تمهيد

في خطابٍ يُركِّز على سياسة التعليم الوطنيِّ ألقاه الرئيس باراك أوباما عام ٢٠٠٩، أطلق الرئيس التحديَ التالي:
إنني أدعو حكام أمَّتنا ومسئولي التعليم الحكومي إلى تطويرِ معايير ووسائل تقييمٍ لا تقتصر على قياس قدرات الطالب في الإجابة عن أسئلة الاختبار فحسب، بل تهدف إلى قياس إذا ما كان الطالبُ يتمتَّع بالمهارات التي يتطلَّبها القرن الحادي والعشرون مثل حلِّ المشكلات والتفكير النقدي وريادة الأعمال والإبداع، أم لا.1
تمثَّل أحدُ مظاهر هذه الأولوية الوطنية في مبادرة «المعايير الحكومية للأساس المشترك»، وهي مجموعةٌ من المعايير في اللغة والرياضيَّات نُفذت مبدئيًّا في ستٍّ وأربعين ولاية أمريكية؛ وتتمثَّل أولويتها في «تطوير مهارات التفكير النقدي وحلِّ المشكلات والمهارات التحليلية التي يحتاج إليها الطلابُ للنجاح.»2
وقبل ذلك بعَقدين، أعلنت إدارة الرئيس جورج إتش دبليو بوش عن مبادرةٍ تعليمية أسْمتها «أمريكا ٢٠٠٠»، عبَّرَت عن الهدف التالي بصفته جزءًا من «الهدف الخامس: محو أمية الكبار والتعلُّم مدى الحياة»، وهو: «زيادة نسبة خرِّيجي الجامعات الذين يتمتعون بمستوًى متقدمٍ في قدرات التفكير النقدي وفاعلية التواصل وحلِّ المشكلات زيادةً كبيرة.»3

تؤكِّد هذه الأولويات التعليميةُ الوطنية وغيرُها من المبادرات والمشاريع البحثية التي يعود تاريخها إلى ما يزيد عن قرنٍ من الزمان؛ على أهمية «التفكير النقدي»، وهو نوعٌ من التفكير، له سِماته التي تُميزه عن الذكاء العامِّ أو المناقب الفكرية؛ مثل التأمُّل والحكمة.

في وقتنا الحاضر، لا ينفكُّ المعلِّمون والعاملون في مجال إصلاح التعليم بجميع أنحاء العالم يُصرِّحون بضرورة التخلِّي عن طريقة التعليم بالتلقين، والاهتمام بدلًا من ذلك بتنشئة أشخاصٍ يتمتعون بمهارة التفكير النقدي؛ وذلك هو نوعُ الأشخاص الذي يجد أشدَّ الإقبال من أصحاب الأعمال.

اتضح هذا المطلبُ في تقريرٍ بحثيٍّ أجْرَته رابطة الكليات والجامعات الأمريكية في عام ٢٠١٣، وأشار إلى أن «أكثر من ٧٥ بالمائة من [أصحاب الأعمال] الذين اشتركوا في الدراسة الاستقصائية؛ قالوا إنهم يريدون مزيدًا من التركيز على خمسة مجالاتٍ أساسية، وهي: التفكير النقديُّ، وحلُّ المشكلات المعقَّدة، والتواصل الكتابي، والشفَهي، والمعارف التطبيقية في بيئات العالم الواقعي.»4
في عام ٢٠١٨، دشَّنت منظمةُ التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي — وهي هيئةٌ دولية تُعنى بالتنمية الاقتصادية وتتألَّف من الدولِ الأكثرِ تقدُّمًا في الميدان الاقتصادي — مشروعًا لدراسة الكيفية التي يمكن تبنِّيها لتدريس التفكير النقدي وتقييمِه؛ دعمًا لفكرة «الإجماع المتزايد على أن التعليمَ الرسميَّ يجب أن يَصقُل مهاراتِ الإبداع والتفكير النقدي لدى الطلاب كي يُساعدهم على النجاح في البيئاتِ الاقتصادية الحديثة ذاتِ الصِّبغة العالمية والقائمة على المعرفة والابتكار».5
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ التغيراتِ الاقتصادية العالمية المتمثِّلةَ في تفضيل الابتكار الفردي على الإنتاج الواسع النِّطاق، أثارت الاهتمامَ بتنمية مهارة التفكير النقدي لدى الأشخاص في بلدانٍ مثل الصين، حيث يوجد في التعليم العالي عددٌ صغير — لكنه متزايد — من برامجِ التفكير النقدي التي تُناهض نظامَ التعليم التقليدي القائم على سُلطة المعلِّم في نقله لنصوصٍ ثابتة. ومثلما أشار أحدُ الباحثين: «إنَّ مصطلح التفكير النقدي يُستخدَم أحيانًا في الدوريَّات الأكاديمية ووسائل الإعلام؛ للإشارة إلى استراتيجية الخلاص اللازمة لخروج الصين من نظامِ التعليم العتيق، القائمِ على التلقين والحفظ.»6

