البلاسيبو، على سبيل المثال، أثارت ماكروبرتس حالة من الاسترخاء بدَت لي شديدةَ الشبه بالتنويمِ المِغناطيسي، مُشتملةً على إيحاءاتٍ إيجابية وتصوُّراتٍ بصَرية دراماتيكية. لم يحدث التحوُّل الموعود في الوعي، لكن أعتقد أنَّ منهجَها من الجائز أن يَحدَّ من التوتر ويُخفِّف من الألم بفاعليةٍ أكثرَ من العقاقير التقليدية، مع شخصٍ أكثرَ قابليةً للتنويم المغناطيسي وأكثر إيمانًا بأسلوبها.
إذن هل علينا أن نلجأ إلى الطبِّ البديل؟ وهل يجب أن نهتمَّ بالطريقة التي يُؤثِّر بها، ما دام له تأثير؟
إحدى المشكلات بالطبع هي أن المَرْضى الذين ينتهجون أساليبَ الطبِّ البديل لا يَحظَون دائمًا بنتيجةٍ إيجابية. أثناء إجراء الأبحاث من أجل هذا الكتاب، مثلًا، قابلت تونديه بالوج ذاتَ السبعة والثلاثين عامًا. إنها من أصولٍ مجَرية، وتعيش في أيرلندا مع زوجها وابنِها الشاب. وهي جميلة ذاتُ ملامحَ رقيقة ومعبِّرةٍ وشعر بنِّي ناعم؛ لكن في الداخل، يملأ الألمُ جسدها ويتفشَّى فيه المرض. قبل عام، كانت قد شُخِّصت بسرطان في ثديِها الأيمن. وقد رفضَت العلاج الطبيَّ التقليدي. قالت لي: «كنتُ مُعارِضةً بشدةٍ للأطباء والمستشفيات والممرِّضات. لقد عرَضوا عليَّ العلاجَ بالإشعاع. قد يُعطونني علاجًا كيماويًّا. أو يستأصلون ثديي. لم أرغب في فعل ذلك.»
لكنها لم تُشفَ من السرطان. في يناير ٢٠١٤، بدأت تُعاني من آلامٍ مُبرحة في المفاصل؛ فقد انتشر المرض في عِظامها. وتقول: «حين يُصيب السرطانُ عظامَك تشعر أنك بلا قيمة.» كانت تقف أمامَ مِرآةِ غرفة النوم كلَّ يوم وتردِّد: «إنني ذات قيمة. إنني أُحبُّ نفسي.»
مع حلول يونيو، كانت تونديه تَسير بصعوبة وتشعر بآلامٍ مبرِّحة. لكنها كانت مُقتنعةً كشأنها من قبلُ بأن الحلَّ يقبع بداخلها، وكانت لا تزال تبحث عن علاج. التقيت بها في لورد، حيث كانت في رحلة الحج نفسِها مثل روز وطفلَيها المُعاقين. كانت قد غسلَت ثديها بالماء المقدَّس، وزارت الكهف على كرسيٍّ مُتحرك، ولكن كان لا يزال يتعيَّن عليها الذَّهابُ إلى الحمَّامات. سألتها، لماذا أتيتِ إلى لورد، وهل تؤمنين بأن العلاج ينبع من الداخل؟ قالت ربما من أجل الاعتراف؛ لكونها هي مَن تسبَّبت في السرطان لنفسها. «ربما للتطهُّر من خطيئتي.»
من المهم أن نتذكَّر أنه لمجرد أنَّ للعقل دورًا في الصحة، فهذا لا يعني أن بإمكانه شفاءَ كلِّ شيء، أو الإقرارَ بغتةً بأي علاج قد يسخر العقل. عادةً ما تكون عاقبة سرطان الثدي جيدةً عند علاجه مُبكرًا، لكن يستعصي شفاؤه بمجرَّد أن ينتشرَ في العظام، كما في حالة تونديه. حين يرفضُ الناسُ العلاجات التقليدية من أجل العلاجات غيرِ المأمونة، قد تكون النتيجةُ أن يلقَوا حتفَهم.
