عُصبة ذوي الشعر الأحمر

زرتُ صديقي السيد شيرلوك هولمز في أحد أيام الخريف من العام الماضي، فوجدتُه مستغرقًا في حديثٍ مع رجل مهذبٍ كَهْلٍ سمين، مُتورِّد الوجه، ذي شعرٍ أحمرَ كاللَّهَبِ. كنتُ على وشك التراجُع معتذرًا عن مقاطعتي لهما، عندما جَذَبني هولمز بسرعة داخلَ الحجرة، وأغلقَ الباب من خلفي.

وقال بحميميَّةٍ: «لم تكنْ لِتأتي في وقتٍ أكثر ملاءمةً من هذا يا عزيزي واطسون.»

«خشيتُ أن تكون مشغولًا.»

«نعم، أنا كذلك بالفعل، مشغولٌ جدًّا.»

«يمكنني انتظارُك إذن في الغرفة المجاورة.»

«لا، على الإطلاق. هذا الرجل، يا سيد ويلسون، لطالما كان شريكًا ومساعدًا لي في العديد من قضاياي الناجِحة، ولا يُساوِرُني شكٌّ في أنه سيكون ذا فائدة عظيمة في قضيَّتِك.»

نهض الرجل البَدينُ في نصف وقفة، وحرَّك رأسه مُرحِّبًا، وألقى نظرةً عَجلى من عينَين متسائلتَين مُحاطتَين بالدُّهون.

قال هولمز، وهو يعود ليجلس على كرسيِّه المريح ضامًّا أصابعَه، كما كانت عادته عند التفكير بعمق للحُكم على الأشياء: «فلتجلسْ على الأريكة يا عزيزي واطسون، فأنا أعلم أنك تتقاسم حبِّي لكل ما هو غريب ومخالفٌ لعاداتِ ورتابةِ روتين الحياة اليومية. لقد أبدَيتَ وَلَعك بذلك من خلال الحماس الذي دفعك إلى التسجيل الزمني للأحداث، أو فلتَسمحْ لي أن أقول: تزيينُ الكثير من مغامراتي.»

قلتُ: «لطالما كانت قضاياك ذات أهميةٍ كُبرى بالنسبة لي.»

«كما تذكر فقد قلتُ يومًا، قبل أن نبدأ العمل في القضية البسيطة للغاية التي عرضَتْها الآنسة ماري ساذرلاند مباشرةً: إننا يجب أن نقصد الحياة ذاتها؛ من أجل تفسير التأثيرات الغريبة والتركيبات غير العادية، وأنَّنا سنجد في الحياة ما هو أكثر جرأةً ممَّا قد يخطُر على الخيال.»

«وهو الأمر الذي سمحتُ لنفسي أن أشكِّك في صحته.»

«هذا صحيحٌ يا دكتور، لقد فعلتَ، ولكن مع ذلك يجب أن تسلِّم بوجهة نظري، وإلا فسأواصل تكديس الحقائقِ الواحدة فوق الأخرى أمامك؛ حتى ينهارَ منطِقُك تحت وطأَتها، وتعترف بأنني على صواب. والآن، أكرمني السيد جابز ويلسون بزيارتِه هذا الصباح، وحكى بالتفصيل قِصةً تنبئُ بأن تكون واحدةً من أغرب القضايا التي استمعتُ إليها منذ زمن. لقد سمِعْتَني وأنا أقول: إن أكثر الأشياء غرابةً وتفرُّدًا لا ترتبط في كثير من الأحيان بالجرائم الكُبرى، وإنَّما بالجرائم الصغرى، وأحيانًا نجدها، في الواقع، عندما يكون هناك مجالٌ للشكِّ أن هناك جريمة مؤكَّدة قد ارتُكبَت. وبحسب ما سمعت من الحكاية، لا يمكنني أن أجزم ما إذا كانت هناك جريمة قد ارتُكبَت بالفعل أم لا، ولكن مسارَ الأحداثِ بالتأكيد من بين أكثر الأحداث التي استمعت إليها غرابةً. ربما تتفضَّل يا سيد ويلسون بإعادة سَرْد الأحداث مرةً أخرى. أنا أطلب ذلك لا لأن صديقي السيد واطسون لم يسمع بداية الحديث، ولكن أيضًا لأن الطبيعةَ الغريبة للقصَّة تجعلني متشوِّقًا لسَماع كل التفاصيل المُمكِنة من شَفتَيك. وكقاعدةٍ عامة، عندما أستمع إلى بعض الإشارات البسيطة لتسلسل الأحداث، فإنني أسترشدُ بآلافِ القضايا المماثلةِ الأخرى التي تخطُر على بالي. إلا أنني في الوضع الراهن مضطرٌّ للاعتراف أن هذه الوقائعَ — حسب ما أرى — غير عادية.»

نفَخ العميل البَدينُ صدرَه — وقد بدا عليه الفخر قليلًا — وسحب صحيفةً متسخةً مجعَّدةً من الجيب الداخلي لمعطفه الثقيل. وبينما كان ينظر إلى عمود الإعلانات في الصحيفة، مع توجيه رأسه للأمام والورقة منبسطة على ركبتَيه، ألقيتُ نظرةً فاحصةً على الرجل وجهدتُ، كعادة رفيقي، في قراءة المؤشرات التي قد يبديها زِيُّه أو مظهره.

ومع ذلك، فلم أجنِ الكثير من المعلومات بتفحُّصي إيَّاه؛ إذ كان لدى زائرنا كلُّ الدلائل التي تشير إلى أنه تاجرٌ بريطاني عادِيٌّ من النوع المألوف، يُعاني من السِّمْنة المُفرطة والغرور والتراخي. كان يرتدي بنطالًا واسعًا ذا مربعاتٍ رماديَّة وبيضاء، وعليه سترةٌ سوداء غير نظيفة مشقوقة الذَّيل، لم تُزرَّر من الأمام، تصل إلى ركبتَيه، وصدرية رمادية تتدلَّى منها سلسلة جَيْب نحاسية ثقيلة، معلَّق بطرفِها قطعة معدنية مربَّعة الشكل كنوع من الزينة. وبجانبه على الكرسيِّ استقرَّت قبَّعة أعلاها مهترئٌ، ومعطف بُنِّيٌّ باهت له ياقة مِخمَلية مُجعَّدة. وعلى الرغم من إمعاني النظر فإنه لم يكن هنالك شيء يَلفِت الانتباهَ فيما يخصُّ الرجل، باستثناءِ شعر رأسه المُتوهِّج احمرارًا، وما يبدو على ملامحه من استِياءٍ وانزعاج.

سرعان ما لاحظ شيرلوك هولمز بنظره الحادِّ نظراتي المتسائلة، فهزَّ رأسه مبتسمًا، وقال: «لم أستطع التوصُّلَ إلى أكثرَ من كَوْنه مارس لفترةٍ ما عملًا يدويًّا، وأنه يتعاطى السَّعُوط، وأنه عضوٌ ماسونيٌّ، وأنه قد زار الصين من قبل، وأنه قد قام بالكثير من الكتابة مؤخَّرًا.»

قفز السيد ويلسون من فوق كرسيِّه، بينما كانت أصبعه السَّبابة لا تزال على الورقة، وعيناه تنظران إلى رفيقي.

وصاح قائلًا: «كيف بالله عليك استطعتَ أن تعلمَ كلَّ هذا يا سيد هولمز؟ كيف عرفتَ مثلًا أنني مارست أعمالًا يدويةً، إن ما قلتَهُ صحيحٌ تمامًا، حيث قد عملت في بدايتي نجَّارًا على إحدى السفن.»

«من يديك سيدي العزيز، فيدُكَ اليمنى أكبر قليلًا من يدك اليُسرى، ما يعني أنك كنت تعمل بها، فنَمَت عضلاتها أكثر من الأخرى.»

«حسنًا، ماذا بشأن السَّعُوط إذن، والماسونية؟»

«لن أقدَح في ذكائك بإخباركَ كيف استطعتُ الاستدلالَ على ذلك، لكن برغم التكتُّم الشديد على إظهار الرموز فإنك ترتدي رمز الماسونية (المثلَّث والفِرْجار) دبُّوسًا على صدرك.»

«آه! بالطبع لقد نسيت ذلك، لكن كيف عرفت بشأن الكتابة؟»

«وهل أَدَلُّ على ذلك من اهتراء طرف كُمِّك الأيمن من عند المِعْصم، ووجود بقعة مَلْساء عند كوعك الأيسر من المنطقة التي تستند بها على المكتب؟»

«حسنًا، وماذا عن الصين؟»

«إن السمكة التي وَشَمْتَها أسفل رُسْغك الأيمن لا يمكن وَشْمها إلا في الصين، لقد قمت بدراسة عن علامات الوُشُوم، وساهمت بالكتابة في الموضوع، إن التلوين الدقيق لحَراشِف السمكة باللون الوَرْدي تنفرد به الصين، كما أنني رأيتُ عملةً صينيةً تتدلَّى من سلسلة الساعة، وهو ما جعل الأمر أكثر وضوحًا بالنسبة لي.»

ضحك السيد جابز ويلسون بقوة قائلًا: «حسنًا، لم يخطر هذا على بالي مطلقًا! لقد ظننتُ في بادئ الأمر أنك قمت بعملٍ فائق الذكاء، إلا أنني أرى الآن أن الأمر كان بديهيًّا.»

