الفصل الحادي عشر

دولة المماليك الأولى

من سنة ٦٤٨–٧٨٤ﻫ/١٢٥٠–١٣٨٢م

(١) منشأ المماليك ومبدأ أمرهم في السلطنة

قد تقدم الكلام عن أصل استخدام المماليك الأتراك في الدولة في أيام المعتصم عند كلامنا عن مبدأ الدولة الطولونية. أما السلاطين المماليك فلهم تاريخ آخر في منشئهم، وذلك أنهم من قفجاق من شمالي آسيا، وكانت من المستعمرات الإسلامية، فكانوا يجعلون عليها ولاة من أمراء السلاف الذين كانوا من حكام روسيا. فلما غزا المغوليون تلك الأصقاع تحت قيادة باتوخان حفيد جنكيز خان أخرجوا منها سكان الولايات القزوينية والقوقاسية؛ فتشتت قبائلهم، وتفرقوا في القارة. فالخوارزميون نزلوا أعالي سوريا وما بين النهرين، وحطوا رحالهم هناك. أما ما بقي من تلك القبائل التائهة فلم يجدوا لها مقرًّا يقيمون فيه. فجعلوا يطوفون البلاد بأولادهم ونسائهم لا يستقرون على حال، وكانت تجارة الرقيق في إبانها فاغتنم تجارها فرصة ثمينة، وجعلوا ينتقون من أبناء أولئك المساكين أجملهم صورة، وأقواهم بنية، وأنورهم عقلًا، ويبيعونهم بيع السلع. أما الضعفاء وقبيحو الصورة فكانوا يذبحونهم. فأكثرَ أمراءُ سوريا وملوكها من اقتناء أولئك الأرقاء البيض، ودعوهم بالمماليك.

فالملك الصالح من سلاطين الدولة الأيوبية كان قد ابتاع منهم نحو الألف حتى جعل منهم أمراء دولته، وخاصة بطانته، والمحيطين بدهليزه، ودعاهم بالحلقة إشارة إلى أنه لا يبرح محاطًا بهم كيفما توجه، كما فعل الخليفة المعتصم العباسي بالاستكثار من المماليك الأتراك.

وكانت ممالك الملك الصالح صفوفًا يُميَّز كلٌّ منهم بعلامات خصوصية يجعلونها على ثيابهم وأسلحتهم. فكانت علامة بعضهم الورد، وعلامة البعض أشكال الطيور، وكانوا يتمنطقون بمناطق جميلة مختلفة الألوان، فتألف منهم جيش مخصوص تسبب عنه قلاقل في سائر المملكة المصرية، وقد كانوا بالواقع ميالين إلى الاستقلال بالحكم لا يمكنهم الرضوخ لسلطان من السلاطين باختيارهم؛ لأنهم كانوا كثيري العَدد والعُدد، وكانت أهمُّ المناصب في أيديهم، وأمنع حصون البلاد في قبضتهم قد اتخذوها مستقرًّا لهم، حتى إذا ضاقت ذرعًا عن الإحاطة بهم ابتنوا بأمر الملك الصالح قصورًا عظيمة متقنة البناء منيعة الجانب في جزيرة الروضة قرب المقياس، وقد زادها مركزها الطبيعي مناعة وجمالًا؛ لأن النيل يتفرع هناك إلى فرعين، وكان يدعى عند نقطة تفرعه بالبحر؛ لعظم اتساعه، فسمي هؤلاء بالمماليك البحرية، ومنها اسم دولتهم تمييزًا لها من دولة المماليك الشراكسة.

وكانت سطوة المماليك البحرية تنتشر يومًا فيومًا إلى أنهم طمعوا بخلع السلطان، وتولي الملك مكانه. فلما تولى الملك المعظم آخر سلاطين بني أيوب، وكان على ما كان عليه من الاستبداد أنفت نفوسهم من أعماله، فسعوا بما سعوا إلى أن قتلوه على ما تقدم.

وكان الملك لويس التاسع والذين معه لا يزالون أسرى في البرج الخشبي الذي التجأ إليه الملك المعظم قبل قتله، ولما لعبت النار بالبرج فر الملك لويس ومن معه، ومروا بين المصريين وهم يقتلون ملكهم، ثم نزلوا على مراكب كانت في انتظارهم، وأقلعوا بعد أن شاهدوا مقتل الملك المعظم. ثم جاءهم رجل من المصريين يدعى الفارس أقطاي حاملًا قلب الملك المعظم، وأعطاه للملك لويس، وطلب إليه أن يكافئه على قتل عدوه، وقال بعض المؤرخين — ولا أراه في مكان الثقة — أن الأمراء المصريين بعد قتلهم ملكهم طلبوا إلى لويس المذكور أن يتولى زمام الأحكام مكانه فرفض.

(٢) سلطنة شجرة الدر (سنة ٦٤٨ﻫ أو ١٢٥٠م)

fig045
شكل ١١-١: المحمل المصري.

فلما قتل الملك المعظم اختلفت الأحزاب على مَن يبايعون بعده؟ وكل فئة منهم تحاول استبقاء الحكم في يدها، وعلا الخصام حتى كاد يفضي إلى الحرب، فتدراكت الأمر شجرة الدر بعد أن رأت ما حل بالملك المعظم، وتبصرت في أمر من يجب أن يخلفه فرأت حزب المماليك أعز جانبًا من الجميع، ونظرًا لكونها من أبناء جلدتهم وافقتهم على رأيهم، وكانت قبل ذلك تمكنت بطريقة غريبة لم يسبق لها مثيل في الإسلام أن تستلم زمام الأحكام بإقرار الجميع، وكيفية ذلك: أنها تواطأت مع أيبك عز الدين، وكان من أعظم الأمراء المماليك، وأقواهم نفوذًا، وكان بينهما علاقات ودية منذ أيام الملك الصالح، ويقال: إنه من قتلة الملك المعظم، فتمكنت بذلك التوطؤ من مبايعة جميع الأعيان لها، ولُقبت بعصمة الدين أم خليل في ١٠ صفر، وكانت توقع بما مثاله: «والدة خليل» ونقشت اسمها على النقود بما هو «المستعصمة الصالحية ملكة المسلمين والدة المنصور خليل خليفة أمير المؤمنين» وخطب لها على المنابر بعد الدعاء للخليفة، وهذه صورة الخطبة: «واحفظ اللهم الجبهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجميل، والستر الجليل، والدة المرحوم خليل زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب.» وعينت عز الدين أتابكًا عندها لتدبير المملكة. ثم أخذت في التقرب من أرباب الدولة، ووجهاء البلاد فجعلت تخلع عليهم الخلع الثمينة، وتمنحهم المناصب والرتب، وتخفض الضرائب. إلا أن جميع هذه المساعي لم تأتها بفائدة؛ لأن الناس لم يرتاحوا إلى طاعتها. فأنفذ السوريون إلى الخليفة العباسي في بغداد يستفتونه في أمر هذه الملكة. فكتب إليهم يقول: «من بغداد لأمراء مصر. أعلمونا إن كان كل ما بقي عندكم في مصر من الرجال لا يصلح للسلطنة فنحن نرسل لكم من يصلح لها. أما سمعتم في الحديث عن رسول الله أنه قال: «لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».»

فاستمسك مماليك مصر بهذه الفتوى، وثار رفقاؤهم في دمشق، وخلعوا طاعة شجرة الدر، وبايعوا سلطان حلب الملك الناصر يوسف الأيوبي في ٨ ربيع أول، وقتلوا كل من في دمشق من المماليك على دعوة شجرة الدر، ومثل ذلك فعل أهل بعلبك وشميمس وعجلون. فنشأ بسبب ذلك خصام بين مماليك سوريا ومماليك مصر آل إلى وقائع حربية. فتمكن عز الدين أيبك في هذه الانقسامات من الاستقلال عن صديقته، وألجأ الأمراء شجرة الدر على الاستقالة فاستقالت، وهي أول من أرسل المحمل من مصر إلى مكة، ولا يزال ذلك جاريًا إلى الآن.

(٣) سلطنة أيبك الجاشنكير والأشرف بن يوسف (من سنة ٦٤٨–٦٥٥ﻫ/١٢٥٠–١٢٥٧م)

وفي سنة ٦٤٨ﻫ بويع عز الدين أيبك على مصر، ولُقب بالملك المعز الجاشنكير التركماني الصالحي، وتزوج بشجرة الدر فانضم حزبها إلى حزبه، واحتفلوا بتوليته السلطنة على جاري عادتهم في الاحتفالات الكبرى فركب هو بشعارٍ، وحملت على رأسه القبة والطير، ولعبوا قدامه بالغواشي الذهب، وجلس على سرير الملك، وجميع الأمراء قبلوا الأرض بين يديه.

وبعد قليل انقسم المماليك إلى قسمين عظيمين عرفا بالمعزيين نسبة إلى الملك المعز أيبك، والصالحيين نسبة إلى الملك الصالح نجم الدين، وتنازعا النفوذ. ففاز الصالحيون، وطلبوا أن يكون السلطان عليهم من سلالة الأيوبيين، وقالوا: «لا بد لنا من واحد من ذرية بني أيوب نسلطنه علينا» وكان المتكلم يومئذٍ من الأمراء الأمير بلباي الرشيدي، والأمير فارس الدين أقطاي، والأمير بيبرس ركن الدين البندقداري، والأمير سنقر الرومي وغيرهم جماعة من المماليك البحرية، فوقع الاتفاق بينهم وبين المعز أيبك بأن يحضروا بشخص من بني أيوب يقال له: مظفر الدين يوسف، من أولاد الملك مسعود صاحب بلاد الشرق.

فاعتزل أيبك السلطنة، وبايع مظفر الدين بن يوسف أتسز ملك اليمن وعمره نحو عشرين سنة فبايعه في ٥ جمادى الأولى، وبايعه الناس ولقبوه بالملك الأشرف، وتعين عز الدين أتابكًا له، غير أن أزمة الأحكام ما برحت في يده، ولم يكن الأشرف إلا اسمًا بلا رسم، ومن الغريب تألف هذه السلطة المزدوجة من أحد سلالة الأسرة الأيوبية وأحد مماليكها، وأغرب من ذلك أن يخطب لهما معًا.

وفي خلال ذلك نهض سلطان دمشق الجديد ناصر الدين يوسف الأيوبي للأخذ بثار الملك المعظم فدعا إليه أقرباءه أمراء الأسرة الأيوبية للتعاضد على ذلك، وتأكيدًا لنجاح مسعاه استمد لويس التاسع ملك فرنسا، وكان إذ ذاك في عكا على أن يعيد له في مقابلة ذلك بيت المقدس. فأرسل ملك فرنسا إلى ناصر الدين راهبًا لعقد المعاهدة، وأنفذ إلى المماليك في مصر مندوبًا يطلب إليهم التعويض عن نكث المعاهدة التي عقدوها مع الصليبيين، وكان من مصلحتهم الاتفاق مع الصليبيين على سلطان دمشق فأجابوا مطاليبه، وأطلقوا عددًا كبيرًا من الأسرى المسيحيين بعثوا بهم إلى عكا، وأرفقوهم بمندوبين لتجديد المعاهدة. فاقترح لويس التاسع أن يضاف إليها البنود الثلاثة الأتي ذكرها، وهي:
  • أولًا: إرجاع رءوس الصليبيين التي كانت مغروسة على متاريس القاهرة.
  • ثانيًا: إرجاع جميع الأولاد الذين كانوا قد أجبروا على الإسلام.
  • ثالثًا: التنازل عن المائتي ألف دينار التي تعهد الصليبيون بدفعها بمقتضى معاهدة المنصورة.