ثَمة جهودٌ مُتزايدةٌ للدَّمج بين العلاجات التقليدية والبديلة، بدءًا من أفرادٍ من الأطباء المتخصِّصين في الطب العام مثل باتريشيا سينتي — التي تُقدم علاجاتٍ منها العلاج التجانسيُّ في عيادتها الخاصة — وحتى مستشفيات كبيرة. يُقدم مركزُ الرعاية التكاملية في جلاسجو الذي تُموِّله دائرة الصحة الوطنية تدخُّلاتٍ شموليةً مثل العلاج التجانسي والعلاج بنبات الهدال، على سبيل المثال، وفي الوقت ذاتِه يُمكن لمرضى السرطان في مركز ستانفورد للطبِّ التكاملي في الولايات المتحدة الحصولُ على العلاج بالإبر الصينيَّة التقليدي إلى جانب علاجهم الكيماوي. يُساعد هذا على ضمان ضبط العلاجات المقدَّمة، وكذلك حصول المرضى على الرعاية التقليدية التي يحتاجون إليها.
غالبًا سأريد ذلك. لكنني ما زلتُ مُنزعجةً قليلًا مما يبدو من تأييدِ أطباءَ تقليديِّين لإطاراتِ عملٍ تفسيرية من دونِ أساسٍ علمي، عند تقديمِ علاجاتٍ بديلة. إذ إنه يبدو لي اعترافًا بالهزيمة؛ إقرارُ أن هذه التفسيرات الغريبة تتمتعُ ببعض القوة التي لا يستطيع العلمُ فكَّ شفرتها. فهل من المُفاجئ إذن أن يبدأ الناسُ في الإيمان بمجالات الطاقة والهالات التي يُخبرهم المُعالجون بأنها مسئولةٌ عما يشعرون به من تحسُّن (ناهيك عن الأرواح المعالجة، أو الطب الألماني الحديث، أو أيِّ شيءٍ آخر يَستجِد)، أو أن يفقدوا الثقةَ في العقاقير واللقاحات التي مِن الممكن حقًّا أن تُنقِذ الحياة؟
•••
يُبين لنا العلمُ الموصوف في هذا الكتاب أننا كأفرادٍ لدينا القدرةُ على التأثير على صحَّتِنا، بتسخير قُوَى عقلِنا (الواعي وغيرِ الواعي)، بدلًا من وضع ثقتنا في طقوس وممارسات غامضة. إذا شعرتَ أن العلاجاتِ البديلةَ مُفيدةٌ لك، فلا أرى حاجةً إلى نبذِها، خاصةً عندما لا يُوفر الطبُّ التقليدي بعدُ نفس العناصر كلِّها. لكن عليك أن تنظر بعينٍ ناقدة إلى المشورة التي قد يُقدِّمها لك مُعالجو الطبِّ البديل. وامنح بعضَ الفضل لدماغك وجسدك. ليس التِّرياق أو الإبر أو التلويح باليدِ هو بالضرورة ما يجعلُك تشعر بتحسُّن. ضع في اعتبارِك احتمالَ أن تكون هذه مجردَ طريقة بارعة للَمسِ مَواطن البلاء، وتمكينِك من التأثير على حالتك الفسيولوجية بطريقة تُخفِّف من أعراضك وتحميك من المرض.
أما فيما يتعلق بالطب، فبدلًا من جلب العلاجات البديلة جملةً، يُجرب العديدُ من العلماء والأطباء الذين سمعنا عنهم نهجًا مختلفًا. إنهم بدلًا من ذلك يُريدون أن يفهموا المُكوناتِ الفعَّالةَ الحقيقية في هذه العلاجات (مثل التعاطف والدعم الاجتماعي والأمل)، وكيفية دمجها في رعايةٍ أفضل للمريض.