قال هولمز: «أظن أنني أخطئ يا واطسون بصراحتي هذه، فالجهل بالشيء يجعله أكثر روعةً، وإن التزامي بالصراحة والوضوح قد يكلِّف سمعتي المتواضعة غاليًا، ألم تستطع العثور على الإعلان بعد يا سيد ويلسون؟»

قال، وأصبعه الحمراء الغليظة مُثبتة على منتصف أحد أعمدة الصحيفة: «بلى، ها قد وجدته، ها هو، هذا بداية الأمر بِرُمَّته، يمكنك قراءته بنفسك يا سيدي.»

أخذْتُ منه الصحيفة، وشرعْتُ في قراءة ما يلي:

تُعلن عُصبة ذوي الشعر الأحمر — بناءً على وصية المرحوم إيزيكيا هوبكنز من مقاطعة لبنان في ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية — عن توفُّر وظيفة شاغرة، وهي تطلب لها موظفًا براتب أسبوعيٍّ قيمته أربعة جنيهات إسترلينية، مقابل خدمة بسيطة للغاية؛ أيُّما رجل ذي شعر أحمر يَجِد في نفسه القدرةَ البدنية والذهنية، ويكون قد تخطَّى سِنَّ الواحد والعشرين عامًا؛ فهو مُؤهَّلٌ لهذه الوظيفة، وعليه أن يتقدَّم شخصيًّا يوم الإثنين، في تمام الساعة الحادية عشرة في مَقرِّ العُصبة ٧ شارع محكمة البابا، مُتفرِّع من شارع فليت.

هتفتُ قائلًا، بعد أن قرأت الإعلان مرَّتَين: «ما معنى هذا بحقِّ السماء؟»

ضحك هولمز ضحكةً مكتومةً، وتلوَّى في كرسيِّه كعادته عندما تكون معنوياته مرتفعةً، وقال: «إنَّه شيءٌ خارج المألوف أليس كذلك؟! والآن يا سيد ويلسون لنَعُدْ إلى البداية، احْكِ لنا كلَّ شيء عن نفسك، وعن الأفراد المقيمين معك، وعن تأثير هذا الإعلان على ثَروتك، لكن قبل كل شيء يا دكتور واطسون دوِّن في ملاحظاتك: اسم الجريدة، وتاريخ صدور العدد.»

«إنَّها صحيفة الكرونيكل الصباحية، بتاريخ ٢٧ أبريل من عام ١٨٩٠، منذ شهرَين فقط.»

«جيِّد جدًّا، والآن يا سيد ويلسون، فلتتفضَّل.»

قال السيد جابز ويلسون ماسحًا جَبينَهُ: «حسنًا، الأمر كما قلتُ لك تمامًا يا سيد هولمز، أنا سمسار رهونات، لديَّ مكتبٌ صغيرٌ في ميدان كوبورج، بالقُرب من المدينة. إنه ليس عملًا تجاريًّا كبيرًا، كما أنني في السنوات الأخيرة لم أَجْنِ منه أكثرَ من الكَفَاف. لقد كنتُ معتادًا على الاستعانة بمساعدَين اثنَين، لكنني الآن لا يُمكنني إلا الإبقاء على واحد فقط، ولم أكنْ حتى لأَستطيع تحمُّلَ راتبِه لولا أنه وافق على أن يتَقاضَى نصفَ راتبِه مقابل تعلُّم المِهنة.»

سأل هولمز: «ما اسمُ هذا الشابِّ الكريم؟»

«اسمه فينسنت سبولدنج، كما أنه ليس شابًّا، ومن الصَّعب تحديدُ عمرِه. ولم أكن لأتمنَّى مساعدًا أذكى منه يا سيد هولمز، وأنا على يقينٍ أنه يُمكنه أن يجِد وظيفةً أفضل وأن يجني ضِعْف ما أعطيه إيَّاه، ولكن على أية حال، ما دام راضيًا بوضعه، فلِمَ عليَّ أن أنبِّهه لذلك؟»

«صحيح، لماذا عليك فعلُ ذلك؟ يبدو أنك محظوظ جدًّا بالحصول على خدمات مثل هذا الموظف الذي قَبِل بأَجْرٍ أقل من المتعارف عليه. فليس هذا شائعًا لدى أربابِ العمَل في هذا الزَّمان، وأرى أن مساعدَك جديرٌ بالملاحَظة كإعلان الصَّحيفةِ تمامًا.»

«آه، إن له عيوبَه أيضًا، فلم أرَ شخصًا في مثل وَلَعِه بالتصوير الفوتوغرافي، فهو ينشغل بالتصوير في الوقت الذي ينبغي فيه أن يعمَل على تطوير تفكيره، ثم يغوصُ في السرداب — كما يختفي الأرنب في جُحْره — لتحميض الصُّوَر. هذا هو عَيْبُه الرئيسي، لكنه في المُجْمل عاملٌ جيِّد ولا غُبار عليه.»

«أفترض أنه لا يزال يعملُ لديك، أليس كذلك؟»

«نعم سيدي، لا يزال يعمل لديَّ هو وفتاة في الرابعة عشرة من عمرها، تقوم ببعض الطَّهْو البسيط، وتحافظ على إبقاء المكان نظيفًا، وهما كل ما لديَّ في منزلي، لأنني أرملٌ، ولم أَحْظَ بعائلة قَطُّ. نحن الثلاثة نعيش في هدوء تام سيدي، إننا نحافظ على المكان الذي نعيش تحت سقفِه وندفع المستحقَّات التي علينا، ولا شيءَ أكثرُ من ذلك.

إن أول ما أزعَجنا كان ذلك الإعلان، حيث جاء سبولدنج إلى مكتبي في مثل هذا اليوم منذ ثمانية أسابيع، ومعه في يده هذه الصحيفة بعَيْنها، وقال:

«كم أتمنى لو كنتُ ذا شعرٍ أحمر يا سيد ويلسون!»

سألته: «ولماذا؟»

قال: «لماذا؟ ها هي وظيفة أخرى شاغِرة في عُصبة الرجال ذوي الشعر الأحمر، وهي تساوي ثروةً صغيرةً لأيِّ رجلٍ يحصُل عليها، وما فهمتُهُ هو أن الوظائفَ المتاحة أكثر من الأشخاص المؤهَّلين لها، لذا فالأوصياء على التَّرِكة لا يدرون ماذا يصنعون بالأموال، لو أنَّ بإمكاني صَبْغَ شعري بالأحمر فقط، لكان لديَّ فرصة أن أحصل على تلك الوظيفة.»

سألته: «لماذا؟ ماذا في الأمر؟» حيث إنني يا سيد هولمز رجلٌ أحِبُّ لزوم منزلي، كما أن عملي هو مَن يأتي إليَّ ولستُ مضطرًّا للخروج إليه، وقد تمرُّ الأسابيع دون أن أَطَأَ عتبة بيتي؛ لذا فأنا لا أعرف الكثير عمَّا يدور بالخارج، وأسعد بأيِّ خبرٍ يأتي من هناك.

سألني بعينَين مندهشتَين: «ألَمْ تسمع قطُّ بعُصبة الرجال ذوي الشعر الأحمر؟»

قلْتُ: «مطلقًا.»

قال: «هذا أمرٌ يدعو للعجَب، حيث إنَّك من المؤهَّلين لإحدَى هذه الوظائف.»

سألته: «وما المقابل؟»

«تقريبًا مائتا جنيه في العام، لكن العمل بسيط، ولا يتعارض مع أي عمل آخر.»

حسنًا يمكنُك أن ترى الآن بسهولة كيف أنَّ هذا الأمر حاز اهتمامي، فأعمالي لم تكُن على ما يُرام لسنوات، ومائتا جنيه إضافية ستكون مفيدة جدًّا.

قلتُ له: «أخبرني أكثر عن تفاصيل الأمر.»

قال وهو يريني الإعلان: «حسنًا، يمكن أن ترى أن العُصبة لديها وظائف شاغرة، وهذا هو العنوان الذي يجب أن تُقدِّم فيه الطلب، وعلى حسب معلوماتي فإن العُصبة أسَّسها المليونير الأمريكي إيزيكيا هوبكنز، والذي كان ذا سيرة عجيبة، فقد كان هو ذاتُه ذا شعر أحمر، وكان لديه تعاطُف كبير تِجاه الرجال ذوي الشعر الأحمر، وعندما وافَتْه المنية ترك ثروةً ضخمةً في عُهدة الأوصياء، مع تعليمات أن تُخصَّص العوائد من أجل توفير أعمال سهلة للرجال ذوي الشعر الأحمر، وكل ما سمعته أن الأجر ممتاز، والعمل بسيط.»

سألتُه: «لكن قد يكون هناك الملايين من الرجال ذوي الشعر الأحمر الذين سيتقدَّمون للوظيفة.»

قال: «إنهم ليسوا بتلك الكثرة التي تعتقدها، فكما ترى يقتصر الأمر على الأشخاص البالغين المُقيمين في لندن فقط، فقد بدأ ذلك الأمريكي طريقَهُ من لندن عندما كان صغيرًا، وأراد أن يرُدَّ المعروف للمدينة العجوز، كما أنني سمعت أيضًا أنه لن يكون هناك فائدة من التقديم إن كان لون الشعر فاتحًا أو داكنًا، بل يجب أن يكون أحمر زاهيًا مُتوهِّجًا، والآن إن قرَّرت التقديم يا سيد ويلسون فسوف تحصل عليها بمنتهى السهولة، ولكن ربما يكون الأمر أقل شأنًا من أن تغيِّر له نمط حياتك وعاداتك من أجل بضع مئات من الجنيهات.»

