الفصل العاشر

الدولة الأيوبية

من سنة ٥٦٧–٦٤٨ﻫ/١١٧١–١٢٥٠م

(١) سلطنة صلاح الدين يوسف (من سنة ٥٦٧–٥٨٩ﻫ/١١٧١–١١٩٣م)

ولما علم صلاح الدين بوفاة العاضد وضع يده على القصر، وكان قد عهد إلى بهاء الدين قراقوش أن يخفي التحف التي كانت قد جُمعت. ثم ألقى القبض على جميع من بقي من الأسرة الفاطمية، وهم: الأمير داود بن ولي العهد ويُنعت بالحامد لله، وأخواه أبو الأمانة جبريل وأبو الفتوح وابنه أبو القاسم، وسليمان بن داود بن العاضد، وعبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد، وإسماعيل بن العاضد، وجعفر بن أبي طاهر بن جبريل، وعبد الظاهر بن أبي الفتوح بن جبريل بن الحافظ، وجعلهم تحت الحجر في مكان بعيد من القصر. أما مماليك العاضد وعبيده فباع بعضها، وفرق البعض الآخر في أرباب دولته.

هكذا كانت نهاية دولة الفاطميين فقد غادروا القاهرة وفيها من آثارهم بنايات عظيمة وقصور ومناظر منها القصر الكبير الذي بناه جوهر عندما أناخ في موضع القاهرة، والقصر الصغير الغربي، ونحو عشرة قصور أخرى جميعها متقنة ثمينة كلها قاعات ومناظر داخل سور القصر كان يقال لها القصور الزاهرة.

ومن آثارهم عدة بساتين ومناظر بأماكن مختلفة من القاهرة، وقلما بقي من تلك الآثار على حاله، ولكن هناك أثرًا عظيمًا لا يمحوه كرور الأيام نعني به القاهرة؛ فإنها من بنائهم كما علمت، وللفاطميين أحاديث مطولة فيما يتعلق بهيئاتهم في مجالسهم العامة، وكيف كان يجالسهم أرباب الدولة والفقهاء والعلماء وسائر أنواع الأتباع، وكيفية صلاتهم في المساجد، وما يجري في ذلك من الاحتفال من أحب الاطلاع عليه فليطالعه في خطط المقريزي.

ويقال إن صلاح الدين وجد بين تلك الخزائن مكتبة تحتوي على مائة ألف مجلد منتخبة من أحسن المؤلفات، ولا يزال قسم منها إلى الآن في مكتبة ليدن بألمانيا.

(١-١) نور الدين وصلاح الدين

ثم أسرع صلاح الدين إلى تبليغ أتابك نور الدين أنه أنفذ أوامره، وأن الخليفة مات، واتصل هذان الخبران ببغداد فأصبح خليفتها منفردًا بالخلافة على سائر المشرق؛ فخلع على أتابك نور الدين وبعث إليه سيفين إشارة إلى توليته على سوريا ومصر، وخلع أيضًا على صلاح الدين وبعث إليه بالأعلام السوداء يجعلها على المنبر، وبعد أن كانت القاهرة عاصمة من عواصم الإسلام أمست كغيرها من المدن، وتحولت العظمة جميعها إلى بغداد.

فلما رأى نور الدين نفسه سيدًا على سوريا كلها تقريبًا، وعلى بعض جزيرة العرب، وعلى آسيا الصغرى، وما بين النهرين عزم على الاستقلال بها وبمصر. أما صلاح الدين فكان في نيته الاستقلال بمصر لنفسه منذ أول توليته فيها، وكان بينه وبين نور الدين مكاتبات سرية مآلها المحافظة على سلطة الخليفة العباسي الدينية ريثما يتأتى لهم الاستقلال، فكان صلاح الدين مع تظاهره في تأييد سلطة الخلفاء العباسيين لا يفتر ساعيًا في إتمام مقاصده التي كانت تحت طي الخفاء، فأخذ في تربية الأحزاب، وإعداد القوات إلى ما يمكنه من الاستقلال بمصر ومقاومة نور الدين إذا عارضه بذلك، فشعر نور الدين فبعث إليه على إثر وفاة العاضد يستقدمه وفرقة من رجاله مظهرًا استنجاده على الصليبيين في الكرك، وقصده الحقيقي أن يخرجه من مصر، ويبقيه عنده تحت مراقبته فيأمن طائلته، فأدرك صلاح الدين غرضه الحقيقي لكنه لم يستصوب مخالفة أمره؛ لئلا تتنافر القلوب فتتعرقل مساعيه، فكتب إليه: إنه إذعانًا لأمره برح القاهرة في فرقة من الجند؛ لملاقاة جند نور الدين في الكرك، فوصل نور الدين إليها، ولم يجد فيها أحدًا فانتظر فلم يقدموا، ثم ورد إليه كتاب من صلاح الدين بأنه برح القاهرة بجنده يطلب الكرك فعرض له في الطريق ما ألجأه إلى العود حالًا إلى مصر.

(١-٢) دهاء نجم الدين أيوب

فعلم نور الدين أنها مماطلة مقصودة فأقرَّ على المسير بنفسه إلى مصر، والاشتغال بصلاح الدين عن الصليبيين، لكنه قبل ذهابه بعث إلى صلاح الدين يهدده بالعزل إذا لم يبادر إلى ما أمر به؛ فجمع صلاح الدين أهله وفيهم أبوه نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي وسائر الأمراء، فلما تكامل الجمع أعلمهم بما كان بينه وبين نور الدين، وما بلغه من عزمه على المجيء إليه، واستشارهم فلم يجبه أحد، فنهض تقي الدين عمرو بن شاهين شاه أخي صلاح الدين فقال: «إن الرأي إذا جاءنا نور الدين قاتلناه، ومنعناه من البلاد.» ووافقه غيره من أهلهم، فشتمهم نجم الدين والد صلاح الدين، واستعظم أقوالهم، وشتم تقي الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: «أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك، وهل تظن بين هؤلاء من يحبك ويخلص لك أكثر منا؟» قال: لا. فقال: «اعلم يا يوسف، أننا والله لو رأينا نور الدين لم نمكث أن نقتل بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا. فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا؟ وكل الذين تراهم عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يجسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه فيها فإن أراد سمعنا وأطعنا، والرأي أن تكتب كتابًا مع نجاب تقول فيه: بلغني أنك تريد الحركة إلى هذه البلاد فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجابًا يضع في رقبتي منديلًا ويأخذني إليك، وما هنا من يمنع.»

وقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا. ثم خلا أيوب بصلاح الدين فقال له: «بأي عقل فعلت هذا؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه، وحينئذٍ لا نقوى عليه؟ وأما الآن إذا بلغه ما جرى وما أظهرنا من الطاعة له تركنا، واشتغل بغيرنا، والأقدار تعمل عملها، ووالله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتله.» ففعل صلاح الدين ما أشار به أبوه.

فلما جاء كتاب صلاح الدين إلى نور الدين كما نصه أبوه سكن روعه وتوقف عن المسير إلى مصر، وعاد للاهتمام بأمر الصليبيين، وكانوا قد أمعنوا في سوريا، ولم تعد أخبارهم تصل لنور الدين بالسرعة اللازمة؛ لاتساع إيالاته فاستخدم الحمام لنقل الأخبار فكانت تأتيه بها بزمن قريب.

(١-٣) وثوب المصريين بصلاح الدين

أذعن المصريون لصلاح الدين وفي قلوبهم غل، فتآمر جماعة من أصحاب الخلفاء الفاطميين على الوثوب به، وسبب ذلك: أن جماعة من الشيعة؛ منهم: عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين، ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده؛ اتفق رأيهم على استدعاء الصليبيين من صقلية ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال. فإذا قصدوا البلاد وخرج صلاح الدين بنفسه إليهم ثاروا في القاهرة ومصر، وأعادوا الدولة الفاطمية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه فلا يبقى له مقام مقابل الصليبيين، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به وأخذوه أخذًا باليد لعدم الناصر إليه، وقال لهم عمارة: «وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفًا من أن يسد مسده، وتجتمع الكلمة عليه بعده.»

فأرسلوا إلى الصليبيين في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الصليبيين، وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم زين الدين علي بن نجا الواعظ والقاضي المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقضاة. إلا أن بني رزيك قالوا: إن الوزير منا، وبني شاور والقاضي قالوا: يكون الوزير منا. فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين وأعلمه حقيقة الأمر؛ فأمره بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون فعله، وتعريفه ما يتجدد أولًا بأول. ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه.

ثم وصل رسول من ملك الصليبيين بالساحل بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان صلاح الدين يرسل إليهم بعض النصارى تأتيه رسلهم، فأتاه الخبر من بلاد الصليبيين بجلية الحال. فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق إليه من النصارى وداخله فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته. فقبض حينئذٍ على المقدمين في هذه الحادثة، ومنهم عمارة وعبد الصمد الكاتب والعويرس وغيرهم وصلبهم.

وقيل في كشف أمرهم: أن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل وزير صلاح الدين يخدمه ويتقرب إليه فلقيه يومًا فلم يلتفت إليه. فقال القاضي الفاضل: «ما هذا إلا لسبب.» وخاف أن يكون قد صار له باطن مع صلاح الدين فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: «أريد أن تكشف لي الأمر.» فسعى في كشفه فلم ير له من جانب صلاح الدين شيئًا، فعدل إلى الجانب الآخر فكشف الحال، وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه. فقال: «تحضر الساعة عند صلاح الدين، وتنهي الحال إليه.» فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع فذكر له الحال. فقام وأخذ الجماعة وقررهم فأقروا فأمر بصلبهم، وكان بين عمارة وبين الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها، فلما أراد صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه، وظن عمارة أنه يحرض على هلاكه فقال لصلاح الدين: «يا مولانا، لا تسمع منه في حقي.» فغضب الفاضل وخرج، وقال صلاح الدين لعمارة: «إنه كان يشفع فيك.» فندم، ثم أخرج عمارة ليصلب فطلب أن يمرَّ به على مجلس الفاضل فاجتازوا به عليه فأغلق بابه ولم يجتمع به فقال عمارة:

عبد الرحيم قد احتجب
إن الخلاص هو العجب

ثم صلب هو والجماعة، ونودي في أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصي الصعيد، واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله، وأما الذين نافقوا على صلاح الدين من جنده فلم يعرض لهم، ولا أعلمهم أنه علم بحالهم.

وأما الصليبيون فكانوا يتألفون عصبًا، ويتقدمون في سوريا يفتتحون مدنها، وما زالوا في خطتهم هذه حتى لم يعد أمامهم إلا عدوان كبيران، وهما: نور الدين وصلاح الدين، وكان هذا الأخير يترقب الفرص لبلوغ مرامه، فكان يغتنم فرصة اشتغال نور الدين بالمحاربة في ما بين النهرين، ويسير إلى غزو سوريا، وحالما يعلم بقدومه إليها يعود إلى مصر حالًا.

(١-٤) وفاة نور الدين ومناقبه

فآل ذلك إلى النفور الشديد بين هذين الرجلين، وهمَّ نور الدين بحشد الجيوش، وتسييرها إلى مصر؛ لإخراج صلاح الدين منها، وإقامة حامية لحماية الحدود التي يخشى هجوم الصليبيين عليها، وبينما هو على أهبة الرحيل فاجأته المنية بعلة الخوانيق فمات في دمشق في شوال سنة ٥٦٩ﻫ وسنه ستون سنة، ومدة حكمه ٢٩ سنة.

وكانت مملكته شاملة جميع سوريا الشرقية وقسمًا من سوريا الغربية ومصر والموصل وديار الجزيرة، وكان واسع الجبهة حسن الصورة حلو العينين، وكان قد اتسع ملكه جدًّا، وخطب له بالحرمين بالشريفين وباليمن، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد اشتراه من سهمه في الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو عشرين دينارًا. فلما استقلتها قال: «ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض نار جنهم لأجلك.» وكان يصلي كثيرًا بالليل، وله فيه أوراد حسنة، وكان كما قيل:

جمع الشجاعة والخشوع لربه
ما أحسن المحراب في المحراب

وكان عارفًا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ليس عنده فيه تعصب، وسمع الحديث وأسمعه طلبًا للأجر، وأما عدْله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها مكسًا ولا عشرًا، بل أطلقها جميعا في مصر والشام والجزيرة والموصل، وكان يعظم الشريعة ويقف عند أحكامها، وأحضره إنسان إلى مجلس الحكم فمضى معه إليه، وأرسل إلى القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يقول: «قد جئت محاكمًا فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم.» وظهر الحق له فوهبه الخصم الذي أحضره، وقال: «أردت أن أترك له ما يدعيه، إنما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة فحضرت ثم وهبته ما يدعيه.» وبنى دار العدل في بلاده، وكان يجلس هو والقاضي فيها ينصف المظلوم من الظالم ولو أنه ولده أو أكبر أمير عنده.

وأما شجاعته فإليها النهاية، وكان في الحرب يأخذ قوسين ليقاتل بهما، فقال له القطب النساوي الفقيه: «بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف.» فقال له نور الدين: «ومَن محمود حتى يقال له هذا أمن قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذي لا إله إلا هو.»

وأما ما فعله من المصالح فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها، وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية، وبنى الجامع النوري بالموصل، وبنى البيمارستانات والخانات في الطرق، وبنى الخانكاهات في جميع البلاد، ووقف على الجميع الوقوف الكثيرة، وكان حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري، وكان يكرم العلماء وأهل الدين، ويعظمهم، ويقوم إليهم، ويجلسهم معه، ويتبسط معهم، ولا يرد لهم قولًا، ويكاتبهم بخط يده، وكان وقورًا مهيبًا مع تواضعه.