فرضي المماليك بجميع ذلك، وأهدوه فوقها فيلًا جميلًا، وكان هذا أول فيل أرسل إلى فرنسا، ووعدوه أن يعيدوا إليه بيت المقدس إذا تغلبوا على سلطان دمشق. فاتصل أمر تلك المخابرات بسلطان دمشق فأنفذ عشرين ألف مقاتل تحول دون اتحاد الجيشين، فعثروا بالمصريين في غزة فناهضوهم حتى أرجعوهم إلى الصالحية فأنجدهم الفارس أقطاي فأعادوا السوريين على أعقابهم إلى سوريا. ثم تشدد السوريون، وعادوا بمدد كبير تحت قيادة شمس الدين لولو صاحب دمشق، ومعهم سلطان دمشق نفسه، فالتقوا بالمماليك تحت قيادة أيبك والفارس أقطاي يوم الخميس ١٠ ذي القعدة سنة ٦٤٩ﻫ في العباسة، وتقاتلا فانكسر المصريون أولًا فتعقبهم السوريون فجعل أيبك والفارس أقطاي انهزامهما نحو سوريا، ومعهما جماعة من الفرسان فالتقيا بشمس الدين لولو في شرذمة من رجاله فقتلاه، وشتتا رجاله فاشتد أزرهما فعادا لمهاجمة سلطان دمشق، وكان في معسكره مع شرذمة قليلة من الجند. أما باقي الجيش فكانوا يتعقبون الجيوش المصرية المنهزمة، فاضطر السلطان إلى الفرار بنفسه فتبعاه فلم يدركاه، فعادا إلى مصر فرأيا الجيوش السورية قد دخلت القاهرة، وخاف أهلها ظنًّا منهم أن النصر لناصر الدين فبايعوه وخطبوا له. إلا أن الفقهاء لم يوافقوا على المبايعة شخصيًّا على أنهم لم ينجوا من انتقام أيبك. فلما علم المصريون أن النصر لهم فرحوا جدًّا، وأبطلوا مبايعة ناصر الدين. أما هذا فلما رأى أمر انكساره على ما تقدم لم يعد يمكنه استئناف الحرب، فصالح المصريين على أن يتخلى لهم عن مصر وغزة وبيت المقدس، وقد ربح من الجهة الثانية ما كان يرومه من فساد المعاهدة بين المصريين والصليبيين، فاتفق مع المماليك على محاربة الصليبيين.

(٣-١) خراب دمياط

ثم اتفق المماليك البحرية على تخريب مدينة دمياط خوفًا من مسير الإفرنج إليها مرة أخرى، فسيروا إليها الحجارين والفعلة فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين شعبان سنة ٦٤٨ﻫ ومحيت آثارها، ولم يبق منها سوى الجامع ويعرف بجامع الفتح، وأخصاص ابتناها بعض الفقراء للسكن في قبليها، ودعوا ذلك المكان المنشية. أما دمياط الباقية إلى هذا العهد فابتنيت على أنقاض تلك فبلغت جمالًا فائقًا، وقد ساعدها على ذلك حسن مركزها الطبيعي، وأهميته للتجارة، وقد بالغ المقريزي في وصفها؛ لأنها كانت في أيامه أزهى وأعمر مما هي الآن فنظم في مدحها قصيدة اقتطفنا منها هذه الأبيات:

سقى عهد دمياط وحياه من عهد
فقد زادني ذكراه وجدًا على وجد
وبشنينها الريان يحكي متيمًا
تبدَّل من وصل الأحبة بالصد
فقام على رجليه في الدمع غارقًا
يراعي نجوم الليل من وحشة الفقد
وظل على الأقدام تحسب أنه
لطول انتظاره من حبيب على وعد
كان التقاء النيل بالبحر إذ غدا
مليكان سارا في الجحافل من جند
وقد نزلا للحرب واحتدم اللقا
ولا طعن إلا بالمثقفة الملد

وعظم الفارس أقطاي في عيون المصريين؛ لما أظهره من البسالة والإقدام في الحروب الأخيرة فلقبه أحزابه بالملك، وتزوج أخت المنصور سلطان حماه، وأسكنها في القلعة؛ لاتصال حبل قرباها بالعائلة الملوكية، فأوجس أيبك شرًّا من نفوذ الفارس المذكور حتى خشي مناظرته في الملك فأخذ يسعى في التخلص منه، وكان الفارس زعيمًا لحزب من المماليك الصالحيين، وكانوا يطلبون له المشاركة في الملك مع الملك الأشرف، وما زالوا حتى نالوا مطلوبهم فرقى كثيرين منهم، وفي جملتهم سيف الدين قطز الذي صار بعد ذلك ملكًا.

أما الفارس أقطاي فقتله أيبك وهو داخل بسراي القلعة، ثم خشي الوقوع في شر أعماله فأمر بإقفال القلعة وأبواب المدينة، ولبث يتوقع الحوادث فلم تمض برهة حتى جاء الأمراء الصالحيون تحت رئاسة بيبرس، وتجمهروا على أبواب القلعة، وطلبوا الفارس أقطاي وهم يحسبونه مأسورًا، فرمى إليهم برأسه من على السور، فلما علموا بقتله ارتاعت قلوبهم فعمدوا إلى الفرار نحو باب القراطين ففتحوه، وساروا قاصدين سوريا، وبقي منهم شرذمة قبض عليهم، وأودعوا السجن.

فلما تخلص الملك المعز أيبك من طائفة الصالحين قبض على الملك الأشرف، وألقاه في سجن مظلم، فمات فيه تعسًا بعد أن حكم سنة وشهرًا.

وترى في شكل ١١-٢ صورة النقود التي ضُربت على عهد الملك الأشرف بن يوسف، وعليها اسمه، واسم الإمام المستعصم بالله العباسي، والأشرف آخر من ملك مصر من الأيوبيين، وحكم بعض أفراد هذه العائلة في دمشق وحلب وحمص وميافرقين.
fig38
شكل ١١-٢: نقود الملك الأشرف.

إلا أن هؤلاء لم تمض عليهم عشر سنين حتى انقرضوا، ولم يبق منهم إلا فرع واحد في حماه بقي حاكمًا فيها قرنًا بعد انقراض جميع الدولة، وكانت سلطته ضعيفة؛ لانحصارها في تلك الإمارة الصغيرة، وقد جاء من نسله أبو الفدا المؤرخ المشهور سنة ٧١٨ﻫ، وقد نسي كثيرون منا ذكر الدولة الأيوبية وفتوحاتها العظيمة، ولكنا لم ننس أبا الفدا؛ لأنه ترك لنا ذكرًا لا يمحى بتأليفه المشهور.

واستوزر أيبك شخصًا من نظار الدواوين يدعى شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي أحد كتاب الأقباط، وكان قد أسلم من أيام الملك الكامل، وترقى في الكتابة، وكان طبيبًا للسلطان الأيوبي الخامس مشهورًا بالطب والسياسة، فلما صار وزيرًا قرر على التجار وذوي اليسار وأرباب العقاقير أموالًا، ورتب مكوسا وضمانات سموها حقوقًا ومعاملات.

ولما استتب المقام لأيبك، وتخلص من المماليك الصالحيين وغيرهم ممن كانوا ينازعونه الملك حسب الجو قد خلا له، وما دري أن شجرة الدر لا تزال واقفة له بالمرصاد بعد أن صارت له زوجة، فكانت تحول دون كثير من مقاصده، ولم يكن يجسر على مقاومتها مع علمه باستقالتها من مهام الملك، على أنه لم يستطع احتمال هذا التقييد والسلطان في يده، وهي تمن عليه بأنها سبب وصوله إلى ذلك المنصب، فجعل يبحث عن طريقة تنقذه من هذه القيود مع علمه أن مكايدة النساء أشد وطأة من ملاقاة الرجال. فادعى أنها عقيمة لا يرجو منها نسلًا فاقتنى عليها سراري أخريات فولدت له إحداهن ولدًا دعاه نور الدين علي، ثم بلغها أنه ساعٍ في التزوج بابنة بدر الدين لولو ملك الموصل، وكان قد أمسك عن زيارتها فاشتعلت حسدًا؛ لعلمها أن هذه الزوجة الأخيرة من بنات الملوك فخافت أن تحل محلها من العظمة فأقرت على الكيد به.

وكانت شجرة الدر صعبة الخلق شديدة الغيرة قوية البأس سكرانة من خمرة العجب، فلما ضايقت أيبك نزل من القلعة وهو غضبان فبعثت تتلطف به حتى عاد إلى القلعة فلاقته، وقامت إليه، وقبلت يديه على غير عادةٍ منها، وكانت قد أضمرت له السوء، فندبت له خمسة من الخدم الخصيان الروم، وقالت لهم: «إذا دخل الحمام فاقتلوه.» فلما طلع إلى القلعة اصطلح مع شجرة الدر وتراضيا، ثم دخل الحمام فلما صار هو وشجرة الدر هناك دخل عليه أولئك الخدم وبأيديهم السيوف، فقام أيبك وقبل يد شجرة الدر، واستغاث بها فقالت للخدم: اتركوه، فأغلظ عليها بعض الخدم في القول، وقال لها: «إن تركناه فلا يبقي عليك ولا علينا.» فقتلوه في الحمام خنقًا، وقيل ربطوا محاشمه بوتر وجذبوه حتى مات. فلما حملوه وأخرجوه من الحمام أشاعوا أنه قد أغمي عليه في الحمام فوضعوه على فراش الحمام، وأشاعت أنه مات مصروعًا، وكان أيبك ظلومًا غشومًا سفّاكًا للدماء.

ولم تجسر شجرة الدر على تعاطي الأحكام بنفسها خوفًا من الإيقاع بها فجاءت بخاتم الملك إلى أميرين من كبار الأمراء، وطلبت إليهما أمام جثة زوجها أن يستلما زمام الأحكام فأبيا، وكان قتل أيبك في داخل السراي ليلًا، ولم يشع الخبر في القاهرة إلا الصباح التالي. فلما علم أصحابه من المماليك بما حل به أضمروا الانتقام، وكان سن ابنه نور الدين علي ١٥ سنة فبايعوه، ولقبوه بالملك المنصور.

وكانت مدة أيبك في الأحكام عشر سنوات وأحد عشر شهرًا شاد في خلالها بنايات عظيمة، وفي جملتها مدرسة دعاها المدرسة المعزية نسبة إليه بناها على ضفة النيل في مصر القديمة، وربط لها دخلًا مخصوصًا للنفقة عليها، وهو أول من أقام من ملوك الترك بقلعة الجبل.

(٤) سلطنة نور الدين علي بن أيبك (من سنة ٦٥٥–٦٥٧ﻫ/١٢٥٧–١٢٥٩م)

فالملك المنصور حالما بويع قبض على قاتلة أبيه، وعهد بها إلى نساء بيته فأماتوها ضربًا بالقباقيب على رأسها، وطرحوا جثتها في خندق القلعة فأكلت الكلاب نصفها، ودفن النصف الباقي قرب مدفن السيدة نفيسة.

فانتهت حياة هذين الخادعين شجرة الدر وأيبك — كما رأيت — فجوزي كل منهما بما فعل؛ لأنهما قتلا الملك المعظم. أما نور الدين علي فلم يحكم إلا مدة قصيرة تحت مناظرة وصيه شرف الدين هبة الله المتقدم ذكره.

وكان نور الدين قد استقر بالأمير سيف الدين قطز المعزي نائب السلطنة بمصر وأتابك العساكر، وكان قطز شديد البأس صعب الخلق؛ فقبض على الوزير شرف الدين هبة الله وصادره، وأخذ جميع أمواله، ثم صلبه على باب القلعة، وخلع على القاضي زين الدين يعقوب بن الزبير، واستقربه وزيرًا عوضًا عن هبة الله.