في حقيقة الأَمرِ أيها السادة، وكما ترون بأنفسكم، إن شعري ذو لون زاهٍ وصارخ، وقد بدا لي أنه لو كان هناك أي تنافس على هذا الأمر؛ فإن فرصتي فيه أفضل من فرصة أي شخصٍ قابلتُهُ في حياتي، وبما أن فينسنت سبولدنج يعرف عن هذا الأمر الكثير، فقد فكَّرت في أنه ربما يكون مفيدًا؛ لذا أمرته أن يغلق المكتبَ لهذا اليوم، وأن يأتيَ معي في الحال، وقد بدا سعيدًا للحُصول على يوم إجازة، وهكذا أغلقنا المكتب، وتوجَّهنا نحو العنوان المُدوَّن في إعلان الجريدة.

لا أتمنى أن أرى مثل هذا المنظر مرةً أخرى يا سيد هولمز؛ فقد حضر كل رجل في شعره مِسْحَة من احمرار من شمال البلاد وجنوبها وشرقها وغربها؛ تلبيةً لإعلان الصحيفة، واكتظَّ شارع فليت بذوي الرءُوس الحمراء، وتحوَّل شارع محكمة البابا إلى ما يشبه عربة الخضريِّ الممتلئة بالبرتقال. لم أكن أعتقد أن في البلاد بأكملها كلَّ هذا العدد من ذوي الرءوس الحمراء، لولا أن جَمَعَهم هذا الإعلان الأَوْحَد. كان هناك كل درجات الألوان بدايةً من صُفْرَة القَشِّ والليمونيِّ والبرتقاليِّ والأحمر الطوبيِّ، والبُنيِّ المائل للكِسْتنائي (لون كلب الصيد من نوع آيريش سيتير)، والبُنيِّ الضارب للحُمْرة، والبُنيِّ الصَّلْصالي، ولكن — كما قال سبولدنج — لم يكن هناك الكثير من أصحاب الشَّعر الأحمر المُتوهِّجِ الزَّاهي. عندما رأيتُ كَمَّ المنتظرين، تملَّكني اليأس وكِدْت أستسلم، ولكن سبولدنج لم يكن لِيسمح بذلك، إن ما قام به لم أكن لأتخيَلَه، فقد أخذ يدفع الناس ويجذبهم ويناطحهم؛ حتى استطاع أن يجد لي طريقًا وسط تلك الحشود، ليوصِّلني إلى الدَّرَج المؤدِّي إلى المكتب. كان ثمةَ طابوران من الناس على الدَّرَج، أحدهما يصعد في أمل باتجاه المكتب، والآخر يهبط في كآبة وقد رُفض، ولكننا واصلنا شقَّ طريقنا بصعوبة؛ حتى انتهى بنا الأمر سريعًا في المكتب.»

قال هولمز مُعلِّقا، عندما اعترى عميلَنا الصمت وهو يحاول إنعاشَ ذاكرتِه باستنشاق السَّعوط: «لقد كانت تجربتك ممتعةً جدًّا، أرجو أن تكمل لنا روايتك المثيرة للاهتمام.»

أكمل العميل قائلًا: «لم يكن في المكتب سوى كرسيَّين خشبيَّين وطاولة، يجلس خلفها رجل صغير الحجم، ذو شعر أكثر احمرارًا حتى من شعري. كان يقول بضع كلمات لكل مُرشَّح يدخل عليه، وكان ينجح دائمًا في إيجاد عيبٍ ما في كل مُرشَّح يستبعده من المنافسة. لقد بدا أن الحصول على هذه الوظيفة ليس بالأمر السهل أبدًا. على أية حال، عندما حان دَوْرُنا، أظهر الرجل اهتمامًا بي أكثر من أي مُتقدِّم آخر، وأغلق الباب بعد دخولنا؛ ليتسنَّى له أن يخاطبنا على انفراد.»

قال مساعدي: «هذا هو السيد جابز ويلسون، وهو يطمح في شَغْل الوظيفة المتاحة في العُصبة.»

أجاب الرجل الآخر: «وهو مناسب لها بشكل رائع، فهو مستوفٍ لكل متطلباتها، إنني حتى لا أذكر متى رأيت شيئًا بتلك الملاءمة.» ثم أخذ خطوة للوراء وأمال رأسه، وأخذ يُحدِّق فيَّ حتى استحييت، ثم مال باتجاهي بطريقة مفاجئة وصافحني بقوة مهنئًا إيايَ بحرارة لحصولي على الوظيفة.

وقال: «سيكون من الإجحاف أن أتردَّد. لكنني متأكِّد أنك ستعذرني لاتخاذي إجراءات واضحة للتأكُّد من صحة توفُّر الشروط.» قال ذلك وقبض بكلتا يديه على شعري وشَدَّه بعنف حتى صرَخت من شدة الألم. ثم قال بعد أن أفلَتَ شعري: «هناك دموعٌ في عينيك، وأعتقد أن كلَّ شيء كما ينبغي، لكننا يجب علينا أن نكون حَذِرين؛ إذ تعرَّضنا للاحتيال مرتَين؛ مرةً باستخدام الشعر المُستَعار، ومرةً بالشعر المصبوغ، يمكنني أن أخبرك حكايات عن شمع الإسكافي ستشعرك بالاشمئزاز من الطبيعة البشرية.» بعد ذلك ذهب إلى النافذة، وصرخ بأعلى صوتِه معلنًا أن الوظيفة الشاغرة قد شُغلَت. تصاعدت صَيْحات التذمُّر المُحبَطة من الأسفل، وتفرَّقَت الجموع مبتعدةً في اتجاهات شتَّى؛ حتى لم يبقَ ذو شعر أحمر سواي أنا والمدير.

قال: «اسمي السيد دنكان روس، وأنا نفسي أحد المستفيدين من التَّرِكة التي أوصى بها مُحسِننا النبيل، هل أنت متزوج يا سيد ويلسون؟ ألديك أسرة؟»

أجبته نافيًا ذلك.

فتغيَّر وجهُه على الفور.

وقال بحزن: «يا إلهي! هذا أمرٌ جِدُّ خطير، آسِفٌ لسماعي ذلك، لأن الغَرَض من التمويل في الأصل هو تكاثُر وزيادة أعداد ذوي الشعر الأحمر وإعالتهم. إنه لمن الحظ السيء جدًّا أن تكون عَزَبًا.»

عند ذلك شعرتُ بالكآبة يا سيد هولمز، فقد ظننت أنني لن أحصل على الوظيفة بعد كل هذا، ولكنه قال، بعد أن فكَّر لعدَّة دقائق: إن الأمرَ قد ينجح.

«لو كان شخصٌ غيرك يا سيد ويلسون لمَا نجح معه الأمر، ولكان عدم قبوله شيئًا مفروغًا منه، ولكنه شرطٌ يمكننا التغاضي عنه، نظرًا لأنك رجلٌ لديه مثل هذا الشعر الذي على رأسك. متي يمكنك البدء في ممارسة مهامِّ عملك الجديد؟»

قلت له: «إن الأمر مزعج بعضَ الشيء، إذ إنني لديَّ بالفعل عملٌ آخر.»

قال فينسنت سبولدنج: «آه، لا تحمل هم ذلك يا سيد ويلسون، فسأعتني بذلك لأجلك.»

قلت: «ما هي ساعات العمل؟»

قال الرجل: «من العاشرة إلى الثانية.»

إن أعمال سمسرة العقارات يا سيد هولمز غالبًا ما تجري في المساء، خصوصًا مساء الخميس والجمعة، واللذين يكونان قُبَيل يوم الدفع للمُستحِقِّين؛ لذا فقد بدا لي أنه سيكون من المناسب جدًّا أن أكسب القليل من المال الإضافي في الفترة الصباحية، كما أنني على عِلْم أن مساعدي رجلٌ طيِّبٌ، وسيُحسِن التصرُّف مع أي مُستجدَّات في العمل.

قلت: «هذا يناسبني جدًّا، وماذا عن الراتب؟»

«أربعة جنيهات أسبوعيًّا.»

«وما هي طبيعة العمل؟»

«إنه عملٌ سهلٌ للغاية.»

«وما هو ذلك العمل الذي تصِفُه بأنه سهلٌ للغاية؟»

«حسنًا، ينبغي عليك التواجُد في المكتب، أو في المبنى على الأقل، طوال الوقت. لو انصرفت في أي وقت طوال فترة عملك؛ فستخسر هذه الوظيفة للأَبَد، إن الوصية واضحة جدًّا فيما يخصُّ هذا الشرط، ولن تكون ملتزمًا بالشروط إن تحرَّكْتَ من المكتب طوال ذلك الوقت.»

قلتُ: «إن ساعات العمل أربع ساعات فقط، ولن أفكِّر في الانصراف.»

قال السيد دنكان روس: «لن تُقبَل أيَّةُ أعذار؛ لا أعذار مرضية، ولا بسبب أعمالك، ولا أيَّة أعذار أخرى، وسيتوجب عليك المكوث هناك وإلا فستخسر وظيفتك.»

«وما هي طبيعة العمل؟»

«ستقوم بنسخ دائرة المعارف البريطانية، ها هو المجلد الأول منها، سيتوجب عليك إحضار الحِبْر والأقلام وورق تجفيف الحِبْر، وسنوفِّرُ نحن لك هذه الطاولة والكرسي. هل ستكون جاهزًا غدًا؟»

«بالتأكيد، سأكون جاهزًا.»