(١-٥) استقلال صلاح الدين بمصر والشام

فانتقلت مملكته بعد موته إلى ابنه الملك الصالح إسماعيل، وكان في الحادية عشرة من العمر. فأقيم شمس الدين محمد بن المقدم نائبًا له في تدبير المملكة. فاستخف الناس به لصغر سنه حتى هم أفراد أسرته بتنزيله لكنهم لم ينجحوا، وحاول الملك أمري غزوه فعاد خائبًا. أما الأمراء الذين كانوا على الإمارات في مملكته فحاول كل منهم الاستقلال بذاته، فأحب نائب الملك أن يسير إلى صلاح الدين يستنجده فأوقفه أولئك الأمراء، وفي خلال ذلك ورد إليهم وإلي نائب الملك كتب من صلاح الدين تقول بوجوب الخضوع التام لخليفة نور الدين كما كان له، وأرسل نقودًا مضروبة في مصر باسم السلطان الجديد، ومما كتبه للأمراء قوله: «لو علم نور الدين أن فيكم من هو أكثر أهلية وأمانة مني لولاية مصر فلا أشك أنه كان يعهدها إليه، وهي أجمل وأخصب ولاياته، واعلموا أيضًا أنه لو لم يفاجئه القضاء لأقامني وصيًّا على ابنه، وأرى أنكم تحاولون إخراج يدي، ولكني سأذهب إلى دمشق بنفسي، وأقدم عبوديتي إلى هذا السلطان الجديد معترفًا بالأفضال العظيمة التي حملنيها أبوه، أما أنتم فسأعاملكم بمقتضى تصرف كل واحد منكم؛ لأني أعدُّكم من أهل الفتنة.»

وجاء صلاح الدين إلى دمشق بعد وصول كتبه بقليل، وأخرج منها سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين، وكان قد وضع يده عليها، وأعادها للملك الصالح، ثم أسرع في استرجاع الأماكن التي قد استقل بها بعض الأمراء الصغار من أسرة نور الدين في سوريا الشرقية استخفافًا منهم بسلطة الملك الصالح. فاسترجع منهم حمص وحماة وبارين وسلامية وتل الخاطب وبعلبك والرها. إلا أن هذه الفتوح لم تجد الملك الصالح نفعًا؛ لأنها دخلت في سلطة صلاح الدين، ولم يعط منها شيئًا للملك الصالح. فاستنكف منه وخافه. ثم حاول صلاح الدين الاستيلاء على حلب، وكانت في حوزة الملك الصالح على نية أن يخرجه إلى شرقي البلاد السورية، واستنجد الملك الصالح ابن عمه سيف االدين غازي وكان قد ولاه الموصل فأمدَّه. فاتحد الجيشان وهاجموا صلاح الدين في ١٩ رمضان سنة ٥٧٠ﻫ فتغلب عليهم، وسلب منهم أمتعتهم، واستولى على حلب، وأبطل الخطبة للملك الصالح وخطب لنفسه.

فرأى صلاح الدين إذ ذاك من قواته والأحوال المحيطة به ما يؤهله لبلوغ ما طالما كان يتمناه من الاستقلال بالملك. فصرح بسلطانه في مصر وسوريا وكان كذلك. فأصبح الصليبيون أعداءه مباشرة. أما هم فاغتنموا اشتغاله في جهات حلب وحملوا على البلاد الغربية من سوريا، وجعلوا يفتكون بأهلها ويسومونهم سوء العذاب؛ يقتلون بعضهم، ويأسرون البعض. فحاربهم طوران شاه أخو صلاح الدين فلم يقوَ عليهم. فبلغ ذلك أخوه وكان قد استقدم جندًا مصريًّا. فأنفذ بعضهم فأرجعوا الصليبيين على أعقابهم فعاد إلى إتمام فتوحه فحارب سيف الدين غازي وفاز به، واستولى على بوزاع ومنبج وعيراز، حيث قبض على اثنين من الباطنيين وقتلهما بيده، وكانا مرسلين من قبل أمير الباطنيين ليقتلاه.

وختم صلاح الدين فتوحه بمعاهدة عقدها مع سيف الدين غازي والملك الصالح تقضي باستبقاء جميع البلاد التي فتحها تحت سلطته، وأن لا يكون للملك الصالح دخل فيها.

(١-٦) إصلاحات صلاح الدين بمصر

وعاد صلاح الدين إلى مصر في ٢٠ محرم سنة ٥٧٢ﻫ بعد أن استخلف أخاه طوران شاه على دمشق، وكان قبل مسيره إلى الشام قد استخلف على مصر وزيره الأمير بهاء الدين الأسدي الخصي الفارسي الذي تقدم ذكره. فعهد إليه تدبير الأحكام، وأمره أن يقيم البنايات اللازمة لرونق البلاد ومنعتها. فأنفذ بهاء الدين ما عهد إليه بغيرة ونشاط، وكانت الجسور المبنية لتنظيم مجرى النيل عند الفيضان قد أهمل شأنها منذ تولى الخلفاء الفاطميون فإذا فاض النيل طغت مياهه على اليابسة، وخربت الطرق، وأفسدت الزرع؛ فمهد الطرق، واحتفر الترع، وأقام الجسور والسدود، واستخدم لذلك بعض حجارة الأهرام الصغيرة التي كانت تحيط بأهرام الجيزة وغيرها من أبنية المصريين القدماء، وأنشأ طريقًا يمتد طولًا على ضفة النيل فيقيها من صدمات المياه، وتسهل علائق العاصمة بمصر العليا والسفلى، وشاد فوق الترعة التي كانت تجري بين الجيزة وأهرامها جسرًا عظيمًا مؤلفًا من أربعين قنطرة.

fig036
شكل ١٠-١: قلعة القاهرة الآن.

ولم يكن لصلاح الدين إذ ذاك مسكن إلا القصران اللذان كانا للخليفة والوزير السابقين، ولم يكونا منيعين حق المنعة فجعلهما منزلًا لأمراء الدولة وقواد الجند، وبنى في الطرف الشمالي من جبل المقطم على سفحه قلعةً منيعةً؛ لإرهاب الأهالي إذا حاولوا العصيان، وجعل فيها قصرًا لبلاطه، وكان في ذلك المكان بناء قديم من عهد الدولة الطولونية يعرف بقبة الهواء فهدمه، وأقام القلعة في مكانه، وأتى بحجارتها من خرائب منف والأهرام وغيرها؛ فجاءت قلعة منيعة الجانب تشرف على كل المدينة، وليس في القاهرة بناءٌ آخر أمنع موقعًا من القلعة، وهي لا تزال باقية إلى هذا العهد، وتُعرف بقلعة الجبل وقلعة القاهرة، واحتفر بهاءُ الدين في القلعة بئرًا نقرًا في الصخر عميقة جدًّا تسع كل ما تحتاج إليه الحامية من الماء، ولا تزال البئر والقصر إلى هذه الغاية يعرفان باسمه؛ فالبئر تدعى بئر يوسف، ويظن بعض العامة أنها سميت هكذا نسبة إلى يوسف الصديق بن يعقوب، والصحيح نسبتها إلى يوسف صلاح الدين الذي أمر باحتفارها، والغالب أن هذه البئر كانت محفورةً من أيام قدماء المصريين، ثم طُمرت بالرمال فأعاد صلاح الدين حفرها، وما بقي من القصر يعرف بديوان يوسف أو ديوان صلاح الدين.

وابتنى هذا الوزير أيضًا حواصل كبيرة في الفسطاط لخزن الغلال التي ترد من الأعمال سنويًّا، ولا تزال تدعى إلى يومنا هذا بمخازن يوسف، وقد ظن بعضهم أنها من بناء فرعون في زمن يوسف الصديق.

(١-٧) سور القاهرة

وبعد أن فرغ بهاء الدين من إصلاح الترع والخلجان والطرق وبناء القلعة أخذ يهتم بإتمام سور القاهرة، وكان قد ابتدأ بعمارته السلطان صلاح الدين سنة ٥٦٦ﻫ وهو يومئذٍ على وزارة العاضد فلما عهد إلى بهاء الدين إتمامه عمل له رسمًا عظيم الاتساع يحيط بالقاهرة والفسطاط وقصر الشمع وما بينها من الأرض. إلا أنه استعظم بناءه بهذا الاتساع فجعله محيطًا بالقاهرة والقلعة فقط، واضطر لقيام مشروعه هذا إلى هدم جوامع وبيوت وقبور كثيرة كانت في مكان السور.

ولم يكن الأهالي معتادين على الإذعان لأوامر صلاح الدين كسلطان، وبعضهم لا يزال متشيعًا للدولة الفاطمية فاتهموه بالاستبداد، ولقبوا بهاء الدين بقراقوش، أي الطير الأسود وهو العقاب، ولا يزال بعض عامة الشرقيين يعبرون بهذا الاسم عن الاستبداد والعسف، وينسبون إليه أحكامًا عجيبة في ولايته حتى إن الأسعد بن مماتي له كتاب لطيف سماه الغاشوش في أحكام قراقوش، وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان معتمدًا في أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفاءته ما فوضها إليه، وكان رجلًا مسعودًا وصاحب همة عالية.

وهذه هي المرة الثالثة لبناء سور القاهرة؛ ففي المرة الأولى بناه جوهر، وفي الثانية أمير الجيوش، وفي الثالثة بهاء الدين بأمر صلاح الدين فزاد فيه القطعة التي من باب القنطرة إلى باب الشعرية ومن باب الشعرية إلى باب البحر، وبنى قلعة المقس، وهي برج كبير جعله على النيل بجانب جامع المقس الذي يعرف اليوم بجامع أولاد عنان، وهو خارج باب البحر على يسار الذاهب من وجه البركة إلى محطة السكة الحديد، وانقطع السور من هناك.

وزاد في سور القاهرة قطعة مما يلي باب النصر ممتدة إلى باب البرقية، وإلى درب بطوط، وإلى خارج باب الوزير يتصل بسور قلعة الجبل فانقطع من مكان يقرب من الصوة تحت القلعة، وإلى الآن آثار الجدر ظاهرة للمتأمل فيما هو آخر السور إلى جهة القلعة، وجاء دور هذا السور المحيط بالقاهرة ٢٩٣٠٢ من الأذرع الهاشمية.

وقلعة المقس المذكورة كانت برجًا مطلًّا على النيل في شرقي جامع المقس، ولم تزل حتى هدمها الوزير الصاحب شمس الدين عندما جدد الجامع المذكور سنة ٧٠٧ﻫ وجعل في مكان ذلك البرج حديقة، وحفر بهاء الدين خارج السور خندقًا جعله من باب الفتوح إلى المقس، ومن الجهة الشرقية خارج باب النصر إلى البرقية وما بعده، وجعل خارج هذا الخندق سورًا آخر بأبراج مبني بالحجارة، إلا أن هذا السور الثاني هدم جميعه، والخندق ردم إلا في بعض الأماكن.

fig037
شكل ١٠-٢: باب النصر كما هو الآن.

وفي سنة ٥٧٣ﻫ عاد الصليبيون إلى التعدي فحصلت بينهم وبين صلاح الدين واقعة في الرملة كان الفوز فيها للصليبيين، إلا أن ذلك الفوز لم يلبث حتى انقلب عليهم؛ لما حدث بين رءوسائهم من الانشقاق.

وفي ٥ صفر سنة ٥٧٦ﻫ توفي شمس الدين طوران شاه في ثغر الإسكندرية، وكان قد جاءها من دمشق فنقلته أخته ست الشام بنت أيوب إلى دمشق، ودفنته في مدرستها التي أنشأتها بظاهر دمشق، فهناك قبره وقبرها وقبر ولدها حسام الدين عمر بن لاجين، وقبر زوجها ناصر الدين بن أسد الدين شيركويه صاحب حمص، وكانت قد تزوجته بعد لاجين.

وفي سنة ٥٧٨ﻫ حمل صلاح الدين على سوريا حملة ثانية، وسببها: أن الملك الصالح كان قد مات واستخلف عز الدين ملك الموصل، فأراد هذا أن يخرق المعاهدة التي كانت قد عُقدت مع صلاح الدين، فاتصل ذلك بصلاح الدين، واتصل به أيضًا أن أمراء الموصل تآمروا عليه سرًّا مع الصليبيين؛ فأسرع إلى سوريا فجاء حلب وحاصرها فسلمت، ثم استولى على الرها والرقة ونصيبين وسروج وخابور وسنجار وحران، ثم أتى فعسكر أمام الموصل، ولم يبق غيرها للملك الصالح فحاصرها، وبعد أخذ ورد سلمت سنة ٥٨١ﻫ.

وأصيب فيها صلاح الدين بمرض شديد فانتشر ذلك في أنحاء سوريا، ثم بعث عز الدين يطلب المصالحة، وكانت المصالحة النهائية؛ لأنهم جعلوا لها حيثية دينية، ومن مقتضاها الخطبة لصلاح الدين في الموصل وسائر البلاد التي أرجعت للأتابك الملك الصالح، وأن يعترف صاحب الموصل أنه تابع لصلاح الدين، وعليه تقديم العدة والرجال عند الحاجة لمحاربة الصليبيين.

(١-٨) واقعة حطين

وفي ١٤ ربيع آخر سنة ٥٨٣ﻫ كانت بداية واقعة حطين الشهيرة في وسط نهار الجمعة، والمسلمون كثيرًا ما يحاولون لقاء عدوهم يوم الجمعة عند الصلاة تبرُّكًا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر في سائر العالم الإسلامي في وقت واحد. فسار السلطان صلاح الدين بما اجتمع لديه على أتم نظام، وحط رحاله عند بحيرة طبرية على سطح الجبل على أمل أن الإفرنج إذا بلغهم نزوله هناك يقدمون إليه، وكانوا معسكرين في مرج صفورية بأرض عكا فلم يتحركوا من منزلتهم. فسار صلاح الدين في جريدة من جيشه إلى طبرية، واستلمها بساعة بعد القتل والنهب إلا أن القلعة بقيت سالمة بمن فيها. فبلغ الإفرنج ما حصل في طبرية فساروا نحوها، فعلم السلطان بذلك فترك على قلعة طبرية من يحاصرها، وعاد لملاقاة العدو فالتقى به على سطح جبل طبرية الغربي في يوم الخميس ٢٢ ربيع آخر، وبعد حرب شديدة تفرقت جيوش الصليبيين إلا فرقة منهم تحصنت في تل يقال له تل حطين، وهي قرية هناك عندها قبر النبي شعيب فضايقهم المسلمون، وأشعلوا حولهم النيران فاشتد بهم العطش إلى أن ألجأهم الأمر للقتال يأسًا، فأسرت مقدمتهم وقتل الباقون.

