نهر النيل … وجبال الأنديز!

في الموعد المحدد كان الشياطين الستة يستلقون على مقاعدهم في الطائرة المتجهة إلى «سانتياغو» عاصمة «شيلي»، والتي كان مقررًا لها أن تهبط أولًا ترانزيت في العاصمة البرازيلية قبل أن تتجه إلى وجهتها النهائية.

وأغمض الشياطين أعينهم خلال الرحلة الطويلة، فقد كانوا بحاجة إلى أكبر قسط من الراحة قبل أن تتهيأ كل عضلة منهم للقتال … وكانت لديهم ميزة رائعة، هي قدرتهم على النوم في اللحظة التي يرغبون فيها وقد تدرَّبوا على ذلك طويلًا، ثم يستيقظون فجأة عند أدنى إحساس بالخطر، كأنَّ هناك حاسة سادسة تعمل في عقل كلٍّ منهم.

واستيقظ الشياطين على صوت قائد الطائرة، وهو يحيي ركابها بوصولهم إلى برازيليا … والتقت نظرات الشياطين في ابتسامة واسعة، وهم يتذكرون مغامرتهم التي دارت في ذلك المكان «سباق الموت»، وكيف ضلوا طريقهم في الغابات البرازيلية القاتلة، قبل أن يتمكنوا من الخروج منها. ولم تمكث الطائرة غير ساعتين، ثم عادت تحلق، متجهة إلى «سانتياغو»، وأقبلت المضيفة تحمل شراب عصير الأناناس المثلج الطازج.

احتسى «عثمان» العصير اللذيذ، وقال: مع تحيات الغابات البرازيلية بكل ذكرياتها الرائعة.

وقال «أحمد» باسمًا: سيكون هذا آخر شيء مثلج نشربه في مهمتنا.

سألته «إلهام»: ولماذا يا «أحمد»؟

أجابها «أحمد»: لأننا نتجه إلى مكان بارد جدًّا، فبالرغم من تلك التسمية «أرض النَّار» إلا أنَّها تقع في جنوب المحيط الهادي، والجو هناك بارد جدًّا، يصل إلى درجة التجمد في الصيف.

زبيدة: إذن، سنأكل الثلج المجروش.

وضحكوا جميعًا، وقضوا الساعات القليلة المتبقية على وصولهم في طرح مختلف الاحتمالات، التي قد تصادفهم في مهمتهم القادمة.

وأخيرًا. استقرت الطائرة في مطار «سانتياغو»، وكانت الإجراءات الجمركية بسيطة، فخرج الشياطين خارج المطار، وتلفتت «إلهام» حولها، فقال «أحمد» لها: لا أظن أنَّ عميل رقم «صفر» سيظهر بهذه السرعة.

قالت «إلهام» بقلق: ولِم لا؟ … إنَّ الوقت المتبقي أمامنا قليل، ولا يجب إضاعة دقيقة واحدة منه …

أحمد: على أيِّ حال، يجب علينا الذهاب إلى فندق «كلب البحر الأزرق»، وأظن أنَّنا سنجد عميلنا هناك، كما أخبرنا رقم «صفر».

وأشار إلى تاكسي كبير، اندسَّ فيه الشياطين، وطلبوا من السائق الاتجاه بهم إلى فندق «كلب البحر الأزرق».

وتأمل الشياطين الشوارع حولهم، وقد راحت السيارة التاكسي تقطعها بلا تعجل، فقد كان المكان جبليًّا، تظهر القمم والتلال والجبال في كل مكان حولهم، وقد تناثرت الأبنية والمساكن، وهي تحمل نقيضين غريبين، مساكن بُنيت من أحجار الجبال، بلا تهذيب، كأنَّها قطعة من المكان القاسي المحيط بها، وعمارات ضخمة، فخمة، على أحدث طراز. وعلى البعد ظهرت السحب الزرقاء، تكاد تلمس رءوس التلال البعيدة.

تأمل «بو عمير» الطبيعة الرائعة حوله، وقال: يا للروعة!

قالت «إلهام»: إننا نرتفع عن سطح البحر بما لا يقل عن ثلاثة آلاف متر.

قال السائق: إنَّ بعض الجبال هنا ترتفع إلى خمسة آلاف متر، فطبيعة بلادنا جبليَّة، خاصَّة وهي تقع فوق سلسلة جبال الأنديز، هذا مكان لن تجدوا مثله في العالم.

ابتسم الشياطين، وتبادلوا النظرات، كان السائق يبدو متحمسًا لبلده، ورمقهم السائق في مرآة سيارته، وسألهم: هل هذه هي المرة الأولى التي تأتون فيها إلى بلادنا؟

أجاب «أحمد» باختصار: ونرجو ألا تكون الأخيرة.