«إلى اللقاء إذن يا سيد جابز ويلسون، واسمح لي أن أهنِّئك مرةً أخرى على هذا المنصب المهمِّ الذي كنت محظوظًا كفايةً للحصول عليه.» وانحنى لي وأنا خارج من المكتب، ثم ذهبتُ إلى منزلي مع مساعدي، وأنا لا أدري ما أقول ولا ما أفعله من شدَّة سعادتي بحسن حَظِّي.

حسنًا، لقد ظللت أفكِّر في الأمر طوال اليوم، وعند حلول المساء كانت معنوياتي قد انخفضت مرةً أخرى، وأقنَعتُ نفسي أن الأمر لا يعدو عملية خداع أو نَصْب كبيرة، ولكنني لم أستطِعْ تحديد المغزى منها، ولا الغرض من ورائها. فقد كان من الصَّعب تصديقُ أن يقوم شخصٌ ما بكتابة مثل هذه الوصية، أو بدَفْع مثل ذلك المبلغ نظير عمل في بساطة نَسخ الموسوعة البريطانية. لقد فعل فينسنت سبولدنج كل ما في استطاعتِه ليبهجني، ولكن عند حلول وقتِ النوم كنت قد أقنعتُ نفسي بعدم جدِّيَّة الأمر كله، وعقدت العزم في الصباح على إلقاء نظرة مرة أخرى في الأمر برُمَّتِه، فاشتريت زجاجة حِبْر صغيرةً، وقلمًا مصنوعًا من الرِّيش، وسبع رُزَمٍ من الأوراق، ثم اتَّجهت إلى المكتب.

بلغ السرورُ والدهشة مني مَبلغًا عندما رأيت كل شيءٍ كما يَنبغي له أن يكون. فرأيت الطاولة موضوعةً هناك لأجلي، والسيد دنكان روس كان حاضرًا؛ ليتأكَّد من حُضوري في الموعد المُحدَّد، وقد تابعني حتى بدأت النسخ من أول الموسوعة ثم تركَني ومضَى، على أن يمرَّ عليَّ من وقت لآخر؛ ليرى إن كانت أموري تسير بشَكلٍ سليم. وفي تمام الساعة الثانية تمنَّى لي يومًا طيِّبًا، وأظهر إعجابه بالقَدْر الذي نسخته من الموسوعة، وأغلق الباب خلفي بعد خروجي.

جرى الأمر على هذا المنوال يومًا بعد يوم يا سيد هولمز، وفي يوم السبت أتى المدير ودفع لي أربعة جنيهات ذهبيةً نظير عملي لأسبوع. تكرَّر الأمر في الأسبوع التالي ثم الأسبوع الذي يليه، كنت أذهب إلى هناك في العاشرة صباحًا، وأنصرِف في الثانية بعد الظهر، وبالتدريج أصبح السيد دنكان يأتي مرةً واحدةً صباح كل يوم، ثم بعد ذلك لم يَعُدْ يأتي مطلقًا، ومع ذلك لم أجرؤ على الخروج من الغرفة قطُّ، لأنني لم أكُن أعلم متى سيأتي، وقد كانت الوظيفة جيدةً ومناسبةً لي جدًّا، ولم أكن لأخاطر بضَياعها من يدي.

«مرَّت ثمانية أسابيع على هذا الحال، كتبت فيها الشيء الكثير ممَّا يبدأ بحرف الألف، وتمنَّيْتُ أن أصل لحرف الباء قريبًا. لقد كلَّفني ذلك الكثير من الورق وملأت كتاباتي ما يقرب من رَفٍّ كامل، ثم انتهى كلُّ شيء فجأةً.»

«انتهى كل شيء فجأةً؟»

«نعم يا سيدي، حدث هذا صباح هذا اليوم، حين ذهبت إلى عملي كالمعتاد في الساعة العاشرة، لكن الباب كان موصدًا وعليه قطعة مُربَّعة صغيرة من الورق المُقوَّى مُثبَّتة بمسمار في وسط الباب، ها هي، يمكنك قراءَتها بنفسك.»

ثم أمسك بقطعة بيضاء من الورق المُقوَّى بحَجم ورقة الملاحظات، كُتِبَ عليها ما يلي:
حُلَّتْ عُصبة ذوي الشعر الأحمر
في ٩ أكتوبر ١٨٩٠.

تفحَّصْت أنا وشيرلوك هولمز هذا الإعلان المُقتَضَب ووجهَ الرجل الكئيب، حتى غلب الجانب الهزليُّ للموقف تمامًا على أيَّة اعتبارات أخرى. فانفجرنا ضاحكَين.

هتف عميلُنا، وقد احمرَّ وجهُهُ حتى منابت شَعْرِه المُتوهِّج: «لا أرى في الأمر أي مَدْعاة للضحك، إذا لم يكن لديكما ما تفعلانه سوى السخرية مني؛ فيمكنني الذهاب لمكان آخر.»

صاح هولمز، وهو يعيد الرجل إلى كرسيِّه الذي هَمَّ بالقيام عنه قائلًا: «لا لا، أنا لن أترك قضيَّتَك مهما بلغ الأمر، فهي غريبة بشكل مُنعِش. ولكن اعذرني إن قلت لك إنها طريفة إلى حدٍّ ما. أرجوك أن تقول لي ماذا صنعت عندما قرأتَ الورقة المُعلَّقة على الباب؟»

«لقد كنت أترنَّح يا سيدي، لم أكن أدري ماذا أصنع، وقمت بسؤال المَكاتِبِ المُجاوِرة، لكن أحدًا لم يكن يعلم أي شيء عن الأمر، وفي نهاية الأمر ذهبتُ إلى صاحب المبنى، وهو محاسبٌ يعيش في الطابق الأرضيِّ، وسألته عمَّا إذا كان يستطيع إخباري بما حلَّ بالعُصبة، لكنه قال إنه لم يسمع بهذا الكيان من قبل، ثم سألته مَن يكون السيد دنكان روس، فأخبرني أن هذا الاسم لم يطرق سَمْعه من قبل.

قلت له: «حسنًا ماذا عن الرجل المُهذَّب في المكتب رقم ٤؟»

«أتقصد الرجل ذا الشعر الأحمر؟»

«نعم.»

«آه، اسمه السيد ويليام موريس، وهو محامٍ كان يستخدم إحدى حجراتي كمأوًى مؤقَّت حتى يجهِّز مبناه، وقد انتقلَ بالأمس.»

«أين يمكنني إيجاده؟»

«آه، في مكتبه الجديد، لقد أخبرني بعنوانه، ١٧ شارع الملك إدوارد، بالقُرب من كنيسة سانت بول.»

مَضَيْت يا سيد هولمز، لكن عندما وصَلتُ للعنوان وجدتُه مصنعًا للرُّكَب الاصطناعية، ولم أجد هناك مَن سمع بالسيد ويليام موريس، أو السيد دنكان روس.»

قال هولمز: «ماذا صنعتَ عندها؟»

«عُدْت إلى منزلي بساحة ساكس كوبورج، وأخذت بنصيحة مساعدي، ولكنها لم تغنِ عني شيئًا، إذ قال لي أن أنتظر حتى أسمع بالأمر عن طريق البريد، ولكنها نصيحة لم تكن جيدةً كفايةً يا سيد هولمز، لم أشَأْ أن أخسر هذا العمل دون أن أبذل جهدي للحفاظ عليه. ولأنني سمعت أنك لا تتوانى عن تقديم النُّصح للمُحتاجين، فقد أتيتُ إليك مباشرةً يا سيد هولمز.»

قال هولمز: «وهو تصرُّفٌ حكيم جدًّا، فقضيَّتُك غريبةٌ لأبعد الحدود، ولسوف أكون سعيدًا بالنَّظَر فيها، وممَّا أخبرتني إيَّاه، أعتقِدُ أن في الأمر خطرًا أكبر ممَّا قد يبدو من الوهلة الأولى.»

قال السيد جابز ويلسون: «خطيرٌ كفايةً! فقد كلَّفني خسارة أربعة جنيهات في الأسبوع.»

قال هولمز مُعلِّقًا: «أمَّا فيما يخصُّ شخصَك، فلا أرى أساسًا أيَّ مَظْلَمة وقعت عليك من هذه العُصبة غير المعتادة، بل على العكس من ذلك فقد جعلتك أغنى من ذي قبل بحوالَيْ ثلاثين جنيهًا كما فهمت منك، هذا إن لم نأخذ في الاعتبار المعلومات الدقيقة التي اكتسبتها من المواضيع التي نسخْتَها البادئة بحرف الألف؛ لذا فأنت لم تخسر أي شيء بسببهم.»

«لا سيدي، ولكنني أريدُ أن أعرف كل شيء عن حقيقة هذه العُصبة، ومن هُم أصحابها؟ وماذا كان الهدف من وراء هذه المُزْحَة؟ إن كانت كذلك؛ فهي مُزْحَة مُكلِّفة جدًّا في رأيي، إذ كلَّفَتْهم اثنين وثلاثين جنيهًا.»

«سنسعى جاهِدِينَ لتوضيح هذه النقاط من أجلك، ولكن أولًا، لديَّ سؤال أو اثنان أودُّ منك الإجابة عليهما يا سيد ويلسون. مساعدك الذي لفت نظرك للإعلان أول مرة، كم من الوقت كان قد عمل لديك وقتها؟»

«كان قد عمل لمدة شَهرٍ تقريبًا.»

«كيف حصَل على وظيفتِه؟»

«عن طريق إعلان.»

«هل كان هو المُتقدِّم الوحيد؟»

«لا، بل كان هناك الكثيرون.»

«ولِمَ اخترتَهُ هو بالتحديد؟»

«لأنه كان بارعًا وقَبِل بالأجر الزهيد.»

