الفصل السادس

إعادة النظر في الألم

نحو الأخدود الجليدي

أخذتُ أتهادى بتؤدةٍ عبرَ أخدودٍ جليدي مُتلألئ. كانت الجُدران شفَّافة، وبالأسفل امتدَّ شريط من المياه الزرقاء. جثَمَت بطاريقُ على الرفوف الجليدية على جانبيَّ، تلوح بزعانفها، وتماثيلُ ثلجية على هيئةِ رجال رُسِمت على وجوههم ابتساماتٌ بالفحم. رُحتُ أرشقهم بكُرات الثلج، وحين كنت أُصيبهم إصابةً مباشرة كانوا ينفجرون في زخَّة من الشظايا المثلَّثة الشكل، تاركين وُجوهَهم الباسمة في الهواء مثلَ صفٍّ من قطط شيشاير (قط قصة «أليس في بلاد العجائب» المشهور بابتسامته المُميزة) متجمِّدةً. في الخلفية، تردَّد صوتُ بول سايمون وهو يُغنِّي: «يمكنك أن تدعُوَني آل.»

نظرتُ لأعلى حيث رُقاقاتُ ثلجٍ وسماءٌ حالكة، ولأسفل إلى المياه، ثم دُرْت. لكنني بالأحرى تركتُ نفسي أنجرف إلى الأمام. كان توجد جسورٌ جليدية ينبغي الانتباهُ إليها، تحملها بعضُ الأكواخ الثلجية اللامعة. شرع رجال الثلج يردُّون برَشقي بكُرات الثلج؛ لذلك توقَّفت بعد بُرهة عن إصابة الرجال، واستهدفتُ قذائفَهم بدلًا من ذلك؛ مما أدَّى إلى صدامات لا بأس بها في الجو.

أثناء تحليقي عند مُنعطَف رأيتُ عائلةً من حيوانات ماموث يكسوها الصوف، ذاتَ أنيابٍ ضخمة مقوَّسة، واقفةً بالأسفل في الماء الذي وصَل حتى رُكبِها. أطلقتُ كرةَ ثلج على أحدها، فأطلق صوتًا كنفخةِ بوق. ثم ظهرَت بعضُ الأسماك الطائرة، ذاتُ لون أزرق فِضي، تاركةً أثرًا من رُقاقات الثلج وهي تتقافز مع التيَّار.

في لحظاتٍ مختلفة أثناءَ نُزولي الأخدود، انتبهتُ قليلًا لشيءٍ ما يحدُث لقدميَّ. كان ثَمة وخز، ثم شيءٌ أعتقد عند التمعُّن أنه قد يكون ألَمًا حارقًا. لكن ذلك يمكن أن يحدُث في عالمٍ آخَر، لا علاقة له بهذا الأخدود الساحر، ولا يمكن أن أزعج نفسي بالتركيز عليه الآن. ما يُهمُّني أكثرَ هو ما إذا كنتُ أستطيع جعل حيوانات الماموث تلك تنفجر.

•••

في عام ٢٠٠٨، أُرسِل المُلازم سام براون في أُولى مهمَّاته العسكرية، في قندهار بأفغانستان. عند الغسَق في آخِر يوم من مهمَّته، جاء اتصالٌ من فصيلةٍ قريبة قيل فيه إنهم واقعون في كمين. قاد براون رجالَه عبر الصحراء للمساعدة، لكن في الطريق اصطدمَت عرَبتُه الهمفي بقنبلةٍ زُرِعَت على جانب الطريق.1

رأى سام وميضًا ساطعًا حين ارتفعَت المركبة المدرَّعة في الهواء، وبعد ثوانٍ، صارت كومةً مُلتوية من الحُطام. لا يتذكَّر كيف خرج منها، لكن النار كانت مُشتعلةً في جسده. ظن أنه سيظلُّ يحترق حتى الموت بجوار حفرة الانفجار، لكنه بمساعدةِ جنديِّ المدفعيَّة التابع له، أخمدَ ألسِنةَ اللهب بحفناتٍ من الرمل. لكن بحلول الوقت الذي كانا قد أطفَآ فيه الحريق، كان كُمَّا زيِّه الرسمي قد احترقا، وزال الجلدُ عن جسده ووجهِه ويدَيه. كان لحمُه المتبقِّي إما أحمرَ مسلوخًا أو أسودَ مُتفحمًا.

أخيرًا نُقِل براون جوًّا إلى مركز بروك الطبي العسكري في سان أنطونيو، بتكساس. كان مُصابًا بحروقٍ من الدرجة الثالثة في أغلب جسده. تُدمِّر حروقُ الدرجة الثالثة، التي يُشار إليها أيضًا بالحروق الكاملة الثَّخانة، جميعَ طبقات الجلد. وقد ظل الأطباءُ يُخدرونه أسابيعَ بينما كانوا يُزيلون الجلد من ظهره وكتفَيه لتغطيةِ الأجزاء الأسوأ حالًا. أفاق على سلسلةٍ من العمليات الجِراحية الأخرى، منها بترُ سبَّابته اليُسرى. لكن أصعب شيء كان تجشُّم الجلساتِ اليومية التي كانت المُمرضات تكشط فيها النسيجَ الميت من جروحه المكشوفة. كان ذلك شبيهًا بالتعرُّض للحرق مرةً أخرى.

لاحقًا حين بدأتْ حُروقه تُشفى، كان بحاجةٍ إلى علاجٍ طبيعي يومي، وهو ما تبيَّن أنه كان أكثرَ إيلامًا. فنسيجُ الندبات في الجروح المُمتدَّة مِثل جروح براون غالبًا ما يثخن ويتقلَّص. ولضمانِ أنه سيظلُّ قادرًا على الحركة بحرِّية بعد أن تلتئمَ حُروقه، كان مُعالجوه يضطرُّون إلى المبالغة في تحريكِ جسده وأطرافه؛ مما كان يُمدد نسيجَ الندوب ويُمزقه أثناء تكوينه.

في الولايات المتحدة، يزور غُرفَ الطوارئ سنويًّا نحوُ ٧٠٠٠٠٠ شخص لعلاج الحروق، ومنهم ٤٥٠٠٠ تقريبًا يُدخَلون إلى المستشفى.2 لمساعدتهم على اجتيازِ إنهاك رعاية الجروح وجلسات العلاج الطبيعي، يُعطَون عقاقيرَ أفيونية بأعلى الجرعات المستخدَمة في الطب. إلا أن الكمية التي يستطيع الأطباءُ إعطاءها محدودةٌ بسبب أعراضها الجانبية، التي تتراوحُ ما بين الحكَّة وعدم القدرة على التبوُّل وفقدان الوعي والموت. وحتى مع أعلى الجرعات الآمِنة، يظلُّ كثير من المرضى يشعرون بآلامٍ رهيبة. كما أن تناوُل العقاقير الأفيونية طيلةَ شهور يُعرِّضهم لخطر الإدمان.

حاوَل براون باستماتةٍ تقليلَ جرعات العقار الذي كان يتناوله. كان يجدُ العلاج الطبيعيَّ غيرَ مُحتمل بالمرة، حتى إن رؤساءه كانوا أحيانًا يضطرُّون إلى أن يأمُروه بالخضوع للعلاج. لكن كان أكثر ما يخشاه أن يَصير مُدمنًا. ثم سُئل إن كان يرغب في الاشتراك في تجرِبةٍ بحثية رائدة.

•••

لا يوجد نقصٌ في المسكِّنات في مجال الرعاية الصحية. فلدينا أقراصٌ تُصرَف بلا وصفاتٍ مثل الأسبرين والإيبوبروفين، ومخدِّرات قوية مثل المورفين والكودايين، ومسكِّنات مثل الكيتامين. ومُضادات اكتئاب ومُضادات للتشنُّج وكورتيكوستيرويدات يمكن استخدامُها كلها لتسكين الألم. ويستطيع الأطباءُ تخديرَ بُقعةٍ صغيرة من الجلد، أو الجسم بأسْرِه، أو تغييبَ وعي المريض تمامًا. لكن للأسف لم تقضِ أيٌّ من هذه الوسائل التي نملكها على الألم في الطِّب. بل لم تَدنُ حتى من ذلك.