وفي أيام هذا السلطان بمصر هجم هولاكو التتري على مدينة بغداد، وقتل الخليفة المستعصم بالله وخرَّب بغداد، ووصل الخبر إلى مصر أنه حامل على بلاد الشام ومصر فخافوا، وعقد قطز مجلسًا من العلماء والقواد، وأقروا فيه أن الحالة تقتضي أن يتولى السلطنة رجل حازم. فأنزلوا نور الدين في ٤ ذي القعدة سنة ٦٥٧ﻫ بعد أن حكم سنتين، وبايعوا سيف الدين قطز، وكان نور الدين طائش العقل يلعب بالحمام مع الغلمان.

(٥) سلطنة المظفر سيف الدين قطز (من ٦٥٧–٦٥٨ﻫ/١٢٥٩–١٢٦٠)

وسيف الدين هذا شريف الأصل من عائلة ملوكية خلافًا لسلفه فهو ابن مودود شاه ابن أخي ملك خراسان فتح التتر بلاده فتشتت أسرته، ولما تولى سلطنة مصر لُقِّب بالملك المظفر، وحالما استوى على السلطنة قبض على نور الدين، وأمر بقتله فحاول وصيه شرف الدين المدافعة عنه فصلبه عن باب القلعة.

ثم لاح له أن دمياط بعد أن دكت أسوارها لم يبق ما يعيق مراكب العدو عن المرور في النيل؛ فأمر بردم مصب النيل هناك، وبعث بفرقة من الحجارين فمضوا، وقطعوا كثيرًا من الحجارة، وألقوها فيه حتى ضاق وتعذر سير المراكب منه إلى دمياط، وهو على ذلك إلى اليوم، فإن المراكب الكبيرة لا تستطيع المرور فيه فتنقل البضائع منها إلى الجروم، والمتواتر على ألسنة البعض أن سبب ذلك وجود جبل أو رمل متجمع هناك.

(٥-١) محاربة التتر

وفي خلال ذلك جاء القاهرة قائد تتري ناقلًا منشورًا من هولاكو ملك المغول حفيد جنكيز خان، وكان التتر قد انتشروا في جميع آسيا الشمالية الشرقية، وكان هولاكو قد غزا العراقيين بجيش عظيم، واستولى على مدينتي الموصل وحلب، وقتل الخليفة المستعصم بالله كما تقدم، ونزل هولاكو على سوريا ففتح دمشق والسواحل البحرية حتى قصد مصر فبعث إليها منشورًا مضمونه: من ملك الملوك شرقًا وغربًا القان الأعظم، ونعت فيه نفسه بألفاظ معظمة، وذكر في الكتاب شدة سطوته، وكثرة عساكره، وما جرى على أهل البلاد منه، ولا سيما ما فعله في بغداد، وما جرى على أهلها منه إلى أن قال: «يا أهل مصر، أنتم قوم ضعاف فصونوا دماءكم مني، ولا تقاتلوني أبدًا فتندموا.»

فلما قرأ قطز ذلك المنشور، وعلم ما كان من أمر فتوح هذا التتري، وما هو عليه من القوة والمنعة أوجس خيفة، غير أن جيوشه كانوا قد حاربوا الجيوش الصليبية، وانتصروا عليها، ولم يزل في نفوسهم عزة الظفر وأنفة النصر فاستخفوا بقول هولاكو، وأصروا على القتال؛ فحشدهم قطز، وجهزهم بما يلزم من العدة والسلاح، واستقدم إليه قبائل العربان، وفرق فيهم وفي سائر جيشه نحوًا من ستمائة ألف دينار جمعها من الضرائب التي أقامها على المصريين ممَّا دعاه تصقيع الأملاك وزكاتها، وأحدث على كل إنسان دينارًا يؤخذ منه، وأخذ ثلث التركات الأهلية فكان يجمع منها ٦٠٠٠ دينار سنويًّا.

ثم سار من القاهرة لملاقاة التتر في غاية شعبان سنة ٦٥٨ﻫ وما كاد الجيشان يلتقيان حتى اتصل بهولاكو خبر موت أبيه منجو خان ملك التتر، فاضطر إلى العود حالًا ليطالب بحقوق الوراثة. فعاد تاركًا في سوريا نحوًا من عشرة آلاف من نخبة فرسانه تحت قيادة نسيبه ونائبه كتبغا؛ لمحاربة قطز، فالتقيا في فلسطين في عين الجالوت فالتحم الجيشان، وحصلت بينهما واقعة كبيرة شفت عن هلاك كتبغا وكل رجاله، والقبض على ابنه، وغَنم المصريون غنيمة كبيرة تكفي لإغناء كل المشرق؛ لأنها تحتوي على أثمن ما نهبه هولاكو من أغنى المدن في أثناء فتوحه.

فعاد الملك المظفر إلى القاهرة ظافرًا، ولم تتم سعادته؛ لأن المنية كانت في انتظاره على الطريق، فقتله بعض رجاله الذين كانوا يترقبون فرصة لقتله، فتمكنوا من ذلك يوم السبت في ١٧ ذي القعدة سنة ٦٥٨ﻫ بعد أن حكم ١١ شهرًا و١٣ يومًا.

وتفصيل ذلك أنه بينما كان عائدًا بجيشه إلى القاهرة مرَّ من أمامه أرنب بري، وكان مولعًا بالصيد فسار على أثره في عرض الصحراء حتى أمعن فيها، ثم عاد وحده ولا صيد معه، فتقدم لملاقاته أحد أمرائه المدعو ركن الدين بيبرس البندقداري فلما دنا منه هم ليده كان يريد تقبيلها فأمسكها بإحدى يديه وطعنه بالأخرى في قلبه فسقط صريعًا يخبط الأرض. فجاء باقي الأمراء، وكانوا متواطئين معه على هذه الفعلة، فرفعوا جثة سلطانهم، ودفنوها في قبر صغير قرب قبر خلف، فخشي ذوو الفقيد أن تبلغ الموسى لحاهم فتفرقوا في مصر السفلى لا يظهرون على أحد، وكان الأتابك إذ ذاك في الصالحية مع السواد الأعظم من الجيش فسار إليه قتلة قطز، وأخبروه بما فعلوا فقال لهم: «من منكم ضربه الضربة الأولى؟» فأجاب بيبرس «أنا هو» فقال له: «فاحكم مكانه.»

فبويع بيبرس للحال، ولقب بالملك القاهر، ثم تشاءم من هذا اللقب فأبدله الملك الظاهر، وأضاف إليه أبا الفتوح، وكان يلقب أيضًا بالعلائي وبالبندقداري نسبة إلى سيده الذي كان يدعى علاء الدين بندقدار.

(٦) سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري (من سنة ٦٥٨–٦٧٦ﻫ/١٢٦٠–١٢٧٧م)

ولما تم لبيبرس أمر السلطنة سار إلى القاهرة، واستوزر بهاء الدين بن حنا، واتخذ بلباي (بيلي بك) الخازندار، وهو من أعز أصدقائه بل هو صنيعته، وجعله نائب السلطنة، وصار صاحب الحل والعقد فيها، واستقدم من بقي من عائلة قطز فأمنهم، وضمهم إليه، وأطلق من في السجون جميعًا بغير استثناء، وأكثر من العطايا لرجاله، وأبطل كثيرًا من الضرائب التي كان قد ضربها سلفه؛ كتصقيع الأملاك وتقويتها وأخذ زكاة ثمنها في كل سنة وجباية دينار من كل إنسان وغير ذلك، وأعلن أمره هذا على لسان الخطباء في المنابر.

على أنه مع ذلك لم ينل رضاء كل الرعية. فأهل الشام شقوا عصا الطاعة، وبايعوا الأمير سنجر صاحب حلب، ولقبوه بالملك المجاهد، وعضدهم على ذلك التتر أصحاب هولاكو. فسار بيبرس حالًا إلى دمشق؛ لإخماد الثورة فحارب التتر، وتغلب عليهم في ٣ وقائع متوالية. فقنط الدمشقيون من المساعدة فسلموا المدينة فدخلها، وانتقم منها شر الانتقام، وما زال حتى أخضع بلاد الشام، ولما عاد إلى القاهرة أخذ في إصلاح الداخلية.

(٦-١) الخلفاء العباسيون بمصر

وفي سنة ٦٥٩ﻫ قدم القاهرة رجل من بغداد، قال: إنه من ذرية بني العباس، واسمه الإمام أحمد بن الخليفة الظاهر بأمر الله بن الناصر بن المستنصر. فلما بلغ الملك الظاهر قدومه خرج إلى لقائه. فلما وصل إلى المطرية تلاقى هناك هو والإمام أحمد المذكور، وكان الإمام أحمد هذا أسمر اللون، وأمه أم ولد حبشية. فلما وقعت عين الملك الظاهر عليه نزل عن فرسه، ونزل الإمام أحمد عن فرسه أيضًا وتعانقا، ثم ركبا ومرَّا في القاهرة، ودخلا من باب النصر فزينت له القاهرة، وكان له موكب عظيم، ويوم مشهود لم يسمع بمثله. فلما وصلا إلى القلعة طلع الإمام أحمد مع السلطان إلى القلعة فأنزله السلطان في قاعة الأعمدة فأقام بها أيامًا.

ثم إن الملك الظاهر أراد أن يثبت نسب الإمام أحمد بأنه من ذرية بني العباس؛ لأن الخلافة كانت خالية من حين قتل الخليفة المستعصم فعقد مجلسًا من القضاة والعلماء والمشايخ، وأثبتوا نسبه فأقامه خليفة في القاهرة، ولقبه بالمستنصر بالله. فأصبحت القاهرة من ذلك الحين مقر الخلفاء العباسيين، وقد ذهب نفوذهم إلا من الوجه الديني، وهو الذي كان الظاهر في حاجة إليه لتأييد سلطانه. فحالما بويع المستنصر ثبت الملك الظاهر في منصبه، ورافق نزول العباسيين في القاهرة قحط عم سائر القطر فتشاءم الناس بحلولهم. أما بيبرس فلم يألُ جهدًا في استجلاب الأقوات من جهات سوريا وغيرها، وتفريقها في الناس فأنقذ بلاده من ضيق عظيم.

ثم أراد بيبرس أن يسترجع بغداد للخلفاء العباسيين فأنفذ مع الخليفة المستنصر بالله جندًا كبيرًا؛ لإخراج التتر منها، وتسليمها للخليفة المستنصر فلاقاهم التتر في الطريق فحاربوهم، وشتتوا شملهم، وقتلوا الخليفة ولم يجلس على كرسي الخلافة إلا خمسة أشهر وعشرين يومًا، فبايعوا في القاهرة الخليفة الحاكم بأمر الله. ثم ألجئ بيبرس إلى تجريدة أخرى انتقامًا من فتح الدين رئيس قلعة الكرك، وسبب ذلك: أن بيبرس قبل توليه سلطنة مصر كان قد ترك امرأته عند فتح الدين، وقاية لها مما كان يقاسيه من الأسفار والعذاب، وعهد إليه رعايتها فلم يحترم هذا حرمة الدين والشرف ففتك بها بغير وجه الحق. فاتصل ذلك ببيبرس، وكان قد تولى أمور مصر فثار فيه حب الانتقام. فجرد إلى الكرك وحاصر قلعتها، وكانت منيعة الجانب طالما امتنعت على كبار الفاتحين ومنهم السلطان صلاح الدين. ثم تمكن بيبرس من القبض على فتح الدين احتيالًا، وسلمه إلى امرأته فقتلته على مثل ما قُتلت عليه شجرة الدر. فأمست الكرك بغير رئيس. فسلمت وصارت جزءًا من مملكة مصر.

fig046
شكل ١١-٣: قلعة الكرك لما فتحها بيبرس.