«بل بنصف الأجر في الواقع.»

«نعم.»

«كيف يبدو، فينسنت سبولدنج هذا؟»

«صغير الحجم، قويَّ البِنْيَة، حليق الوجه، سريع الحركة جدًّا، ولا يقلُّ عمره عن الثلاثين عامًا، وعلى جبهته بقعةٌ بيضاء من أَثَر حَرْق قديم.»

اعتدل هولمز في جلسته، وقال في انفعال واضح: «ذلك ما توقَّعْتُه، هل لاحظتَ إن كانت أذناه مثقوبتَين؟»

«أجل يا سيدي، وقد أخبرني أن غَجَرِيًّا صنع له ذلك عندما كان صَبِيًّا.»

هَمْهَم هولمز، وهو يغرق في التفكير راجعًا إلى الوراء، ثم قال: «هل ما زال يعمل لديك؟»

«نعم يا سيدي، فقد تركته منذ قليل.»

«وهل كان عملك يسير بشكل جيد في غيابك؟»

«ليس في الأمر ما يدعو للشكوى، فكما أسلفْتُ، العمل قليل جدًّا في فترة الصباح.»

«هذا يكفي يا سيد ويلسون، وسأكون مسرورًا بتقديم رأيي فيما يتعلَّق بهذه القضية في غضون يوم أو اثنين. اليوم هو السبت، وأتمنَّى أن نصل إلى نتيجة بحلول يوم الإثنين.»

قال هولمز، بعد أن غادر ضيفنا: «حسنًا يا واطسون، ماذا تستنتج من هذا الأمر برُمَّتِه؟»

قلتُ بصراحة: «لا شيءَ، الأمرُ في غاية الغموض.»

قال هولمز: «كقاعدة عامة، أشدُّ الأشياء غرابةً هي ما يتبيَّن فيما بعد أنها الأقل غموضًا، وإن أكثر القضايا وضوحًا هي في الحقيقة أكثرها غرابةً، تمامًا كصُعوبة تحديد ملامح الوجه العادي، حسنًا ينبغي عليَّ الآن الإسراع في حلِّ هذه القضية.»

سألتُهُ: «إذن، ما الذي ستَفعلُه؟»

قال: «سأقوم بالتدخين أولًا، إن الأمر يحتاج إلى تدخين الغليون لثلاث مرات، كما أرجو منك ألا تحادثني لمدة خمسين دقيقةً.» ثم احتبى في كرسيِّه جاذبًا ركبتَيه النحيلتَين تجاه أنفه المعقوف كمِنقار الصقر، وجلس مُغمِضًا عينَيه ويبرز غليونه الصَّلْصالي الأسود كمنقار طائر غريب. استنتجت من وضعِيَّتِه تلك أنه غطَّ في نومه، وبينما كان يميل رأسي أنا أيضًا للنعاس، قفَزَ فجأةً من فوق كرسيِّه، كما لو أنه استقرَّ على رأيٍ ما، ووضَع غليونه على المدفأة.

وقال لي: «سيعزف ساراسيت في قاعة سانت جيمس هذا المساء، ما قولك يا سيد واطسون، هل يمكنني أن أستعيرك من مرضاك لسُوَيْعات معدودة؟»

قلتُ: «ليس لدي ما أفعلُه اليوم، فمِهنتي لا تشغل حيِّزًا كبيرًا من وقتي.»

«فلترتدِ قبعتَكَ إذن، ولتأتِ معي، سأذهب لوسط المدينة أولًا، وربما يمكننا تناول الغداء في طريقنا، لقد لاحظتُ أن البرنامج يحتوي على مقدار دسِمٍ من الموسيقى الألمانية، التي تناسب ذوقي أكثر من نظيرتها الإيطالية أو الفرنسية، فالموسيقى الألمانية تُجلِّي الأفكار وتمكِّن المَرْءَ من فحص أفكاره الذاتية، وهذا ما أريده، هيَّا بنا.»

ركِبْنا قطار الأنفاق حتى وصلنا إلى شارع إلدرسجيت، ثم سِرْنا على الأقدام مسافةً قصيرةً حتى ميدان ساكس كوبورج، ذات المكان الذي شَهِد وقائع القصة التي سمعناها هذا الصباح، وهو مكان ضيِّق مُبتَذَل، شَبِيهٌ رديءٌ بالأماكن الراقية، حيث تُطِلُّ أربعة صفوف من المباني الحجرية المُلوَّثَة ذات الطابقَين على مساحة مُلحَقَة مُسيَّجة تنمو فيها الكثير من الأعشاب، وبعض شُجَيْرات إكليل الغار الباهتة التي تكافح ضدَّ الهواء المُشبَّع بالدخان والجوِّ غير الملائم لنُموِّها. أرشدتنا ثلاث كُرَيَات مُذَهَّبات ولوح بُنِّيٌّ — مكتوبٌ عليه بحروف بيضاءَ: «جابز ويلسون»، مُعلَّق على زاوية أحد البيوت — إلى مقرِّ عمل عميلنا ذي الشعر الأحمر. توقَّف شيرلوك هولمز أمام المنزل، ورأسه مائل، وأخذ يتفحَّص بنظراتِهِ المكان كله، وعيناه تلمعان بين جفنَيه الضيِّقَين، ثم سار ببطءٍ نحوَ ناصية الشارع، ثم عاد إلى حيثُ الزاوية مرةً أخرى، وظلَّ ينظر عن كَثب إلى المنازل، ثم عاد إلى منزل السِّمْسار أخيرًا، وضَرَب بعصاه الرصيف بقوةٍ مرَّتَين أو ثلاثةً. صعدَ إلى الباب وطَرَقَه، ففتح في الحال شابٌّ حُلْوُ المظهر حليقٌ، طلب منه أن يتفضَّل بالدخول.

قال هولمز: «شكرًا لك، أنا فقط كنت أودُّ أن أسأل عن كيفية الذهاب إلى شارع ستراند.»

أجاب المساعد بسرعة مُغلِقًا الباب: «ثالث منعطف إلى اليمين، ثم الرابع إلى اليسار.»

علَّق هولمز قائلًا، بينَما نمضي: «يا لَهُ من شخصٍ ذكيٍّ! إنه في رأيي رابع أذكى رجل في لندن، ويمكنني أن أقول: ربما يكون الثالث طِبْقًا لِمَا علمته عنه سابقًا.»

قلتُ: «هذا واضح، فمساعد السيد ويلسون عليه عامل كبير في حلِّ لُغْز عُصبة ذوي الشعر الأحمر، وأنا على يقين أنك سألته عن الطريق فقط لكي تراه.»

«ليس لأراه هو.»

«ماذا إذن؟»

«رُكبتَي بنطاله.»

«وماذا رأيت؟»

«ما توقَّعْتُ أن أراه.»

«ولماذا طَرَقْت على الرصيف؟»

«عزيزي الدكتور، هذا وقت الملاحظة، لا وقت الكلام، فنحن كالجواسيس خلف خطوط العدوِّ، وقد علِمْنا شيئًا عن ميدان ساكس كوبورج، فلنكتشِفِ الجزء الواقع خلفه.»

كان الشارع الذي وجدنا أنفسنا فيه بعدما استدَرْنا حول زاويةِ ميدان ساكس كوبورج المنعزل يمثِّل صورةً معاكسةً تمامًا لِمَا بدا عليه الميدان كتناقض وجهِ الصورة وظَهْرِها، كان ذلك الشارع بمثابة الشِّرْيان الرئيسي لحركة المرور التي تربط شمال المدينة بجنوبها، وكان الطريق مُغلَقًا بسيلٍ من التجارة المُتدفِّقة في كِلا الاتجاهَين ذهابًا وإيابًا، بينَما غمرت ممراتِ المشاة أسرابٌ مسرعةٌ من الناس. وقد كان من الصَّعب أن نستوعب، ونحن نرى صفَّ المحلات الراقية والمباني التجارية الفخمة، أنها تقع على الجهة الأخرى من الميدان المُضمَحِلِّ الكاسد الذي كُنَّا نعاينه منذ قليل.

قال هولمز، وهو يقِف في الزاوية وينظر إلى صفِّ المتاجر: «لِنَرَ، فأنا أودُّ لو تذكَّرْت ترتيب المنازل هنا. إنها لمن هواياتي أن أكون على علم بالأماكن في لندن، ها هو متجر مورتيمر بائع التَّبْغ، وها هو محل الجرائد الصغير، وفرع المدينة والضواحي لبنك كوبورج، ثم المطعم النباتي، وأخيرًا مستودع مكفارلين لصُنْع العربات، والذي يؤدِّي بنا إلى مُجمَّع البنايات التالي مباشرةً. والآن يا دكتور، لقد أنجزنا ما أتَيْنا لأجله، وحان وقت التسلية، لنتناولْ شطيرةً، ولنَحْتَسِ فنجانًا من القهوة، وبعدها لنذهب إلى أرض الموسيقى، حيث الجمال ورهافة الحِسِّ والتناغُم، وحيث لا وجود لعملاء ذوي شعر أحمر يرهقوننا بحلِّ ألغازهم.»