الألم مشكلةٌ بوجهٍ أخصَّ لدى الناس الذين يخضعون لتدخُّلات وإجراءات طبيَّة يتحتَّم عليهم أن يظلُّوا مُستيقظين أثناءها، مثل العناية بالجروح في حالة الحروق كما في حالة براون، على سبيل المثال، أو في جراحة ثَقْب المِفتاح (مِنظار البطن)، التي تحلُّ على نحوٍ مُتزايد محلَّ الجِراحات المفتوحة في كل شيء من الخزعات والاختبارات التشخيصيَّة إلى غَرْز أجهزة طبية وتدمير الأورام. وكما يظهر من حالة براون، فإن مسكِّناتِ الألم وحدها لا تكفي غالبًا، وتترك حتى المرضى المخدَّرين في ألمٍ شديد.

كما أنه يوجد ملايينُ الناس الذين يُعانون من آلامٍ مُزمنة، في حالاتٍ تتفاوتُ من التهاب المفاصل إلى الالتهاب العضلي الليفي. وقد زادت بشدةٍ على مدار العَقدَين الماضيَين كميةُ العقاقير شِبه الأفيونية مثل الأوكسيكونتين — وهي معادلاتٌ صناعية للإندورفينات الضالعة في تأثير البلاسيبو — التي تُوصَف لمِثلِ هذه الحالات. في الماضي كانت توجد عقاقيرُ يُطلَق عليها عقاقيرُ الملاذ الأخير، التي لا تُستخدم إلا في الحالات الشديدة مثل السرطان في المراحل المُتأخرة. لكنها الآن تُوصَف بصفةٍ مُنتظمة للمرضى الذين يُعانون من آلامٍ خفيفة ومتوسطة، الذين قد يصل بهم الأمر في النهاية إلى تَعاطيها شهورًا أو أعوامًا.

تكمنُ المشكلة في أن هذه البدائلَ الصناعية، على عكس الإندورفينات الطبيعية التي في المخ، تغمرُ مُستقبِلات أشباه الأفيون في المخ. واستجابةً لذلك، تصير المستقبلاتُ أقلَّ حساسيةً للعقار. ويصير لدينا تحمُّل، ونحتاج إلى جرعاتٍ أكبرَ فأكبر لتُحدِثَ المفعول نفسَه. وهذا يعني أيضًا أن العقاقيرَ تُسبب الإدمان إلى حدٍّ رهيب. وعندما يمتنعُ الناس عنها يُعانون أعراضَ انسحابٍ بشعةً، منها التوتُّر والحسَّاسية المُفرِطة للألم؛ لأن مُستقبلاتهم التي صارت غيرَ حسَّاسة لم تَعُد تستجيب للإندورفينات الطبيعية كما ينبغي لها.

أدَّت زيادةُ الوصفات الطبية إلى ارتفاعٍ كبير في إدمانِ أشباه الأفيون والجرعات الزائدة القاتلة التي وُصِفت بأنها «واحدةٌ من المآسي التي تتكشَّف في عصرنا.»3 إنها مشكلة بالأخصِّ في الولايات المتحدة، التي تُشكِّل ٥٪ من سكان العالم، لكنها تستهلك ٨٠٪ من مخزون العالم من العقاقير شِبه الأفيونية التي تُباع بوصفةٍ طبية.4 بحلول عام ٢٠١٢، كان ١٥٠٠٠ أمريكيٍّ يموتون سَنويًّا جرَّاءَ جرعاتٍ زائدة من أدوية صُرِفت وصفاتٍ طبيَّةً، وهم أكثرُ ممَّن يموتون بسبب الهيروين والكوكايين معًا.5 وفي عام ٢٠١٣، وصَفَت مراكزُ مكافحة الأمراض والوقاية منها (سي دي سي) في الولايات المتحدة الأمريكية إدمانَ المسكِّنات بأنه أسوأُ وباءِ مُخدِّرات في تاريخ الولايات المتحدة.6

وهذا يُثير تساؤلًا هو هل نتعامل مع الألم بطريقةٍ خاطئة كلِّيةً؟ بدلًا من وصفِ معدَّلاتٍ مُتزايدة من المسكِّنات المسبِّبة للإدمان، يزعم بعض الباحثين أنَّ ثمة سبيلًا آخَر. إنهم يُسخِّرون قوة التخيُّل لتقليل استخدام العقاقير وتخفيف آلامنا.

•••

حين وصلتُ إلى مُختبَر تجارِب الألم في المركز الطبي لجامعة واشنطن في سياتل، استقبلَتني مساعدةُ شئون البحوث، كريستين هوفر. وطلبَت مني أن أخلعَ فردة حذائي اليُمنى وجَوربي، ثم لصقت عُلبةً سوداءَ صغيرة بجلد قدمي. أوضحَت لي أنها مُصمَّمة لإحداث الألم بأن ترتفعَ حرارتها بسرعة. من المُعتاد أيضًا أن تعرض هوفر مُتطوِّعيها لصعقاتٍ كهربائية متكرِّرة، لكن لحُسن حظي لم يكن ذلك الجهازُ يعمل يومها.

شغَّلَت العلبة لمدة ثلاثينَ ثانية، ثم طلبَت مني إعطاءَ درجةٍ للألم على مقياسٍ من واحدٍ إلى عشَرة. ثم أخذَت ترفع الحرارة، بزياداتٍ قليلة تُقدَّر بنصف درجة، مُنتظرةً أن تقترب الاستجابة من نصف المقياس. وأخيرًا أعطيتُ ستَّ درجات من عشَرة لكلٍّ من حِدَّة الألم والكدَر. كان شعورًا لاسعًا حارقًا، لا يصل إلى درجة ترك فقَّاعة، لكنه حادٌّ ويستحيل تجاهُله. كانت هذه هي درجةَ الحرارة التي ستستخدمها هوفر في التجرِبة.

ألبسَتْني نظَّارةَ واقع افتراضي تعرض صورًا ثلاثيةَ الأبعاد عاليةَ الدقة، وسماعاتٍ مانعةً للضوضاء ذاتَ صوتٍ مُجسم. وفجأةً أصبحتُ طافيةً وسط الثلوج، أشاهد بإعجاب جدرانًا لامعة لأخدودٍ من الجليد. أرَتْني هوفر كيف أتجوَّل وأقذف كُرات الثلج بفأرة كمبيوتر. كانت تصميماتُ الجرافيك لطيفةً لكنها لم تكن شديدةَ الواقعية، لا سيَّما بمعايير العديد من ألعاب الفيديو في وقتنا الحاضر. لكنها تتميزُ بخاصيةٍ جعلَتني أستغرق فيها كما لم أشعر من قبلُ قط. فكلُّ المناظر والأصوات الصادرة من العالم الخارجيِّ كانت محجوبة، وحين نظرتُ حولي، امتدَّ العالم الافتراضي من فوقي ومن تحتي ومِن خلفي. على الرغم من كرتونيةِ المشهد، فقد شعرتُ بأنني بداخله.

أمضيتُ عشرَ دقائق مع رجال الثلج والبطاريق، شغَّلَت هوفر أثناءها العلبةَ الحرارية ثلاثَ مرَّات. ثم طلبَت مني بعد ذلك إعطاءَ درجات للتجرِبة مرةً أخرى. وقد انخفضَت درجةُ حِدة الألم قليلًا، من ستةٍ إلى خمسة (لكن كانت كلُّ مرة بمثابةِ وخزٍ وجيز وليس مثلَ الألمِ الممتدِّ الذي عانيتُه من قبل). كذلك تراجَعَ الكدرُ الناتج عن الألم من ستِّ درجات إلى اثنتَين. وجعلتُ درجةَ استمتاعي بالتجرِبة عامةً ثمانيةً من عشَرة، فقد كانت مُمتعة جدًّا، وأودُّ أن أُجربها مرةً أخرى.