وكان في جملة المأسورين الملك جفري، وأخوه البرنس أرباط صاحب الكرك والشوبك وغيرهما من القواد والأمراء. فجلس السلطان صلاح الدين في خيمته، وأمر بتحضير الأسرى بين يديه فأحضروا وفيهم الملك جفري فأمر له بشربة من جلاب ثلج فشربها وكان في غاية الظمأ، ثم أعطى البرنس أرباط أخاه فشرب، وقال السلطان للترجمان: «قل للمك: أنت الذي سقيته، أما أنا فما سقيته.» إذ كان من جميل عادة العرب أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن. فقصد السلطان بقوله هذا أن الملك جفري قد أمن أما أخوه فلم يأمن، وكان في قلب صلاح الدين حقد على البرنس أرباط السابق تعديه على جماعة من المسلمين وقتلهم في حال سلمية لغير داعٍ، فسبق من السلطان قسم أنه إذا ظفر بهذا الأمير قتله. فبعد أن شربا أرسلهما للمائدة فأكلا، ثم أعيدا إلى السلطان فأخذ بيده سيفًا وتقدم إلى البرنس أرباط قائلًا: «ها أنا انتصر لمحمد.» ثم عرض عليه الإسلام فأبى فضربه بالسيف فحل كتافه، وتمم قتله من حضر، ورميت جثته على باب الخيمة. فلما رأى جفري ذلك وقع الرعب في قلبه. فكلمه السلطان وطيب خاطره، وقال له: «لم تجر العادة أن يقتل الملوكُ الملوكَ، أما هذا فقد تجاوز الحد، وتجرأ على الأنبياء.» وفي أثناء هذه الحروب التقى صلاح الدين بريكاردس قلب الأسد.

fig038
شكل ١٠-٣: ريكاردس قلب الأسد.

وفي اليوم التالي نزل السلطان على طبرية فاستلم قلعتها، ثم رحل طالبًا عكا فبلغها يوم الأربعاء غاية ربيع آخر، وفي اليوم التالي حاربها وأخذها، وأنقذ من كان فيها من أسارى المسلمين، وكانوا أكثر من ٤٠٠٠، واستولى على ما فيها من الأموال. ثم فرق السلطان صلاح الدين جيشه فرقًا في أنحاء سوريا فاستولى على نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة، وسار هو يطلب تبنين فنزلها يوم الأحد ١١ جمادى الأولى، وهي قلعة منيعة فحاصرها أسبوعًا، ونصب عليها المنجنيق حتى فتحها عنوة، ثم رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها وتسلمها في غد نزوله، ثم سار إلى بيروت وركَّب عليها المنجنيق، وما زال حتى أخذها في يوم الخميس ٢٩ جمادى الآخرة، وسارت سرية من رجاله إلى جبيل من أعمال لبنان فاستلمها. ثم حول شكيمه فتوجه جنوبًا قاصدًا عسقلان فمر على مواضع كثيرة كالرملة والدارون فاستولى عليها، فلما وصل عسقلان نصب عليها المنجنيق، وقاتلها قتالًا شديدًا حتى تسلمها، ثم بعث من رجاله من استلم غزة، وبيت جبريل، والبترون بغير قتال.

(١-٩) فتح بيت المقدس

ولما تمّ لصلاح الدين الاستيلاء على البلاد المحيطة ببيت المقدس شمّر عن ساعد الجد في المسير إليه فجمع جندهُ، وكانوا متفرقين في الساحل، وسار بهم حتى أتى بيت المقدس يوم الأحد ١٥ رجب سنة ٥٨٣ﻫ، وكان به البطريرك المعظم عندهم وهو أعظم شأنًا من ملكهم، وبه أيضًا باليان بن بيرزان صاحب الرملة، وكانت مرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك.

fig039
شكل ١٠-٤: شكل بيت المقدس وأسواره لما حاصره صلاح الدين.

وبه أيضًا من خلص من فرسانهم من حطين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي؛ عسقلان وغيرها، فاجتمع به كثير من الخلق كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس ويأخذوه منهم، ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظه، وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلًا، وصعدوا على سوره بحدهم وحديدهم مجتمعين على حفظه، والدفاع عنه بجهدهم وطاقتهم، مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم، ونصبوا المنجنيقات؛ ليمنعوا الدنو منه، والنزول عليه، ولما قرب صلاح الدين منه تقدم أمير في جماعة من أصحابه غير محتاط ولا حذر فلقيه جمع من الصليبيين قد خرجوا من القدس، فقاتلوه وقاتلهم فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه. فأهم المسلمين قتله، وفجعوا بفقده، وساروا حتى نزلوا على القدس في منتصف رجب. فلما نزلوا عليه رأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم، وسمعوا لأهله من الغلبة والضجيج من وسط المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع، وبقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتلها؛ لأنها في غاية الحصانة والامتناع فلم يجد عليها موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو باب عمود أو كنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب ونزلها، ونصب تلك الليلة المنجنيقات فأصبح من الغد وقد فرغ من نصبها ورمى بها.

fig040
شكل ١٠-٥: منجنيقات لرمي النبال.

ونصب الصليبيون على سور البلد منجنيقات، ورموا بها، وقوتلوا أشد قتال رآه أحد من الناس كل واحد من الفريقين يرى ذلك دينًا وحتمًا واجبًا فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني، بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون، ويزجرون ولا يزدجرون.

وكان خيالة الصليبيين كل يوم يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون فيقتل من الفريقين، وممن قتل من المسلمين: الأمير عز الدين عيسى بن مالك، وهو من أكابر الأمراء، وكان أبوه صاحب قلعة جعبر، وكان يصطلي القتال بنفسه كل يوم فقتل، وكان محبوبًا إلى الخاص والعام. فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك، وأخذ من قلوبهم فحملوا حملة رجل واحد. فأزالوا الصليبيين عن مواقفهم فأدخلوهم بلدهم، ووصل المسلمون إلى الخندق فجاوزوه، والتصقوا إلى السور فنقبوه، وزحف الرماة يحمونهم، والمنجنيقات توالي الرمي لتكشف الصليبيين على الأسوار؛ ليتمكن المسلمون من النقب. فلما نقبوه حشوه بما جرت به العادة، فلما رأى الصليبيون شدة قتال المسلمين، وتحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك، وتمكن النقابين من النقب، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك اجتمع مقدموهم يتشاورون فيما يأتون ويذرون. فاتفق رأيهم على طلب الأمان، وتسليم بيت المقدس إلى صلاح الدين؛ فأرسلوا جماعة من كبرائهم وأعيانهم في طلب الأمان. فلما ذكروا ذلك للسلطان امتنع من إجابتهم، وقال: «لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة ٤٩٢ﻫ من القتل والسبي، وجزاء السيئة بمثلها.» فلما رجع الرسل خائبين محرومين أرسل باليان من بيرزان، وطلب الأمان لنفسه؛ ليحضر عند صلاح الدين في هذا الأمر وتحريره. فأجيب إلى ذلك وحضر عنده، ورغب في الأمان، وسأل فيه فلم يجبه إلى ذلك، واستعطفه فلم يعطف عليه، واسترحمه فلم يرحمه. فلما آيس من ذلك قال له: «أيها السلطان، اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظنًّا منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت، ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا الموت لا بد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا، ونحرق أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منا دينارًا واحدًا ولا درهمًا، ولا تسبون وتأسرون رجلًا ولا امرأة، وإذا فرغنا من ذلك أخرجنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من المواضع، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانًا إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم كلنا قاتلناكم قتال من يريد أن يحمي دمه ونفسه، وحينئذٍ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله، ونموت أعزاء أو نظفر كرامًا.»

fig041
شكل ١٠-٦: آلة لنقب الأسوار وهي برج يجر على مجادل أو عجل نحو السور، وفي أسفله رجال ينقبون السور بعمود طرفه كرأس الكبش وفي البرج رجال يشغلون حماة السور برمي النبال.

(١-١٠) شروط التسليم

فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان، وأن لا يخرجوا، ويحملوا على ركوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن أي شيء تنجلي، وقالوا: «نحسب أنهم أسارى بأيدينا فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم.»

فأجاب صلاح الدين حينئذٍ إلى بذل الأمان للصليبيين، فاستقر أن يؤخذ من الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير، ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين، وتزن المرأة خمسة دنانير، فمن أدى ذلك في أربعين يومًا فقد نجا، ومن انقضت الأربعون يومًا عنه ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكًا. فبذل باليان بن بيرزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار فأجيب إلى ذلك، وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وكان يومًا مشهودًا، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوارها، ورتب صلاح الدين على أبواب البلد في كل باب أمينًا من الأمراء؛ ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم. فاستعملوا الخيانة ولم يؤدوا فيه الأمانة، واقتسم الأمناء الأموال، وتفرقت أيدي سبأ، ولو أديت فيه الأمانة لملأ الخزائن وعم الناس، فإنه كان فيه على الضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من يتبعهم من النساء والولدان، ولا يعجب السامع من ذلك فإن البلد كبير، واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان وغيرها والدارون والرملة وغزة وغيرها من القرى بحيث امتلأت الطرق والكنائس، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي، ومن الأدلة على كثرة الخلق أن أكثرهم وزن ما استقر من القطيعة، وأطلق باليان بن بيرزان ثمانية عشر ألف رجل وزن عنهم ثلاثين ألف دينار، وبقي بعد هذا جميعه من لم يكن معه ويعطي، وأخذ أسيرًا ستة عشر ألف آدمي ما بين رجل وامرأة. ثم إن جماعة من الأمراء ادعى كل واحد منهم أن جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالبيت المقدس فيطلقهم ويأخذ قطيعتهم.

وكان جماعة من الأمراء يلبسون الصليبيين زي الجند المسلمين ويخرجونهم، ويأخذون فيهم قطيعة قرروها، واستوهب جماعة من صلاح الدين عددًا من الصليبيين فوهبهم لهم فأخذوا قطيعتهم، وبالجملة فلم يصل إلى خزائنه إلا القليل، وكان بالقدس بعض نساء الملوك من الروم وقد ترهبت وأقامت به، ومعها من الحشم والعبيد والجواري خلق كثير، ولها من الأموال والجواهر النفيسة شيء عظيم، فطلبت الأمان لنفسها ومن معها فأمنها وسيرها، وأطلق أيضًا ملكة القدس التي كان زوجها الذي أسره صلاح الدين قد ملك الصليبيين بسببها، وكان يقوم بالملك نيابة عنها، وأطلق مالها وحشمها، واستأذنته في المسير إلى زوجها، وكان حينئذٍ محبوسًا بقلعة نابلس فأذن لها فأتته وأقامت عنده.

وأتته أيضًا امرأة للبرنس أرباط صاحب الكرك الذي قتله صلاح الدين بيده في حطين فشفعت في ولد لها مأسور فقال لها صلاح الدين: «إن سلمت الكرك أطلقته.» فسارت إلى الكرك فلم يسمع منها الصليبيون، ولم يسلموه فلم يطلق ولدها، ولكنه أطلق مالها ومن تبعها، وخرج البطريرك الكبير الذي للصليبيين ومعه من أموال البيع منها الصخرة والأقصى وقمامة وغيرها ما لا يعلمه إلا الله، وكان له من المال مثل ذلك فلم يعرض له صلاح الدين فقيل له ليأخذ معه يقوي به المسلمين فقال: «لا أغدر به.» ولم يأخذ منه غير عشرة دنانير، وسير الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور.

وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة؛ ليقلعوا الصليب فحين صعدوا صاح الناس كلهم صوتًا واحدًا من البلد ومن ظاهره المسلمون والصليبيون. أما المسلمون فكبروا، وأما الصليبيون فصاحوا تفجعًا وتوجعًا، فسمع الناس صيحة كادت الأرض أن تميد بهم لعظمها وشدتها.

فلما ملك البلد، وفارقه الصليبيون أمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، فإن الداوية بنوا غربي الأقصى أبنية؛ ليسكنوها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هرى ومستراح وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم فأعيد إلى حاله الأول، وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس ففعل ذلك أجمع، ولما كانت الجمعة الأخرى رابع شعبان صلى المسلمون فيه الجمعة ومعهم صلاح الدين، وصلى في قبة الصخرة، وكان الخطيب والإمام محيي الدين ابن الزكي قاضي دمشق. ثم رتب فيه صلاح الدين خطيبًا وإمامًا برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يعمل له منبر فقيل له: إن نور الدين محمودًا كان قد عمل بجلب منبرًّا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: «هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس.» فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله فأمر بإحضاره فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة.

ولما فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعة تقدم بعمارة المسجد الأقصى، واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه وتدقيق نقوشه، فأحضروا من الرخام الذي لا يوجد، ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وقد ادخر على طول السنين. فشرعوا في عمارته ومحوا ما كان في تلك الأبنية من الصور، وكان الصليبيون فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها فأمر بكشفها، وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيرًا منها للصليبيين الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة فكانوا يشترونه بوزنه ذهبًا رجاء بركتها، وكان أحدهم إذا دخل إلى بلاده باليسير منها بنى له الكنيسة وجعله في مذبحها. فخاف ملوكهم أن تفنى فأمر بها ففرش فوقها حفظًا لها. فلما كُشفت نقل إليها صلاح الدين المصاحف والربعات، ورتب القراء وأدر عليهم الوظائف الكثيرة.

fig042
شكل ١٠-٧: كنيسة القيامة بالقدس عند فتحها.

وأما الإفرنج من أهل بيت المقدس فإنهم شرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم وما لا يطيقون حمله، وباعوا ذلك بأرخص الثمن. فاشتراه التجار من أهل العسكر، واشتراه النصارى من أهل القدس الذين ليسوا من الصليبيين؛ فإنهم طلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من المقام في مساكنهم، ويأخذ منهم الجزية فأجابهم إلى ذلك. فاستقروا فاشتروا حينئذٍ من أموال الصليبيين، وترك الصليبيون أيضًا أشياء كثيرة لم يمكنهم بيعها من الأسِرَّة والصناديق والبنيات وغير ذلك، وتركوا أيضًا من الرخام الذي لا يوجد مثله من الأساطين والألواح وغيره شيئًا كثيرًا ثم ساروا.