كان صديقي موسيقيًّا متحمِّسًا، ولم يكن عازفًا قديرًا جدًّا وحسب، بل كان مُلحِّنًا بارعًا أيضًا واستثنائيًّا. وقد جلس طوال المساء في مقعد المسرح مُتدثِّرًا بسعادته البالغة، وهو يلوِّح بلطفٍ بأصابعه الطويلة النحيلة متناغمًا مع الموسيقي، بينما تعلو وجهَه ابتسامةٌ هادئة، وعيناه حالمتان، كأنهما ليستا عينَيْ ووجه هولمز مطاردِ اللصوص، هولمز القاسي عديم الشفَقة، حادِّ الذِّهْن المُتأهِّب دائمًا للقَبْض على المجرمين، كما يصعب ذلك على التَّصوُّر. كانت طبيعتاه تفرضان أنفسَهما على شخصيته الفريدة، فكانت دِقَّتُه وفِطْنَته تمثِّلان، كما أعتقد، ردَّة فعل على مِزاجِه الشاعري التأملي الذي يغلب عليه بين الفَيْنَة والأخرى. كان التُّقلُّب بين طبيعتَيه ينقله من حالة الكسل الشديد إلى حالة الحماسة الضارِيَة، وكما تأكَّد لي أن عظمتَه تصل إلى ذِرْوَتها عندما يسترخي على كرسيِّه المريح وسط كتاباته المُرتجَلَة، عندها تطغى عليه لذةُ المطاردة، وتصحو بداخِلِه قوة تبصُّرٍ هائلة قد تصل إلى مستوى الحَدْس، حتى ينظرَ إليه أولئك الجاهلون بأساليبه نظرةً مِلْؤُها الشكُّ أن ما لديه من معرفة يتجاوز ما يمكن لبشَر عادي أن يتَّصف به. عندما نظرت إليه ذلك المساء مستغرقًا في موسيقاه في قاعة سانت جيمس شعرت أن وقتًا عصيبًا ينتظر أولئك الذين يطاردهم هولمز.

قال هولمز عندما خرجنا: «لابد أنك تودُّ الذهاب إلى منزلك الآن يا دكتور.»

«نعم، هذا ما سأفعله.»

«وأنا لديَّ بعض العمل الذي سيستغرق منِّي ساعات لإنجازه، إن العمل الذي لدينا في ميدان كوبورج خطير.»

«ولِمَ هو عمل خطير؟»

«هناك جريمة ضخمة على وشك الحدوث، لديَّ كل الأسباب التي تجعلني أعتقد أننا سنكون هناك في الموعد المناسب لمنع وقوعها. ونظرًا لأن اليوم هو السبت، فضلًا عن اعتبارات أخرى مُعقَّدَة؛ فإنني أرغب في مساعدتك لي الليلة.»

«في أيِّ وقت بالتحديد؟»

«الساعة العاشرة، ستكون مبكرةً بما يكفي.»

«سأكون في شارع بيكر في تمام العاشرة.»

«حسنًا، أودُّ أن أُعلِمَك يا دكتور أنه ربما يكون هناك بعض المخاطر؛ لذا فضلًا أحضر مسدسك معك في جيبك.»

ثم لوَّح بيدَيْه، واستدار ومضى ليغيب عن ناظري سريعًا وسطَ الجموع.

أنا على يقينٍ أنني لست أكثر غباءً من أقراني، لكنني طالما شعرتُ بغبائي في تعاملي مع شيرلوك هولمز. فلقد سمعت ما سَمِعَه، ورأيت ما رآه، ومع ذلك وطبقًا لِمَا قاله، فلقد ثبت لديه بما لا يدع عنده مجالًا للشكِّ ليس ما حدث وفقط، ولكن ما كان على وشك الحدوث أيضًا، بينما لا تزال القضية غامضةً وملتبسةً بالنسبة لي. وفي طريقي للمنزل فكَّرْت في الأمر مَلِيًّا بدءًا من القصة الاستثنائية للرجل ذي الشعر الأحمر ناسخ الموسوعة، مرورًا بزيارتنا لميدان كوبورج، وانتهاءً بالكلمات المُنذِرَة بوقوع شرٍّ ما والتي كانت آخر عهدي بشيرلوك هولمز. ما سِرُّ عجلته في هذه الليلة؟ ولماذا طلب مني أن آتي إليه مُسلَّحًا؟ إلى أين سنذهب؟ وماذا الذي سنفعله؟ لقد لمَّح لي هولمز أن مساعد سمسار الرُّهونات العقارية ذا الوجه الناعم كان شخصًا مُخيفًا، شخصًا يمكنه صُنْع خُطَّة عَوِيصة. حاولْتُ أن أحُلَّ الأُحْجِية، لكنني استسلمْتُ في يأس ونحَّيْت الأمر عن تفكيري في انتظار ما سيُسْفر الليل عن شَرْحه.

كانت الساعة التاسعة والربع عندما خرجتُ من منزلي وسلكت طريقي عَبْر المتنزَّه، ومن ثَمَّ مرورًا بشارع أكسفورد حتى وصلتُ إلى شارع بيكر. كانت هناك عربتان تجرُّهُما الخيول واقفتان أمام الباب، وفي مدخل المبنى طَرَق سمعي أصواتٌ قادمة من الطابق الأعلى، وعندما دخلتُ الحجرة وجدتُ هولمز في محادثةٍ حيويةٍ مع رجلَين، تعرَّفْتُ على أحدهما، فقد كان بيتر جونز، وكيل الشرطة الرسمية، بينما كان الآخر رجلًا طويلًا نحيفًا، مُكفَهِرَّ الوجه، ذا قُبَّعة شديدة اللمعان وسترةٍ فاخرة طويلة تصل حتى الركبة مَشقوقَة الذَّيل.

قال هولمز، وهو يغلق أزرار مِعطَفه الصوفيِّ المُضاعَف الصَّدْر ويأخذ سَوْط الصيدِ الثقيلِ من فوق الرَّفِّ: «ها قد اكتمل الحفل! أعتقد أنك تعرف السيد جونز من سكوتلاند يارد يا واطسون؟ لكن دعني أقدِّم لك السيد ميريويذر، الذي سيكون رفيقنا في مغامرة الليلة.»

قال السيد جونز في زُهُوِّ: «سنصطاد الليلةَ كفريق مرةً أخرى يا دكتور، فكما ترى صديقنا هنا ماهر جدًّا في بدء المطاردات، وكل ما ينقصه كلبٌ عجوز ليساعده في القبض على الفريسة.»

علَّق السيد ميريويذر في وَجَم بقَوْلِه: «أرجو ألا تنتهي مطاردتُنا بحصولنا على مُجرَّد إِوَزَّة برية.»

قال رجل البوليس بتعالٍ: «يمكنك أن تثق تمام الثقة في السيد هولمز يا سيدي، فلديه أساليبه الخاصة، والتي أراها — وليعذرني — نظريةً أكثر من اللازم، إلا أنه يحمل بين جنبَيه مُحقِّقًا قد لا أبالغ إن قلتُ إنه قد تفوَّقَ على الشرطة المحليَّة مرةً أو مرتَين كما في قضية قتل شولتو، وقضية كَنْز أَجْرا.»

قال الرجل الغريب بخضوع: «ما دام هذا رأيك يا سيد جونز، إلا أنني ما زلتُ أفتقد لعب الورق، إنها المرة الأولى منذ سبع وعشرين سنة التي يفوتني فيها لعب الورق.»

قال شيرلوك هولمز: «أعتقد أنك ستكتشف أنك ستلعب الليلة على رهان أكبر من أي رهان لَعِبتَ عليه، وأن هذا الرِّهان سيكون أكثر إمتاعًا. بالنسبة لك يا سيد ميريويذر، سيكون الرهان بقيمة ثلاثين ألف جنيه، أمَّا بالنسبة لك يا جونز، فسيكون الرهان على الرجل الذي تودُّ أن تُلقِيَ القبض عليه.»

«جون كلاي، القاتل اللصُّ المُخرِّب المُزوِّر، اتَّضَح أنه رجلٌ شابُّ يا سيد ميريويذر، ولكنَّه على رأس محترفي مهنته، إنني أفضِّل القبض عليه أكثر من القبض على أيِّ مجرم في لندن، إنه رجل غير عادي، الشاب جون كلاي. لقد كان جَدُّه دوقًا ملكيًّا، وهو ذاته درس في إيتون ثم أكسفورد، وعقله مخادع كأصابعه، ومع أننا نجد آثاره في كل منعطف، فإننا لم نعرف قطُّ أين يمكنُنا العثورُ على الرجل نفسه، فهو قد يَنْقُب مبنًى لتخزينِ القمح في اسكتلندا في أسبوع، ثم يجمَع المال في الأسبوع الذي يليه لبناء دار أيتام في كورنوال. لقد كنت أتعقَّب أثَرَه لسنوات، لكن عينيَّ لم تقعا عليه قطُّ حتى الآن.»

«أرجو أن أنال شَرَف تعارُف بعضكما ببعض الليلةَ، لقد كان لي مع السيد جون كلاي جولةٌ أو اثنتان كذلك، وأنا أتفق معك فهو على رأس مهنته. إنها العاشرة والربع، وهو وقت مناسب للبدْءِ، يمكنكما الركوب معًا في إحدى العربات المنتظرة في الخارج، وسأتبعكما أنا وواطسون في العرَبة الأخرى.»

لم يكن شيرلوك هولمز كثير الكلام خلالَ الرحلة الطويلة، وظلَّ مُسنِدًا ظهره للمقعد في العربة، وهو يُدندن بالألحان التي استمَعَ لها في المساء. وسارتْ بنا العربة بصَوْتِها المُقَعْقِع، عبر متاهة لا متناهية من الشوارع المُسرَجَة، حتى وصلنا لشارع فارينجتون.