كما أننا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التجارِب السريرية للتوصلِ لما يأخذ بيد المرضى بحقٍّ في عالم الواقع. حتى في حالة أحد أكثر الأساليب المدروسة، وهو اليقظة الذهنية، على الباحثين أن يختبروا، على سبيل المثال، مما إذا كانت أكثرَ جدوى مع بعض الفئات السكَّانية دون أخرى، ونقاط قوَّتها مقارنةً بأفضلِ العقاقير المُتاحة للحالات المختلفة، وما إذا كانت فوائدُها تتعدَّى الجانب النفسي فتُقلل من الأثر البيولوجي للتوتُّر على الجسم، وتَحدُّ من خطر المرض على المدى الطويل.
إلا أننا رأينا بالفعل أمثلةً كثيرة لباحثين يستخدمون بعضًا من المبادئ الموضَّحة في هذا الكتاب لتغييرِ كيفية رعاية المرضى، بنتائجِ باهرة. من هؤلاء فيكي جاكسون، التي تُناقش المرضى الميئوسَ من شفائهم حول ما تَعنيه لهم الحياةُ الطيبة؛ وتيد كابتشوك الذي يصرفُ عقاقيرَ وهميةً صريحة؛ وإلفيرا لانج التي تُغير اللغة التي يستخدمها اختصاصيُّو الأشعَّة عند التحدث مع المرضى؛ وهانتر هوفمان الذي صمَّم عوالمَ افتراضيةً لإزالة الألم. كل هؤلاء يمزجون بين الرعاية الشمولية ونهجٍ دقيق في تناول الأدلة. وكلهم تمكَّنوا من تقليل الاتكال على العقاقير وغيرِها من التدخلات المادية، مع تحسينِ النتائج للمرضى.
تُقدِّم شبكةٌ مُتنامية من المباني في المملكة المتحدة باسم مراكز ماجي نهجًا مختلفًا جدًّا، لكنها لا تزال تسترشدُ هي الأخرى بأهميةِ مشاعر المريض. حيث إن الغرضَ منها أن تكون أماكنَ يرتادُها المُصابون بالسرطان من أجل الدعم العملي والعاطفي والاجتماعي؛ فهي تهدف قبل كلِّ شيء إلى «رفع الروح المعنوية». صمَّم المراكزَ مُهندسون معماريُّون رُوَّاد (منهم فرانك جيري وزها حديد) حتى تُوحيَ بالترحيب والراحة والأُنس والجمال، على النقيض من العديد من المستشفيات التقليدية. يُمكن للزُّوار التسامرُ مع المرضى الآخَرين، أو استشارةُ مُمرضةِ أورام أو اختصاصيٍّ نفسي، أو الحصول على نصيحة بشأن التغذية أو النقود، أو الجلوس في الحديقة مع كوبِ شايٍ فحسب.
•••
هذه هي النقطة التي أودُّ أن أستخلصَ عندها أننا بفضل مِثل هذه الدِّراسات والمشاريع نشهد ثورةً في الطب، حيث سنفهم قريبًا فَهمًا كاملًا دورَ العقل في الصحة، وسنرى الجوانب الإنسانية في الرعاية ليس باعتبارها رفاهيةً إضافية، وإنما مبدأً محوريًّا وتوجيهيًّا نحوَ تحسينِ نتائج المرضى. لكن لسوء الحظ، فإنَّ احتمالاتِ عدمِ حدوثِ ذلك كثيرة.