(أ) تهاني الشعراء بالفتح

وكانت ليلة المعراج وكان يوم فخر لجيش المسلمين، فتقاطر الشعراءُ من سائر الأنحاء؛ لتهنئة السلطان صلاح الدين بما أتاه الله من الفتح، ونظموا القصائد، وقالوا الخطب على الجماهير، وسالت أقلام الكتاب، وفاضت قرائحهم؛ فكنت ترى فيهم إما خطيبًا يبشر ويحرض، وإما شاعرًا يحمد الله ويمدح الفتح، أو مؤرخًا يذكر الحادثة بما فيها من الفخر لجيش المسلمين، وكان من جملة من كتب القاضي الفاضل صاحب السيرة الأيوبية، وعماد الدين الأصبهاني، وممن أنشد في هذا الشأن عبد الرحمن بن بدر النابلسي فقال قصيدة منها:

هذا الذي كانت الأيام تنتظر
فليوفِ لله أقوامٌ بما نذروا
بمثل ذا الفتح لا والله ما حُكيت
في سالف الدهر أخبار ولا سيرُ
الآن قرت جنوب في مضاجعها
ونام من لم يزل حلفًا له السهر
يا بهجة القدس إذا ضحى به علم الإ
سلام من بعد طي وهو منتشر
يا مالك الأرض مهدها فما أحد
سواك من قائم للمهد ينتظر
ما اخضرَّ هذا الطراز الساحلي ثمرًا
إلا لتعلو به أعلامك الصفر
أضحى بنو الأصفر الأنكاس موعظة
فيها لأعدائك الآيات والنذر
صاروا حديثًا وكانوا قبل حادثة
على الورى يتقيها البدو والحضر
هذا الذي سلب الإفرنج دولتهم
وملكهم يا ملوك الأرض فاعتبروا
ولا أصرح بأسماء البلاد فقد
أسهبت والقبائل المنطيق يختصر
يغنيك إجمال قولي عن مفصله
في لفظة البحر معنى تحته الدرر

وهي طويلة تزيد على مائة بيت يمدح بها السلطان، ويهنئه بالفتح.

(١-١١) فتح سائر سوريا

وبعد فتح بيت المقدس سار صلاح الدين لفتح صور فجاء عكا فنزل فيها، ونظر في أمورها، ثم سار عنها إلى صور في يوم الجمعة ١٥ رمضان فنزل قريبًا منها، وأرسل لإحضار آلات القتال، ولما تكاملت نزل عليها، وقاتلها برًّا، واستقدم أسطول مصر ليقاتلها بحرًا، ثم أرسل من حاصر هونين فسلمت. أما الصوريون فأرسلوا أسطولهم إلى أسطول المسلمين فأسروا منه خمس قطع، وقتلوا كثيرًا من المسلمين؛ فعظم ذلك على السلطان وضاق صدره، وكان الشتاء قد هجم، وتراكمت الأمطار، واستشارهم فيما يفعلون فأشاروا عليه بالرحيل؛ لتستريح الرجال، ويجتمعوا للقتال فساروا، وحملوا من آلات القتال ما أمكن، وأحرقوا ما بقي منها، وسارت كل جماعة إلى بلادهم، وسار صلاح الدين إلى عكا.

وبقيت الهدنة إلى أن دخلت سنة ٥٨٤ﻫ وعند ذلك نزلوا على حصن كوكب، وكان منيعًا فأخذوه بعد قتال شديد، ثم سار السلطان إلى دمشق وبقي فيها خمسة أيام. ثم بلغه أن الإفرنج قصدوا جبيل فسار نحوهم، ثم علم أنهم رحلوا عنها فتوقف، وسار قاصدًا إتمام فتح سوريا، فجاء ترسوس في ٦ جمادى الأولى سنة ٥٨٤ﻫ، وكان قد انضم إليه رجال من سنجار والموصل تحت قيادة عماد الدين زنكي ومظفر الدين بن زين الدين ففتح ترسوس، ثم سار إلى جبلة ففتحها، ومنها توجه إلى اللاذقية في ٢٤ جمادى الأولى فأخذها في يوم واحد إلا قلعتيها على أنهما اضطرتا أخيرًا للتسليم. ثم رحل من اللاذقية إلى صهيون فنزل عليها في ٢ جمادى الآخرة فصالحه أهلها على أن يدفع الرجل منهم عشرة دنانير والمرأة خمسة والصغير دينارين. ثم سير من رجاله من استولى على عدة قرى منها بلاطس وغيرها من الحصون المنيعة. ثم رحل عنها وأتى بكاس وهي قلعة حصينة على نهر العاصي ففتحها عنوة وهدم قلعتها، وتوجه بعدئذٍ إلى قلعة برزنة الشهيرة ففتحها، وفتح غيرها من القلاع.

وفي ٣ شعبان أرسل أهل أنطاكية يطلبون الصلح فصالحهم، ثم توجه إلى حلب في ضيافة ابنه الملك الظاهر، ثم إلى حماه في ضيافة عمر ابن أخيه فبات في حماه ليلة واحدة، ثم سار على طريق بعلبك ودخل دمشق، وسار في أوائل رمضان يريد صفد فحاربها، واستولى عليها بالأمان، وفي هذا الشهر سلمت الكرك أيضًا.

ثم نزل في الغور وأقام بالمخيم بقية الشهر، وأعطى الجماعة دستورًا، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه؛ لأنه كان متوجهًا إلى مصر فدخل القدس في ٨ ذي الحجة، وصلى بها العيد، وسار منها إلى عسقلان في ١١ منه ينظر في أمورها فأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك. ثم مرَّ على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم من سنة ٥٨٥ﻫ وأصلح أمورها، ورتب بها الأمير بهاء الدين قراقوش واليًا، وأمره بعمارة سورها، وسار إلى دمشق فدخلها في مستهل صفر، وأقام بها إلى ربيع أول، ثم خرج إلى شقيف أريون وهو موضع حصين فخيم في مرج عيون بالقرب من الشقيف في ١٧ ربيع أول، وأقام أيامًا يباشر قتاله كل يوم، والعساكر تتواصل إليه فتضايق صاحب الشقيف فنزل إلى صلاح الدين بنفسه وطلب الأمان، ووعد أنه يسلم المكان بشرط أن يُعطى له موضع يسكنه في دمشق؛ لأنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الصليبيين، وأقطاع تقوم به وبأهله، وشروطًا غير هذه. فأجابه إلى ما طلب، وفي أثناء ذلك وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان السلطان قد أقام عليها أناسًا يحاصرونها مدة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيها فسلموا.

ثم ظهر بعد ذلك للسلطان أن جميع ما قاله صاحب الشقيف كان خديعة فسيرهُ مهانًا إلى دمشق. ثم ظهر له أن الصليبيين قصدوا عكا، ونزلوا عليها في ١٣ رجب سنة ٥٨٥ﻫ فسار إليها حالًا، ونزل فيها بغتة؛ ليقوي قلوب من بها، وأرسل يستدعي النجدات من الأنحاء، وكان عند الصليبيين نحو ألفي فارس و٣٠ ألف راجل. ثم تكاثروا واستفحل أمرهم، وأحاطوا بعكا، وحاصروها في آخر رجب فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهد في فتح الطريق إليها؛ لتستمر السابلة بالنجدة فتمكن وانفتح الطريق وسلكه المسلمون، ودخل السلطان عكا، وجرى بينه وبين الصليبيين مناوشات في عدة أيام. ثم تأخر المسلمون إلى تل العياضة وهو مشرف على عكا، وفي هذه المنزلة توفي الأمير حسام الدين طمان.

وما زالت الحال كذلك والصليبيون يتشددون بما كان يأتيهم من المدد بحرًا إلى أن قووا على فتح المدينة ودخلوها والسلطان خارجها فعظم ذلك عليه جدًّا. ثم بلغه أن الصليبيين سيخرجون من عكا للاستيلاء على عسقلان فأتى السلطان الرملة، وتشاور وذوي شوراه في أمر عسقلان، وهل الصواب إخرابها أم بقاؤها؟ فاتفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل قبالة العدو، وأن يسير صلاح الدين بنفسه لإخرابها خوفًا من وصول العدو إليها فيأخذ بها القدس، فسار وشرع بإخرابها بكل نشاط رغم إرادته؛ لأنه قال: «لأن أفقد ولدي جميعهم أحب إلي من أن أهدم منها حجرًا، ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك وكان فيه مصلحة المسلمين فما الحيلة؟» وهاجر أهالي عسقلان إلى الشام ومصر وغيرهما حزانى تاركين أراضيهم وبيوتهم ومواشيهم بحالة يرثى لها.

وبينما كان الإخراب قائمًا أتى من الملك العادل أن الصليبيين تحدثوا معه بأمر الصلح طالبين جميع البلاد الساحلية. فرأى السلطان أن موافقتهم على طلبهم هذا أفضل لما رأى من الضجر الذي خامر قلوب المسلمين من المشاق المتوالية، فكتب إليه يؤذنه في ذلك، وفوض الأمر إلى رأيه، وأصر على حريق عسقلان ففوض ذلك إلى أحد أولاده الأفضل، وسار إلى الرملة، ومنها إلى اللد وأشرف عليها، وأمر بإخرابها، وإخراب قلعة الرملة، ثم دار حول قلعة البترون، وهي قلعة منيعة فأمر بإخرابها.

وفي يوم الأربعاء ٢٢ شعبان سنة ٥٨٨ﻫ تم الصلح بين صلاح الدين وكبير الصليبيين بعد مداولات ومخابرات يطول شرحها، ونادى المنادون أن البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة؛ فمن أحب من كل طائفة أن يتردد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور، وكان يومًا مشهودًا سُرّت به الطائفتان، وعادت الصلات إلى مجاريها، وعادت التجارة، وجعل الزائرون يفدون إلى بيت المقدس من كل صوب، وتوجه السلطان إلى تلك المدينة يتفقد أحوالها، وسار أخوه الملك العادل إلى الكرك، وابنه الملك الظاهر إلى حلب، وابنه الأفضل إلى دمشق، وبقي السلطان صلاح الدين في القدس مدة يقطع الناس ويعطيهم دستورًا، ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية، وكان في عزمه السفر للحج لكنه لم يستطع.

ولما سار ملك الصليبيين إلى بلاده رأى السلطان أن يعود لتفقد القلاع السورية ففعل، وسار منها إلى دمشق فوصلها في ١٦ شوال وفيها أولاده الأفضل والظاهر والظافر المعروف بالمشمر وأولاده الصغار، وكان يحب تلك المدينة، ويؤثر الإقامة فيها على سائر البلاد. ثم قدم الملك العادل من الكرك قاصدًا البلاد الفراتية. فنزل دمشق واجتمعت هذه العائلة على رغد وسلام، وقد نسي السلطان صلاح الدين عزمه إلى مصر، وعرضت له أمور أخرى غير ما تقدم.

(١-١٢) وفاة صلاح الدين ومناقبه

على أن المنية مع عجزها عن مهاجمة هذا الباسل في ساحة الحرب لم تخف مهاجمته على فراشه وبين أولاده وإخوانه. ففي يوم الجمعة ١٥ صفر ركب السلطان لملاقاة الحج فعاد إلى منزله كسلًا، ثم غشيته حمى صفراوية. ثم أصبح في اليوم التالي أكثر كسلًا وضعفًا، وما زال المرض يتزايد يومًا فيومًا إلى أن توفاه الله بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء ٢٧ صفر سنة ٥٨٩ﻫ، وكان يوم موته يومًا لم يصب الإسلام بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة، وكان الناس يتمنون فداء من يعز عليهم بنفوسهم، وكان عمره عند وفاته ٥٧ سنة، ومدة حكمه ٢٤ سنة في مصر و١٩ سنة مع سوريا.

فحضر الجميع وشيعوا جنازته ودفنوه في الدار التي كان متمرضًا فيها، وكانت بينهم شقيقة الفقيد المدعوة ست الشام، وفرَّقت في الناس الصدقات العظيمة من جيبها الخاص؛ لأنه لم يترك في خزينته الخصوصية إلا دينارًا واحدًا و٤٧ درهمًا من الفضة، ولم يجدوا في جميع صناديقه أثرًا للذهب أو لغيره من الحجارة الكريمة، وذلك مما يدل على فرط كرمه؛ لأنه أصاب أموالًا كثيرة جاد بها على آله وذويه.

ومن آثاره في العدل والرفق أن الأموال الهلالية كانت قد أعيدت إلى مصر في أثناء الدولة الفاطمية، وصارت تعرف بالمكوس. فلما تولى السلطان صلاح الدين أمر بإسقاطها، وكانت مداخيلها عظيمة جدًّا تبلغ مائة ألف دينار سنويًّا، إلا أنها كانت مضروبة على جميع أنواع الأطعمة والألبسة والحيوانات من ماشية وخيولٍ وغيرها، وعلى الحوانيت والأخشاب والمصنوعات والمزروعات والأبنية والأقمشة إلى غير ذلك. جميع هذه أمر صلاح الدين بإلغائها، ورأى أن كثيرين من الأهالي لا يزالون مثقلين بالديون بسبب تلك المظالم فسامحهم بما كان عليهم، وكان بالغًا قدرًا عظيمًا جدًّا من الدنانير والغلال.

وكان بين أقارب السلطان صلاح الدين رجل يدعى عز الدين موسك كان من حفظة القرآن ومحبي أهل العلم، فابتنى قنطرة فوق الخليج الكبير دعاها قنطرة الموسكي، ولما تم الصلح بين السلطان صلاح الدين والصليبيين أباح لهم أن يستوطنوا مصر، وكان هو أول من فعل ذلك، فجاء منها بعض الباعة واستوطنوا في جهات الموسكي؛ لأنها خارج أسوار المدينة، وافتتحوا حوانيت لمبيع الأدوات الإفرنجية. ثم أخذ شارع الموسكي بالظهور على تمادي الأيام حتى وصل إلى ما هو الآن.