قال صديقي مُعلِّقًا: «ها قد اقترَبْنا الآن، هذا الشخص ميريويذر يعمل مدير بنك، وهو طرف أساسي في هذه القضية، ورأيت أن أشرك جونز معنا فيها أيضًا، فهو ليس شخصًا سيئًا، وبالرغم من بلاهته فيما يخصُّ عمله، فإن له قيمة إيجابية، فهو مِقْدام ككلب بولدوج ومُتشَبِّثٌ كسرطان البحر، إذا أنشب مَخالِبَه في أحدهم. ها قد وصَلْنا، وها هما ينتظرانِنا.»

وصلنا إلى نفس الطريق المزدحم الذي وجدنا أنفسنا فيه في الصباح. فصرفنا عربتَيِ الأجرة، وبناءً على إرشادات السيد ميريويذر، مرَرْنا بممرٍّ ضيِّق، ودخلنا من باب جانبي فَتَحَه لنا. كان هناك دهليز صغير، انتهى ببوابة حديديَّة ضَخمة للغاية، فتَحها لنا أيضًا، فأوصلتْنا إلى درجات سُلَّم ملتوِيَة تنتهي عند بوابةٍ أخرى هائلة. توقَّف السيد ميريويذر لإضاءةِ المصباح، ثم قادَنا إلى أسفلٍ في ممر مظلم، تفوح منه رائحة الأرض، وهكذا، بعد فتح بوابة ثالثة، وصَلْنا إلى قَبْوٍ أو سِردابٍ ضَخمٍ، كُدِّس بالكاملِ بالصناديق والأقفاص الضخمة.

علَّق هولمز وهو يحمل الفانوس ويحدِّق حوله: «من الصعب جدًّا اختراقكم من الأعلى.»

قال السيد ميريويذر وهو يدقُّ بعصاه على الأرض: «ومن الأسفل أيضًا.» ثم أردَفَ قائلًا: «يا إلهي! إنه يصدر صوتًا أَجْوَف.»

قال هولمز بصرامة: «يجب أن أطلُب منك حقًّا أن تكون أهدأَ قليلًا، لقد أضعفت حقًّا فرصة نجاحِ مهمتنا. هل يُمكنني أن أطلب منك أن تجلِس على أحدِ هذه الصناديق، وألا تتدخَّل؟»

جلس السيد ميريويذر المُوقَّر على أحد الصَّناديق، وترتَسمُ ملامح الضِّيق الشديد على وجهه، بينما نزل هولمز بركبتَيه على الأرض، وبدأ يتفحَّصُ بدقَّة الشقوقَ بين الحجارة مُمسِكًا بيدَيْه المصباح والعدسة المُكبِّرة. كانت بضع ثوانٍ كافيةً لينهض على قدمَيْه مرةً أخرى، ويضع عدسته في جَيْبه.

وعلَّق قائلًا: «أمامنا ساعةٌ واحدة على الأقل، لأنهم لا يُمكنهم اتخاذُ أيِّ خُطوات حتى يصبح سمسار العقارات الطيب نائمًا في سريره. ثم عندئذٍ لن يضيِّعوا دقيقةً واحدةً، وكلَّما أسرعوا في أداءِ عملهم أتاح لهم ذلك وقتًا أطولَ يمكنهم فيه الهرَب. نحن في الوقت الحالي، يا دكتور — كما أعتقد أنك بلا شك خَمَّنْت — في قَبْو فرع المدينة لأحد البنوك الرئيسية في لندن. السيد ميريويذر هو رئيس مجلس الإدارة، وسوف يشرحُ لك الأسباب التي تجعل أعتى مجرمي لندن يهتمُّون بهذا القَبْو في الوقت الحالي.»

همس مدير البنك: «إنه ذَهَبُنا الفرنسي، فقد تلقَّيْنا العديد من التحذيرات أن أحدَهم قد يحاولُ سرقته.»

«ذَهَبُكم الفرنسي؟»

«نعم، كانت لدينا فرصة منذ بضعة أشهر لتعزيز مواردنا، واقترضنا لهذا الغرض ثلاثين ألف قطعةٍ ذهبيَّة من بنك فرنسا. لقد أصبح معروفًا أنه لم تُتَحْ لنا الفرصةُ مُطلَقًا لتسييل الأموال، وأنها لا تزال مُلقاةً في قَبْوِنا. يحتوي الصندوقُ الذي أجلِس عليه على ألفَيْ قطعة ذهبية فرنسية مُعبَّأَة بين طبقات من رقائق الرصاص. إن مخزوننا من السبائك أكبرُ بكثير في الوقت الحالي ممَّا يُحتفَظُ به عادةً في مكتب فرعيٍّ واحد، وكان لدى المديرين مخاوفُ بشأن هذا الموضوع.»

قال هولمز مُعلِّقًا: «وهي المخاوف التي كان لها تبريراتها القوية. والآن حان الوقت لترتيب خُطَّتِنا الصغيرة. أتوقَّع أن الأمور ستصل إلى أَوْجِها خلال ساعة. في هذه الأثناء، السيد ميريويذر، علينا أن نضَعَ الغطاءَ على ذلك المصباح الداكن.»

«ونجلس في الظلام؟»

«أخشى أن ذلك صحيحٌ. لقد أحضرت معي مجموعةً من ورق اللعِب، ورأيت بما أننا مُتمرِّسين في اللعِب؛ فبإمكاننا تكوينُ مجموعة للعب الورَق، لكنني رأيتُ أن استعدادات العدوِّ قد قطعت شوطًا طويلًا، للدَّرجة التي لا يمكننا معها المخاطرة بوجود أي ضوء، وقبل كل شيء، يجب أن نختار مواقعنا. فمَن نتعامل معهم رجال لا تنقصهم الجرأةُ، وعلى الرغم من أننا سنأخذهم على حين غِرَّةٍ، فإنهم قد يُلحِقون بنا بعض الأذى ما لم نتوخَّ الحذر. سأقفُ وراء هذا الصندوق، وأطلب منكم الاختباء وراء هذه الأخرى. ثم، عندما أفاجئُهم بتسليط الضَّوء عليهم هاجموهم بسُرعة. وإذا أطلقوا النار فلا تتردَّد يا واطسون في إطلاق النار عليهم.»

جهَّزْتُ مُسدَّسي، ووضعته على الجزء العلوي من الصندوق الخشبي الذي جلسْتُ وراءه. وأغلق هولمز الجانب الأمامي لمصباحه وتركَنا في ظلام دامس، ظلامٍ كما لم أشهده من قبل. بقيت رائحة المعدن الساخن تُطمْئِننا إلى أن الضوءَ كان لا يزال هناك، وعلى استعدادٍ للإنارة في أي لحظة. بالنسبة لي، ومع حالة الاستنفار العصبي التي كنْتُ فيها، فقد كان هناك شيء مُحبِط في الظُّلمة المفاجئة، وفي الهواء الرطب البارد للقَبْو.

همس هولمز قائلًا: «ليس لديهم إلا مهربٌ واحدٌ، عبر المنزل إلى ميدان ساكس كوبورج. آمُل أن تكون قد فعلت ما طلبت منك يا جونز.»

قال جونز: «لديَّ مفتش وضابطان ينتظرون عند الباب الأمامي.»

«إذن؛ فلقد أغلَقْنا كلَّ المنافذ، الآن ما علينا سِوى الانتظارِ في هدوء.»

ما كان أطول فترة الانتظار تلك! رغم أنها — من مقارنة الملاحظات بعد ذلك — لم تَدُمْ سوى ساعة وربع، فقد بدا لي أن الليل يُفتَرَض أن يكون قد انتهى، وأن الفجر بدأ في الإسفار فوقنا. كانت أطرافي مُرهَقَة ومُتشنِّجَة، لأني خشيت أن أغيِّر وضعيتي، ومع ذلك كانت أعصابي في أعلى درجات التأهُّب، وكان سمعي حادًّا لدرجة أنني لم أتمكَّن فقط من سماع التنفُّس اللطيف لمرافقيَّ، بل استطعتُ التمييزَ بين التنفُّس الأعمق والأثقل لجونز الضَّخم، من التنفس الخفيف والمُتقطِّع لمدير البنك. وكان يُمكنني، من مكاني، أن أرى الأرضية من فوق الصندوق. وفجأة لمحَتْ عينايَ بصيصًا من الضوء.

في البداية لم تكن سوى شرارةٍ لامعةٍ على حَجَر الأرضية. ثم استطال حتى أصبحَ خطًّا أصفر، وبعد ذلك، ودون أي تحذير أو صوت، بدا أن هناك شَرْخًا مفتوحًا وظهرَتْ يدٌ، يدٌ بيضاء وكأنَّها يد امرأة، أخذَتْ تتحسَّس وسطَ منطقة الضوء الصغيرة. لدقيقة أو أكثر، برزت اليدُ بأصابِعِها المُتفحِّصَة من الأرض. ثم سُحِبَت فجأةً كما ظهرت، وعاد كل شيء مظلمًا مرةً أخرى باستثناء الشرارة الساطعة في الشقِّ بين الحجارة.

لم يدُمْ ذلك الاختفاءُ طويلًا، فقد سمعنا صوت تشقُّقٍ وهَدْمٍ، كان ذلك أحد الأحجار التي قُلِبَت على أحد جوانبها مُخلِّفًا فتحةً مربعةً، شَعَّ منها ضوء مصباح. ومن حافَة الفتحة ظهر وجه مميَّز لفتًى يَختلِس النظر، ناظرًا حوله في لَهْفَة، عند ذلك وضع يدَيه على جانبَيِ الحافة، ورفع كتفَيه ووسطه حتى وضع إحدى ركبتَيه على الحافَة، وفي لحظةٍ كان واقفًا على جانب الحافة ليجذِب رفيقه، كان رشيقًا وضئيلًا مِثْله، بوجه شاحبٍ وشعر شديد الحُمْرة.

