الطيران … بلا أجنحة!

ما كاد الشياطين يخرجون من الفندق، حتى فوجئوا بسائق التاكسي الذي أقلَّهم من المطار وهو يتقدم نحوهم، مُرَحِّبًا، قائلًا: لقد توقعت خروجكم في جولة، فهذا هو شأن أغلب السياح، ولذلك انتظرتكم، ويمكنني أن آخذكم في جولة بالمدينة بمبلغ قليل.

تبادل الشياطين النظرات، وزاد شكهم في الرجل، وأجابته «إلهام» في خشونة: سوف نتجول على أقدامنا ولا حاجة لنا بتاكسي.

ولكن «أحمد» تقدم نحو السائق قائلًا: بالعكس، سوف تكون جولتنا ممتعة بالتاكسي، خاصة مع سائق لطيف مهذب.

وتلاقت عيناه مع بقية الشياطين، ففهموا ما يريده «أحمد»، وفي صمت اندسُّوا داخل السيارة، وما كاد سائقها يدير محركها ويبتعد بها عن الفندق، حتى أمسكه «عثمان» من رقبته مهددًا، وصاح فيه: من أنت؟ … إنَّك لست سائقًا عاديًّا، ومن الواضح أنَّك تطاردنا و…

قاطعة السائق، قائلًا: جبل النَّار سوف يبرد للأبد.

حملق الشياطين في السائق بدهشة عظيمة، كانت هذه هي كلمة السر التي سيتعرفون بها على عميل رقم «صفر»، وابتسم «أحمد» ابتسامة هادئة، وقال: هذا ما توقعته.

تراخت يد «عثمان» عن رقبة السائق، وقال مندهشًا: أنت؟ … ولماذا لم تخبرنا منذ البداية؟

قال السائق: دعوني أعرفكم بنفسي أولًا … إنَّني أُدعى «مارشيللو»، وأنا من مواطني هذه البلاد، ولم يكن من اللائق أن تبدءوا العمل قبل الحصول على قسط قليل من الراحة وحمَّام بارد …

قيس: لا وقت لدينا … إنَّنا نريد الذهاب فورًا إلى مكان القاعدة الأرضية.

مارشيللو: إنَّ كل شيء جاهز ومُعدٌّ … إذا ما انطلقنا في منتصف الليل، فسوف نصل إلى جزيرة «ولنجتون» ظهر الغد، ومن هناك يمكنكم الوصول إلى هدفكم في ساعات قليلة.

زبيدة: هل سنسافر بالطائرة؟

مارشيللو: لا، سيكون هذا لافتًا للنظر بشدة، إنَّ بلادنا جميلة، وطريقة السفر المعتادة هي البحر، فهو الأسرع والأمتع، فهناك زورق سريع ينتظرنا بكل التجهيزات الخاصة بعملكم.

تساءل «عثمان» بقلق: ولماذا يكون سفرنا بالطائرة لافتًا للنظر … هل تظن أننا مراقبون أو أنَّ أحدًا يعرف بمهمتنا؟

مارشيللو: من يدري؟ … كل شيء محتمل في مثل هذا العمل.

أحمد: وأين هو الزورق الذي سنسافر به؟

مارشيللو: إنَّه يوجد في مدينة «فالباريزو» الساحلية، ويمكننا الوصول إليها خلال ثلاث ساعات بالطريق الجبلي.

أحمد: إذن، هيا بنا لإحضار حقائبنا من الفندق.

وعاد بهم «مارشيللو» إلى الفندق، واتجه الشياطين إلى غرفهم لحزم حقائبهم، ودلَّت نظراتهم المتفحصة على أن يدًا خفيَّةً قد عبثت بحقائبهم بحثًا عن شيءٍ ما.

قال «قيس» بقلق: هناك من كان يبحث عن شيءٍ في حقائبنا.

أحمد: أظن ذلك، وعلى العموم، فهي نظيفة لا شيء يُريب بها، ولعلهم هنا معتادون على تفتيش حقائب النزلاء في غيابهم.

عثمان: أو لعل هناك من يسعى خلفنا.

تلاقت نظرات الشياطين في صمت، وقال «أحمد» منهيًا النقاش: دعونا لا نسبق الأحداث … هيا بنا.

وانطلقوا خارجين، واستقلوا سيارة «مارشيللو» الكبيرة، التي اتجهت بهم نحو الطريق الجبلي المتعرج الموصل إلى مدينة «فالباريزو» … ومرة أخرى، قام موظف الاستقبال بالتحدث تليفونيًّا ليخبر شخصًا ما بأنَّ الشياطين قد غادروا الفندق، وطمأنه المتحدث على الخط الآخر بأنَّ كل شيء مُعدٌّ … حتى لا يصل الشياطين إلى أهدافهم أحياء.

انطلقت سيارة «مارشيللو» تقطع الطريق الجبلي الوعر المتعرج بسرعة دلت على خبرة السائق، ومعرفته الدقيقة بتفاصيل المكان. وكانت الإضاءة القليلة حول الطريق والسكون المحيط به، وهامات الجبال البعيدة كأنَّها مرَدَة هائلة تمسك السماء بأذرعتها، كل هذا كان يثير شيئًا من القلق والغموض حول المكان.

ومال «عثمان» نحو «أحمد»، وقال بصوت منخفض: إنَّني أحس أنَّ شيئًا ما سيحدث، إنَّ تفتيش حقائبنا في الفندق … يدل على ذلك.