وبخلاف الاقتصاد، فإنَّ جِدالاتنا السياسيةَ بشأن «الأخبار الكاذبة» وغيرِها من الموضوعات الخلافية الحسَّاسة، تُشير إلى أهميَّة مهارات التبرير المنطقي التي تُتيح لنا معرفةَ الحقيقة واتخاذَ قراراتٍ واعية. فقد كان من تداعيات انتخابات الرئاسة الأمريكية عام ٢٠١٦، الشعورُ بالأزمة فيما يتعلق بقدرة الناخبين على تحديدِ خياراتهم بِناءً على التفكير المنطقي، لا الأحكام العاطفية أو العصَبية القبَلية التي تَسِم الكثيرَ من السياسات الأمريكية والعالمية اليوم، أو كليهما.

ومثلما توضح هذه الأمثلة، فإنَّ «التفكير النقدي» قد اتخَذ في عصرنا الحاضر دورًا بارزًا في النقاشات التعليمية العالمية، وأصبح الهدف المتمثِّل في تنشئة المفكرين النقديِّين من المحاور التي تُشكِّل مبادراتٍ بارزةً على غِرار مبادرات وضع المعايير الأكاديمية على مستوى الدولة. يمكن حتى الجزمُ بأهميَّة اكتسابِ تلك المهارة وتطبيقها للحفاظ على بقاء مجتمعنا؛ إن لم يكن للحفاظ على نوعنا البشري. وبالرغم من هذا، فلستُ أدري عدد الأشخاص الذين يستطيعون الإجابةَ عن السؤال التالي إذا طُرح عليهم: ما هو التفكير النقدي؟

تستند محاولتي الخاصةُ في الإجابة عن هذا السؤال إلى مجموعةٍ من الخبرات التي تتضمَّن التعاون مع أصحاب الأعمال لتطويرِ أساليبَ لتقييم التفكيرِ النقديِّ وغيره من المهارات الإدراكية وقياسها، إضافةً إلى دمج التفكير النقديِّ في المناهج الدراسية والتقييمات المرتبطة بمحو الأمية الرقمية. وبمرور الوقت، قادَني الاهتمامُ بتطبيق مبادئ التفكير النقدي على نطاقٍ أوسعَ إلى تأليف كتاب «الناخب النقدي»،7 وهو منهجٌ دراسي مرفَق بمجموعة من المصادر ذات الصِّلة بالمدرِّسين، وقد اتخذ من الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠١٢ مثالًا لتدريسِ العديدِ من مهارات التفكيرِ النقديِّ الواردة في هذا الكتاب؛ مثل المنطق والمجادَلة بالحُجَّة ومهارات اللغة (بما فيها التواصل الإقناعي)، مع تحييد التحيُّزات.

قبل إصدار كتاب «الناخب النقدي» إلى قاعدةٍ أكبرَ من الجمهور، اختُبِرت مبادئه على «نماذج أولية» تتمثَّل في دروسٍ تُدرَّس لأولادي الذين كان أحدهم سيبدأ المرحلة الجامعية بحلول انتهائي من هذا الكتاب.