ولما عاد بيبرس إلى القاهرة حشد جيشًا كبيرًا لمناهضة الصليبيين، وكانوا لا يزالون حاكمين في أماكن كثيرة من فلسطين فدارت الحرب بينهما سجالًا مدة سنتين (سنة ٦٦٣ و٦٦٤) وانتهت باستيلاء بيبرس على قيصرية، وهو محاصر عكا ألجئ إلى المسير لمحاربة التتر، وكانوا قد استولوا على دمشق بمساعدة أهل أرمينيا، وهددوا سائر سوريا. فأغفل حصار عكا وسار فلما وصل إلى دمشق لم يجد عدوًّا؛ لأن هولاكو كان قد مات، وتشتت جيوشه فسار بيبرس إلى أرمينا، وكان عليها ملك مسيحي يقال له هينون فاستولى على عاصمتها سيس، وعلى سائر مدنها، وتابع فتوحه إلى الأناضول، فهاجمه ريكا خان بن هولاكو وولي عهده فأعاده على أعقابه فرجع إلى سوريا وفتح صفد وذبح أهلها. ثم رجع إلى عاصمته بعد أن فتح أيلة على البحر الأحمر.

(٦-٢) الآداب العمومية

وقضى بيبرس سنة ٦٦٥ﻫ في القاهرة يستعد لحرب جديدة، وينظم داخليته فأبطل ضمان الحشيش، وجهاته، وأمر بإراقة الخمور، وإبطال المنكرات، وتعفية بيوت المسكرات، ومنع الحانات والخواطئ بجميع أقطار مملكة مصر والشام. فطهرت من ذلك البقاع، وعادت البلاد إلى الهدوء والرغد فقال أحد الشعراء المعاصرين:

ليس لإبليس عندنا إرب
غير بلاد الأمير مأواه
حرفته الخمر والحشيش معًا
حرمتا ماؤه ومرعاه

ثم رأى أن بعض الرعية لا يزالون على ما كانوا قد اعتادوه من الفواحش فأمر بمنع النساء الخواطئ من التعرض للبغاء، ونهب الحانات التي كانت معدة لذلك، وسلب أهلها جميع ما كان لهم، ونفى بعضهم، وحبس النساء حتى يتزوجن، وكتب بجميع ذلك توقيعًا قرئ في المنابر، وعلم بعد ذلك أن الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز يشرب المسكر فشنقه تحت قلعة الجبل، ولا شك أن الملك الظاهر لم يشدد في إبطال هذه المنكرات إلا لعلمه يقينًا أن استعمالها يُورث الفقر والذل، ويُخمد الهمة، ويضعف عزة النفس، ويُغضب الله.

وفي ٦٦٢ﻫ بنى الملك الظاهر دار العدل القديمة تحت القلعة، وصار يجلس بها لعرض العساكر في كل اثنين وخميس، وكان ينظر في أمر المتظلمين بنفسه فإذا كان لأحد مظلمة يأتي رأسًا، ويشكوها للسلطان، وهو يأمر بصرفها.

fig047
شكل ١١-٤

وفي سنة ٦٦٦ﻫ استأنف الحرب مع فلسطين؛ فاستولى على يافا والشقيف وطبرية وأرصوف وأنطاكية وبقراس والقرين وصافيتا ومرقية وأيباس، وختم ذلك بفتح بغداد، ثم أحب بطريقه إلى مصر أن يمر بالحج إلى مكة مع ابنه بركة خان، فمر بحلب فطرد التتر منها، ثم زار قبر إبراهيم الخليل في حبرون، وسار لزيارة بيت المقدس. ثم عاد إلى مصر، وقد أتم سياحته الجهادية والدينية معًا.

وأصبح أمر الشام يهمه فاشتغل في تسهيل المواصلة بينها وبين مصر فرتب خيل البريد، فكانت أخبار البلاد الشامية ترد عليه في الجمعة مرتين، وقيل: إنه أنفق على ذلك مالًا كثيرًا حتى تم له ترتيبه، وكانت خيل البريد عبارة عن مراكز بين القاهرة ودمشق، وفيها خيول جيدة، وعندها رجال يعرفون بالسواقين، ولا يقدر أحد يركب خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني، وكان عند كل مركز ما يحتاج إليه المسافرون من زاد وعلف وغير ذلك.

وكانت طريق الحج من مصر إلى مكة عن طريق صحراء عيذاب يركبون النيل من ساحل الفسطاط إلى قوص بمصر العليا، ثم يركبون الإبل من قوص فيقطعون صحراء عيذاب إلى البحر الأحمر حيث ينزلون إلى جدة ساحل مكة، وهكذا بعودهم إلى مصر، وكانت قوافل التجار من الهند واليمن والحبشة تأتي مصر على هذه الطريق أيضًا، وكانت صحراء عيذاب إذ ذاك آهلة بالسكان أمينة المسلك، وبقيت طريق الحج على مثل ذلك إلى السنة التي زار فيها السلطان الملك الظاهر مكة، وكساها، وعمل لها مفتاحًا فصارت طريق الحج برًّا من ذلك الحين. أما التجار فما زالوا يقدمون مصر عن طريق الصحراء إلى سنة ٧٦٠ﻫ ومن ذلك الحين قلت أهمية مدينة قوص، فصارت في حالة تشبه حالتها في الوقت الحاضر، بعد أن كانت مدينة زاهرة بالتجارة والعمارة.

fig048
شكل ١١-٥: مسجد الخليل في حبرون.

وفي سنة ٦٧٠ﻫ سار بيبرس لمحاربة من بقي من طائفة الباطنيين، وكان هولاكو قد أهلك السواد الأعظم منهم في جهات العراق. فافتتح بيبرس قلعة الأكراد، وقتل من فيها من الباطنيين فتفرقت جموعهم، وهكذا كان انقراض دولتهم.

وفي خلال ذلك عاد التتر إلى سوريا، وحاصروا البيرة فتجند إليهم بيبرس، وسارت معه فرقة تحت قيادة الأمير قلاوون الألفي فالتقى الجيشان عند البيرة، واشتدت الحروب بين المسلمين والتتر، وانتهت بانتصار المسلمين فاستولوا على البيرة. ثم ساروا إلى أرمينيا ففتحوها، واغتنموا منها مغانم كثيرة، ثم عاد بيبرس إلى مصر ففرشوا له القاهرة بالبسط والسجاد الثمين احتفالًا بعوده ظافرًا، وحملت القبة والطير على رأسه، وقد قرض الباطنيين وغلب التتر.

ثم إن أبغا خان بن هولاكو خان قدم سوريا، وحاصر البيرة ثانية فلاقاه الأمير قلاوون بفرقة من الجيوش المصرية، وأرجعه على أعقابه. فسر بيبرس من بسالته، واتخذ ابنته زوجة لابنه؛ ليكون ابنه في المستقبل آمنًا في حمى حميه. فأمنت سوريا بعد هذه الانتصارات، ولم تعد تخشى اغتيالًا، فأنفذ بيبرس الأمير آق سنقر الفرغني سنة ٦٧٤ﻫ؛ لافتتاح بلاد النوبة فافتتح أسوان بعد أن استولى على جميع مصر العليا.

(٦-٣) موت الملك الظاهر ومناقبه وأعماله

وفي سنة ٦٧٥ﻫ أتت الأخبار بأن التتر زحفوا على البلاد فخرج إليهم السلطان، وتوجه إلى حلب، وتقاتل مع التتر فكسرهم، وقتل منهم خلائق لا تحصى، وكان ملك التتر أبغا خان، فلما انكسر هرب فتبعه السلطان إلى نحو الأبلستين، فكانت بينهما هناك وقعة عظيمة قُتل فيها من الفريقين نحو مائة ألف إنسان، فانكسر أبغا وهرب فتبعه السلطان نحو زبيد. ثم رجع السلطان من هناك إلى قيسارية، وحاصر أهلها فأرسلوا يطلبون منه الأمان فأرسل لهم الأمان على يد الأمير بيسري، فسلموا المدينة فدخلها السلطان، وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا. فنزل بدار السلطنة، وصلى بها ركعتين، وحكم بين الناس، وأقام بها أيامًا، ثم رحل إلى دمشق وحلب سنة ٥٧٦ﻫ فتوعك، وأخذته الحمى فسقاه الحكماء مسهلًا فأفرط في الإسهال، وثقل عليه المرض فرحل من حلب، وقصد الدخول إلى دمشق فمات في بعض ضياعها.

فلما مات كتم موته عن العسكر، وحمل في محفة إلى أن دخل دمشق فدفن هناك ليلًا، وكان موته في يوم الخميس ثامن عشر المحرم سنة ٦٧٦ﻫ، ومات وله من العمر نحو ستين سنة، وكان ملكًا عظيمًا جليلًا مهيبًا كثير الغزوات خفيف الركاب يحب السفر والحركة في الشتاء والصيف، وكان مشهورًا بالفروسية في الحرب، وله إقدام وعزم في القتال، وله ثبات عند التقاء الجيوش، وكان يلقب بأبي الفتوحات؛ لكثرة الفتوح في أيامه، وكان له موكب بمصر وموكب بالشام، وكان شعاره الأسد إشارة لشجاعته وقوة بأسه، وكان كريمًا سخيًّا على الرعية باسط اليد يفرق الغنائم التي تحصل من الفتوح على الرعية ترغيبًا لهم في القتال وقت الحرب، وكان محبًّا لجمع الأموال كثير المصادرات لأجل الغزوات والتجاريد، وينفق ذلك على العسكر، وكان حسن الوجه طويل القامة مستدير اللحية الغالب في لحيته البياض، وكان مبجلًا في موكبه كفؤًا للسلطنة منقادًا للشريعة يحب العلماء والصالحين، ويحب فعل الخير، وله برٌّ ومعروف وآثار أهمها رده الخلافة لبني العباس بعد أن كادت تنقطع عنهم.

fig049
شكل ١١-٦: أسوار أنطاكية.

وخلف من الذكور ثلاثة، وهم: السعيد محمد بركة خان وقد ملك بعده، وسلامش وهذا ملك بعده أيضًا، والمسعود خضر، وترك من البنات سبعًا، ومما استولى عليه من أيدي الصليبيين: قيسارية وأرصوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وأنطاكية وبقراس والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكا وصافيتا ومرقية وحلب، وقد ناصفهم على المرقب وبانياس وترسوس وأدنة والمصيصة وغيرها من المدن في بر الأناضول، وصار إلى يده مما كان في يد المسلمين: دمشق وبعلبك وعجلون وبصرى وصرخد والسلط وحمص وتدمر والرحبة وتل ناشر وصهيون وبلاطس وقلعة الكهف والقدموس والعليقة والخواني والرصافة ومصياف والقلعة والكرك والشوبك، وفتح بلاد النوبة وبرقة.

ومن أعماله المأثورة: أنه عمر الحرم النبوي وقبة الصخرة ببيت المقدس، وزاد في أوقاف الخليل، وعمر قناطر شبرامنت بالجيزة وسور الإسكندرية ومنار رشيد، وردم فم بحر دمياط ووعر طريقه، وعمر الشواني، وعمر قلعة دمشق وقِلاع الصبيبة وبعلبك والسلط وصرخد وعجلون وبصرى وشيزر وحمص، وعمر المدرسة بين القصرين بالقاهرة والجامع الكبير بالحسينية، وقد جعله الفرنساويون عند مجيئهم إلى مصر قلعة، وهو البناء القديم في شارع الظاهر جعلته الحكومة مخازن للأقوات ويعرف بجامع الظاهر، وحفر خليج الإسكندرية القديم وباشره بنفسه، وبنى هناك قرية سماها الظاهرية، وحفر بحر أشمون طناح، وجدد الجامع الأزهر بالقاهرة، وأعاد إليه الخطبة، وعمَّر بلد السعيدية من الشرقية بمصر، وبنى القصر الأبلق في دمشق، ومن آثاره في القاهرة أيضًا قناطر السباع قرب ميدان الجبل والبرج الكبير في القلعة.