يقول طبيبُ التخدير، سام شرار، الذي يُدير هذا المختبَر، إنَّ المسألة برُمَّتها تتمحور حولَ الانتباه. فالمخُّ لديه قدرةٌ محدَّدة على الانتباه الواعي. وقال لي إننا لا نستطيع أن نَزيدها أو نُقلِّلها، لكنْ بوُسعنا أن نختارَ ما نُوجِّه إليه انتباهَنا. إذا ركَّزنا على إحساسٍ بالألم، سيَزيد شعورُنا بذلك الألم. لكن إذا فكَّرنا في شيءٍ آخَر — شيء آمِن ومُبهج وبعيد — سيخفت الألمُ الذي نشعر به.

الصور المرئيَّة هي شكلٌ فعَّال جدًّا من أشكال الإلهاء. عرَض شرار عليَّ فيديو للرحَّالة آرون رالستون — الذي اضطرَّ إلى بَتْر ذراعه بسكين جيب بعد أن حُوصِر خمسةَ أيام في أخدودٍ ناءٍ في يوتاه عام ٢٠٠٣ — واصفًا فيما بعدُ كيف ساعَدَته الصورُ الذهنية على اجتياز مِحنته.7

في ليلته الخامسة في الأخدود، كان رالستون يرتعدُ من البرد، ويُكابد جفافًا شديدًا وألمًا مبرِّحًا من ذراعه التي انسحَقَت أسفلَ جُلمودٍ سقط عليها. كان مُدرِكًا أنه سوف يهلك. ثم شاهَد رؤيا حجبَت الظروف المؤلِمة التي أحاطت به. يحكي رالستون قائلًا: «كان هناك صبيٌّ صغير في الثالثة من العمر تقريبًا. كان يرتدي قميصًا أحمرَ، ويلعب بشاحنة لعبة، محرِّكًا إياها، وهو يُصدِر بعض الجلَبة التي كان يُحاكي بها صوتَ المحرِّك.»

واستأنف حكايته قائلًا: «ثم توقَّف، ونظر وراءَه، وجاء راكضًا نحوي، واستطعتُ أن أرى نفسي وأنا أرفع الطفلَ الصغير وأضَعُه على كتفي، حيث أخذ كلٌّ منا ينظر في عينَي الآخَر مباشرةً. وعرَفتُ أنني كنتُ أرى وجهَ ابني المستقبلي. ثم انطمسَت تلك الرؤيا وعُدت إلى الأخدود، أرتعدُ جرَّاءَ ذلك الانخفاضِ في درجة حرارة جسمي.»

يستمرُّ رالستون في الحديث قائلًا إن تخيُّلَ أحبَّائه ساعَدَه على تحمُّل ألم قطع ذراعه. «وأنا أقطعها شعرتُ بأسوأ ألم عِشتُه في حياتي على الإطلاق. ظللتُ طيلةَ ثلاثين ثانيةً لا أملك سِوى أن أُغمض عينيَّ وأتنفَّس. لكنني لم أتأوَّه، ولم أذرف دمعة، ولم أبكِ قط. وليس ذلك لأنني إنسانٌ خارق. لكن لأنني حين فتحتُ عينيَّ، كان كلُّ ما استطعت التفكيرَ فيه، كل ما استطعت تخيُّلَه، هو رؤية أسرتي مرةً أخرى.»

في حالة رالستون، كان العالم الذي تصوَّره في رأسه — صور أسرته وابنه المستقبَلي الذي تخيَّله — هو ما ساعده على تركيزِ انتباهه بعيدًا عن ألم مِحنته البشعة. قال لي شرار إن الأخدودَ الجليدي الافتراضي الذي دخلتُه الآن هو محاولةٌ لخلقِ الأثرِ نفسِه لكن اصطناعيًّا.

إنه من بَنات أفكار هانتر هوفمان، اختصاصي علم النفس السلوكي في جامعة واشنطن، المتخصِّص في بِناء العوالم الافتراضيَّة. في الثمانينيَّات، كان هوفمان قد أنتج لتوِّه «عالم المطبخ»، وهو مطبخٌ افتراضيٌّ مجهَّز بأسطحٍ وخزائن، وكذلك أغراض يُمكن حملُها، مثل إبريق شاي ومحمصة خبز ومِقلاة، وعنكبوت بسيقان تتلوَّى في الحوض. كان هوفمان يأمُل أن يُساعد الناس الذين يُعانون من رُهاب العناكب، بمنحهم مكانًا آمِنًا للاعتياد على مخالطة العناكب.

ثم سمع من صديق عن عملِ ديفيد باترسون، عالم النفس الذي يستخدم التنويمَ المغناطيسيَّ لتخفيف آلام مَرْضى الحروق في مركز هاربورفيو الطبِّي التابع لجامعة واشنطن، والكائن في سياتل هو الآخر. اعتقد الصديقُ أن التقنية قد تكون ذاتَ صلةٍ ما بالإلهاء. فقال هوفمان وأنا لديَّ إلهاءٌ له، وبدأ الاثنان العملَ معًا؛ لِيَريا إذا كان بإمكان الواقع الافتراضي (في آر) مساعدةُ المرضى الذين يخوضون بعضَ أكثرِ الإجراءات إيلامًا في الطب. بدآ بوضعِهم في عالم المطبخ. ويقول هوفمان: «أفلح الأمرُ مع أول طفل.» لذلك شرَع في تصميمِ عالَمٍ افتراضي لمرضى الحروق فقط.8

آنَذاك كان تصميمُ عالم افتراضي من أيِّ نوع هو ذروةَ التقدُّم التكنولوجي. وقد استخدم هوفمان جهازَ كمبيوتر خارقًا من صُنع شركة «سيليكون جرافيكس»، تكلَّف ٩٠٠٠٠ دولار يشتمل على خوذةٍ ثقيلة، وجعل مشهدَه الجديد قائمًا على بَرنامَج يُحاكي الطيران الحربيَّ يعرض نموذجًا لطائرةٍ نفَّاثة مُقاتلة تُقلِع من حاملة طائرات. وكان بحاجة إلى القليل من التعديلات. إذ يقول لي: «لقد كنَّا في غاية القلق من دوار جهاز المُحاكاة. فالكثير من مرضى الحروق ينتابهم الغثيان من عَقاقيرهم المسكِّنة. لقد تأكَّدتُ منذ المريضِ الأول أن العالم الافتراضيَّ لديه إمكانيةُ الإلهاء عن الألم، لكنني خشيتُ أن يكون الغثيان عَقبةً.» لذلك فقد قلَّص التضاريسَ إلى أخدودٍ ضيق؛ لإثناء الناس عن تغييرِ الاتجاه أو الدوران في حلقات. وبَناه من جليدٍ يبعث على الاسترخاء. وأسماه عالمَ الثلوج.

مرَّ عِشرون عامًا ولا يزال جوهرُ عالم الثلوج على ما هو عليه. لكن الكمبيوتر الخارقَ والخوذة استُبدِلا بكمبيوتر محمول ونظارةٍ عاليةِ الدقة (فالخوذات لا تُناسب المُصابين بحروقٍ في رءوسهم ووجوههم). كان هوفمان قد صمَّم نظَّارةً بدون كهرباء ذاتَ ألياف ضوئية، تحمل الإشاراتِ في ١٫٦ مليون ليفة زجاجية صغيرة لكلِّ عين من العينَين، حتى يُمكنَ استخدامُها في أحواض المياه أثناءَ تقشير حروق المرضى. وكذلك طوَّر تصميماتِ الجرافيك، وغيَّر الموسيقى التصويرية. يقول هوفمان مُوضحًا إن بول سايمون (موسيقيٌّ أمريكي شهير) جرَّب عالم الثلوج ذاتَ مرة في أحد العروض. وقد راقَ له، لكنه لم يُحبَّ الموسيقى ذاتَ الوقع السماوي الفضائي التي كانوا يستخدمونها؛ لذلك تبرَّع بأغنيته.