إنني أزعم أن المشكلة الكبرى هي تحاملٌ مُنتشر متأصِّل ضدَّ فكرةِ احتمالِ أن يكون للعقل قدرةٌ على الشفاء، أو الحفاظ على صحتنا. إن نظرة العالم المادِّية التي جاء وصفُها في مقدمة هذا الكتاب — التي تُعطي الأولوية لنتائجِ الفحوصات والتدخلات المادية، وترى الخبراتِ الذاتيةَ إلهاءً — لا تزال هي السائدةَ في العلم. (يتذكر سلون أنه حين أجرى دراسةً تُثبت أن بعض مرضى السرطان الميئوس من شفائهم في الرعاية التخفيفية يُقيِّمون جودة حياتهم بنفسِ مستوى أشخاصٍ أصحَّاء، كان ردُّ الفعلِ الأولُ للمُراجِعين هو أن «المريض مُخطئٌ حتمًا.») إن تجاهُلَ الخبرات الذاتية شيءٌ رائعٌ إذا كنت تُحاول استبعاد التحيُّز من تَجارِبك العِلمية، لكنه ليس دومًا مُفيدًا عند رعاية المرضى، حين تكونُ الصحة النفسية والجسدية مُتشابكتَين تشابكًا يتعذَّر فصله.
إن الطب الغربي مدعومٌ (بحقٍّ) بالعلم والأدلة المثبَتة بالتجارِب، و«يشعر» العديد من واضعي القرارات السياسية والمموِّلين أن التدخلات أكثرُ علميةً مما تبدو عليه المقارباتُ العقلية الجسدية. يَحْظى باحث الإلكترونيات البيولوجية كيفين تريسي الآن بملايينِ الدولارات من التمويل الخاصِّ والعام لمواصلةِ فِكرته بشأن تحفيز الجهاز العصبي بالكهرباء، رغم أن أكبرَ دراسةٍ أجراها على البشر، حتى لحظةِ كتابتي لهذه السطور، كانت على ثمانيةِ أشخاص. على النقيض، لا يستطيع اختصاصيُّ الجهاز الهضمي بيتر هورويل إقناعَ وكالات التمويل المحلية بدفعِ المال لمرضاه المُصابين بمتلازمة القولون العصبي؛ للحصول على علاجٍ بالتنويم المغناطيسي موجَّهٍ للأمعاء، رغمَ عقودٍ من التجارِب الإيجابية على مئات المرضى.
هذه المقاومة المتأصِّلة للتدخُّلات العقلية الجسدية هي شيءٌ سمِعته مِرارًا وتَكرارًا أثناء بحثي من أجل هذا الكتاب. حتى حين يتيسَّر التمويل للعلماء، فإنهم كثيرًا ما يضطرُّون إلى مجابهة الثقافة المحيطة في المستشفيات والجامعات لمجردِ إجراء تجرِبة.
في نظامٍ طبيٍّ قائمٍ على الأدلة المُستقاة من نتائجِ التجارِب، نجد الطبَّ في نهاية المطاف يعتمد على التجارِب التي تُجرى. لذلك ربما ليس من المستغرَب أن ثَمة جهدًا ضئيلًا في الطب الغربي لرعاية المواردِ النفسية للمرضى واستغلالها. على الرغم من النوايا الطيبة لمُمارسي الطب، فإنهم يعمَلون ضِمن نظام يُعطي الأولوية للتقنية الطبية، ويُفسح مجالًا مُتضائلًا للنواحي الإنسانية من الرعاية.
مما لا شك فيه أن التدخلاتِ المادية — من العقاقير وحتى جِراحة القلب — بالغةُ الأهمية. حين أُصيبَ طفلي الرضيعُ بعدوى في الرِّئة، من المحتمل جدًّا أن يكون المضادُّ الحيوي الذي تلقَّاه هو ما أنقَذ حياته، ولم أهتمَّ كثيرًا بمعاملة الطبيب له. إن القدرة على علاج ومنع عدوى الأطفال، على وجه الخصوص، هي هِبةٌ نحن الذين في البُلدان المُتقدمة الآن، محظوظون بها، لدرجةِ أننا نعتبرُها من الأمور المُسلَّم بها.