وكان محبًّا لركوب الخيل الجياد ورمي النبال، فأنشأ ميدانًا دعاه ميدان القبق، ويقال له أيضًا: الميدان الأسود وميدان العبد والميدان الأخضر وميدان السباق، وكان شاغلًا بقعة من الأرض تمتد بين النقرة التي ينزل إليها من قلعة الجبل وبين قبة النصر التي هي تحت الجبل الأحمر، وبنى فيه مصطبة سنة ٦٦٦ﻫ للاحتفال برمي النشاب، والتمرين على الحركات العسكرية، وكان يحث الناس على لعب الرمح ورمي النشاب ونحو ذلك. فكان ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة من الظهر، فلا يركب منها إلى العشاء، وهو يرمي ويحرض الناس على الرمي والنضال والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلا وهذا شغله، وما برح من بعده أولاده ومن بعدهم يمارسون في هذا الميدان جميع الألعاب الحربية.

وكان يقوم بنفقات جميع هذه الأعمال، وقلما يسلب الأهالي من المال فوق ما اعتادوا دفعه من الضرائب؛ لأن الغنائم التي كان يكسبها من أعدائه كانت تساعده كثيرًا في النفقات.

هذه هي أعمال الملك الظاهر بيبرس قد تركت له أثرًا يبقى ذكره دهورًا طوالًا.

وترى في شكل ١١-٧ صور نقود الملك الظاهر بيبرس وعليها صورة أسد.
fig90
شكل ١١-٧: نقود الملك الظاهر بيبرس.

(٧) سلطنة بركة خان بن بيبرس (من سنة ٦٧٦–٦٧٨ﻫ/١٢٧٧–١٢٧٩م)

فلما توفي بيبرس أقر الأمراء على مبايعة ابنه البكر محمد ناصر الدين بركة خان، ولكنهم كانوا قد أجمعوا بعد المشورة طويلًا على أن يكتموا وفاة بيبرس؛ لئلا يطمع فيهم العدو، فأرسلوا جثته سرًّا إلى دمشق، وأشاعوا هناك أنه مريض فنقلوه إلى القاهرة في محفة، ثم استقدموا الجيوش جميعها إلى مصر فقدمت، وحالما أدخلوا الجثة إلى القعلة بايعوا ابنه البكر بركة خان، ولقبوه بالملك السعيد، وأقاموا الأمير بلباي أتابكًا، وكان بلباي في الأصل مملوكًا ابتاعه بيبرس بثمن بخس إلا أنه ارتقى في خدمته حتى صار أمين خزائنه ونائبه كما تقدم. ثم استحق بعد طول الخدمة الصادقة الأمينة أن يكون وصيًّا على ابنه في مهام السلطنة.

وكان للملك السعيد ثقة كبرى في بلباي حتى إنه ألقى إليه كل مهام الدولة؛ فسعدت مصر في بادئ الرأي، لكنها ما لبثت أن تعكر كأس صفائها بوفاة ذلك الوصي الأمين الحكيم، ولم يكن الملك السعيد يثق بأحد من أمرائه ليعهد إليه مهام الأمة، وكان يظن أنهم هم الذين سعوا في قتل وصيه، ولكنه لم يتأكد ذلك فنفر منهم فوقع اختياره على آق سنقر فاتح النوبة فولاه الأتابكية، وبعد يسير خنقه في أحد أبراج الإسكندرية فتباعد الأمراء عن هذا المنصب، وأرادوا بالسلطان سوءًا لكنهم شغلوا عنه بثورة الدمشقيين.

وذلك أن شرف الدين سنجر الملقب بالأشقر كان واليًا على دمشق تحت رعاية بركة خان، فادعى الملك لنفسه فبايعه أهلها، ولقبوه بالملك الكامل، فأسرع بركة خان إلى دمشق، ونزل بجيشه في القصر الأبلق الذي كان قد بناه أبوه، وبعد التحري عن أسباب تلك الثورة علم أنها دسيسة من أمرائه. فلما علم هؤلاء بظهور أمرهم عادوا بمن كان على دعوتهم من المماليك إلى القاهرة، وتحصنوا فيها فتبعهم بركة خان فامتنعوا عليه، وعجز عن قهرهم لكثرتهم، فالتجأ إلى قلعة الجبل فحاصروه فيها، وشددوا عليه الحصار فسلم فانحط قدره عندهم، وهموا بقتله فمنعهم الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، لكنهم أصروا على خلعه فخلعوه في ربيع أول سنة ٦٧٨ﻫ بعد أن حكم سنتين وثلاثة أشهر فبعثوه إلى قلعة الكرك منفيًّا، وحبسوه فيها، ثم عادوا إلى قتله فأنفذوا إليه من يقتله، ثم بلغهم أنه سقط عن جواده ومات.

(٨) سلطنة سلامش بن بيبرس (من سنة ٦٧٨–٦٧٨ﻫ/١٢٧٩–١٢٧٩م)

فبايعوا أخاه بدر الدين سلامش، وسنه سبع سنوات وبضعة أشهر، ولقبوه بالملك العادل، وأقاموا الأمير سيف الدين بن قلاوون الألفي وصيًّا عليه، ولم يكن هم هذا الوصي إلا خلع ذلك السلطان الرضيع، وفي رجب من تلك السنة تمكن من مراده فبعثه إلى قلعة الكرك منفيًّا، واستلم هو زمام الأحكام، وطلب المبايعة فبايعه الناس، ولقبوه بالملك المنصور، وهو لقب ثاني سلاطين هذه الدولة.

(٩) سلطنة الملك المنصور قلاون (من سنة ٦٧٨–٦٨٩ﻫ/١٢٧٩–١٢٩٠م)

وهو من مماليك آق سنقر الكاملي، وقدمه إلى الملك الصالح فأعتقه سنة ٦٤٧ه، فلما تولى السلطنة قرَّب أنصاره، وأنعم عليهم، واستوزر فخر الدين، وكان كاتب سره الخصوصي، وبعث الأمير طرنطاي إلى دمشق لإخماد ثورة أهلها. فسار في فرقة من الجند فلاقاه الملك الكامل، ودافع دفاعًا حسنًا، ولكنه ألجئ في سنة ٦٨٠ﻫ إلى التسليم فقبضوا عليه، وجاءوا به إلى القاهرة، وأودعوه سجنًا مظلمًا، وولوا على دمشق وسائر الشام الأمير حسام الدين لاجين.

وفي سنة ٦٨١ﻫ عاد التتر إلى الشام بجيشين: الواحد تحت قيادة أبغا خان، والآخر مؤلف من ثمانين ألف فارس تحت قيادة أخيه منجوتيمور (منكوتمر) فحاربهم المصريون، وفازوا بهم، وقتلوا منجوتيمور، وفر أبغا خان إلى حمدان فسمه أخوه الثالث تيكودار أوغلان، وتولى الحكم بعده، ثم اعتنق الإسلام ولقب بأحمد خان، وكان إسلامه وسيلة لحقن الدماء؛ لأنه خابر قلاون مخابرة سلمية، وتعاهدا على حفظ الولاء، وما زال ذلك مرعيًّا إلى ما بعد قتل أحمد خان وتولية أرغون مكانه.

فكانت مصر في خلال ذلك مطمئنة في خارجيتها، فنشأت القلاقل في داخليتها بسبب تمرد بعض العامة. فغضب السلطان غضبًا أعمى بصره، وأمر مماليكه أن يضعوا السيف فيهم، ولم يعد يميز المجرم من البريء، فساق الجميع بعصا واحدة، وأعمل فيهم السيف ثلاثة أيام متوالية حتى غصت الأسواق بجثثهم رجالًا ونساء وأولادًا. فجاء العلماء إلى السلطان، وأخذوا يخففون من غيظه، ويبينون له وجه عسفه. فانتبه لما جاءه من الاستبداد الفاحش فندم ندمًا لا مزيد عليه، وتكفيرًا لذلك أمر ببناء البنايات والتكايا رحمة بالمساكين وذوي الأسقام، ومن أجل ذلك أيضًا بنى المستشفى الشهير بالبيمارستان المنصوري بخط بين القصرين (في شارع النحاسين) وكان في الأصل قاعة لست الملك بنت العزيز بالله، ولها تاريخ ذكره المقريزي في صفحة ٤٠٦ ج٢.

(٩-١) ملابس المماليك

وكان المماليك إلى ذلك الحين يلسبون لباس الزينة بما يناسب جمالهم، كانت كلوتاتهم (للرأس) من الصوف الأزرق الغميض، وهي مضربة عريضة بغير شاش، وكانوا يربون ذوائب من الشعر خلفهم يجعلونها في أكياس حرير أحمر أو أصفر، وكانوا يشدون في أوساطهم بنودًا بعلبكية عوضًا عن الحوائص، وكانت خفافهم برغالي أسود، وكانوا يشدون فوق قماشهم إبزيم جلد وفيه حلق نحاس، وفي ذلك الإبزيم ملعقة من الخشب كبيرة وسكين كبيرة، وكانت لهم مناديل من الخام قدر فوطة كبيرة لمسح أيديهم. فلما تولى الملك المنصور قلاون أمر العسكر أن يغيروا هذه الملابس الشنيعة، ويدخلوا في الهيئة المطبوعة، وكانت خلع المقدمين من العنتابي فأمر لهم بالخلع المخمل الأحمر والأخضر بالفرو والسمور. ثم سار إلى حصن مرقد فحاصره ٣٣ يومًا فسلم، وفي سنة ٦٨٤ﻫ افتتح قلعة الكرك، وقبض على سلامش؛ لأنه كان يحاول الاستقلال عن مصر فقاده إلى القاهرة، وأودعه سجنًا مظلمًا مكث فيه إلى ما بعد وفاة قلاون.

(٩-٢) موت قلاون وآثاره

ولما اطمأن باله في داخليته عكف على تنظيم الوزارة، وما زال يعزل ويولي حتى أقر على وزارة شمس الدين سنة ٦٨٥ﻫ فبقي على دستها زمنًا طويلًا. ثم أوصى قلاون بولاية العهد لابنه علي، ولقبه بالملك الصالح (الثالث) وأخذ منذ ذاك الحين في تدريبه على الأحكام وإدارتها على أن يستخلفه عليها إذا طرأ عليه ما يستدعي غيابه عن مصر في حرب أو غيرها فلم يصح تقديره؛ لأن عليًّا أصيب بحمى شديدة ذهبت بحياته سنة ٦٨٧ﻫ فحزن قلاون حزنًا شديدًا، وكثرت هواجسه حتى كره الأحكام. ثم رأى أن يجرد حملة؛ لافتتاح طرابلس الشام تسليةً له عن هواجسه، وكانت في حوزة الصليبيين منذ مائة وثمانين سنة لم ينازعهم أحد عليها. فسار إليها قلاون وافتتحها، وذبح من فيها وأخربها، ثم أعاد بناءها، وجعل عليها حامية.

ولما عاد إلى القاهرة جاءه وفد من قبل ألفونس ملك أرغون عقدوا معه معاهدة في ١٣ ربيع أول. غير أن ذلك لم يكن ليشغله عن أحزانه، وما زال كئيبًا حتى قضى يوم السبت في ٦ ذي القعدة فاحتفل بجنازته احتفالًا حضره جمع غفير من جهادية وملكية، وشيعوه إلى البيمارستان حيث واروه التراب، ولا يزال مقامه هناك إلى هذا العهد، وكانت مدة حكمه ١١ سنة و٣ أشهر و٦ أيام.

fig050
شكل ١١-٨: بقايا البيمارستان المنصوري.