إنَّ التحاق ابني بالجامعة لا يعني بالضرورة تحسُّنَه في مهارات التفكير النقدي. فوفقًا لما ذكَره كلٌّ من ريتشارد أروم ويوسيبا روسكا في كتابهما الشهير الذي صدَر عام ٢٠١١ بعنوان «التخبُّط الأكاديمي»: «إنَّ تحسُّن مهارات التفكير النقدي مثل الاستدلال المعقَّد ومهارات الكتابة (وهي مهاراتٌ جامعية عامة) ضئيلٌ للغاية في أول سنتَين من المرحلة الجامعية، أو لا يوجد عمليًّا على الإطلاق بين نسبةٍ كبيرة من الطلاب.»8 وهذا بالرغم من أنَّ «٩٩ بالمائة من أعضاء هيئة التدريس يقولون إن تنمية قدرة الطلاب على التفكير النقدي هدفٌ «بالغُ الأهمية» أو «ضروري» في التعليم الجامعي»،9 وذلك حسبما ورَد في تقريرٍ استشهد به المؤلفان.

لقد أوضَح تأثيرُ كتاب «التخبُّط الأكاديمي» على المناقشات والمناظَرات التي تدور عن التعليم العالي في الصحافة الأكاديمية والعامة كلتيهما؛ وجودَ قَبولٍ عام لفكرةِ أن غياب مهارات التفكير النقدي من العالم، يُولِّد الخوفَ من هذا العالم. فما الذي قد يدعو إلى ذلك؟

يندرج في صُلب الحديث عن التفكير النقدي الذي يجري في الأوساط الأكاديمية وبين النطاق الأوسع من الجمهور؛ افتراضٌ بأن المعرفة وحدها لا تُساعدنا على حلِّ المشكلات التي يواجهها الفردُ أو المجتمع.

لقد شاهدنا في العقود الأخيرة الماضية تسارُعًا في إنشاء معرفةٍ جديدة مصحوبةٍ بإمكانيةٍ غير مسبوقة في الوصول إلى المعلومات عبر الأجهزة الرقمية التي أصبحَت رفيقةً لنا على الدوام. وعلى الرغم من ذلك، لم تزل الأخطاء في إصدار الأحكام تُصيبنا على المستويَين الفرديِّ والاجتماعي.

الأسوأ من ذلك أنَّ عدمَ قدرتنا على تقييم المعلومات التي تتضمَّنها «مكتبات الإسكندرية» الموجودة في جيوبنا، من حيث صحةُ المعلوماتِ وموثوقيَّتُها، تعني أننا معرَّضون لتصديق معلوماتٍ مزيَّفة، واستخلاصِ استنتاجات غير صحيحة من تلك «الحقائق» التي يرِدُ بعضها إلينا من أناسٍ يفهمون عيوبَ التفكير البشري بدرجةٍ تُتيح لهم التلاعبَ بنا.

لم تزَل الأخطاء في إصدار الأحكام تُصيبنا على المستويَين الفرديِّ والاجتماعي.

استخلَصَتْ بعض التعليقات بشأن الانتخابات الأمريكية لعام ٢٠١٦ أن العديد من الأمريكيِّين يتَّخذون قراراتهم بِناءً على العاطفة لا التفكير المنطقي، مما يدلُّ على أن قدرة الجمهور على التفكير النقديِّ منعدمةٌ أو تُعطَّل بسهولة. لكن المرء لا يحتاج إلى مراجعةِ السياسة الوطنية كي يرى المشكلاتِ المصاحبةَ للافتقار إلى التفكير النقدي. كم من مرَّاتِ شراءٍ اندفاعية، واختياراتٍ سيئة في الحياة المهنية، وجدالات غير ضرورية مع الأحباب، ومشكلاتَ شخصيةٍ أخرى، يمكن تجنُّبها لو درَّبْنا عقولَنا على إيجاد البراهين وتقييمها، ووضعِها في بِنْية للتحليل، وتأسيس خياراتنا على قواعدَ قد شكَّلت آراءً سديدة منذ عصور سقراط وأرسطو؟

ولما كان تحييدُ أشكال التحيُّزِ من مهارات التفكير النقدي المهمة التي أتناولُها على مدار هذا الكتاب، فينبغي أن أذكر في البداية اعتقادًا هو الذي دفعَني خلال سنوات عملي في هذا المجال، وهو أنَّ أهم مشكلات التفكير النقدي التي تُواجه العالمَ اليوم أنَّ قلةً من الأفراد فقط هي التي تتمتَّع بتلك المهارة، وهم لا يُمارسونها بالدرجة الكافية، مما يُفسِّر تركيز هذا الكتاب على إمكانية تعلُّم التفكير النقدي، وممارستِه وتقييمه.