لا تشمل هذه الإحصائياتُ الآثارَ الجانبية والمضاعَفاتِ المتوقَّعة للأدوية والتدخلات (التي قد لا يحتاج الناس إلى العديدِ منها عندَ اتباعِ نموذجٍ مختلف من الرعاية، كما رأينا في الفصل السابع)، ولا المشكلاتِ الكبرى الناجمةَ عن إساءةِ استهلاكِ عقاقيرِ الوصفات الطبية، على سبيل المثال، ولا ارتفاعَ مقاومةِ المضادات الحيوية. إن الولايات المتحدة هي أغنى دولةٍ في العالم، لكنها حتى مع إنفاق تريليونات الدولارات لا تستطيعُ أن تتساوى في متوسطِ العمر المتوقَّع مع دولةٍ متوسطةِ الدخل مثل كوستاريكا.
إنني لا أدعو إلى الاعتماد على العقل وحدَه لعلاجنا، لكن لا شكَّ أن إنكارَ دوره في الطبِّ ليس الحلَّ أيضًا. ما أرجوه إذن هو أن يُساعد هذا الكتابُ على التغلب على بعضِ التحامل ضدَّ المقارَبات العقلية الجسدية، وعلى رفعِ الوعي بأنَّ مُراعاة العقل في مجال الصحة هو في الواقع نهجٌ عِلمي قائمٌ على أدلةٍ أكثرَ من الاتكال بدرجةٍ أكبر على التدخلات الماديَّة والعقاقير.
ربما يُساعد هذا الوعيُ يومًا ما على أن يؤدِّيَ بنا إلى نوع من الطب يدمج بين الأفضل في التوجُّهَين؛ طب يستخدم عقاقيرَ وتقنياتٍ تُنقذ الحياةَ عند الحاجة إليها، لكنه يُساعدنا أيضًا على الحد من احتمال الإصابة بالمرض والسيطرة على أعراضنا حين نعتلُّ، ويرعانا حين لا يكون ثَمة علاج، ويُتيح لنا الموتَ بكرامة. إنني آمُل أن يحترم ذلك النظامُ الطبي المرضى باعتبارهم شُركاءَ على قَدمِ المساواة، لمعتقَداتهم ومشاعرهم واختياراتهم أهميةٌ في رعايتهم، وألا يَصمَ بعد الآن أولئك الذين يُعانون من أعراضٍ ليس لها تفسير، وأن يُدرك أن الغالبية العظمى من المشكلات الصحية التي نُواجهها ليست جسديةً أو نفسية، وإنما ناتجةٌ عن كِلا الأمرَين.
إن مشكلات الطب الحديث عميقةُ الجذور، ومن الواضح أنها لن تُحَل كلُّها بالعلاجات العقلية الجسدية. لكن محاولة تحسين النتائج الطبية بمعاملة المرضى على حقيقتهم باعتبارهم بشَرًا معقَّدين، وليسوا مجرَّدَ أجسادٍ مادية، تبدو لي بدايةً موفَّقة.
•••
إن الآثار المترتِّبة على قَبول دور العقل في الصحة تتجاوزُ الطب بالطبع. وأرى أن أحدَ أكثرِ الأمور التي كشف عنها البحث المذكور في هذا الكتاب إثارةً للدهشة — والصدمة — أنَّ ضغوط الفقر وعدم المساواة تُحدد إصابةَ قِطاعات كبيرة من السكان بأمراضٍ مُزمنةٍ مدى الحياة منذ نعومةِ أظفارِهم. من الصعب الاختلافُ مع الباحثين الذين يُدافعون عن السياسات الاجتماعية التي تهدفُ إلى الحدِّ من أوجُهِ عدم المساواة تلك، ولا سيَّما إلى دعم النساء المُعوِزات في سن الإنجاب. من ناحيةٍ أخرى، في الطرفِ الآخر من العمر المتوقَّع، تُشير مشاريعُ مثل «فيلق الخبرة» إلى إمكانية وضع الشيخوخة في إطارٍ جديد بحيث تكون مَوردًا لا عبئًا.
لكن ثَمة حِكمة أخرى تنبع من فهم الروابط بين العقل والجسد. لقد احتفظتُ بها حتى النهاية لأنها لا تتعلق بالصحة أو الطبِّ أو المجتمع فحسب، ولكن بشيءٍ أكثرَ جوهرية. فهي تُخبرنا شيئًا عن معنى أن نكون بشرًا.