ومن آثاره الباقية إلى هذا اليوم جامعه الشهير ومقامه، وكلاهما داخلان في بناء البيمارستان الذي يشاهده المار في شارع النحاسين شمالًا بعد أن يتجاوز خان الخليلي، ولا تزال هذه الأبنية قويمة العماد تتجلى فيها العظمة والقوة إلا البيمارستان، فإنه أصبح أقرب إلى الأثر من العين، وقد زرت مقام هذا السلطان فرأيت فيه كما رأيت في غيره من أمثاله جماعات من النساء والأطفال هم في الغالب من ذوي الأمراض قد جاءوا يطلبون الشفاء، وهم يأتون غالبًا في أيام السبت، ولهم في ذلك أساليب مختلفة. فرأيت بعضهم يضع الطفل المريض تحت المحراب، ويجلس مصليًّا متضرعًا، وآخر يأتي بقطعة من الليمون الحامض يمرح بها جدار المحراب أو ما يقاربه، ثم يلحسه بلسانه طلبًا للشفاء، ورأيت آخرين يفعلون غير ذلك.

وكان المنصور قلاون حسن الشكل ربع القامة دريَّ اللون، وكان قليل الكلام بالعربية، وكان شجاعًا بطلًا مقدامًا في الحرب مغرمًا بمشترى المماليك حتى قيل إنه تكامل عنده اثنا عشر ألف مملوك، وقيل سبعة آلاف مملوك، ومما يدل على علو همته وحسن اعتقاده عمارة البيمارستان المذكور.

وقد كان قلاون سببًا لإخراج السلطنة من نسله كما كان الملك الصالح الأيوبي باستثكاره من المماليك الشراكسة حتى جمع منهم نحوًا من ١٢ ألفًا جعل منهم بطانته، وكان يلقب بعضهم بالألفي أي المبتاع بألف دينار، وبعضهم بأبي المعالي، وغير ذلك.

وترى في شكل ١١-٩ صورة نقود الملك المنصور قلاون مضروبة في حلب.
fig40
شكل ١١-٩: نقود الملك المنصور قلاوون.

(١٠) سلطنة خليل بن قلاون ثم الملك القاهر بيدرا (من سنة ٦٨٩–٦٩٣ﻫ/١٢٩٠–١٢٩٣م)

وتولى بعده على سلطنة مصر ابنه البكر صلاح الدين خليل، ولُقب بالملك الأشرف فاستوزر علم الدين سنجر، وجرد للجهاد على الصليبيين، فسار في سنة ٦٩٠ﻫ حتى أتى عكا فحاصرها، وكانت الحصن الوحيد الذي بقي لهم فحصنوه تحصين اليأس، لكنه لم يمتنع على جيوش المسلمين فهدموه، ودخلوا المدينة، وأمعنوا فيها قتلًا ونهبًا، وفي سنة ٦٩١ﻫ عاد إلى القاهرة، وأخرج سلامش منفيًّا إلى القسطنطينية؛ لأنه كان سببًا للقلاقل. ثم سار إلى أرمينيا وفتح أرضروم فذاع صيته حتى أرهب أعداءه فعاد إلى القاهرة؛ ليستريح من الأسفار ففاجأته المنية على فراشه، وسبب موته: أن إحدى نسائه تواطأت مع مملوك له يدعى بيدرا فقتلاه بخنجر في جوفه في شهر محرم سنة ٦٩٣ﻫ بعد أن حكم ثلاث سنوات وشهرين وأربعة أيام.

وإلى جهاركس الخليلي أحد المنسوبين إليه ينسب الخان المشهور بخان الخليلي في السكة الجديدة بالقاهرة، وكان في مكانه قبل بنائه مدافن الخلفاء الفاطميين فبنى على أنقاضها، وأضاف الغوري إلى بنائه في القسم العلوي كما يفهم ذلك مما هو مكتوب فوق مدخله، وفي الخان تباع الآن جميع أنواع الأقمشة السورية والهندية، وما شاكل من طنافس ومطرزات وأوانٍ نحاسية وغيرها.

ومن آثاره البنائية قاعة الأشرفية التي بقلعة الجبل والمدرسة التي بالقرب من مزار السيدة نفيسة.

وبويع بعده بيدرا، ولقب بالملك القاهر، إلا أنه لم يحكم إلا يومًا واحدًا، ثم قتله المماليك أخذًا بثأر سلطانهم السابق، وبايعوا الملك الأشرف المدعو محمد بن قلاوون وعمره ٩ سنوات، ولُقب بالملك الناصر.

(١١) سلطنة الملك الناصر بن قلاوون (أولًا) (من سنة ٦٩٣-٦٩٤ﻫ/١٢٩٣-١٢٩٤م)

وسلطنة هذا الملك أكثر أهمية من سلطنات سلفائه؛ لكثرة ما حصل فيها من التقلبات السياسية والثورات المتعددة، ونظرًا لصغر سنه أقاموا له وصيًّا يُدعى زين الدين كتبغا الملقب بالمنصوري؛ لأنه كان من مماليك الملك المنصور قلاون. فما استتبت له الوصاية حتى تاقت نفسه إلى السلطة، وكان معه وزير آخر هو علم الدين سنجر، وكانت تحدثه نفسه بمثل ذلك أيضًا فاختلفا وتخاصما، وانتهت المخاصمة بمقتل سنجر، ولما خلا الجو لكتبغا، ولم يعد من ينازعه عمد إلى الملك الناصر فخلعه، وتولى مكانه سلطانًا على مصر، ونفاه إلى الكرك، ولم يحكم هذه المرة إلا سنة واحدة.

(١٢) سلطنة الملك العادل كتبغا (من سنة ٦٩٤–٦٩٦ﻫ/١٢٩٤–١٢٩٦م)

وفي شهر محرم سنة ٦٩٤ﻫ بويع كتبغا، ولقب بالملك العادل، وهو اللقب الذي لقب به قبله سلامش بن بيبرس الأول، واستوزر فخر الدين وزير قلاون، ولما كان هذا الاختلاس داعيًا لتراكم المصائب على مصر، وتداخل الأجانب فيها فداهمها الطاعون، ثم القحط فأهلك جزءًا كبيرًا من أهلها، ثم جاءت الحرب تتمة لهذه الضربات.

وذلك أن قبيلة المغول التي كانت تحت قيادة بيدو بن طرغاي بن هولاكو أصبحت بعد وفاته تحت قيادة الملك غازان محمود بن خربنده بن إيغاني، فتخوفت منه طائفة من رجاله عرفوا باسم الأويراتية، وفروا من بلاده إلى نواحي بغداد. فنزلوا هناك مع كبيرهم طرغاي، وجرت لهم خطوب آلت بهم إلى اللحاق بالفرات فأقاموا بها هناك، وبعثوا إلى نائب حلب يستأذنونه في قطع الفرات؛ ليعبروا إلى ممالك الشام فأذن لهم، وعبروا الفرات إلى مدينة بهنا فأكرمهم نائبها، وقام لهم بما ينبغي من العلوفة والضيافة، فاتصل ذلك بالملك العادل زين الدين كتبغا، فاستشار الأمراء في ما يفعل بهم، فاتفق الرأي على استقدام أكابرهم إلى الديار المصرية، وتفريق باقيهم في البلاد الساحلية وغيرها من بلاد الشام، فجيء بثلاثمائة من أكابرهم إلى القاهرة، وفرق الباقون بالبقاع العزيزية وببلاد الساحل، ولما قرب الجماعة إلى القاهرة خرج الأمراء بالعسكر إلى لقائهم، واجتمع الناس من كل مكان حتى امتلأ الفضاء للفرجة عليهم. فكان لدخولهم يوم عظيم فساروا إلى قلعة الجبل فأنعم السلطان على مقدمهم طرغاي بإمرة طبلخانة، وأجرى عليهم الرتب وأنزلهم بالحسينية، وكانوا على غير الدين الإسلامي فشق ذلك على الناس، وبُلوا مع ذلك منهم بأنواع البلاء؛ لسوء أخلاقهم، ونفرة نفوسهم، وشدة جبروتهم، وكان إذ ذاك في مصر والقاهرة غلاء عظيم فتضاعفت المضرة، واشتد الأمر على الناس، وقال في ذلك شمس الدين محمد بن دينار:

ربنا اكشف عنا العذاب فإنا
قد تلفنا في الدولة المغلية
جاءنا المغل والغلا فانصلقنا
وانطبخنا في الدولة المغلية

وفي أول رمضان سنة ٦٩٥ﻫ لم يصم أحد من الأويراتية فأعلن السلطان بذلك فأبى أن يكرههم على الإسلام، ومنع من معارضتهم، ونهى أن يشوش عليهم أحد، وكان مراده أن يجعلهم عونًا له، فبالغ في إكرامهم؛ فشق ذلك على أمراء الدولة، وخشوا إيقاعه بهم؛ لأن الأويراتية كانوا من مواطني كتبغا، وكانوا مع ذلك جميلي الصورة فافتتن بهم الأمراء، وتنافسوا فيهم، وبالغوا في تقربهم حتى بعثوا إلى البلاد الشامية استجلبوا طائفة كبيرة منهم فتكاثر نسلهم في القاهرة، واشتد التحاسد والتشاجر بسببهم بين أهل الدولة، حتى آل الأمر بسببهم وبأسباب أخرى إلى خلع السلطان الملك العادل كتبغا، وذلك في صفر سنة ٦٩٦ﻫ.

(١٣) سلطنة الملك المنصور لاجين (من سنة ٦٩٦–٦٩٨ﻫ/١٢٩٦–١٣٩٩م)

وبويع حسام الدين لاجين المنصوري، ولُقب بالملك المنصور كما كان لقب سيده قلاوون، فأذن لكتبغا أن يخرج إلى صرخد في سوريا، وقبض على طرغاي مقدم الأويراتية، وعلى جماعة من أكابرهم، وبعث بهم إلى الإسكندرية فسجنهم بها. ثم قتلهم وفرَّق جميع الأويراتية على الأمراء فاستخدموهم، وجعلوهم من جندهم، فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن، وما برحوا أيضًا يوصفون بالزعارة والشجاعة، وكان يقال لهم: البدورة، فيقال: البدر فلان، والبدر فلان، وكانوا يعانون لباس الفتوة، وحمل السلاح، ويؤثر عنهم حكايات كثيرة، وكانت الحسينية قد فاقت عمارتها على سائر أخطاط مصر والقاهرة.

(١٣-١) إقطاعات القاهرة

وكانت أرض مصر ٢٤ قيراطًا يختص السلطان منها بأربعة، والأجناد بعشرة، وكان الأمراء يأخذون كثيرًا من إقطاعات الأجناد فلا يصل إلى الأجناد منها شيء، وكان يصير ذلك الإقطاع في دواوين الأمراء، ويحتمي بها قطاع الطريق، وتثور بها الفتن، وتمنع منها الحقوق الديوانية، وتصير طعمة لأعوان الأمراء ومستخدميهم، ومضرة على أهل البلاد التي تجاورها.

فعندما تولى الملك المنصور لاجين راك البلاد وردَّ تلك الإقطاعات على أربابها، وأخرجها بأسرها من دواوين الأمراء، وجعل للأمراء والأجناد أحد عشر قيراطًا، وأفرد تسعة قراريط؛ ليخدم بها العسكر أو يقطعم إياها. ثم رتب أوراقًا بتكفية الأمراء والأجناد بعشرة قراريط، واقتصد قيراطًا لزيادة ما عساه يَطلب زيادة لقلة متحصل إقطاعه، وأفرد لبطانته عدة أعمال جليلة. فتنكرت قلوب الأمراء، وحقدوا عليه، وما انفكوا حتى قتلوه في ١١ ربيع آخر سنة ٦٩٨ﻫ فبقي كرسي السلطنة خاليًا ٤١ يومًا تمكن في خلالها الأمير سيف الدين طقجي من دعوة الناس إلى حزبه فالتف عليه جماعة كبيرة فبايعوه، ولقبوه بالملك القاهر كما لقب بيدرا قبله، وكان حظه من الملك كحظ سميه فلم يحكم إلا يومًا واحدًا، ثم ذبحه المماليك.