إنَّ تعليمَ أنفسنا وتعليمَ الآخرين للتحلي بمهارة التفكير النقدي يتطلَّب إرساء مبادئَ أساسية؛ لذا سأُقدم للقارئ فيما يلي نبذةً عن الموضوعات التي يتناولها الكتاب:

يتناول الفصلُ الأول «أصول التفكير النقدي»؛ فيشرح أصولَ المصطلح في سياق التخصُّصات التي يقوم التفكيرُ النقدي عليها، مثل الفلسفة وعلم النفس والعلوم. يقدِّم هذا الفصلُ التعريفات المبكِّرة لمصطلح «التفكير النقدي»؛ إذ إنَّ المشكلات المتعلقة بالتعريفات أمرٌ يتكرَّر طرحُه عند مناقشة الموضوع. وليس إسهامي في ذلك النقاش محاولةً لدعم التعريف الذي أُفضِّله، بل لمساعدة القارئ على فَهْم المصطلح فَهمًا أفضلَ عن طريق تعريفه بالأصول الرائعة للتفكير النقدي.

في الفصل الثاني «عناصر التفكير النقدي»، نتناول موضوعاتِ المعرفة والمهارات والسِّمات الشخصية التي ينبغي توفُّرها لاكتساب مهارة التفكير النقدي. وعلى الرغم من التنوُّع الكبير في خيارات المحتوى والممارسات التي وضَعها مُعلمو التفكير النقدي، فأنا أقترحُ في هذا الفصل وجودَ إجماع بشأن المعارف التي يجب على المفكِّر النقدي تحصيلُها، والمهارات التي ينبغي له التمكنُ منها.

يبدأ الفصل الثالث «تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه»، بمناقشةٍ أعمقَ عن تعريف الباحثين لمصطلح «التفكير النقدي»، وكيفية استخدام المفهوم في أُطرٍ أوسع. إنني أزعم أنَّ هذا الكتاب قد أنتج رؤيةً تكفي للمُضيِّ قُدمًا في المشروع الحيوي، المتمثل في زيادة مقدار التفكيرِ النقديِّ في العالم. ويتناول الجزءُ الباقي من هذا الفصل الكيفيةَ التي يمكن تحقيقُ تلك الغاية من خلالها؛ إذ يصف البحوثَ والممارسات المتعلقةَ بطريق تعليم التفكير النقدي وتقييمه.

وبالرغم من أنَّ المعلمين هم الفئة الأساسية التي يُخاطبها هذا الكتاب، فإن هذه الفئة واسعةٌ من وجهة نظري؛ إذ تشملُ المدرسين في مؤسسات التعليم ما بعدَ الثانوي ممَّن حالَفَهم الحظُّ لتدريس تلك المادة بدوام كامل، ومُدرِّسي التعليم الأساسي من الروضة وحتى المرحلة الثانوية، الذين يُحاولون غرْس مهاراتِ التفكير النقدي لدى الطلاب الذين يَدرُسون الرياضياتِ والعلومَ والقراءة والكتابة، وغيرَ ذلك من الموادِّ التي تتطلب مهاراتِ التفكير العليا. وهي تشمل أيضًا أولياء الأمور الذين يريدون تربيةَ أبنائهم على التفكير لأنفسِهم. وأخيرًا، تشمل هذه الفئةُ جميعَ الأفراد في أي رحلةٍ تعليمية من أي نوع، في الصفوف الدراسية أو التعلُّم الذاتي، ممن يَتوقون إلى التفكير بمزيدٍ من الفاعلية والعيش في عالمٍ تُتَّخذ فيه القرارات بِناءً على التفكير المنطقي والمشاورات المدروسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