أحمد: لا أظن أنَّ مهمتنا قد انكشفت لأعدائنا بمثل هذه السهولة.

عثمان: لعل أعداءَنا احتاطوا للأمر مسبقًا أو استنتجوا مهمتنا؛ ولذلك راقبوا كل نزلاء فنادق «سانتياغو» تحسبًا لوصول غرباء، وخاصة العرب … من المؤكد أنَّهم يعرفون أنَّنا نسعى حتمًا لتدمير قاعدتهم؛ ولذلك احتاطوا مسبقًا … وأعتقد أننا سنواجه خطرًا سريعًا.

وما كاد «عثمان» يُنهي عبارته، حتى أوقف «مارشيللو» سيارته بفرامل حادَّةٍ، حتى كادت رءوس الشياطين تصطدم بحاجز السيارة أمامهم من شدة الصدمة، وهتف «مارشيللو» بسخط ودهشة: من الذي وضع هذه الصخور فوق الطريق الضيق؟

ألقى الشياطين نظرة خارج السيارة، فشاهدوا عددًا من الصخور الكبيرة تسد الطريق الجبلي، وغادروا السيارة، واقتربوا من الصخور مندهشين. وقال «أحمد»: يبدو أنَّ انهيارًا صخريًّا قد حدث بأعلى الجبل، فتساقطت الصخور وسَدَّت الطريق.

إلهام: من المؤكد أنَّ هذا الانهيار متعمد و…

وقبل أن تكمل «إلهام» عبارتها، دوَّى من أعلى صوت هائل، كأنَّ الجبل قد انشقَّ نصفين، ومن أعلى، كانت هناك صخرة هائلة في حجم منزل من طابقين، وقد راحت تتدحرج هابطة لأسفل، نحو الشياطين، لتسحقهم سحقًا …

صرخ «أحمد» محذرًا: ابتعدوا عن طريق هذه الصخرة.

ولكن … لم يكن هناك أيُّ مكان يهربون إليه، وقفز الشياطين قفزة رجل واحد، وتعلقوا بجذع شجرة قريب يبرز أسفل الطريق، وألقى «مارشيللو» بنفسه نحو حافة الطريق، محتميًا بعيدًا عن سيارته، وسقطت الصخرة الرهيبة فوق السيارة، فأحالتها إلى كومة من الحديد المنبعج، قبل أن تسقط في الهوة، أسفل الجبل، وتتحطم أسفل بصوت كالرعد.

تسلق الشياطين حافة الطريق الجبلي مرة أخرى، ووقف «مارشيللو» يمسح عرقه، وهو يشاهد سيارته التي تحولت إلى كومة من الحديد، وقال ذاهلًا: لو مستنا هذه الصخرة لمَحَتْنا من الوجود تمامًا.

أحمد: معك حق … يبدو أنَّ هناك من يريد التخلص منا، بحيث يبدو الأمر طبيعيًّا تمامًا، انهيار صخري أطاح بسيارتنا … ما العمل الآن؟ … وكيف سنهبط الجبل؟ …

نظر «أحمد» في ساعته، كانت تقترب من منتصف الليل: «مارشيللو»، كم تبعد مدينة «فالباريزو» عن هنا؟

أشار «مارشيللو» إلى نقطة بعيدة، تشع منها بعض الأضواء على الساحل: إنَّها هناك … إذا ما تمكنَّا من هبوط الجبل، فيمكننا أن نصل إليها خلال أربع ساعات بالسيارة … ولكن هبوط الجبل على أقدامنا يستغرق يومًا كاملًا …

أحمد: بل سيستغرق خمس دقائق فقط.

هتف «مارشيللو» مندهشًا: ماذا؟ … كيف نهبط في خمس دقائق؟ هل سنطير؟

أحمد: تقريبًا.

وأسرع إلى سيارة التاكسي المحطمة، وتعاون الشياطين في فتح حقيبتها الملتوية، حيث وضعوا حقائبهم، فأخرجوها، وبسرعة فتح الشياطين حقائبهم، وكانت بداخل كل منها مظلة هبوط «باراشوت»، أخذ الشياطين يربطون أحزمتها حول أكتافهم.

صاح «مارشيللو»: هذا رائع.

أحمد: إذا كان عدوُّنا قد احتاط لنا، فنحن لا نقل حيطة عنه.

قال «عثمان» بقلق: ولكننا لا نملك غير ست مظلات هبوط صغيرة، وهي لا تحتمل هبوط شخصين معًا، فكيف سيهبط «مارشيللو» معنا؟

أحمد: سيهبط معنا بنظرية الفريق المتعاون … سوف نتماسك جميعًا عند الهبوط على شكل دائرة، سنمسك «مارشيللو» بأيدينا معًا، وبذلك يمكننا الوصول جميعًا بسلام إلى الأرض.

ظهر شيءٌ من الخوف على وجه «مارشيللو»، ولكن «أحمد» طمأنه، وتماسكت أيدي الشياطين الستة معًا، وتعلق «مارشيللو» بهم في المنتصف، وقد أمسك «أحمد» و«عثمان» و«قيس» و«بو عمير» بقدم أو يد ﻟ «مارشيللو»، وبأيديهم الأخرى تماسكوا معًا …

وقفز الشياطين إلى قلب الهوة المظلمة أسفل الجبل، وأغمض «مارشيللو» عينيه في رعب، وهو يتمتم بصلاته الأخيرة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