(١٤) سلطنة الملك الناصر بن قلاون (ثانية) (من سنة ٦٩٨–٧٠٨ﻫ/١٢٩٩–١٣٠٨م)

ففكر المماليك في انتخاب سلطان يحكم فيهم فأقروا على استقدام الملك الناصر بن قلاون من منفاه، وقد بلغ الخامسة عشرة من العمر ليبايعوه. فبعثوا إليه وفدًا يبلِّغه ذلك القرار فقدموا إليه في الكرك، وكانت والدته عنده فلم تسمح بسفره معهم لئلا يكون تحت أقوالهم مقاصد خطرة. فألحوا عليها، وأكدوا لها صدقهم، ثم جثوا أمام الملك الناصر وبايعوه، فتأكدت إخلاصهم، فأذنت بمسيره معهم، فساروا حتى أتوا القاهرة، فحاول بعض دعاة لاجين الإيقاع بحياة الملك الناصر لكنهم هُدِّدُوا فبايعوه.

وكان غازان خان ملك التتر قد عاد ثانية إلى افتتاح سوريا فجرد إليه الملك الناصر سنة ٧٠٠ﻫ جيشًا جرَّارًا، وأسرع حتى التقى به في حمص فتقهقر الناصر، ثم جمع رجاله، وأمدهم بالعدة والرجال، واستأنف الحرب، وكان التتر قد حسبوا أن الفوز تقرر لهم فوضعوا أيديهم على سوريا، وضربوا عليها الضرائب، وأخذوا في إدارة أحكامها، وبينما هم في ذلك وصل الملك الناصر بجيشه إلى مرج الصفر بقرب دمشق فخرج إليهم التتر، وانتشب القتال بين الفريقين؛ فغلب المصريون في بادئ الأمر، ثم ارتدوا على صفوف التتر كالسيل الهاطل بعزم أشد من الجبال ففرقوا جموعهم، وأثخنوا فيهم ضربًا بالسيف حتى تطهرت الشام منهم، فعاد الملك الناصر إلى القاهرة ظافرًا، ودخلها من باب النصر باحتفال عظيم.

ولما لم يبق ما يشغله في سوريا عكف على إخضاع قبائل العربان الذين شقوا عصا الطاعة في مصر العليا، فجرد إليهم فدانوا له، واغتنم منهم خمسة آلاف فرس، ومائة ألف رأس غنم، وثلاثين ألف من المواشي الكبيرة كالبقر والجاموس، وعددًا وافرًا من الأسلحة. فلما كانت سنة ٧٠٢ﻫ داهمت الشرق زلزلة قوية أخربت قسمًا عظيمًا من سوريا ومصر، وأخرجت المياه من الآبار إلى سطح الأرض، وطافت الأبحر على اليابسة فأغرقت خلقًا كثيرًا، والظاهر أن هذا الحادث الطبيعي أثر في أخلاق المصريين فانقسموا أحزابًا يضاد بعضها بعضًا، ثم عادوا فاتحدوا على خلع الناصر فرأى أنه لا يقوى على دفعهم، وخاف على حياته فترك القاهرة مظهرًا للحج، وسار مع بطانته إلى الكرك، وكان له فيها ثروة تبلغ ٢٧ ألف دينار ومليون وسبعمائة ألف درهم فاستولى عليها، وحصن المدينة، ثم بعث بالختم السلطاني إلى المماليك مصرحًا بتنازله، ومفوضًا لهم تولية من أرادوا.

(١٥) سلطنة بيبرس الجاشنكير (من سنة ٧٠٨-٧٠٩ﻫ/١٣٠٨-١٣٠٩م)

فوصل كتابه إليهم في ٢٥ رمضان سنة ٧٠٨ﻫ فبايعوا الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير (بيبرس الثاني) ولقبوه بالملك المظفر، وهو من مماليك الملك المنصور قلاوون، ومما يؤكد ذلك أنهم وجدوا بين أسلحته سيفًا منقوشًا عليه اسمه مع لقب «المنصوري والسيفي» كما ترى في شكل ١١-١٠.
fig41
شكل ١١-١٠: اسم بيبرس على سيفه.

وفي أواخر هذه السنة قدم الصليبيون بموافقة صاحب قبرس؛ لغزو دمياط بحرًا، فاتفق الأمراء في القاهرة على إنشاء جسر يمتد من القاهرة إلى دمياط خوفًا من قدوم الصليبيين بحرًا في أيام الفيضان، فيتعذر الوصول إلى دمياط، فكتبوا بذلك إلى العمال أن يخرجوا بالرجال والأبقار؛ لإتمام ذلك، فاجتمع ستمائة رأس بقر و٣٠ ألف رجل، وباشروا العمل، وأتموه في شهر واحد. فكان طوله من دمياط إلى قليوب، وعرضه أربع قصبات من أعلاه، وست قصبات من أسفله تمشي عليه ستة رءوس من الخيل صفًّا واحدًا، ومن آثاره في القاهرة جامعه المعروف بجامع جاشنكير في الجمالية مبني على مثال جامع السلطان حسن، ولا يزال مسجدًا إلى هذه الغاية.

ثم ندم الملك الناصر لاستقالته، وتخليه عن مقاليد الأعمال لأحد مماليكه، فجعل يترقب فرصة لتسلق العرش ثالثة، وفي شهر شعبان من سنة ٧٠٩ﻫ برح الكرك مستخلفًا عليها أرغون أحد مماليكه المقربين، وجاء دمشق فبايعه أمرؤاها فجند إلى مصر ومعه رجال عديدون، وكان الأمير برلك أحد زعماء المماليك قد نبذ طاعة بيبرس ومعه كثيرون من نخبة رجاله فتشجع الناصر وقدم القاهرة. أما بيبرس فخاف ولم ير سبيلًا لنجاته إلا بالتنازل فاستقال، وأخذ معه مبلغًا مقداره ٣٠٠ ألف دينار، وكثيرًا من الجمال والخيل، وخرج إلى مصر العليا طامعًا في الاستيلاء عليها فلاقاه خارج القاهرة سرب من الأسافل أوسعوه شتمًا ورجمًا فرشقهم بما كان معه من النقود، وسار حتى جاء أخميم فنزل فيها.

(١٦) سلطنة الملك الناصر بن قلاون (ثالثة) (من سنة ٧٠٩–٧٤١ﻫ/١٣٠٩–١٣٤١م)

وفي غد خروج بيبرس من القاهرة دخلها الملك الناصر باحتفال عظيم، وهي المرة الثالثة لتوليه، وكان ذلك في يوم عيد رمضان فزاد العيد بهجة، وبويع بالسلطة، ولبس خلعة السلطنة، وهي جبة سوداء وعمامة سوداء بعذبة زركش وسيف بداوي. فجلس على سرير الملك، وجميع الأمراء من كبير وصغير قبلوا الأرض بين يديه وهو جالس في الإيوان الأشرفي. ثم خلع على سائر الأمراء والنواب الذين حضروا معه خلع الاستمرار، وخلع على الخليفة المستكفي بالله سليمان، والقضاة الأربع وأرباب الدولة من أصحاب الوظائف، ثم تتبع الهاربين وقبض عليهم، وجردهم مما أخذوه.

وفي جملة الذين قتلهم الأمير سلار النائب، وضبط أمواله سنة ٧١٠ﻫ فكان في جملتها صناديق إفرنجية مصفحة بنحاس فيها فصوص ياقوت أحمر بهرمان رطلان، وفصوص بلخش رطلان ونصف، وفصوص زمرد بابي عشرون رطلًا، وفصوص الماس، وعين الهر ثلثمائة قطعة، ولؤلؤ كبير مدور كل حبة وزن مثقال مائة وخمسون حبة، ووجد عنده صناديق فيها ذهب عين مائتا ألف دينار، ومن الفضة أربعمائة ألف درهم وواحد وسبعون ألف درهم.

وفي يوم الاثنين سابع عشر وجد له من الذهب العين خمسة وخمسون ألف دينار ومن الفضة مليون درهم، ومن الفصوص المختلفة رطلان، ووجد له مصاغ من ذهب ما بين خلاخل وأساور وزن أربعة قناطير مصرية، ووجد عنده طاسات فضة وأطباق وأهوان ذهب وطشوت فضة ستة قناطير.

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر وجد له من الذهب العين خمسة وأربعون ألف دينار، ومن الفضة ثلثمائة ألف وثلاثون ألف درهم، ووجد عنده طلعات فضة للصناجق، وقطريات فضة ثلاثة قناطير … وغير ذلك شيء كثير ذكره ابن إياس في تاريخه مفصلًا مما يدهش لكثرته.

وكان سن الملك الناصر لما تولى للمرة الثالثة ٢٥ سنة صرف ١٦ منها في مقاساة الأهوال حتى عرف كيف تؤكل الكتف، وكيف يجب أن ترسخ قدمه في الملك، فكان ذلك بمثابة الأمثولة له، فمكث على دست السلطنة هذه المرة حتى توفي أي مدة ٣٣ سنة.

وكان النصارى إلى أيام هذا الملك يقيمون احتفالًا سنويًّا في ٨ بشنس في ناحية شبرا من ضواحي القاهرة، يسمونه: احتفال عيد الشهيد، زعمًا منهم أن النيل لا يفي إلا إذا ألقوا فيه تابوتًا من خشب فيه أصبع من أصابع آبائهم المائتين. فكانوا يجتمعون من سائر القرى أفواجًا على اختلاف الدرجات والنزعات، ويكثرون بسبب ذلك من الغناء وشرب المسكر. فكانوا ينفقون مبالغ فاحشة في هذا السبيل، وكان فلاحو شبرا يركنون في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في ذلك العيد. فأمر الملك الناصر بإبطال هذه العادة.

وأبطل كثيرًا من الضرائب الظالمة كزكاة الدولة، وهو ما كان يؤخذ من الرجل عن زكاة ماله أبدًا ولو عدم منه، وإذا مات يؤخذ من ورثته، وأبطل ما كان يجبى من أهل القاهرة وضواحيها إذا حضر مبشر بفتح حصن أو نحوه فإنهم كانوا يأخذون من الناس كل واحد على قدر طاقته، وكان يجتمع من ذلك مال كثير، وأبطل ما كان يجبى من أهل الذمة، وهو دينار سوى الجالية برسم نفقة الأجناد في كل سنة، وكانت العادة إذا كان وفاء النيل أن يجبوا من التجار والباعة دينارًا من كل واحد قيامًا باحتفال كانوا يقيمونه عند المقياس يكثرون فيه من الشوي والحلوى والفاكهة فأبطل الجباية، وأمر بصرف ذلك من بيت المال.

(١٦-١) أعماله

أما أعماله فأكثرها بناءٌ وترميم: فقد بنى في سنة ٧١٧ﻫ جسرًا بين بولاق وميت شيرج؛ لحجز مياه النيل عند الفيضان، وكانت الأرض واطية، ولم يكن فيها شيء من البناء، فإذا ارتفع النيل جرى على مسافة قصيرة من المقس (ثمن الأزبكية) فلما بنى الجسر كف الماء إلا يسيرًا، فتكوَّن هناك جزيرة دعوها جزيرة بولاق فأقيمت فيها المساكن، ثم اتصلت بالبر الحقيقي فأصبحت جزءًا منه، فاتخذوها مرسى للسفن الواردة إلى مصر، ولا تزال كذلك إلى اليوم، وهذا ما يعبر عنه الآن بثمن بولاق.