همس قائلًا: «كل شيء واضح، هل معك الإزميل والحقائبُ؟ يا لَلروعة! اقفِزْ يا أرشي، اقفز، وسأحاولُ متابعتك.»

هبَّ شيرلوك هولمز وأمسك بالمُقتحِم من ياقته، بينَما غاص الآخر أسفلَ الحفرة، ثم سمعت صوت القماش يتمزَّق بينَما كان جونز يحاول الإمساك بطَرَف ثيابه. ومَضَ الضوء على فُوَّهَة مُسدَّس، لكن سَوْط هولمز نزل على مِعْصَم الرجل؛ فسقط المُسدَّس على الأرضية الحجرية.

قال هولمز: «لا فائدةَ من المقاومة يا جون كلاي، ليس لديكَ أيَّة فرصة على الإطلاق.»

قال جون كلاي وهو في منتهى الهدوء: «حسنًا، أرى ذلك، لكن أظنُّ أن صديقي بخير رغم أنكم ألقَيتُم القبض على ذَيْلِ مِعطفه.»

قال هولمز: «هناك ثلاثة رجال في انتظاره عند الباب من الجهة الأخرى.»

«آه، بالطبع! يبدو أنكم قُمتم بهذا الأمر على أتمِّ وَجهٍ، يجبُ عليَّ أن أبدي إعجابي بذلك.»

«وأنا كذلك، فقد كانت فكرة عُصبة ذوي الشعر الأحمر جديدةً جدًّا وفَعَّالةً.»

قال جونز: «ستلتقي صديقَك في القريب العاجل، لقد كان أسرعَ مني في نزولِه للحُفرة، اثبت حتى أضعَ الأصفاد.»

قال سجينُنا، بينما كانت الأصفاد تلتفُّ على معصمَيه: «أرجو ألا تلمسني بيدَيك القذرتَين، قد لا تعلم بأن لديَّ دمًا ملكيًّا في عروقي؛ لذا أرجو منك عندما تخاطِبُني دائمًا أن تقول لي «سيدي» و«من فَضلِك».»

قال جونز وقد ضَحِك ضحكةً مكتومةً: «حسنًا، هل تسمح يا سيدي بالتَّفضُّل معي إلى الطابق الأعلى؛ لنُوقف لك عربة تحمل سُمُوَّك إلى مَخْفَر الشرطة؟»

قال جون كلاي بهدوء: «هذا أفضل.» ثم انحنى لثلاثَتِنا انحناءةً كبيرةً، وانصرف بهدوء في صُحبة المُحقِّق.

قال السيد ميريويذر، ونحن نخرُج خلفَه من القَبْو: «حقًّا يا سيد هولمز لا أعرف كيف يمكن للبنك أن يشكرك أو يردَّ لك الجميل؛ إذ لا شكَّ في أنك اكتشفت وأحبطت بأكثر الطرق إحكامًا واحدةً من أكثر محاولات سرقة البنوك التي أعرفها إصرارًا.»

قال هولمز: «لقد كان هناك حسابٌ خاص بيني وبين السيد جون كلاي، وقد أنفقتُ بعض النقود على هذه القضية وأتوقَّع من البنكِ أن يقومَ بدفعها لي، أمَّا غير ذلك؛ فإن التجربة المُميَّزة التي خضْتُها تُعتبَر مكافأةً شخصيةً، هذا غير سماعي لحكاية عُصبة ذوي الشعر الأحمر المثيرة للاهتمام.»

شرح لي هولمز في الساعات الأولى من الصباح، بينما كنا نحتسي كأسًا من الويسكي والصودا في شارع بيكر قائلًا: «كما ترى، يا واطسون، كان من الواضح تمامًا من البداية أن الهدفَ الوحيد الممكن للإعلان عن العُصبة، ومن وظيفة نسخ «الموسوعة»، هو إبعاد هذا السمسار الضَّيِّق الأُفُق لعدَّة ساعاتٍ كل يوم. ورغم غرابة الفكرة والطريقة؛ فإنه في الحقيقة ليس هناك أفضل منها. ولا بدَّ أن هذه الطريقة هي من بناتِ تفكير كلاي، بسبب لَوْن شعر شريكِه. كما أن راتب الجنيهات الإسترلينية الأربعة في الأسبوع كانت إغراءً يصعُب رفضه من قِبَل السمسار، ولم يكن هذا المبلغ ليساوي شيئًا بجانب ما يسعَوْن خلفَهُ من آلاف الجنيهاتِ الذهبية؟ لقد وضعا الإعلان، بينما قام أحدُهما باستئجار مكتَبٍ، في حين قام الآخر بحثِّ السمسار على التقدُّم إليها، وعملا معًا من أجل تأمين غيابه كل صباح. ومنذ أن سمعتُ أن المساعد قَبِل الوظيفة بنصف الأجر تأكَّدْت أنه كان لديه دافعٌ قوي للحُصول عليها.»

«ولكن كيف أمكنك تخمينُ دافعه؟»

«لو كان هناك نساء في المنزل، لثارتْ لديَّ شكوك في كَوْنها مُجرَّد مؤامرات مُبتذَلة. ومع ذلك، فقد كان هذا غيرَ وارد. كان عمل الرجل عملًا صغيرًا، ولم يكن هناك شيء في منزله يمكن أن يفسِّر مثل هذه الاستعدادات المُعقَّدَة، ومثل هذه النفقات التي كانوا ينفقونها؛ إذن كان يجب أن يكون شيءٌ ما خارجَ المنزل. ماذا يمكن أن يكون؟ فكَّرت في وَلَعِ المساعد بالتصوير الفوتوغرافي، وحيلة اختفائه في القَبْو. القبو! هناك كانت النهاية لهذه الفكرة المتشابكة. ثم استفسرت عن هذا المساعد الغامض ووجدت أنه كان عليَّ التعامل مع أحد أذكى المجرمين وأكثرهم جرأةً في لندن. كان يفعل شيئًا في القَبْو، وهو الأمر الذي استغرق عدَّة ساعات في اليوم لعدَّة أشهر متتالية. ماذا يمكن أن يكون، مرةً أخرى؟ لم أستطعِ التفكيرَ في شيء سوى أنه كان يصنعُ نفقًا إلى مبنًى آخر.

وهذا ما حصلتُ عليه عندما ذهبنا لزيارة مسرح الأحداث. لقد فاجأتُكَ بالضرب على الرصيف بعَصاي؛ فقد كنت أتأكَّد ممَّا إذا كان القبوُ ممتدًّا أمامي أم من خلفي. ولم يكن يمر من أمام المنزل. ولما دقَقْتُ الجرس أجابه المساعد، كما كنت آمُلُ. ومع أنه كانت لدينا بعض المناوشات من قبل، فإنه لم يرَ أحدنا الآخر قطُّ. بالكاد نظرت إلى وجهه؛ فقد كانت ركبتاه هي ما تمنَّيْت أن أراه. ينبغي أن تكون قد لاحظتَ كيف كانتا بالِيَتَين ومُجعَّدَتَين ومُلطَّخَتَين. كانت ركبتاه شاهدتَين على ساعات الحَفْر تلك. النقطة المتبقية الوحيدة هي ما الذي كانوا يحفرون لأجله. مَشَيْت حول الزاوية، ورأيت بنك سيتي وسوبربان مجاورَيْن لمقرِّ صديقنا، وشعرْتُ أنني قد حلَلْت قضيتي. وعندما وصلتُ إلى المنزل بعد الحفل، زُرْتُ مقرَّ الشُّرطة في سكوتلاند يارد ورئيس مجلس إدارة البنك، وأطلَعْتُهم على النتيجة التي رأيتُهَا.»

سألته: «وكيف عرفت أنهما سيقومان بمحاولة السرقة في هذه الليلة؟»

«حسنًا، لقد أغلقا مقرَّ العُصبة، ذلك يعني أنهما لم يعودا يكتَرِثان بحضور السيد جابز ويلسون، بعبارةٍ أخرى، لقد أتمَّا حَفْر نفقهما. لكن كان من الواضح أنهما سيستخدمانه قريبًا، قبل أن يُكتَشَف أو أن تُنقَل سبائك الذهب. كان يوم السبت موعدًا مناسبًا لهما أفضل من أي يومٍ آخر، لأنه سيتيح لهما يومَين يُمكنهما فيهما الهرَب، لكل هذه الدلائل خمَّنْت أن يكونَ موعد سَطْوهم الليلة.»

هتفتُ بإعجابٍ صادق: «ما أجمل ما حلَلْت به الأمر! وبالرغم من كَوْنها سلسلةً طويلةً من الأحداث، إلا أن كل حلقة منها وُضعَت في مكانها الصحيح.»

أجابني وهو يتثاءب: «لقد أنقذَتني من المَلَل، يا لَلخسارة! كنتُ قد شعرت بالفعل أنه تمَلَّكني، حيث أقضي حياتي محاولًا التخلُّص من الروتين، وهذه القضايا الصغيرة تساعدني في ذلك.»

قلتُ: «كما أنك تقوم بأعمالٍ مفيدة من أجل البشرية.»

قال بعد أن هزَّ كتفَيه: «حسنًا، ربما يكونُ في الأمرِ بعضُ الفائدةِ رغم كلِّ شيء، كما كتب جوستاف فلوبرت ذات يوم لجورج ساند: «إن الإنسانَ لا يساوي شيئًا، لكن الأفعالَ تُساوي كل شيء».»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