كذلك أجرى فريقُ جامعة واشنطن سلسلةً من التجارِب المضبوطة العشوائية على متطوِّعين أصحَّاء (باستخدام عُلبة هوفر الحرارية والصدمات الكهربائية) وعلى مَرْضى الحروق في مركز هاربورفيو. وقد اكتشفوا أن عالمَ الثلوج أكثرُ نفعًا إلى حدٍّ ملحوظٍ من أشكالٍ أخرى من الإلهاء مثل الموسيقى وحدَها، أو ألعاب الفيديو. ويبدو أن العنصر المهمَّ هو مَدى شعورِك بالانغماس في هذا العالم. فكلما زاد الشعورُ بالحضور، زاد شعور الأشخاص بتخفيف الألم.

يقول هوفمان إن عالم الثلوج في المختبَر دائمًا ما يُخفض درجات الألم بنسبة ٣٥٪، مقارنةً بنحو ٥٪ في حالة الموسيقى. وعند استخدامه مع المسكِّنات، يُقلِّل درجات الألم بنسبة ١٥–٤٠٪ أخرى، علاوةً على ما يحصلون عليه مع العقاقير.9 يرى الباحثون التأثيراتِ ليس فقط في درجات الألم الذاتي، ولكن أيضًا في التصوير الضوئي للدماغ، الذي يكاد يختفي فيه تمامًا النشاطُ في مناطق المخ المرتبطة بالألم.10

لا يزال الفريقُ يُجرب طُرقًا لتعزيز التأثير؛ فعلى سبيل المثال، يبدو أن استخدامَ جرعاتٍ صغيرةٍ من عقار الكيتامين المسبِّب للهلوسة يُحسِّن من شعور الناس بالانغماس. لكن تكنولوجيا عالم الثلوج مستخدَمة بالفعل في نحوِ ١٥ مستشفًى في الولايات المتحدة. أحدها هو مركز بروك الطبي العسكري (بي إيه إم سي)، في فورت سام هيوستن بتكساس، الذي عالَج مئاتِ الجنود الذين أُصيبوا بحروقٍ أثناء القتال في العراق وأفغانستان. عانى أغلبُهم من حروقٍ جرَّاءَ أجهزةِ تفجيرٍ يدوية الصُّنع (آي إي دي)؛ قنابل مزروعة على جانب الطريق، أو سيارات مفخَّخة، أو تفجيرات انتحارية، أو على حد تعبير هوفمان: «هذه القنابل المُرتجلة حقًّا يمكنها تدمير مَرْكبة همفي مدرَّعةً أشدَّ التدمير.»

أجرى هوفمان وزملاؤه تجرِبةً على ١٢ جنديًّا في مركز بروك الطبي العسكري، منهم المُلازم براون.11 وحين استغرقوا في عالم الثلوج أثناء جلسات العلاج الطبيعي، انخفضَت درجاتُ أسوأ آلامهم نحو درجتَين مقارنةً بالجزء الذي قضَوه من دونه في الجلسة. وانخفضَت نسبة الوقت الذي يَقضونه في التفكير في الألم من ٧٦٪ إلى ٢٢٪. وفي حين أنهم قد صنَّفوا علاجهم الطبيعيَّ العادي باعتباره «غير مُمتِع على الإطلاق.» فقد صنَّفوا العلاج الطبيعي أثناءَ انغماسِهم في عالم الثلوج باعتباره «مُمتع إلى حدٍّ ما.»

قدَّم عالمُ الثلوج فائدةً أكبر مع المرضى الستة الذين بدَءوا بأسوأ درجات الألم؛ الجنود الذين كانوا في أمسِّ الحاجة إليه. على سبيل المثال هبطَت درجة الألم الأسوأ لدى براون من عشر إلى ستِّ درجات، وحين كان في عالم الثلوج صنَّف علاجه — الذي كان مُضنيًا فيما سبق — بأنه حقًّا مسلٍّ جدًّا. وقد أخبر مُراسلًا لمجلة «جي كيو» فيما بعدُ أنه ذكَّره بالتزحلُق على الجليد مع شقيقه أثناء عُطلة الكريسماس في كولورادوا، حين كان لا يزال طالبًا في الأكاديمية العسكريَّة الأمريكية في ويست بوينت.

وقد أدلى برأيه لهوفمان بعد الجلسة قائلًا: «أعتقد أنَّكم يا رفاقُ مُقبِلون على شيءٍ ذي شأن.»12

•••

ذاتَ ليلةٍ في أبريل من عام ٢٠١٤، كان تيريل البالغُ من العمر اثنَين وعشرين عامًا يقود سيارته بسرعة ٨٠ ميلًا في الساعة في طريقٍ سريع بين كينت ودي موين، جنوبَ سياتل، حين فقَد السيطرة على السيارة. انقلبت السيارة، ودارَت دورتَين في الهواء، وتوقَّفَت عن الحركة. ثم اشتعلَت فيها النيران.

حمَلَت عربة إسعاف تيريل إلى مركز هاربورفيو الطبِّي، بذراعٍ مكسورة وحروقٍ خطيرة في ساقه وصدره. يحكي لي قائلًا: «حين استَفقتُ انتابَتني أسوأ الآلام. كانت ثَمة أنابيبُ موضوعةٌ في حلقي، وأنابيبُ في كل مكان. حاولتُ أن أُخرجها، لكنهم منَعوني. وكان وجهي مُتورمًا.» كانت توجد آثارُ حروق في جميع أنحاء جسمه. ما إنْ هدَأ رَوع تيريل حتى اتصلَ بصديقته ليُخبِرها بأنه تعرَّض لحادث. ويقول: «لم تُصدِّقني. لكن حين وصلَت إلى هنا، عرَفَت ما أعنيه.»

بعد مرور شهر على الحادث، كان تيريل مُستلقيًا على فِراشه في المستشفى، مُرتديًا رِداءً أخضرَ ذا ثَنياتٍ مُجتمعة عند الكتفَين وتدعمه نحوُ خمسِ وسائدَ ذاتِ لون أزرقَ فاتح. كان هزيلَ البِنْية، لديه كتلةٌ من شعر اللحية على ذقنه وسالفان غيرُ حليقَين. التمعَت نُدبتان في حجم العُملة المعدنية باللون الأبيض على بَشرتِه الداكنة، إحداهما بجانب عينه اليُمنى والأخرى على جبهته. وكانت ساقه اليُسرى مغطَّاة بكثافة بالضمادات، ويتسرَّب من خلالها مَصلٌ بُنِّي مصفرٌّ وصولًا إلى قدمه.

كان مُحاطًا ببقايا وجباتٍ لم تنتهِ — عُلب لبن وكعكةٍ مقضوم منها قَضمة وصَحن عَشاء وعُلب زبادي وأكواب فارغة — ومجموعةٍ من بالونات الهيليوم التي كُتِب على ورقها اللامع رسائلُ مِن قَبيل: «إنك شخصٌ مُميَّز جدًّا» و«تمنياتي بالشفاء.» على بُعدِ عدَّة أقدام على الجانب الآخر من السِّتار كان يوجد رجلٌ ضخم يبدو عليه الغضب؛ كان وجهُه العابس مُحترقًا باللونَين الوردي والبُنِّي، وذراعاه المُضمدتان مُمتدتَين على الجانبين. يبدو أنَّ لديه أعداءً خارجَ المستشفى؛ فقد همس لي أحدُ المُساعدين الطِّبيين أثناء مرورنا بأن اسمه قد رُفِع من سجلَّات المستشفى من أجل حمايته.

خلال الأسابيع القليلة الماضية، خضَع تيريل لأربع أو خمس جِراحات (لا يستطيع أن يتذكَّر عددها)، لترقيعِ الحروق التي في ساقه اليُسرى بجلدٍ من ساقه اليمنى. كان لا يزال يتعاطى جرعاتٍ هائلةً من العقارين الأفيونيين الميثادون والهيدرومورفون لتخفيفِ ألمه؛ مما يجعله في حالةِ نُعاسٍ دائم. حين بدأ الرجل المجهول الاسم الصراخَ قائلًا: «لقد بلَغَت درجةُ ألمي عشَرة، فليأتِ أحدٌ إلى هنا حالًا!» حاولتُ بصعوبةٍ سماع حديث تيريل الخافتِ المُتداخل.