وترك صلاح الدين من الأولاد ١٧ ذكورًا، وأنثى واحدة اسمها مؤنسة خاتون تزوجت ابن عمها ناصر الدين محمد بن سيف الدين الذي لُقب بعدئذ بالملك الكامل، فلما توفي صلاح الدين اقتسم أولاده وإخوته وأولادهم مملكته فيما بينهم، غير أن الحصص لم تكن متساوية؛ لأن ثلاثة من أولاده أخذوا أكبرها، واقتنع الباقون بمقاطعات صغيرة، وتم كل ذلك بموافقة الأمراء، فتلقب أول أولاد صلاح الدين المدعو نور الدين بالملك الأفضل، وكان من نصيبه مملكة دمشق والشطوط البحرية وأورشليم والبصرة وبانياس وسوريا الغربية، ولُقب أبو الفتح غازي بالملك الظاهر غياث الدين، فأخذ حلب وجميع سوريا الشرقية ومن ضمنها حران وتل ياسر وعيراز ومنبج، ولُقب عماد الدين عثمان بالملك العزيز وتولى مصر.

ومن هؤلاء الأمراء الثلاثة تكونت ثلاث دول مختلفة هي الدول الأيوبية الحلبية والدمشقية والمصرية. أما ما بقي من تلك العائلة فكانوا ولاة على بلاد أقطعهم إياها صلاح الدين إلا أنها تحت سلطة هؤلاء الثلاثة. فسيف الدين أبو بكر الملقب بالملك العادل بن أيوب وأخو صلاح الدين كان حاكمًا في الكرك والشوبك، وناصر الدين محمد الملقب بالملك المنصور بن تقي الدين عمر بن شاهين شاه أحد أخوي صلاح الدين كان أميرًا على حماه والسلامية ومارا، وبهرام شاه الملقب بالملك الأمجد حفيد شاهين شاه أيضًا كان ملقبًا بملك الرها، وشمس الدولة طوران شاه بن أيوب الذي كان قد فتح اليمن بأمر أبيه سنة ٥٦٩ﻫ كان قد أقام فيها مملكة، وكان أخوه توغتغن حاكمًا فيها تحت اسم الملك المعز.

وترى في الأشكال ١٠-٨ و١٠-٩ و١٠-١٠ صور النقود التي ضُربت في أيام السلطان صلاح الدين على أحد وجهيها اسمه، وعلى الوجه الآخر اسم الإمام الناصر الخليفة العباسي لذلك العهد. فالصورة الأولى نقود ذهبية ضُربت في دمشق سنة ٥٨٣ﻫ والثانية نقود نحاسية ضُربت سنة ٥٨٤ﻫ، والثالثة مثل ذلك.
fig29
شكل ١٠-٨: نقود صلاح الدين. ضربت في دمشق سنة ٥٨٣.
fig30
شكل ١٠-٩: نقود صلاح الدين ضربت سنة ٥٨٤.
fig31
شكل ١٠-١٠: نقود صلاح الدين.

(٢) سلطنة الملك العزيز بن يوسف (من سنة ٥٨٩–٥٩٥ﻫ/١١٩٣–١١٩٨م)

وبعد أن قسمت الدولة الأيوبية على ما تقدم عرف كل منهم نصيبه، وبعد يسير نهض أعداء صلاح الدين، وكانوا ينتظرون فرصة للانتقام منه لقهره إياهم. فلما لم يستطيعوا ذلك في حياته قاموا على خلفائه، وأجمعوا على محاربتهم. فاتحد الأيوبيون في بادئ الرأي دفعًا لمناهضيهم، ثم تفرقت كلمتهم لما قام بينهم من التحاسد انقيادًا للمطامع، وإصغاءً لذوي المفاسد فأصبحوا بما بينهم في شاغل عن دفع مهاجميهم.

ففي سنة ٥٩٢ﻫ رأى الملك العادل صاحب الكرك والشوبك أن حصته قليلة، ومنصبه حقير بالنسبة لغيره من الأسرة الأيوبية، فتواطأ مع الملك العزيز عثمان سلطان مصر على خلع الملك الأفضل نور الدين علي عن دمشق وتولية أحدهما الملك العادل عليها وفعلا ذلك بسهولة. ففرّ الملك الأفضل من دمشق إلى بغداد ملتجئًا إلى الخليفة الناصر لدين الله العباسي، وكان كلاهما شاعرًا ماجدًا. فكتب الأفضل إلى الإمام الناصر:

مولاي إن أبا بكر وصاحبه
عثمان قد غصبا بالسيف حق علي
وهو الذي كان قد ولاه والده
عليهما فاستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته
والأمر بينهما والنصُّ فيه جلي

فأجابه الإمام الناصر بقوله:

وافى كتابك يا ابن يوسف معلنًا
بالود يخبر أن أصلك طاهرُ
غصبا عليًّا حقه إذ لم يكن
بعد النبي له بيثرب ناصرُ
فأبشر فإن غدًا عليه حسابهم
واصبر فناصرك الإمام الناصرُ

إلا أن الملك العادل لم يلبث أن بكَّته ضميره فأعادوا الملك إلى ابن أخيه الأفضل، وتنازل أيضًا عن حصته الأصلية. إلا أن العزيز لم يتمتع بالملك مدة طويلة فتوفي في القاهرة في ٢١ محرم سنة ٥٩٥ﻫ، وكان ملكًا مباركًا كثير الخير واسع الكرم محسنًا إلى الناس يقرب أرباب الخير والصلاح، ولكنه كان ضعيف الرأي سهل الانقياد قليل التروي، وكان له عشراء من ذوي الخفة فأشاروا عليه يومًا أن يهدم أهرام الجيزة. فأمر بهدمها حالًا، وبعث إليها بالعملة فابتدأوا بالهرم الثالث منها وهو أقلها متانة ويعرف بالهرم الأحمر. قال عبد اللطيف البغدادي وقد زار مصر على إثر ذلك: «وحينما شاهدت المشقة التي يجدونها في هدم كل حجر سألت مقدم الحجارين فقلت: لو بذل لكم ألف دينار على أن تردوا حجرًا واحدًا إلى مكانه وهندامه هل يمكنكم ذلك؟ فأقسم بالله إنهم ليعجزون عن ذلك ولو بذل لهم أضعافه.» وقد شوهوا وجه الهرم تشويهًا، ولم يهدموا منه إلا قسمًا صغيرًا جعل في الهرم خرقًا لا يزال ظاهرًا فيه.

ثم ارتأى الملك العزيز مشروعًا آخر جاء بنتيجة أقبح من تلك، وذلك أن أيام الفيضان في مصر — وخصوصًا في القاهرة — تعدُّ من أيام النزهة؛ لجريان المياه في الترع والخلجان ولا سيما خليج مصر فإنه يجري مخترقًا المدينة. فكان الناس يخرجون في ذلك الحين في صغار القوارب للنزهة في مجاري المياه ليلًا ونهارًا يتمتعون بنعمة ربهم فيقيمون الولائم ويضربون الموسيقى، وكان الحاكم بأمر الله قد حاول مرات عديدة إبطال هذه العادة فلم يقدر؛ لأن الناس أبوا إلا التمتع بما وهبتهم الطبيعة من أسباب السرور، فأمر الملك العزيز سنة ٥٩٤ﻫ بالامتناع عن هذه الاحتفالات امتناعًا كليًّا، واستخدم لتنفيذ أمره هذا طرقًا خشنة. فاسترحم الناس إلغاء هذه الأوامر مرات عديدة فلم ينجحوا فجاهروا بالعصيان. ثم عاجلت المنية الملك العزيز فقطعت جهيزة قول كل خطيب.

ومما أتاه الملك العزيز في سلطنته من المظالم أنه أعاد إليها المكوس الظالمة التي كان قد ألغاها أبوه وزاد في شناعتها، وزادت في أيامه المنكرات وترك الإنكار لها، وكثر شرب المسكر وأباحه أولو الأمر والنهي، وتفاحش الأمر فيه إلى أن غلا سعر العنب لكثرة من يعصره، وأقيمت في حارة المحمودية مطحنة لطحن الحشيش المزر، وأفردت برسمه، وحميت بيوت المزر، وأقيمت عليها الضرائب الكثيرة. فمنها ما انتهى أمره في كل يوم إلى ١٦ دينارًا، وحُملت أواني الخمور على رءوس الأشهاد في الأسواق فداهمهم غلاء الحبوب لوقوف زيادة النيل جزاءً لفحشهم، وآل الأمر إلى وقوف وظيفة الدار العزيزية من خبز ولحم بحيث لم يعد لهم ما يأكلون، وكثر ضجيجهم وشكواهم، فجعل الملك العزيز يغتصب الأرزاق ويضمها إلى اقتيات عائلته، وصارت الأهالي في حال صعبة زادها ارتكاب المنكرات والمظالم صعوبة. إلى أن جاءت المنية منصفة المظلوم من الظالم، وسبب موته: أنه توجه إلى الفيوم فساق فرسه وراء صيد فتقنطر به فأصابته الحمى فحمل إلى القاهرة فتوفي في الساعة الرابعة من ليلة الأحد سنة ٥٩٥ﻫ.

(٣) سلطنة الملك المنصور بن العزيز (من ٥٩٥–٥٩٦ﻫ/١١٩٨–١٢٠٠م)

وخلف العزيز ابنه ناصر الدين محمد، وعمره ٨ سنوات فلقبوه بالملك المنصور، ثم استقدموا عمه الملك الأفضل من سوريا؛ ليكون وصيًّا على ملكهم الجديد. فقبل وجاء القاهرة ونودي به أتابكًا أي وصيًّا على ابن أخيه إلا أنه لم يتمتع بهذا المنصب؛ لأن عمه الملك العادل قدم بجيش جرار إلى القاهرة وبين حقوقه بالتوصية بناء على أنه جد الصبي الحاكم وعمُّ وصيه. فحاول الأفضل مقاومته فلم ينجح. فحاصره في قصره في القاهرة، ثم فر راجعًا إلى حكومته في دمشق مكتفيًا بما قسم له.

وترى في شكل ١٠-١١ صورة النقود النحاسية التي ضُربت على عهد الملك المنصور بن العزيز.
fig32
شكل ١٠-١١: نقود المنصور بن العزيز.

(٤) سلطنة الملك العادل بن أيوب (من ٥٩٦–٦١٥ﻫ/١٢٠٠–١٢١٨م)

ولما خلا الجو للملك العادل خلع الملك المنصور في شوال سنة ٥٩٦ﻫ بعد أن حكم ٢١ شهرًا، وتولى سلطنة مصر وسوريا بنفسه، وخلع الملك الأفضل عن دمشق، وما زال حتى جعل جميع من بقي من الحكام الأيوبيين في الإمارات الصغيرة خاضعين لسلطانه، وفي جملتهم ابن أخيه الظاهر ملك حلب فغادرت مملكة صلاح الدين بعد أن انقسمت حصصًا إلى مملكة واحدة تحت سلطان واحد.

(٤-١) مجاعة (سنة ٥٩٧ﻫ)

وفي السنة التالية حدثت بمصر المجاعة الشهيرة التي وصفها عبد اللطيف البغدادي في رحلته فقال: «وقد يئس الناس من زيادة النيل، وارتفعت الأسعار، وأقحطت البلاد، وأشعر أهلها البلاء، وهرجوا من خوف الجوع، وانضوى أهل السواد والريف إلى أمهات البلاد، وانجلى كثير منهم إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن، وتفرقوا في البلاد أيادي سبا، ومُزِّقوا كل ممزق، ودخل إلى القاهرة ومصر منهم خلق عظيم، واشتد بهم الجوع، ووقع فيهم الموت، وعند نزول الشمس الحمل وَبِئَ الهواء، ووقع المرض والمَوَتَان، واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث. ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم، فكثيرًا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون، فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل، ورأيت صغيرًا مشويًّا في قفة، وقد أحضر إلى دار الولي ومعه رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما.

ووجد في رمضان بمصر رجل، وقد جردت عظامه عن اللحم فأُكل وبقي قفصًا كما يفعل الطباخون بالغنم، ومثل هذا أعوز جالينوس مشاهدته، ولذلك تطلبه بكل حيلة، وكذلك كل من آثر الاطلاع على علم التشريح، وحين ما نشم الفقراء في أكل بني آدم كان الناس يتناقلون أخبارهم، ويفيضون في ذلك استفظاعًا لأمره، وتعجبًا من ندوره، ثم اشتد قرمهم إليه، وضراوتهم عليه بحيث اتخذوه معيشة ومطيبة ومدخرًا، وتفننوا فيه، وفشا عنهم، ووجد بكل مكان من ديار مصر فسقط حينئذٍ التعجب والاستبشاع، واستهجن الكلام فيه والسماع له.

ولقد رأيت امرأة مشججة يسحبها الرعاع في السوق، وقد ظفر معها بصغير مشوي تأكل منه، وأهل السوق ذاهلون عنها، ومقبلون على شئونهم لم أر فيهم من يعجب لذكر ذلك أو ينكره، فعاد تعجبي منهم أشد، وما ذلك إلا لكثرة تكرره على إحساسهم حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق أن يتعجب منه، ورأيت قبل ذلك بيومين صبيًّا نحو الرهاق مشويًّا، وقد أخذ به شابان أقرا بقتله وشيه وأكل بعضه.

وفي بعض الليالي بعيد صلاة المغرب كان مع جارية فطيم تلاعبه لبعض المياسير، فبينما هو إلى جانبها اغتنمت غفلتها عنه صعلوكة فبقرت بطنه وجعلت تأكل منه نيئًا، وحكى لي عدة نساء أنه يتوثب عليهن لاقتناص أولادهن ويحامين عنهم بجهدهن.

ورأيت مع امرأة فطيمًا لحيمًا فاستحسنته وأوصيتها بحفظه، فحكت لي أنها بينا تمشي على الخليج انقض عليها رجل جاف ينازعها ولدها فترامت على الولد نحو الأرض حتى أدركها فارس وطرده عنها، وزعمت أنه كان يهمُّ بكل عضو يظهر منه أن يأكله، وأن الولد بقي مدة مريضًا؛ لشدة تجاذبه المرأة والمفترس.