في نهاية المطاف، يقول العلم إننا لا نعيش تجرِبةَ العالم من حولنا بسلبية، كما يفترض معظمُنا، وإنما نبني التجرِبةَ تلك ونتحكَّم فيها إلى حدٍّ كبير. يقول باحث البلاسيبو تيد كابتشوك: «إن أجسادنا ليست مجردَ مستقبِلات للمعلومات. إننا نُشكِّل المعلومات.» إنه أمرٌ ما زال علماء النفس وعلماء الأعصاب يكتشفونه في مجالاتٍ أخرى، مثل الذاكرة والرؤية. إن الذكريات ليست تسجيلاتٍ مطابقةً للأصل، ولكنها نُسَخ متغيِّرة نُعدِّلها ونُعيد كتابتها كلما استدعيناها، في حين يعتمد إدراكُنا للألوان والأشكال اعتمادًا كبيرًا على خبراتنا السابقة وما نتوقَّع رؤيته.
من الجليِّ الآن أن هذا المبدأ يَسْري على الصحة أيضًا؛ فأفكارنا ومعتقَداتنا ومستويات توتُّرنا ورؤيتنا للعالم كلُّها تؤثِّر على درجة شعورنا بالمرض أو العافية. وكما أخبرنا تيم نوكس الباحث في مجال الإنهاك في الفصل الرابع: «لسنا بحاجةٍ إلى تصديق ما يقوله مخُّنا.»
ما زلنا، بعد ٤٠٠ عام تقريبًا من فصل ديكارت بين العقل والجسد، نَميل إلى التفكير في أنفُسِنا باعتبارنا كائناتٍ منطقيةَ التفكير وعقلانية، ذاتَ عقولٍ بالغة التطوُّر تُتيح لنا السُّموَّ فوق طبيعتنا البيولوجية الحيوانية. لكن الأدلة تُظهر شيئًا مختلفًا جدًّا؛ وهو أن أجسادنا وعقولنا تطوَّرَت في تناسقٍ بالغ، واندماجٍ تامٍّ، حتى إنه يستحيل تأمُّلُ أحدها دون الآخَر. كثيرًا ما يُستهزَأ بمصطلحاتٍ من قَبيل «عقلي-جسدي» و«شمولي» باعتبارها شاذَّةً وغيرَ عِلمية، لكن في الواقع الفكرة القائلة بأن العقل مُنفصلٌ عن الجسد، كِيان مؤقَّت يُحلق في مكانٍ ما في الجمجمة كأنه شبح أو روح، هي التي ليست منطقيةً عِلميًّا.
هذا الاندماج معناه أننا لسنا دائمًا موضوعيِّين وعقلانيين كما قد يحلو لنا أن نعتقد. حيث إن التطورَ هو الذي شكَّل عقولنا وكذلك أجسادنا، فإننا مجبولون على اعتناقِ المعتقَدات التي تُحافظ على صحتنا وبقائنا، وهي ليست بالضرورة صحيحةً. ثَمة قُوًى تطوريةٌ قوية تدفعنا إلى الإيمان بالرب، أو بعلاجاتِ المُعالِجين المُتعاطفين معنا، أو إلى الاعتقاد بأنَّ لدينا فُرصًا أكثرَ إيجابيةً مما هي عليه. المفارقة أنه رغم أن تلك الاعتقاداتِ قد تكون خاطئة، فهي تُفلح أحيانًا؛ إذ تجعلُنا أفضلَ حالًا.
بفَهم كيف تؤثرُ عقولنا على حالتنا الفسيولوجية وتعكسها، ربما نستطيع أخيرًا أن نحلَّ تلك المفارقة، وأن نعيش في انسجامٍ مع أجسادنا بأسلوبٍ قائم على الأدلة، وليس الوهم.