أخبرَني أنه من رينتون، وهي مدينة جنوبَ سياتل، حيث يعيش مع أمِّه وصديقته. سألته كيف تبدو رينتون، فقال لي إنَّ بها «بعض الأشخاص الخطِرين» وإنه لم يُكمل دراسته الثانوية؛ لأنه «سلك سلوكًا مُشاغبًا.» وإنه لا يعمل حاليًّا، لكنه يأمُل أن يجد وظيفةً بعد خروجه من المستشفى في سلسلةِ مطاعم باباي للوجبات السريعة، في غسيل الصحون، فهناك، على حدِّ قوله: «يوظِّفون المُجرِمين ومَن على شاكلتهم.»

يُغطِّي الوشم ذِراعَي تيريل وصدرَه. وقد تبيَّنتُ بين الرسوم المُلتفَّة الباهتة وجهَ مُهرجٍ بعينَين خاليتين من التعبير وعدةِ شخصيات بأسنانٍ مكشوفة وضلوعٍ بارزة. لكنَّه تجنَّب الحديث عنها قائلًا: «إنه مجرَّد فن.» كان مكتوبًا على ذِراعه اليمنى بحروفٍ صغيرة «ابن الرَّب»، بينما كُتِب على يُسراه بخطٍّ أكبر الحروف الأولى «إم أوه إيه.» فسألته ما إذا كانت الحروفُ الأولى من اسم صديقته. فأجابني ضاحكًا بالنَّفي. مُضيفًا إنها تعني «المال فوق كل شيء.»

جاء أحدُ المُساعدين يدفع خِزانةً رماديةً ثقيلة، عليها جهاز كمبيوتر محمول ونظَّارة. أسندَ تيريل ظهرَه إلى وسائده ووضع سماعةَ الرأس، بينما كشف جهازُ الكمبيوتر المحمول المفتوحُ عمَّا كان يُشاهده.

كانت تمامًا مِثلَ المعدَّات التي نقَلَتني إلى عالم الثلوج، لكن المشهد مختلفٌ جدًّا. إذ كان تيريل ينجرفُ في جدول، بطيءَ الحركة مُتقلقلًا في البداية، لكنه يُؤدِّي تدريجيًّا إلى نهر صافٍ ضَحْل بضفَّتَين رمليَّتَين. وعلى جانبَيه حشائشُ ثم غابةٌ كثيفة من أشجار الصنَوبر. وأمامه مباشرةً بدَت جبالٌ اكتسَت قِممُها بالثلوج أسفلَ سماء زرقاء صافية. لم تكن هذه لعبة؛ فلا بطاريقَ أو كُراتِ ثلج يُصوبها. وإنما كانت جلسةَ تنويمٍ مغناطيسي. تطفو عابرةً الأرقامَ من واحدٍ إلى عشَرة، ثم ينبعث صوتٌ ذُكوري مُطَمئن يُعطي إيحاءاتٍ بالاسترخاء والتحرُّر من الألم.

لم يكُن تيريل قد سمع عن التنويم المغناطيسي من قبل. لكن قبل يومَين، حين اشتكى للطاقَم من أن ألمَه قد بلَغ «عشر درجات» رغم العقاقير التي كان يتعاطاها، سألوه إن كان يَودُّ أن يُجرِّب وسيلةً مُساعدة على الاسترخاء فوافَق. وهو يقول: «حين فعلتُ ذلك لم أشعر بألم. لم أعُدْ مشغولًا به.» اليومَ هو مُتلهِّف ليُجرب الأمرَ مرةً أخرى. استلقى بلا حَراكٍ أثناء تشغيل البرنامَج، مُستغرقًا أول الأمر في مشهد الغابة الهادئ. لكنه بعد ذلك أرخى عينَيه، وفتح فمَه. لقد غلبه النُّعاس.

•••

حين حكيتُ هذه القصةَ فيما بعدُ لديفيد باترسون، عالم النفس زميل هوفمان، قال لي إنها مشكلةٌ شائعة. فقد ظلَّ باترسون يعمل مع مرضى الحروق والصدمات في مركز هاربورفيو طيلةَ الثلاثين عامًا الماضية، باحثًا عن وسائلَ غيرِ دوائية لتخفيفِ آلامِهم، ومنحِهم راحةً أكثر من التي تمنحُها لهم العقاقير. رغم أن عالم الثلوج جيدٌ للغاية في إلهاء المرضى عن ألمهم أوقاتًا زمنيةً قصيرة، فإن التأثير يختفي بمجردِ أن يخلَعوا النظَّارات. لذلك يبحث باترسون أيضًا عما إذا كان يُمكن للإيحاءات الإيجابية التي يُوصلها التنويمُ المغناطيسي أن تُقلِّل من الألم وتُساعدَ على تعافيهم على المدى الطويل.

كان أولُ مَن ابتكر فكرةَ استخدامِ التنويم المغناطيسي في التخدير هو جيمس إسدايل، الجرَّاح الاسكتلندي الذي كان يعمل في الهند في منتصَف القرن التاسعَ عشَر. كان يرى آلافَ المرضى المُصابين بداءِ الفيلاريات اللمفاوي (داء الفيل)، وهو عَدْوى طُفيلية تؤدِّي إلى تورُّماتٍ ضخمةٍ مليئة بالسوائل، لكنه كان يجد صعوبةً في إقناع المُصابين بالسماح له بإزالة هذه النُّتوءات. ولم تكُن العقاقير المخدِّرة مُتاحةً في ذلك الوقت. ومن دونها كان ألمُ الجِراحة مُبرحًا، وكان كثيرٌ من المرضى يموتون من الصدمة.

كان إسدايل قد قرَأ عن التأثيرات المسكِّنة للميسمرية، التي كانت رائجةً في أوروبا آنَذاك. رغم أنه لم يكن قد رأى من قبلُ أحدًا يُخضَع للتنويم المغناطيسي، فقد قرَّر أن يُجرِّبه ونجح نجاحًا مُذهلًا. احتفظ الجرَّاحُ بمُلاحظاتٍ مفصَّلة عن المرضى الذين أجرى لهم عمليَّات، من بينهم صاحبُ متجرٍ في الأربعين من العمر يُدعى جوروشوان شاه، الذي كان لديه كيس صفنٌ يزن ٨٠ رِطلًا كان يستخدمه بمثابةِ طاولة للكتابة.

استأصلَ إسدايل الورَم العملاق بعد أن صار شاه «فاقدًا للحس» بتنويمه بالطريقة الميسمرية، وكان مُقتنعًا بأنَّ الإجراء أنقذَ حياة الرجل. فقد كتب: «أعتقد أنه كان من المُحتمل جدًّا لو أن الدورةَ الدموية تسارَعَت من الألم والمُعاناة، أو كانت الصدمةُ اشتدَّت على الجهاز من المُعاناة الجسدية والذهنية، كان الرجلُ سينزف حتى الموت.»13 ومع انتشار الخبَر، تهافتَ مَرْضى داء الفيل لرؤية إسدايل، وصار مستشفاه بمثابة «مصنع للميسمرية»، حيث كان يُجري آلافَ العمليات بمعدَّلاتِ وفاةٍ مُنخفضة جدًّا مقارنةً بذلك الوقت.