وتجد أطفال الفقراء وصبيانهم ممن لم يبق له كفيل ولا حارس منبثين في جميع أقطار البلاد وأزقة الدروب كالجراد المنتشر، ورجال الفقراء ونساءهم يتصيدون هؤلاء الصغار ويتغذون بهم، وإنما يعثر عليهم في الندرة وإذا لم يحسنوا التحفظ.

وأكثر ما كان يطلع من ذلك مع النساء، وما أظن العلة فيه إلا أن النساء أقل حيلة من الرجال، وأضعف عن التباعد والاستتار، ولقد أحرق بمصر خاصة في أيام يسيرة ثلاثون امرأة كل منهن تقر أنها أكلت جماعة، فرأيت امرأة قد أحضرت إلى الوالي وفي عنقها طفل مشوي فضربت أكثر من مائتي سوط على أن تقر فلا تحير جوابًا، بل تجدها قد انخلعت عن الطباع البشرية، ثم سحبت فماتت.» ا.ﻫ.

(٤-٢) عود الصليبيين إلى الحرب

وفي سنة ٥٩٨ﻫ أرسل الملك العادل ابنه أبا الفتح موسى الملقب بالملك الأشرف مظفر الدين إلى الرها فتملكها، ثم أضيفت إليه حران، وكان الأشرف رجلًا محبوبًا من الناس مسعودًا مؤيدًا في الحروب، وفي سنة ٦٠٠ﻫ حصلت بينه وبين نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل موقعة حربية عظيمة وكان النصر له.

وكان الصليبيون عند انقسام الدولة الأيوبية قد اغتنموا الفرصة؛ لإعادة سلطتهم فأكثروا من الجند، وجاهروا بطلب الفتح فسار إليهم العادل، وعسكر على جبل طابور أمامه، وكانوا قد استمدوا أوروبا على أمل أن تأتيهم الإمدادات وأملاك المسلمين منقسمة، وكلمتهم متفرقة فيسهل قهرهم، لكنها لم تصل إليهم إلا بعد أن اتحد المسلمون، وأصبحت بلادهم مملكة واحدة تحت سلطان واحد، هو السلطان الملك العادل سيف الدين، فحاربهم فعادوا على أعقابهم، وقد حبط مسعاهم فتعقبهم نحوًا من شهر، فجاءه مخبر يخبره بحصول زلزلة عظيمة في مصر شعر بها أهل سوريا وقبرص وآسيا الصغرى حتى العراق وما بين النهرين، وهذه هي الزلزلة التي هدمت أسوار صور سنة ٦٠٠ﻫ، وكانت تهدد مصر زلزلة أخرى سياسية، وهي عمارة صليبية عظيمة احتلت سواحلها، واخترقتها حتى بلغت فوه على فرع رشيد، فاستولت عليها بعد أن نهبتها، وذبحت أهلها؛ فاضطرب العادل لهذين الخبرين فأسرع لملاقاة الأمر، فتخابر مع قواد الصليبيين، وعقدوا معاهدة تقضي بانسحابهم من مصر على أن يتنازل لهم بمقابلة ذلك عن يافا، ويسحب من كان في اللد والرملة من المسلمين.

فأُجلي الصليبيون من مصر، لكنهم لم ينفكوا عن المحاربة في سوريا، وهم لم يقبلوا بتلك المعاهدة إلا ليشغلوا السلطان العادل في مصر، ويسيروا إلى فتح حماه، والاستيلاء على ما بطريقهم إليها. فاتصل ذلك بالسلطان العادل فبرح مصر في جيش للمدافعة عن حماه، فحصلت بينه وبينهم مواقع كثيرة، وبينما هم في ذلك جاء الخبر بقدوم المدد إلى الصليبيين، وهي الحملة العظيمة التي أرسلها البابا، وحطت رحالها عند عكا وغيرها، فهرع الملك العادل إلى نابلس؛ ليقيم فيها حصنًا فطردوه منها فرجع إلى برج الصفر. فقطع الصليبيون المخابرات مع مصر حتى جاءوا على نهاية الحروب الصليبية في سوريا، فحولوا أعنتها إلى مصر.

(٤-٣) حصار دمياط

فجاءوا إليها بحرًا، وحاصروا دمياط في يوم الثلاثاء في ٤ ربيع أول سنة ٦١٥ﻫ، وهم نحو ٧٠ ألف فارس و٤٠٠ ألف راجل فخيموا تجاه دمياط في البر الغربي، وحفروا على معسكرهم خندقًا، وأقاموا عليه سورًا، وشرعوا في قتال برج دمياط؛ فإنه كان برجًا منيعًا في سلاسل من حديد غلاظ تمتد على النيل؛ لتمنع المراكب الواصلة في البحر المالح من الدخول إلى ديار مصر في النيل، وكان البر الذي نزل عليه الصليبيون جزيرة محاطة بالنيل من جهة وبالبحر المالح من الأخرى، يقال لها: جزيرة دمياط، وكان المسلمون في مدينة دمياط محاصرين حصارًا منيعًا من البحر والبر، والسلسلة ممتدة بين البرج والسور، فحاول الصليبيون امتلاك ذلك البرج؛ لأنهم إذا ملكوه تمكنوا من العبور في النيل إلى القاهرة، وكان هذا البرج مشحونًا بالمقاتلين تأتي إليه المؤن من دمياط على جسر خشبي منصوب في عرض النيل، وبعد مدة انكسر ذلك الجسر فاغتنم الصليبيون تلك الفرصة، واصطنعوا برجًا خشبيًّا نصبوه على مركبين موسوقين قيودًا، وأنزلوا إليه أقوى رجالهم وأحسن عدتهم، وساروا في النيل لمهاجمة برج المسلمين. فلما رأى المسلمون ذلك تجمهروا من البرج والسور، وأخذوا برمي السهام والحراب والحجارة والمنجنيق على برج الصليبيين؛ فلعبت النار به فخاف الذين فيه، ثم انطفأت حالًا، وتشدد الصليبيون حتى استولوا على برج المسلمين، وطمعوا بالاستيلاء على دمياط.

fig043
شكل ١٠-١٢: دخول الصليبيين برج المسلمين عنوة.

فبلغ قدوم الصليبيين الملك الكامل، وكان يخلف أباه الملك العادل على ديار مصر، فخرج بمن معه في ثالث يوم من وقوع الطائر بخبر نزول الصليبيين، وأمر والي الغربية بجمع العربان، وسار هو في جمع كبير بمن معه من العساكر من البلا الشامية شيئًا بعد شيء حتى تكاملت عنده، واشتد خوفه من نزول الصليبيين على دمياط فرحل من مرج الصفر إلى عالفين، فنزل به المرض، ومات في جمادى الآخرة، فكتم الملك المعظم عيىسى موته، وحمله في محفة، وجعل عنده خادمًا وطبيبًا راكبًا إلى جانب المحفة، والشرابدار يصلح الشراب ويحمله إلى الخادم فيشربه، ويوهم الناس أن السلطان شربه إلى أن دخلوا به إلى قلعة دمشق، وصارت إليها الخزائن والبيوتات فأعلن موته، وتسلم ابنه الملك المعظم جميع ما كان معه ودفنه بالقلعة، ثم نقله إلى مدرسة العادلية بدمشق.

وترى في الأشكال ١٠-١٣ و١٠-١٤ و١٠-١٥ صور النقود التي ضُربت في عهد الملك العادل بن أيوب؛ فالأولى والثانية عليهما اسم الملك العادل من الجهة الواحدة، والخليفة الناصر لدين الله من الجهة الأخرى، والثالثة لا يظهر عليها إلا اسم الملك العادل فقط.
fig33
شكل ١٠-١٣: نقود العادل وعليها اسم الخليفة الناصر.
fig34
شكل ١٠-١٤: نقود العادل وعليها اسم الخليفة الناصر.
fig35
شكل ١٠-١٥: نقود نحاسية للملك العادل.

(٥) سلطنة الملك الكامل بن العادل (من سنة ٦١٥–٦٣٥ﻫ/١٢١٨–١٢٣٨م)

وبلغ الملك الكامل موت أبيه وهو بمنزله بالعادلية فاستلم زمام الأحكام، أما الصليبيون فألحوا في القتال، ولا سيما عندما علموا بموت الملك العادل، وقطعوا السلاسل التي كانت تتصل بالبرج؛ لتجوز مراكبهم في بحر النيل، ويتمكنوا من البلاد. فنصب الملك الكامل بدل السلاسل جسرًا عظيمًا في عرض النيل فقاتل الصليبيون قتالًا شديدًا إلى أن قطعوه، وكان قد أنفق عليه وعلى البرج ما ينيف على سبعين ألف دينار.

وكان الكامل يركب في كل يوم عدة مرار من العادلية إلى دمياط؛ لتفقد الأحوال، وإعمال الحيلة في مكايدة الأعداء، فأمر أن تغرق المراكب في النيل؛ لتمنع الصليبيين من سلوكهم فيه، فعمد هؤلاء إلى خليج هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديمًا فحفروه وعمقوا حفره، وأجروا فيه الماء إلى البحر المالح، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى بؤرة على أرض جزيرة دمياط مقابل المنزلة التي فيها السلطان ليقاتلوه من هناك. فلما صاروا في البؤرة قاتلوه في الماء، وزحفوا إليه مرارًا فلم يظفروا منه بطائل، ولم يتغير على أهل دمياط شيء؛ لأن الميرة والإمداد متصلة إليهم، والنيل يحجز بينهم وبين عدوهم، وأبواب المدينة مفتوحة ليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر، وكانت العربان تتخطف الصليبيين في كل ليلة حتى منعوهم من الرقاد خوفًا من غاراتهم؛ فقوي طمع العرب في الصليبيين حتى صاروا يخطفونهم نهارًا، ويأخذون الخيم بمن فيها. فكمن لهم الصليبيون عدة كمناء، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا فكفوا عن ذلك. ثم أدرك الناس الشتاء، وهاج البحر على مخيم المسلمين وأغرقهم فعظم البلاء، وتزايد الغم، وألح الإفرنج في القتال حتى كادوا يملكون. كل ذلك والملك الكامل يرسل الرسل إلى الجهات ينادي بإخوته مددًا، ويستنجد أهل الإسلام على النصارى، ويخوفهم من غلبة الإفرنج، ولا من مجيب.

وفي أثناء ذلك ظهر في رجال الكامل ثورة زعيمها عماد الدين أحمد بن المشطوب أحد كبراء رجاله على أن لا يقبلوا الكامل عليهم سلطانًا بعد أبيه، وكان ذلك باتفاق مع أخيه الملك الفائز؛ فوقع الملك الكامل في حيرة، وأوجس خيفة على مركزه، ولم ير من ينجده فسار من العادلية إلى قرية تدعى أشمون طناح (أشمون نطاح) فأصبح العسكر بغير سلطان؛ فركب كل إنسان منهم هواه، ولحقوا بالكامل، ولم يقفوا لأخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم.

fig044
شكل ١٠-١٦: منجنيقات لرمي الحجارة في الحرب كما ترمى القنابل بالمدافع اليوم.

كل ذلك والصليبيون في البر الثاني لا يدرون، وفي ٢٠ ذي القعدة سنة ٦١٥ﻫ بلغهم ما كان من أمر المسلمين فعبروا النيل إلى بر دمياط (البر الشرقي) آمنين بغير منازع، وغنموا ما في عسكر المسلمين مما تركوه من أمتعتهم وغيرها خارج المدينة، وكان شيئًا لا يحيط به الوصف، وحاصروا دمياط، وأهلها يرمونهم عن أسوارها بالنبال، وهم يرمون أسوارها بالحجارة الضخمة من المجانيق. فلما بلغ السلطان الكامل ذلك داخله وهمٌ عظيم، وكاد أن يفارق البلاد؛ لأنه لم يعد يثق بنفسه، ولا بمن حوله.

أما مدينة دمياط فبقيت محاصرة، وقد شدد الصليبيون عليها الحصار برًّا وبحرًا، وكانت سنة ليس أشد منها وطأة على المسلمين، وقد أخذ اليأس منهم مأخذًا عظيمًا، وهم في ذلك الشأن وفدت عليهم نجدة من الشام تحت قيادة الملك المعظم عيسى أخي الملك الكامل، وكان قد تولى دمشق بعد أبيه العادل، فلما علم بما حصل لجيوش أبيه بعد وفاته أتى في عدة من رجال الشام فأطلعه الكامل على صورة الحال سرًّا، وأسرَّ إليه أن رأس هذه الطائفة ابن المشطوب فجاء الملك المعظم يومًا على غفلة إلى خيمة ابن المشطوب، واستدعاه فخرج إليه فقال له: «أريد أن أتحدث معك سرًّا في خلوة.» وسار معه، وقد جرد المعظمُ جماعةً ممن يعتمد عليهم ويثق بهم، وقال لهم: «اتبعونا» ولم يزل المعظم يشاغله بالحديث، ويخرج معه من شيء إلى شيء حتى أبعده عن المعسكر، ثم قال له: «يا عماد الدين، هذه البلاد لك، ونشتهي أن تهبها لنا.» ثم أعطاه شيئًا من النفقة، وقال لأولئك المجردين: «تسلموه حتى تخرجوه من الرمل.» فلم يسعه إلا امتثال الأمر لانفراده، وعدم القدرة على الممانعة في تلك الحال.

ثم عاد المعظم إلى أخيه الكامل وعرفه صورة ما جرى. ثم جهز أخاه الفائز المذكور إلى الموصل؛ لإحضار النجدة منها ومن بلاد الشرق فمات بسنجار، وكان ذلك خديعة لإخراجه من البلاد. فلما خرج هذان الشخصان من العسكر تحللت عزائم من بقي من الأمراء الموافقين لهما، ودخلوا في طاعة الملك الكامل كرهًا لا طوعًا.