قال السائق بحماس: لن تكون الأخيرة بكل تأكيد … من يأتي بلادنا لا ينساها أبدًا، ويغالبه الحنين إليها، فيعود مرة ومرات …

واتسعت عيناه وهو يضيف: هل سمعتم عن نهر النيل؟

بانت الدهشة على وجوه الشياطين، وظهر القلق في عيونهم، ترى هل اكتشف السائق أنَّهم عرب؟ هل أدرك أنَّ أحدهم مصري من بلد النيل؟ هل يشك فيهم ذلك السائق بطريقة ما؟ وتساءلت «إلهام» في ريبة: ولماذا تسألنا عن نهر النيل … وهل هناك من لم يسمع عنه؟

قال السائق: إنَّهم يقولون إنَّ من يشرب من نهر النيل مرة لا بد وأن يعود إليه ثانية … وهذا ينطبق على بلادنا، فمن يزورها مرة لا بد أن يعود إليها … إننا نملك سلسلة من الجبال لا مثيل لها في أي مكان في العالم، مثل نهر النيل تمامًا.

تلاقت نظرات الشياطين في راحة، وخفَّ قلقهم. كان واضحًا أنَّ السائق يثرثر في بساطة، وأنَّه ليس أكثر من رجل وطني، يحاول أن ينقل حماسه لبلاده إلى مجموعة من «السائحين». وأمام فندق «كلب البحر الأزرق» توقف التاكسي، ونقد «أحمد» السائق ضعف أجرته، فتهلل وجه السائق، وقال شاكرًا بالإسبانية: شكرًا لك أيُّها العربي.

بانت الدهشة في عيني «أحمد»، وسأل السائق: وكيف عرفت أنَّني عربي؟!

ردَّ السائق ببساطة: إنَّ ملامحكم مميزة … تمامًا مثل ملامحنا … ولا بد أنَّ ماء النيل تظهر آثاره على كل من يشربه، تمامًا كما تظهر آثار طبيعة بلادنا فوق ملامحنا.

تأمل «أحمد» السائق بصمت واندهاش، وتساءل في شك: تُرى هل كان حديث ذلك السائق الطيب الملامح مجرد ثرثرة عادية مع زبائنه، أم أنَّ هناك شيئًا خفيًّا يُلمح إليه السائق، وبتعبير أدق: هل كانت مهمتهم وهويتهم مكشوفة بطريقة ما؟

شكر «أحمد» السائق، وانضم إلى بقية زملائه، وحملوا حقائبهم الصغيرة التي وضعوا بها كل الضروريات، ثم اتجهوا إلى الفندق.

كان الفندق صغيرًا، مكونًا من ثلاثة طوابق من الخشب، أشبه بالفنادق الساحلية، التي تقام على شواطئ البحار، لاستقبال البحَّارة التي تأتي سفنُهم من الأماكن البعيدة، فيقضون في تلك الفنادق ليلة أو ليلتين قبل أن يغادروها ثانية … ولكن ذلك الفندق برغم صغر حجمه، كان آية في الجمال والنظافة، وقد ارتصت فيه قناديل صغيرة، ألقت ضوءًا حالمًا على المكان …

قالت «زبيدة» باسمة: يبدو أنَّ مهمتنا ستبدأ بداية شاعريَّة.

عثمان: هذا نوع من التدرج … قناديل الآن … وبراكين بعد قليل.

ابتسم الشياطين، وقاموا بحجز ثلاث غرف لمدة ليلة واحدة؛ فقد كانوا متأكدين من أنَّ عميل رقم «صفر» لن يتأخر عنهم أكثر من ذلك.

وفي حجراتهم، بدَّل الشياطين ملابسهم بعد أن أخذ كل منهم دشًّا باردًا، فقد كان الجو حولهم حارًّا خانقًا، بسبب ارتفاع المكان عن سطح الأرض، وعندما هبط الشياطين إلى قاعة الاستقبال بالفندق، كان المساء قد هبط في الخارج، وزاد ضوء القناديل توهجًا، ولم يكن هناك غير عدد قليل من الرواد الذين قد جلسوا يقرءون الجرائد، أو يثرثرون بلا اهتمام.

انتحى الشياطين الستة ركنًا خاصًّا، ونهضت «زبيدة»، فأحضرت مشروبات مثلجة للجميع، أخذوا يحتسونها ببطء، وهم ينظرون حولهم متفحصين.

تساءلت «إلهام» بصوت خفيض: أين هو عميل رقم «صفر»؟ لماذا لم يظهر حتى الآن … من المؤكد أنَّه علم بموعد وصولنا.

بو عمير: لعله ينتظر فرصة مناسبة ليتقدم إلينا بعيدًا عن الأنظار.

إلهام: هذا يعني أنَّه يشك أنَّنا مراقبون؟

وتلفتوا حولهم في حذر … ولكن لم يكن هناك ما يريب، فقد انشغل كل الموجودين في أشياء خاصة بهم، بدون أن يلتفتوا إلى الشياطين.

نهض «أحمد» وهو يقول: لا فائدة من الجلوس هنا والانتظار … فلنأخذ جولة حول المكان، ولا بد أنَّ رَجُلنا سيسعى خلفنا بعيدًا عن العيون.

عثمان: هذا أفضل بالفعل.

ونهضوا جميعًا، وغادروا المكان … وعندما تأكد موظف الاستقبال من خروجهم، أسرع يتحدث في التليفون حديثًا هامسًا، ليصف ملامح الشياطين لمن يحدثه … وجاءته الإجابة واضحة محددة … وأسرع موظف الاستقبال بتنفيذها فورًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