أما الآن فقد نُسِيَت تقنياتُ إسدايل بدرجةٍ كبيرة. الآن وقد صار لدينا موادُّ تخديرٍ كيميائيةٌ فعَّالة، لم يَعُد أكثرنا بحاجة إلى الخضوع لجِراحة من دونِ تخدير. (لكن في مواقف كثيرة، في دولٍ نامية ومناطقِ حروب وكوارث، لا يكون هذا هو الحال. فعلى سبيل المثال، بُتِرت أطرافُ أربعةِ آلاف شخص بعد أن ضرَب زلزالٌ مدمِّر هاييتي في ٢٠١٠، غالبًا دون أي شكل من أشكال المُسكنات.) لكن يوجد قلة من الباحثين الذين يبحثون فيما إذا كان بإمكان التنويم المغناطيسي تقليلُ استخدام العقاقير؛ للعناية بالجروح والنقاهة من الجِراحة والألمِ المُزمن.

أخبرَني باترسون أنه صار مُهتمًّا بالتنويم المغناطيسي بعد تجرِبة «غيَّرَت حياته» بعد بضعة أشهُر من بَدئِه العملَ في قسم الحروق في مركز هاربورفيو.14 إذ كان مريضٌ مُصاب بحروقٍ خطيرة في الستينيَّات من العمر يُحاول بمشقَّةٍ أن يتحمَّلَ جلسات العناية بجروحه. «كان قد تعاطى الجُرعة القُصوى من كل العقاقير؛ المورفين والمهدِّئات. وقال: «لن أعود إليها، أُفضِّل الموت.»» هنا اقترح عليه مُعلِّم باترسون، اختصاصيُّ علمِ نفس الألم، بيل فورديس، أن يُجرِّب التنويمَ المغناطيسي.

وهكذا وجَد باترسون نصًّا للحثِّ على التنويم المغناطيسي في أحد الكتب، وقرَأه على المريض. وكان مُصمَّمًا بحيث يستغرق الرجل في غشيةٍ حين تلمسُ المُمرضاتُ بعد ذلك كتفَه أثناء العناية بجُرحِه. يقول باترسون: «حين عُدتُ لأرى ما قد حدث كان العنبر يعجُّ بالهمهمات. قالوا: «ماذا فعلتَ بذلك الرجل؟ لقد لمسنا كتفَه فغلبه النعاس.» كان الأمر مُذهلًا.»

منذ ذلك الوقت، كشفَت دراساتُ التصوير الضوئي للمخ عن أنَّ إيحاءات تخفيف الألم التي تُعطى أثناء التنويم المغناطيسي تؤثِّر على مناطق المخ المتعلِّقة بإدراك الألم. وأفادت عدةُ دراسات مضبوطة عشوائيَّة صغيرة بأن إضافة التنويم المِغناطيسي إلى العلاج التقليدي يُقلل بدرجةٍ كبيرة من الألم المُزمن والحادِّ في مجموعة من الحالات.

المشكلة هي أنَّ أغلب الناس الذين يَراهم باترسون لا يأتون مباشرةً من أجلِ تنويمهم مغناطيسيًّا. يخدم مركزُ هاربورفيو كلَّ حالات الإصابات والحروق الكبرى في المنطقة، من الجروح الناجمة عن الطَّلقات النارية إلى حوادثِ السيارات، بغضِّ النظر عما إذا كان لديهم تأمينٌ طبي أو لا. يُعاني الكثير من المرضى هناك من مشكلاتٍ نفسيَّة، أو يُدمِنون الكحول أو المخدِّرات. وأغلبهم، مثل تيريل، يُعاني من الألم ويُخدَّر بمُسكِّناتٍ قوية، وهو ما يعني أنهم مخدَّرون ويجدون صعوبةً في التركيز، وقد لا يكون لديهم فكرةٌ عن ماهية التنويم المِغناطيسي. وكثيرًا ما يكونون غيرَ قادرين أو مُستعدِّين للتركيز على الحثِّ على عملية تنويم مغناطيسي تقليدية.

من الجوانب السلبية الأخرى للتنويم المغناطيسي التقليدي أنه قد يكون مُكلفًا؛ لأنك تحتاج إلى أحد أفراد الطاقم الطبِّي لتنفيذه. لذلك تساءلَ باترسون إن كان يستطيع حلَّ المشكلتَين باستخدام الواقع الافتراضي لينغمسَ المرضى في غيبوبةِ تنويمٍ مغناطيسي. فمع الجلسة الافتراضية المسجَّلة مسبقًا، لا يحتاج المرضى إلى إنشاءِ صورٍ بصريةٍ خاصة بهم، ويُمكن إعطاءُ العلاج في أيِّ مكان، وأي وقت، دونَ حضورِ منوِّم مغناطيسي.

كان أولُ مريض جرَّبه باترسون عليه، في عام ٢٠٠٤، هو رجلَ إطفاءٍ في السابعة والثلاثين من عمره يُدعى جرانت. كان جرانت، قبل ستة أسابيع، قد صبَّ البِنزين على حفرةِ شِواء، غيرَ مُدرِك أنه كان لا يزال بها جمرٌ من اشتعالٍ سابق؛ مما أدَّى إلى كتلةِ نار أصابته بحروقٍ عميقة في ٥٥٪ من جسمه. ومن ساعتِها اجتاز ستَّ جِراحات مؤلِمة لترقيع الحروق بالجلد، لكنه ظل يُعاني آلامًا مُبرِّحة. وكان ينتابُه الهذَيان ونوباتُ هلَعٍ عنيفة، ما لم يُخدَّر تخديرًا شديدًا، خاصةً أثناء الجلسات اليوميَّة حين كان الطاقَمُ الطبي يحتاج إلى تنظيفِ جروحه وتضميدها. يقول باترسون: «كان قد بلَغ به الانزعاجُ مَداه. لم يكن أمامنا سِوى عالم الثلوج.»

بدلًا من لعبِ لعبةٍ تفاعليَّة، طلب باترسون من جرانت مشاهدةَ لقطات مسجَّلة مسبقًا. أظهرَت أكواخًا ثلجية الأرقام من واحد إلى عشَرة، فيما انجرفَ هو عبر الأخدود الجليدي. في النهاية، أعطى صوتُ باترسون المريضَ إيحاءً بأنه سيشعرُ بالاسترخاء والتحرُّر من الألم أثناء الجلسات التالية من العناية بالجروح.

في اليوم الأول من الدِّراسة، قبلَ أيِّ تنويمٍ مغناطيسي، كان تقديرُ جرانت لدرجة ألمه بلغَ الحدَّ الأقصى وهو مائة درجة، مع أنه كان قد تعاطى جرعاتٍ مرتفعةً للغاية من المسكِّنات؛ أكثر بخمسَ عشْرةَ مرةً من الجُرعات المُعتادة المستخدَمة مع مَرْضى الحروق في هاربورفيو. في صباح اليوم التالي شاهَدَ جلسةَ تنويمٍ مغناطيسي باستخدام الواقع الافتراضي. وأثناء العناية بجُروحه لاحقًا في ذلك اليوم، انخفض تقديرُ جرانت لدرجة الألم إلى ٦٠ درجة، وفي اليوم الثالث، بعدَ جلسةٍ إضافية من التنويم المِغناطيسي السمعي، قدَّر درجةَ ألمه بأربعينَ درجةً فقط. في الوقت ذاتِه، انخفضَت جرعةُ المخدِّر التي احتاجها بمقدار الثلث. وفي اليوم الأخير من الدراسة لم يخضع جرانت للتنويم المغناطيسي مجدَّدًا. فعاوَدَت درجةُ ألمه الارتفاعَ إلى ١٠٠؛ في الواقع كان في ضيقٍ شديد من الألم، حتى إنه لم يقْوَ على إتمام بقية استبيان باترسون.15
منذ دراسة الحالة تلك مع جرانت، طوَّر باترسون مَشهدَ الغابة الباعثَ على الاسترخاء من أجلِ التنويم مِغناطيسيًّا باستخدام الواقع الافتراضي، وقد سجَّل نتائجَ إيجابية مع عدةِ مَرْضى حروقٍ آخَرين، وكذلك مرضى صدماتٍ مثل تيريل. في اختبارٍ تجريبيٍّ على ٢١ مريضًا يُعانون آلامًا مبرِّحة من كسورٍ بالعظام وجروحِ طلقاتٍ نارية، قارَنَ باترسون بين التنويم المغناطيسي باستخدام الواقع الافتراضي وبين لعبة عالم الثلوج أو عدم تلقِّي علاج.16 تلقَّى المرضى جلسةَ واقع افتراضي في الصباح، ثم طُلِب منهم تسجيلُ درجة ألمهم على مدارِ ما تبقَّى من اليوم. بعد عالم الثلوج أو عدم تلقِّي علاج، ارتفعت درجةُ ألم المَرْضى على مدار اليوم، بينما انخفضَت لدى مجموعةِ التنويم المغناطيسي.