وبعد يسير عاد الملك المعظم إلى دمشق؛ لينظر في أحوال رعيته. ثم خشي من الصليبيين إن امتلكوا دمياط أن يمدوا يدهم إلى أورشليم فتقوى سلطتهم، فأمر بهدم أسوارها حتى إذا ملكوها لا تزيد قوتهم شيئًا يستحق الاعتبار. هذا والصليبيون قد ضيقوا على دمياط، ومنعوا القوت من الوصول إليها، وحفروا على معسكرهم المحيط بدمياط خندقًا، وبنوا عليه سورًا، وأهل دمياط يقاتلونهم أشد القتال ويمانعونهم، وقد غلت عندهم الأسعار لقلة الأقوات، والملك الكامل كان لا يزال في أشمون ينظر إلى دمياط وهي محصورة، ولا يقدر أن يصل إليها، وخشي أخيرًا أن ييأس أهلها من المساعدة فيسلموا المدينة، فانتدب أحد الجاندارية المدعو شمائل للدخول إلى دمياط؛ لينشط من فيها، ويعدهم بالإنقاذ. فكان يسبح في النيل إلى أن يصل إلى أهل دمياط فيوصل إليهم الأخبار، ويطمئنهم ويعود، وبقي على ذلك مدة فحظي عند الكامل، وتقرب منه حتى جعله واليًا على القاهرة، وإليه تنتسب خزانة شمائل القاهرة، وفي أثناء حصار دمياط قاسى المسيحيون في داخلية البلاد اضطهادًا شديدًا، وكان في الإسكندرية كنيسة قديمة البناء على اسم القديس مرقس فهدمها المسلمون؛ لئلا يباغت الصليبيون الإسكندرية من أجلها فيتخذونها حصنًا؛ لأنها كانت حصينة البناء كثيرة الأعمدة، وجعلوها بعد ذلك جامعًا، ولا تزال آثارها إلى هذا العهد بقرب باب القباري.

(٥-١) فتح الصليبيين دمياط

ثم دخلت سنة ٦١٦ﻫ وقد غلت الأسعار في دمياط بما يفوق الحد فبلغت البيضة عدة دنانير، وكان رجال الملك الكامل ينفذون الأقوات إلى أهل دمياط بحيل مختلفة؛ مثل أن يأتوا بجمل، ويشقوا جوفه، ويملأوه فراخًا وفاكهة وبقلًا وغير ذلك، ثم يخيطون عليه، ويرمونه في النيل فيسير منحدرًا مع المجرى؛ فإذا جاء أمام دمياط نزل من فيها إليه وأخذوه، واقتاتوا على ما في جوفه، وكان الإفرنج أحيانًا يظفرون بهذه الحيلة فيأخذون تلك المؤن، وفي آخر الأمر زاد الضيق في المدينة، وكثرت الموتى جوعًا، وامتلأت مساكنهم وطرقات البلد منهم، وعدمت الأقوات حتى لم يبق عندهم إلا بعض القمح والشعير.

وفي يوم الثلاثاء ٢٥ شعبان سنة ٦١٦ﻫ هجم الصليبيون على دمياط فاستولوا عليها، وكانت مدة الحصار جميعها ١٦ شهرًا و٢٢ يومًا. فدخلوها وأحكموا السيف فيمن بقي فيها من الأحياء إلى أن تجاوزوا الحد في القتل، وكانت الأبخرة الفاسدة تتصاعد عن جثث الموتى ما يلحق الأحياء بهم، وكانت تلك الجثث متراكمة في الأسواق والبيوت وعلى الأسرة، فكان يموت الابن جوعًا وليس من يسعى في دفنه فيبقى في مكانه فيلحقه الأخ ثم الأم ثم الأب وهكذا.

(أ) مدينة المنصورة

واتصل ذلك بالسلطان الملك الكامل فرحل بعد سقوط دمياط بيومين، ونزل قبالة طلخا على رأس بحر أشموم ورأس بحر دمياط؛ ليمنع الصليبيين من المسير إلى داخلية القطر بحرًا، وحيز في محلة المنزلة، وأقام معسكره هناك. أما الإفرنج فحصنوا دمياط، وجعلوا جامعها كنيسة على اسم القديسة مريم، وبثوا رجالهم في القرى يقتلون وينهبون ويأسرون، وبعثوا جميع من أسروا من المسلمين إلى عكا بحرًا. أما الملك الكامل فأخذ في تحصين معسكره في المنزلة؛ فأمر ببناء الدور والفنادق والحمامات والأسواق، وصارت تدعى بعد ذلك الحين «المنصورة» إشارة إلى انتصاره على الصليبيين هناك، وكتب إلى المسلمين في سوريا يستحثهم على محاربة الإفرنج، وإخراجهم من ديار المسلمين.

أما الصليبيون فتركوا أمتعتهم ومؤنهم في دمياط بعد أن أقاموا فيها حامية، وساروا إلى أن وصلوا تجاه المنصورة في ما هو أمام سراي المنصورة الآن وعسكروا هناك، وكان عدد الصليبيين إذ ذاك نحو مائتي ألف راجل وعشرة آلاف فارس. فقدم المسلمون شوانيهم أمام المنصورة، وعدتها مائة قطعة. فأصبح المسلمون في ضيق. فأمر الملك الكامل أن ينادى بالمسلمين للجهاد من سائر أنحاء القطر؛ فاجتمع الناس من سائر النواحي من أسوان إلى القاهرة، ونودي بالنفير العام أيضًا فيما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقي؛ فاجتمع عالم لا يقع عليه حصر، وأنزل السلطان على ناحية شار مساح ألف فارس في آلاف من العربان؛ ليحولوا بين الإفرنج ودمياط، وسارت الشواني ومعها حراقة كبيرة على رأس بحر المحلة، وعليها الأمير بدر الدين بن حسون فانقطعت الميرة عن الإفرنج من البر والبحر.

وفي أثناء ذلك أتت النجدات للملك الكامل من الشام والشرق يتقدمها الملك الأشرف موسى بن العادل، وعلى ساقتها الملك المعظم عيسى. فتلقاهم الملك الكامل، وأنزلهم عنده بالمنصورة في ١٣ جمادى الآخرة، وتتابع مجيء الملوك حتى بلغت عدة جيوش المسلمين نحو أربعين ألف فارس فحاربوا الصليبيين في البحر والبر، وأخذوا منهم ست شوان وأسروا منهم ألفين ونيفًا. فتضعضع الإفرنج، وضاق بهم المقام، فخابرهم الملك الكامل بأمر الصلح؛ ليخرجهم من بلاده، فعرض عليهم أن يعطيهم بيت المقدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية، وسائر الأماكن التي فتحها السلطان صلاح الدين إلا الشوبك والكرك؛ لأنهما أصبحتا ملكًا خاصًّا له نالهما بالإرث من السلطان صلاح الدين، وطلب إليهم في مقابل ذلك أن يردوا له دمياط، وينسحبوا من القطر المصري.

فأصرَّ الصليبيون على طلب تينك المدينتين، ومبلغ ٣٠٠ ألف دينار تعويضًا لما سببه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق بهدم أسوار بيت المقدس، فامتنع المسلمون عن التسليم لهم بذلك. ثم بعثوا سرية من رجالهم؛ لتسير سرًّا من وراء معسكر الصليبيين، وتخرق سد ترعة المحلة، وكان النيل في معظم ارتفاعه فطافت مياه الترعة حتى أغرقت جميع الأرضين التي تفصل جيش الصليبيين من دمياط، فأصبحوا على مثل الجزيرة، وقد حال الماء بينهم وبين نجدة أصحابهم؛ فخافوا سوء المصير، وباتوا يشكون من قلة الطعام وكثرة المياه، ولم يكن باقيًا بينهم وبين دمياط إلا طريق ضيق، فأمر السلطان بنصب الجسور عند أشمون طناح فعبرت العساكر عليها، وملكت تلك الطريق؛ فاضطرب الصليبيون، وضاقت عليهم الأرض.

(ب) انسحاب الصليبيين من دمياط

واتفق مجيء مرمة عظيمة مددًا للصليبيين حولها عدة حراقات، وقد ملئت كلها بالميرة والأسلحة، فقاتلتها شواني المسلمين حتى ظفروا بها. فاتصل ذلك بالإفرنج فزاد خوفهم، وندموا على رفضهم المعاهدة كما طلبت إليهم. فطلبوا الأمان على أن ينسحبوا من القطر المصري جميعه، ولا يطلبوا لذلك مقابلًا، فقبل السلطان الكامل في ٧ رجب سنة ٦١٨ﻫ بأن يعطي كل من الفريقين رهائن، فأعطى الصليبيون ملك عكا ونائب البابا رهنًا، وأعطى الملك الكامل ابنه الملك الصالح وكان سنه ١٥ سنة وجماعة من الأمراء. فسار الصليبيون إلى دمياط، وسلموها إلى المسلمين في ١٩ رجب بعد أن كانوا قد أجهدوا أنفسهم في تحصينها وخرجوا من القطر، وبعد خروجهم بقليل جاءت نجدة عظيمة في البحر إلى الصليبيين، فشكر المسلمون الله لتأخرها إلى ذلك الحين، ولما بلغ الصليبيون مكانهم أرسلوا الملك الصالح ومن معه إلى أبيه فأرسل لهم رهنهم، وتفرق الناس إلى بلادهم، ودخل الملك الكامل دمياط بإخوته وعساكره، وكان ليوم دخوله إليها احتفال عظيم.

ثم عاد إلى المنصورة، وجلس في قصره فيها، وبين يديه أخواه: الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى صاحب بلاد الشرق، وغيرهما من أهله وخواصه، وهم في سرور واحتفال، وبين يديهم المغنون فأمر الملك الأشرف جاريته فغنت على عودها:

ولما طغى فرعون عكا وقومه
وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض
أتى نحوهم موسى وفي يده العصا
فأغرقهم في اليم بعضًا على بعض

فطرب الأشرف، وقال لها: بالله كرري. فشق ذلك على الملك الكامل وأسكتها، وقال لجاريته: «غني أنت.» فأخذت العود وغنت.

أيا أهل دين الكفر قوموا لتنظروا
لما قد جرى في وقتنا وتجددا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه
وموسى جميعًا ينصران محمدًا

وهذا البيت من قصيدة لشرف الدين بن حبارة أولها: «أبى الوجد إلا أن أبيت مسهدًا» فأعجب ذلك الملك الكامل، وأمر لكلٍّ من الجاريتين بجائزة.

ثم نهض القاضي الرئيس هبة الله بن محاسن قاضي غزة، وكان من جملة الجلساء، وقال:

هنيئًا فإن السعد جاء مخلدًا
وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحًا لنا بدا
مبينًا وإنعامًا وعزًّا مؤبدًا
تهلل وجه الأرض بعد قطوبه
وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغى البحر الخضم بأهله الطُّـ
ـغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدين من سل عزمه
صقيلًا كما سلَّ الحسام المهندا
فلم ينج إلا كل شلوٍ مجدل
ثوى مبهم أو مَن تراه مقيدا
ونادى لسان الكون في الأرض رافعًا
عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعبَّاد عيسى إن عيسى وحزبه
وموسى جميعًا ينصران محمدا

فكانت هذه الليلة بالمنصورة من أحسن الليالي التي مرت لملك من الملوك. ثم عاد السلطان إلى مقر ملكه في القاهرة، وانتقل من دار الوزارة التي كانت إلى ذلك العهد منزلًا للخلفاء، وسكن في قلعة الجبل، وأطلق جميع من كان في مصر من الأسرى، وكان منهم من له من أيام السلطان صلاح الدين، وكانت مدة نزول الصليبيين على دمياط إلى أن أقلعوا عنها ثلاث سنين وأربعة أشهر و١٩ يومًا؛ منها مدة استيلائهم على مدينة دمياط سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرون يومًا.

ولما استتب للملك الكامل المقام على سلطنة مصر أخرج زعماء الثورة منها، وطهر البلاد منهم حتى لم يعد لديه من ينازعه في الملك. ثم عمد إلى الصليبيين مغتنمًا فرصة ضعفهم، وعقد معهم معاهدة على كيفية تمكنه من الاغتيال بأخويه اللذين لولاهما لم تقم له قائمة في مصر، فأغرى الإمبراطور فريدريك ملك الصليبيين على الاغتيال بأخيه الملك المعظم، واستخراج دمشق من يده، فقدم هذا الإمبراطور إلى عكا فاتصل به خبر وفاة الملك المعظم سلطان دمشق، وتنصيب ابنه الملك الناصر صلاح الدين داود مكانه. فاستبشر الملك الكامل، ووضع يده على الشوبك وبيت المقدس وغيرهما مما هو من مملكة دمشق، فشق ذلك على الملك الناصر فاستنجد عمه الأشرف وكان متسلطًا على بلاد المشرق وما بين النهرين، فجاءه حالًا في جيش كبير، ولكن بدلًا من أن يدافع عنه ضد الملك الكامل جاء بعكس الأمر.

أما فريدريك فسار توًّا من عكا؛ لافتتاح مملكة دمشق ففتح أولًا صور، وسار فالتقى بالملك الأشرف فتخاصما على الفريسة تخاصمًا انتهى بموت الملك الأشرف. فخلا الجو للملك الكامل، وأصبح الوارث لكلا الملكين فأتى سوريا لهذه الغاية، فوصل دمشق ومات بها في رجب سنة ٦٣٥ﻫ ودفن في قلعتها، وكان محبًّا للعظمة والافتخار، متمسكًا بالسنة النبوية، محبًّا للعلماء، حسن الاعتقاد، معاشرًا لأرباب الفضائل، حازمًا في أموره، لا يضع الشيء إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار، وكان يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء، ويشاركهم في مباحثاتهم كواحد منهم. تولى سلطنة مصر وخفض ضرائبها نحو الثلث وأقام فيها الزينة.

وترى في الشكلين ١٠-١٧ و١٠-١٨ صور النقود التي ضربت في أيام الملك الكامل بن العادل على أحد وجهيها اسم الملك الكامل، وعلى الآخر اسم الإمام المستنصر بالله الخليفة السادس والثلاثين من بني العباس. فالأولى نقود ذهبية ضربت في القاهرة سنة ٦٢٧ﻫ والثانية نحاسية ضربت في حلب.
fig36
شكل ١٠-١٧: نقود الملك الكامل وعليها اسم المستنصر.
fig37
شكل ١٠-١٨: نقود الملك الكامل.