يُجري باترسون حاليًّا تجرِبةً أكبرَ على ٢٠٠ من مرضى الصدمات؛ للمقارنة بين التنويم المغناطيسي باستخدام الواقع الافتراضي والتنويم المغناطيسي باستخدام شرائط سمعيَّة والرعاية العادية. ولكنه في الوقت الحالي «أمرٌ جديدٌ تمامًا.» ويُضيف: «لم يُتَّخَذ قرارٌ نهائي بشأنه بعدُ.»

•••

إليك شيئًا يُمكنك أن تُجرِّبه في المنزل. ضع يدَك اليمنى على طاولةٍ أمامك. وأبعِد يدك اليسرى عن ناظِرَيك أسفل الطاولة أو خلفَ ساتر، ضع يدًا مزيَّفة (سيَفِي قفازٌ مطَّاطي محشوٌّ بالغرض) على الطاولة مكانَها. والآن اطلب من صديقٍ أن يربِّت على اليدَين اليُسرَيَين — اليد المزيَّفة الظاهرة واليد الحقيقية المخفيَّة — في الوقت نفسِه. بعد بضعِ ثوانٍ، ستشعر بتأثيرٍ غريب؛ ستشعر كأنَّ اليد المطاطية هي بالفعل يدُك.

هذه ظاهرةٌ معروفة باسم «وهم اليد المطاطية.»

رغم أنك تعلم أن اليد المزيَّفة ليست جزءًا من جسدك، فستشعر كأنها كذلك. فما إن يتكوَّن الوهم حتى يُؤثِّر على نشاط المخ والسلوك. يستجيب الناس بسرعةٍ أكبرَ للأشياء التي يرَونها على يدِهم المزيَّفة أو قريبةً منها (تمامًا كما يفعلون مع يدِهم)، وينتفضون غَريزيًّا أو يسحبون اليدَ إذا اقترب منها أحدٌ بإبرة أو سِكين.

لكنَّ لهذا تأثيراتٍ جسديةً كذلك. مؤخرًا كشف عالمُ الأعصاب لوريمر موزلي بجامعة جنوب أستراليا في أديليد عمَّا يحدُث أثناء وَهْم اليد المطاطية، من انقباضٍ في الأوعية الدموية في اليد غير المرئية، وانخفاضٍ في تدفُّق الدم لهذا الجزء من الجسم؛ مما يؤدِّي إلى انخفاض درجة حرارته. يبدو كذلك أنَّ الاستجاباتِ الأرجيةَ في اليد غير المرئية ترتفعُ بطريقةٍ متَّسِقة مع الرفض المناعي.17 فكأنَّ اليدَ المفقودة لم تعُد تُعامَل على أنها جزءٌ أصيل من الجسم.
هذا يؤكِّد مَزاعمَ باحثي التنويم المغناطيسي، المذكورة في الفصل الخامس، بإمكانية التأثير على تدفُّق الدم والاستجابات المناعية باستخدام الإيحاءات والأوهام. استخلص موزلي من دراساته أننا جميعًا لدينا «خريطة ذِهنية» لأنفسنا — تصوُّر ذهني لهيئتنا المادية — موجودة في المخ.18 وهذا يجعلنا مُطَّلعين دائمًا على مدى أجسامنا ومَوضعنا في المكان، وربَّما يلعبُ دورًا هامًّا أيضًا في السيطرة على حالتنا الفسيولوجية وتنظيمها (بما في ذلك أمور مِثل الاستجابات المناعيَّة وتدفُّق الدم). والتغيُّرات الطارئة على الخريطة الذهنية، التي تحقَّقَت في هذه الحالة عن طريقِ خدعةٍ بصرية بسيطة، لا يُشعَر بها في المخ فحسب، ولكن في الجسم أيضًا.

قد يكون لهذا تَبِعاتٌ كُبرى على صحتنا. إذ يتكهَّن موزلي مثلًا أن الشعورَ غير الواعي للمخِّ بأجزاء الجسم المختلفة قد يكون له دورٌ في بعض أمراض المناعة الذاتية. كذلك من المُمكن أن يكون عدمُ التوافق بين الخريطة الذهنية والواقع سببًا للألم المُزمِن؛ فمثلًا إذا تعارضَت المعلومات الحسِّية الآتية من جزءٍ معيَّن من الجسم مع ما يتوقَّعه المخُّ، فقد تُهيِّج ألمًا لتحذيرنا من خطرٍ مُحتمل.

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك ألمُ الأطراف الوهميَّة، حيث يشعر مَبْتورو الأطرافِ بألمٍ نابع من طرَفٍ لم يَعُد موجودًا، لكن مشكلات المِلكية المحسوسة قد تكون ضالعةً في حالاتٍ مُزمنةٍ أخرى، مِثل مُتلازِمة الألم الناحي المركَّب (سي آر بي إس). يُعاني المرضى بهذه الحالة من ألمٍ حارقٍ حادٍّ بعد بعض الإصابات مثل كسر الرُّسْغ، بعد التئامِ العِظام بمدةٍ طويلة. وتزداد برودةُ اليد المُصابة في متلازمة الألم الناحي المركَّب، كما حدث في وهم اليد المطاطية.

تقول كاندي مكيب، أستاذ التمريض وعلوم الآلام في جامعة غرب إنجلترا، إنه حتى الإصابات الطفيفة نسبيًّا قد تؤدِّي إلى تغيُّرات في الخريطة الذِّهنية؛ حيث يُحاول المخ ترجمة المعلومات الحسِّية التي يتلقَّاها. وتُضيف: «يمكن بسرعةٍ شديدة للمرء أن ينتقلَ إلى نظامٍ تعافَى فيه كلُّ شيء سطحيًّا، لكن الجهاز العصبي المركزي يُصبح مُفرِط الحسَّاسية لأشياءَ لا ينبغي أن تُسبب الألم في الظروف الطبيعية.»19

في التهابِ المفاصل العَظْمي مثلًا، وهي حالةٌ تنتج عن تلفٍ ميكانيكي والتهابٍ في المفاصل، لا يوجد ارتباطٌ وثيق بين درجةِ التلفِ الهيكلي ودرجةِ شعورنا بالألم. ترى مكيب أن ما يؤدِّي إلى الألم في أغلبِ الأحوال ليس مشكلةَ المفصلِ نفسِه، لكن الطريقة التي «يشعر» بها المخُّ بذلك المَفصل. وكما في نظرية الحاكم المركزي المُتعلقة بالإعياء، ما زال الباحثون في مجالِ الألم يَجِدون مِرارًا وتَكرارًا أنه رغم أن الرسائل التي يبعث بها الجسمُ مهمةٌ فيما يتعلق بالألم، فإن تصوُّراتنا (الواعيةَ وغيرَ الواعية) بشأن حجم الخطر الذي نُواجهه دائمًا ما تتدخَّل في تعديلها.

حاليًّا يبحث بعضُ الباحثين، ومن بينهم مكيب وموزلي، بشأنِ ما إذا كان إيهامُ العقل برؤيةِ عضوٍ سليم قد يُقلِّل الألمَ لدى مَرْضى متلازمة الأطراف الوهمية، ومتلازمة الألم الناحي المركَّب، والسكتة الدماغية والتهاب المفاصل العظمي.20 في تجرِبةٍ شبيهة بوهمِ اليد المطاطية، يضعون المرضى أمامَ مِرآة أو شاشةٍ بحيث يرَون، بدلًا من طرفهم المعتلِّ، انعكاسًا لطرَفٍ سليم أو صورةً له. مِثلما يخلق التنويم المغناطيسيُّ باستخدام الواقع الافتراضي والإلهاء، اللذَين طُوِّرا في هاربورفيو، وهمًا شاملًا بأننا في مكانٍ آمن، ربما يُمكن للعلاج بالمِرآة أن يؤدِّيَ حيلةً أكثرَ تركيزًا، بإقناع المخ بأن الجزء المتضرِّر من الجسم سليمٌ ومُعافًى.
مما يُؤسَف له أنه على الرغم من الكارثةِ التي أصابت الصحةَ العامة جرَّاءَ وصفِ المُسكِّنات، فإنَّ الاهتمام بإجراءِ أبحاثٍ حول الأساليب غير الدوائية لمساعدة الناس على مُجابَهة آلامهم قليلٌ نسبيًّا، وكما رأينا فيما يتعلَّق بالأبحاث الجارية على التنويم المغناطيسي في الفصل السابق، فإن الدراساتِ قليلةٌ حتى الآن. وقد خَلَص استعراضٌ حديثُ العهد إلى أنه لا يوجد ما يكفي من الأدلة العاليةِ الجودة للجزم بأنَّ علاج المِرآة أفضلُ تأثيرًا من البلاسيبو.21
يعتقد باحثُ ستانفورد في مجال التنويم المغناطيسي، ديفيد شبيجل، أنَّ جزءًا من السبب وراء قلة الحماس يرجع إلى عواملَ اقتصادية. فهو يُشير إلى أنَّ صناعة المسكِّنات هي سوقٌ يُقدَّر بمليارات الدولارات، وليس لدى شركاتِ الأدوية أيُّ حافز على تمويلِ تجارِب من شأنها أن تُقلل من اعتماد المرضى على منتَجاتها. ولا وجود لذلك الحافزِ أيضًا لدى شركات التأمين الطبِّي؛ لأنه إذا انخفضَت التكاليفُ الطبية، فسوف تنخفضُ بالمِثل أرباحها. ويقول إن مشكلة التنويم المغناطيسي والعلاجات النفسية الأخرى أنه «لا تتدخَّل فيها صناعةٌ لديها مصلحةٌ في النُّهوض بها.»22

لكن قد يكون ذلك على وشكِ التغيير. ففي مارس من عام ٢٠١٤ اشترَت شركة فيسبوك شركةً ناشئةً غيرَ معروفة في كاليفورنيا تُسمَّى «أوكولوس» مُقابلَ تسعةِ مليارات من الدولارات. هذه الشركة متخصِّصة في ألعاب الواقع الافتراضي، وقد طوَّرَت للتَّو سماعةَ رأسٍ باسم «أوكولوس ريفت»، مُشابِهةً في حجمها وشكلها قِناعَ الغطس. وبينما تتكلَّف مُعدَّات الواقع الافتراضي التي يستخدمها هوفمان وباترسون عشَراتِ آلافِ الدولارات، تبيع «أوكولوس» سماعةَ الرأسِ الواحدةَ مقابل ٣٥٠ دولارًا فقط. يُبشر ذلك بجعل الواقع الافتراضي في متناول المُستهلكين العاديِّين، الذين سيَتمكَّنون من تشغيلِ أقنعةٍ لاسلكية من أجهزتهم اللوحية أو هواتفِهم الذكية. يقول هوفمان إنه جرَّب بالفعل تشغيلَ عالم الثلوج على سماعة رأس «أوكولوس ريفت»، مع مريضِ حُروقٍ أثناء إجرائه علاجًا طبيعيًّا. ويقول: «كانت النتيجة مُرضيَةً حقًّا.»

مِثلُ هذه التطوُّراتِ تعني أن الناس ستتمكَّن قريبًا من استخدام الواقع الافتراضي لتخفيفِ الألم — سواءٌ باستخدام ألعاب لتشتيت الانتباه، أو تنويمٍ مِغناطيسي، أو خِدعٍ من نوعية المِرآة — في المنزل. ويتوقَّع هوفمان أن ذلك يعني أيضًا أن العوالمَ الافتراضية على وشكِ أن تصيرَ أكثرَ تعقيدًا؛ إذ تُخصِّص شركاتُ ألعاب الفيديو المواردَ لتطويرِ برامِجَ تُلائم السماعات الجديدة. ويقول إن ظهورَ ألعابٍ أفضلَ يمكن أن يؤدِّيَ أيضًا إلى علاجاتٍ أفضل للألم. وهو ما يجعلني أيضًا أتساءل عمَّا إذا كان من الوارد أن نرى قريبًا تجارِبَ لتسكين الألم تُموِّلها صناعة الألعاب، وليس شركات الأدوية.

يتصوَّر هوفمان أن يَصيرَ في المستقبل مكتباتٌ كاملة من عوالِمَ افتراضيةٍ جاهزة يستطيعُ أولئك الذين يُعانون الآلامَ أن يختاروا منها ما يُلائم أهواءَهم. وتتجاوَزُ الإمكانياتُ مسألةَ تسكينِ الألم؛ فهو ما زال مُهتمًّا باستخدام العوالم الافتراضية في علاج الاضطرابات النفسيَّة على سبيل المثال، وقد صمَّم عالمَ مركزِ التجارة العالمي وعالمَ تفجيرِ حافلة وعالمَ العراق؛ ليُتيح للمرضى باضطرابِ ما بعدَ الصدمةِ أن يُواجهوا مخاوفهم.

بل ربما يُصبح الواقع الافتراضيُّ بالفاعلية الكافية لتغيير المواقف في المجتمَع الطبِّي. يقول هوفمان: «إنَّ تشتيت الانتباه باستخدام العالم الافتراضي مُفيدٌ للمرضى حاليًّا. لكنني أظنُّ أنه ينطوي على إمكانياتٍ هائلة تُعجِّل بنقلةٍ نوعية في كيفية التعامل مع الألم. إن النتائجَ قوية جدًّا، وهذا يُشجِّع المجتمعَ الطبي على البَدء في استكشاف استخدام مسكِّنات غير دوائية بالإضافة إلى العقاقير المسكِّنة. مَن يعلم إلامَ يُمكن أن يقود ذلك؟»

•••

بعد يومين من لِقائنا الأول المشوَّش، عُدتُ لرؤية تيريل، وقد فوجِئت حين وجدتُه مُنتبهًا ومُبتسمًا. كان ينتعلُ حِذاءً في قدمه المضمَّدة، وقد قال لي مازحًا: «أُسميه «حذائي المتعدِّدَ الأغراض».» كان لتوِّه قد استحمَّ بمفرده لأول مرة منذ الحادث، بل وذهب أيضًا إلى صالة الألعاب الرياضية. ورغم أن الأطباء كانوا قد قالوا سابقًا إنه سيمكث في المستشفى أسبوعَين آخَرين، فقد وعَدوه بأنه يُمكنه العودةُ للمنزل يوم الإثنين؛ أي خلالَ ثلاثةِ أيام.

هل يظنُّ أن الواقعَ الافتراضيَّ ساعَده؟ منذ جرَّبه، ما زالت إصاباتُه تُؤلمه. ومع ذلك يقول: «لكنني أشعر ببعض الاختلاف. أشعر بأنني مُرتاحٌ أكثر.» أكَّدَت هذا الانطباعَ إحدى المُمرضاتِ التي حدَّثَتني عن «تغيُّر شخصية» تيريل بعد جلسة التنويم المغناطيسي الأولى، من شخصيةٍ مُتجهِّمة تمامًا إلى أخرى مهذَّبةٍ ووَدودة.

حين سألته ما الذي أحبَّه فيها، قال إنها الأشجار. إذ قال: «لا يوجد مكانٌ أفضلُ من الغابة. إذا كنتَ غاضبًا يُمكنك الذَّهاب إلى الغابة والتخلُّص من كل ذلك.»

سألته: «كل ماذا؟» فأجاب: «كل الألم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