(٦) سلطنة الملك العادل بن الكامل (من سنة ٦٣٥–٦٣٧ﻫ/١٢٣٨–١٢٤٠م)

ولما علم المصريون بوفاة الملك الكامل بايعوا ابنه سيف الدين أبا بكر الملقب بالملك العادل (الثاني) وكان قد استخلفه أبوه على مصر عندما سار إلى سوريا، وأقاموا الأمير يونس الملقب بالملك الجواد أميرًا على سوريا تابعًا لمملكة مصر، إلا أن إمارته هذه لم تطل؛ لأنه اتفق في السنة التالية مع الملك الصالح نجم الدين أيوب شقيق سلطان مصر، وكان أميرًا على ما بين النهرين، على أن يتبادلا الإمارات. فأتى الملك الصالح إلى سوريا، وسار الأمير يونس إلى ما بين النهرين، وكان غرض الملك الصالح من هذه المبادلة الاقتراب من مصر، والسعي في اختلاس الملك من أخيه، فتنبأ الملك العادل بذلك، وأوجس خيفة فسار بجيوشه إلى بلبيس؛ ليوقف سير أخيه إذا حاول المجيء إلى مصر. فلما وصل بلبيس نزل فيها وما أصبح إلا وهو في قبضة أمرائه مقيدًا، وذلك يوم الجمعة في ٨ ذي الحجة سنة ٦٣٧ﻫ وفي الحال خلعوه، واستقدموا أخاه الملك الصالح، وبايعوه على مصر، فدخل القاهرة في موكب حافل، وأصوات الترحاب والدعاء مالئة الجو، فانتهت سلطنة الملك العادل الثاني وكانت مدتها سنتين.

(٧) سلطنة الملك الصالح بن الكامل (من سنة ٦٣٧–٦٤٧ﻫ/١٢٤٠–١٢٤٩م)

ولما استوى الملك الصالح على سلطنة مصر أخذ في تمكين قدمه فيها، فأمر السنة التالية بالقبض على الأمراء والمماليك الذين ساعدوه على خلع أخيه وبايعوه مكانه وقتلهم جميعًا، وولى مكانهم من اختبر أمانتهم نحوه. ثم عزل الملك الجواد يونس من إمارته، وحظر عليه القدوم إلى مصر، فاغتاظ لهذه المعاملة، فالتجأ إلى الصليبيين في عكا فقبلوه من أجل ثروته راجين التقرب بواسطته من إسماعيل أمير دمشق، وقد كانت تلك فرصة ثمينة لهم فتحالفوا مع أمير دمشق والملك المنصور إبراهيم أمير حمص وأمير الكرك، وتعهدوا لهم بمحاربة مصر وقهرها على أن يأخذوا في مقابل ذلك مدن الصعيد والشقيف وطبرية وعسقلان وأورشليم، ولما تم التحالف المذكور احتل الصليبيون تلك الأماكن، وأخذوا في ترميم حصون طبرية وعسقلان، ثم أخذوا يهتمون بمحاربة مصر.

وفي خلال ذلك نشأ في شرقي سوريا مخاوف كثيرة، سببها: أن قبيلة الخوارزميين لما طردهم جنكيز خان من شرقي آسيا في أثناء فتوحه هناك جاءوا سوريا الشرقية، ونزلوا على حدودهم فأنفذ إليهم الملك الصالح سلطان مصر رسلًا عقدوا معهم صلحًا، وعاهدوهم على محاربة الصليبيين وأمراء سوريا الذين على دعوتهم. فتجند الخوارزميون، واخترقوا سوريا إلى أن بلغوا غزة فحاربوا الصليبيين عند أسوارها، وأنجدهم سلطان مصر من الجهة الثانية؛ فانهزم الصليبيون فتتبعوهم حتى استولوا على غزة وبيت المقدس باسم الملك الصالح. فأرسل هذا إلى مصر شيئًا كثيرًا من الأسرى ورءوس القتلى. ثم جمع مددًا وسار إلى إسماعيل أمير دمشق وإلي أمير حمص وحاصرهما، وحارب محاربات أخرى شغلته من سنة ٦٤٥ إلى ٦٤٧ﻫ وشفت عن خضوع دمشق.

أما حمص فكانت لا تزال تدافع إلى ذلك العهد، فضجر من طول هذه المحاربات، فسار بنفسه لقيادة جندها ففاجأه مرض ثقيل، وهو تورم في مأبضه تكون منه ناصور فتح وعسر برؤه، وانضاف إليه قرحة في الصدر فلزم الفراش في دمشق. فجاءه منبئ يخبره بعزم الصليبيين على مهاجمة مصر وأخذها، وقد أكثروا من التجنيد، ووردت إليهم النجدات من إخوانهم في أوروبا، وكانت هذه التجريدة الصليبية السابعة على الإسلام، وكأني بهؤلاء الإفرنج قد خجلوا لكثرة انكساراتهم أمام جيش المسلمين بعد أن جردوا إليهم أولًا وثانيًا وثالثًا ورابعًا وخامسًا وسادسًا، فأقروا المرة السابعة على تجريد قوة عظيمة يرأسها ملك فرنسا لويس التاسع، وهي مؤلفة من خمسين ألف مقاتل، ومعهم من العدة والسلاح شيء كثير، وعدد عديد من المراكب المذخرة، وضباطها انتخبوهم من أشد رجال أوروبا.

فلما علم الملك الصالح بقدوم الصليبيين وهو في ما تقدم من المرض لم يسعه إلا الخروج من دمشق فسار في محفة، ونزل أشمون طناح في أول سنة ٦٤٧ﻫ وجمع في مدينة دمياط من الأقوات والأزواد والأسلحة وآلات القتال شيئًا كثيرًا خوفًا من أن يجري على دمياط ما جرى في أيام أبيه، وأعدَّ أسطولًا من دار الصناعة بمصر، وجعل فيه سائر ما يحتاج إليه الجند، وسيره شيئًا فشيئًا، وضم إلى جنده كثيرًا من العربان وأكثرهم من بني كنانة جعلهم وراء متاريس دمياط، وعهد بقيادة حامية هذه المدينة إلى الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ. ففي صباح يوم الجمعة في ٢٠ صفر من تلك السنة وردت مراكب الصليبيين إلى دمياط وفيها جموعهم، وحال وصولهم بعث ملكهم لويس التاسع إلى الملك الصالح كتابًا يقول فيه:

أما بعد فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمة العيسوية، كما أنه لا يخفى عليَّ أنك أمين الأمة المحمدية، وغير خافٍ عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر، ونقتل منهم الرجال، ونرمل النساء، ونستأسر البنات والصبيان، ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلت لك النصح إلى النهاية فلو حلفت لي بكل الأيمان، وأدخلت عليّ الأقساء والرهبان، وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان لكنتُ واصلًا إليك، وقاتلك في أعز البقاع إليك. فإما أن تكون البلاد لي فهي هدية حصلت في يدي، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة علي فيدك العليا ممتدة إلي، وقد عرفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء.

فلما قرئ الكتاب على السلطان الملك الصالح، وقد اشتد به المرض بكى واسترجع فكتب القاضي بهاء الدين زهير بن محمد الجواب: «بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإنه وصل كتابك، وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك، وعدد أبطالك؛ فنحن أرباب السيوف، وما قُتل منا فرد إلا جددناه، ولا بغى علينا باغٍ إلا دمرناه، ولو رأت عينك — أيها المغرور — حد سيوفنا، وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل؛ لكان لك أن تعض على أناملك بالندم، ولا بد أن تزل بك القدم في يوم أوله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فإذا قرأت كتابي هذا فتكون فيه على أول سورة النحل: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وتكون على آخر سورة ص: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ونعود إلى قول الله تعالى وهو أصدق القائلين: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وقول الحكماء: إن الباغي له مصرع، وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يقلبك، والسلام.»

وفي اليوم التالي حصلت بين الفريقين مناوشات قتل فيها بعض أمراء المسلمين، وفي المساء فرَّ الأمير فخر الدين لغير داعٍ فتتبعته بنو كنانة، وخرجوا من المدينة فتبعهم الأهلون في الليل على وجوههم لا يلتفتون إلى شيء، ولحقوا بالعسكر في أشمون فخلت المدينة للصليبيين فدخلوها بأمان في ٢٢ صفر، واستولوا على جميع ما فيها من المؤن والزخائر والأسلحة وعدة الحرب، فخسر سلطان مصر بذلك خسارة لا تعوض. فاستشاط الملك الصالح غيظًا، وجمع إليه بني كنانة وعنفهم؛ لانهزامهم على حين لم يكن داعٍ للهزيمة، فقالوا: نحن لم نفعل ذلك إلا بعد أن رأينا الأمير فخر الدين فارًّا ومن ورائه رجاله، فأمر الملك الصالح بإعدام ٥٤ من أمرائهم؛ لأنهم خرجوا من دمياط بغير إذنه.

وفي ٢٤ صفر عسكر في المنصورة وحصنها إلا أنه لم يعش بعد ذلك كثيرًا فتوفاه الله في ١٤ شعبان وسنه أربعون سنة، وكان رجلًا مهيبًا قليل التكلم يهابه من يجلس في مجلسه، وكان عنده عدد من المماليك لم يسبقه إليه أحد قبله، ولم يوص قبل موته بمن يأخذ السلطان بعده، ولم يكن له من البنين إلا غياث الدين طوران شاه، وكان قد تركه في سوريا.

وكان من جملة جواري الملك الصالح جارية تدعى شجرة الدر مربية غياث الدين، فتواطأت مع الأمير فخر الدين، ورئيس الخصيان جمال الدين محسن على مبايعة ابنها، وكانت عارفة بأمور الحكم وسياستها، ويقال: إن الملك الصالح كثيرًا ما عهد إليها إدارة الأحكام في أثناء غيابه عنها في حملاته الحربية. فلما توفي الملك الصالح كتمت أمر موته، ووقفت في جمهور الأمراء والأعيان قائلة: «إن السلطان يأمركم أن تبايعوا بعده ابنه الملك المعظم غياث الدين طوران شاه، وقد عين الأمير فخر الدين أتابكًا لإدارة الأحكام.» فبايع جميع الأمراء. ثم أرسلت هذه الأوامر إلى القاهرة فبايع جميع من فيها من القواد وأعيان السلطنة، وبعثت بالرسائل في ذلك مختومة بختم السلطان الملك الصالح إلى جميع أنحاء المملكة، وكان الجميع يظنون أن الملك الصالح لا يزال حيًّا، لكنهم عندما علموا باستقدام الملك المعظم بسرعة إلى القاهرة داخلهم الريب.

أما الصليبيون فكانوا في خلال ذلك قد تقدموا قاصدين المنصورة، وحاربوا في أثناء الطريق محاربات طفيفة، ولما بلغوا المنصورة حاربوها محاربة قوية، وكان الجيش الإسلامي تحت قيادة الأمير فخر الدين فحارب ببسالة كلية. كل ذلك وبين الجيشين بحر أشمون، ولم يستطع الصليبيون العبور إلى المنصورة، ولم يكونوا يعلمون طريقًا إليها غير النيل. فأتى إليهم بعض من غدروا من المسلمين وأخبروهم عن طريق يمكنهم سلكها بسهولة؛ فسارت سرية من فرسانهم، وهاجمت المنصورة بغتة، وكان الأمير فخر الدين في الحمام فأتته الأخبار بهجوم الصليبيين على المحلة فبغت، ونادى في رجاله، وخرج للدفاع فأدركه بعضهم فقتله، وكادت الدوائر تدور على المسلمين لولا مماليك الملك الصالح، فإنهم دافعوا دفاعًا شديدًا، وانتهت الواقعة، وقد أعيا الفريقين التعب، ولم يكن أحدهما يجسر على تجديد القتال لعظم ما قاسيا من الخسائر.

وفي أثناء ذلك وصل الملك المعظم إلى المنصورة قادمًا من سوريا فاشتد عزم المسلمين به، وهاجموا النصارى في البر والبحر، فأسروا منهم ٣٢ مركبًا. فلما رأى الصليبيون ما كان من ضعفهم طلبوا المصالحة على أن يأخذوا بيت المقدس وضواحيه، وينسحبوا من مصر بعد إخلاء دمياط. فلم يقبل المصريون، فأقاموا في المنصورة حتى نفد زادهم، وقد انقطعت السابلة بينهم وبين دمياط، وفي ٢ محرم سنة ٦٤٨ﻫ عزموا على التقهقهر، فتعقبهم المصريون حتى أدركوهم غربي فرسكور فاستلحموهم، وأثخنوا في قتلهم، ويقال: إنهم قتلوا منهم ٣٠ ألفًا، وأسروا الملك لويس التاسع وكثيرًا من ضباطه وكبار جيشه، وكانوا قبل أن قبض عليهم قد فروا إلى منية أبي عبد الله فأسروهم هناك.

(٨) سلطنة الملك المعظم بن الصالح (من سنة ٦٤٧–٦٤٨ﻫ/١٢٤٩–١٢٥٠م)

فلما تأكد الفوز للمصريين شهروا وفاة الملك الصالح، ومبايعة الملك المعظم طوران شاه؛ فأقام الملك المذكور في فرسكور احتفالًا لمبايعته وانتصاره معًا. ثم عزل كل من كان في يده أزِمَّة الحكومة من المصريين، وولى مكانهم رجالًا ممن جاءوا معه من بين النهرين؛ لأنه كان أشد ثقة فيهم فشغب الناس، وتحدثوا في ذلك كثيرًا، وفي غاية محرم ثار عليه المماليك وهموا بقتله، وفي جملتهم مملوك يدعى بيبرس. ففرَّ الملك المعظم، والتجأ إلى برج من الخشب كان قد أقامه للحصار في فرسكور. فأحرقوا البرج فألقى بنفسه إلى النيل لعله يجد قاربًا يركبه فينجو بحياته. فأدركه المماليك وقطعوه إربًا إربًا.

وهكذا كانت نهاية الحملة الصليبية السابعة، وموت السلطان الملك المعظم غياث الدين طوران شاه، وهو آخر من ملك من الأسرة الأيوبية، وبموته انقضت دولتهم، وقامت دولة المماليك الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