ومن آثاره البنائية جامعه المسمى الجامع الجديد عند موردة الخلفاء، ويقال: إنه نقل حجارته من صنم عند قصر الشمع اسمه السرية عمل منه قواعد للأعمدة الكبار، وعمر القصر الأبلق بالقلعة، وجر الماء إلى قلعة القاهرة سنة ٧١٨ﻫ في مجراة على قناطر مبنية بالحجر، وركز للمياه آبارًا، وجعل عليها سواقي نقالة من عدة أماكن، وهي الباقية إلى الآن تعرف بالسبع سواقي عند فم الخليج، وتمتد منها نحو القلعة قناطر تفصل بين القاهرة ومصر القديمة، وعمر الحوش الكبير في القلعة زرع فيه بستانًا نقل إليه الأشجار من الشام وغيرها، وبنى قناطر عديدة في أماكن مختلفة والبركة الناصرية، وكان في القلعة إيوان يسمى الإيوان الأشرفي فهدمه وبناه، وعقد فوقه قبة عظيمة، وكان يعمل فيه المواكب العظيمة، والقصر الكبير عند البركة الناصرية، وعمل باب الكعبة من الخشب السنط الأحمر المصفح بالفضة.

fig051
شكل ١١-١١: مجراة الماء والسبع سقايات.

وكانت مدة حكم الناصر هذه المرة كلها سكينة وسلامًا خارجًا وداخلًا، ولم يخرج من مصر كل هذه المدة إلا مرتين؛ لزيارة الحرمين، ولم يتخابر مع دولة أخرى إلا التتر، وذلك بشأن تزوجه بابنة أزبك خان سنة ٧٢٠ﻫ فكان معتكفًا بكليته إلى ترقية شأن البلاد، فأقام فيها — ولا سيما في القاهرة — مشروعات كلية الأهمية منها نزح الخليج المدعو باسمه «الخليج الناصري» سنة ٧٢٧ﻫ وقد أنشأ سنة ٧٢٨ﻫ سبعة جسور، وفي السنة التالية أنشأ مرصدًا في الميدان، وشاد قصرًا على أنقاض قصر الأشرف، فانتهى منه في سنة ٧٣٤ﻫ وأقام جسور شيبين سنة ٧٣٥ﻫ، وابتنى — عدا عن الجامع الناصري المتقدم ذكره — جامعًا آخر بجانب جامع أبيه في شارع النحاسين يشاهد فيه عند الدخول إليه أعمدة ملتفة، يقال: إن الملك الأشرف بن قلاون جاء بها من عكا تذكارًا للظفر، وهناك كتابة يقول فيها: إن الذي بنى ذلك المشهد هو السلطان محمد بن الملك المنصور قلاون الصالحي سنة ٦٩٨ﻫ والمقريزي يقول: إن بناءه تم سنة ٧٠٣ﻫ وأن الملك العادل كتبغا هو الذي وضع أساسه أيام السلطنة، وشاد الناصر دارًا كبيرة دعاها دار العدل، وأنشا عيونًا كثيرة، ومدارس عالية متعددة.

ومن أعماله الحميدة: أنه أبطل جميع الضرائب الظالمة التي كانت تؤخذ على ما يباع ويشترى من حيوانات ونبات وعقار فأحبته الرعية، وأجمعوا على طاعته. فاستتبت الراحة، وعمّر الصعيد على وجه خاص، ولم يشب الراحة إلا تنازع الوزراء على منصب الوزارة فألغاه حسمًا للمشاكل.

وفي سنة ٧٤٠ﻫ توفي ابنه أنوك فحزن عليه حزنًا شديدًا أورثه مرضًا رافقه حتى الموت،فتوفي الناصر في ٢١ ذي الحجة سنة ٧٤١ﻫ وعمره ٧٥ سنة، ومدة حكمه ٤٤ سنة وبضعة أشهر عن ثمانية أولاد ذكور تناوبوا الملك بعده الواحد بعد الآخر، إلا أن تنصيبهم وخلعهم كانا منوطين بأحزاب متضادة لا يستقرون على حال. فكانت مدات حكمهم قصيرة جدًّا.

وتزايدت فخامة ملك ابن قلاوون في آخر حكمه، وكثرت مماليكه حتى صار راتبه وراتب مماليكه كل يوم من اللحم الضاني ستة وثلاثين ألف رطل، وبالغ في مشترى المماليك حتى قيل بلغت مماليكه اثني عشر ألف مملوك، وهو أول من اتخذ الشاش والقماش للعسكر والأقبية المفتوحة، واتخذ الطرز الذهب، والحوائص الذهب، والسيوف المسقطة بالذهب والأقبية القاقم، ورتب المواكب في القصر ترتيبًا حسنًا، ورتب شرب السكر بعد السماط في القصر والأمراء مجتمعون، ورتب وقوف الأمراء في المواكب على قدر منازلهم، وكذلك أرباب الوظائف من المتنعمين، وقد طالت أيامه في السلطنة بخلاف من تقدمه من الملوك، وصفا له الوقت، وصار أكثر الأمراء والنواب مماليكه أو مماليك والده قلاون، ولا يعلم لأحد من الملوك آثار مثله ومثل مماليكه، حتى قيل: قد تزايدت في أيامه الديار المصرية، والبلاد الشامية في العمائر مقدار النصف من جوامع، وقناطر، وجسور، وغير ذلك من العمائر والإنشاء.

وترى في الصورة ١١-١٢ نقود الملك الناصر بن قلاون النحاسية.
fig95
شكل ١١-١٢: نقود الملك الناصر بن قلاوون.

(١٧) سلطنة أولاد الناصر وهم أبو بكر وكجك وأحمد وإسماعيل وشعبان وحاجي وحسن وصلاح الدين (من سنة ٧٤١–٧٦٢ﻫ/١٣٤١–١٣٦٢م)

فأول من تولى بعد الملك الناصر ابنه البكر سيف الدين أبو بكر، ولقب بالملك المنصور (الرابع) وبعد أربعين يومًا عزل ونفي إلى قوص في مصر العليا، وتوفي سنة ٧٤٢ﻫ وفي يوم خلعه سطا المماليك على نساء أبيه، وأهانوهن، ونهبوا متاعهن. فبويع أخوه علاء الدين كجك، وله من العمر ست سنوات فقط، ولُقب بالملك الأشرف.

وبعد خمسة أشهر أي في رمضان من تلك السنة خلع الأشرف، وسُجن في قلعة القاهرة فتوفي هناك. فبويع أخوه شهاب الدين أحمد، وكان متغيبًا في الكرك فاستقدم، وبويع ولقب بالملك الناصر (الثاني) وفي ١٢ محرم سنة ٧٤٣ﻫ أعيد إلى الكرك منفاه الأول. فبويع أخوه عماد الدين إسماعيل، ولقب بالملك الصالح، وهذا بقي على كرسي السلطنة أكثر قليلًا من إخوته السابقين أي ثلاث سنوات وشهرين وبضعة أيام، وأهم ما حصل في أيامه أنه أعاد منصب الوزارة إلى حكمه سنة ٧٤٤ﻫ وكان قد ألغاه أبوه كما رأيت، وأنه قتل أخاه شهاب الدين أحمد سنة ٧٤٦ﻫ وكان منفيًّا في الكرك، ثم انتهت سلطته بموته في ٤ ربيع آخر سنة ٧٤٦ﻫ.

فبويع أخوه الخامس زين الدين شعبان، ولقب بالملك الكامل، ولكنه لم يكن اسمًا على مسمى فأبغضته الرعية، وهجاه الشعراء، ومكث حاكمًا سنة وبضعة أشهر، وفي جمادى الأول سنة ٧٤٧ﻫ عزل. فبويع أخوه السادس زين الدين حاجي، ولقب بالملك المظفر (الثالث) وكان أكثر استبدادًا من سلفه، فلم تطل مدة حكمه أكثر من سنة وثلاثة أشهر فذبح في ١٢ رمضان سنة ٧٤٨ﻫ، فبويع أخوه السابع ناصر الدين حسن، ولقب بالملك الناصر (الثالث) وقد كان من سيره في الملك ما كان لأبيه، فحكم ثلاث سنوات وعشرة أشهر بمساعدة نائبه الأمير الطمش، وخلع في غرة رجب سنة ٧٥٢ﻫ وسجن في قلعة القاهرة. فبويع أخوه الثامن صالح صلاح الدين، ولقب بالملك الصالح، وكان على وزارته الأمير شيخو العمري، وإلى هذا الأمير ينسب الجامع المعروف بجامع شيخون أو شيخو في الصليبة غربي الرميلة، ويقابله خانقاه، وبقي الصالح على دست السلطنة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر و١٤ يومًا.

وفي سنة ٧٥٤ﻫ دهم القطر طاعون، وانتشر حتى عمَّ البلاد، واختطف الإمام الحاكم بأمر الله (الثاني) وصي الخلافة فبويع عمه المعتضد بالله.

وفي أوائل سنة ٧٥٥ﻫ رفع المسلمون إلى الملك الصالح تقارير مفصلة بما للنصارى من الأملاك الموقوفة للأديرة، فأحيلت هذه التقارير إلى ديوان الأحباس، فوجد أن للنصارى أوقافًا تبلغ ٢٥ ألف فدان من الطين كلها موقوفة للكنائس والأديرة. فعرضت على الأمير شيخو والأمير صرغتمش والأمير طاز، وكانوا قائمين بتدبير الدولة، فقرروا أن ينعم بذلك على الأمراء زيادة على إقطاعاتهم، وهدموا للنصارى عدة كنائس.

وفي أواخر رجب من هذه السنة خرج الحاجب والأمير علاء الدين علي بن الكوراني، وكان واليًا على القاهرة إلى ناحية شبرا الخيام من ضواحي مصر فهدم كنيسة للنصارى، وأخذ منها أصبع الشهيد في صندوق، وأحضره إلى الملك الصالح فأحرق بين يديه في الميدان، وذرى رماده في البحر حتى لا يأخذه النصارى فبطل عيد الشهيد من يومئذٍ.

وكان من المترشحين للوزارة وزيران قبطيان مرتدان، هما: موفق الدين، وعلم الدين، فتنازعا عليها، وانضم إلى كل منهما أحزاب فانتهى الخصام بخلع الملك الصالح في ٢٢ شوال سنة ٧٥٥ﻫ، وكان منشأ هذا النزاع دسيسة من أخيه الملك الناصر حسن باتفاق مع الأمير تاج الدين، وكان الناصر مسجونًا ففاز بمراده وخلع أخاه فأخرج من السجن، وبويع وبقي الملك الناصر حسن على دست السلطنة هذه المرة ست سنوات وسبعة أشهر وبضعة أيام بمساعدة الأمير تاج الدين، فولاه الوزارة مكافأة لمسعاه، وفي ٩ جمادى الأولى سنة ٧٦٢ﻫ قتل بمكيدة من كبار أمرائه.

ومن آثاره الباقية إلى هذا العهد جامعه في الرميلة مقابل قلعة الجبل في القاهرة، وهو المعروف بجامع السلطان حسن أو بجامع الحسنية، وهو من أجمل جوامع القاهرة وأتقنها اقتضى لبنائه ٣ سنوات أنفق عليه في خلالها ما يساوي ستمائة جنيه كل يوم، وقد جاء بالحجارة الكبيرة من أنقاض الأهرام، ونقش عليه الكتابات الكوفية والعربية فزادته رونقًا وجمالًا، وقد أصبح الآن وعلى وجهه ملامح الشيخوخة لكنها لم تزده إلا عظمة ووقارًا.

وترى في شكل ١١-١٣ صورة النقود الذهبية للملك الناصر ناصر الدين حسن.
fig96
شكل ١١-١٣: نقود الملك ناصر الدين حسن.

(١٨) سلطنة محمد بن حاجي (من ٧٦٢–٧٦٤ﻫ/١٣٦٠–١٣٦٢م)

ولما قتل السلطان حسن بويع ابن أخيه محمد بن الملك المظفر حاجي، وسنه ١٤ سنة، ولقب بالملك المنصور (الخامس) وفي منتصف شعبان سنة ٧٦٤ﻫ اضطر إلى التنازل عن الملك لابن عمه شعبان بن حسن، وسنه عشر سنوات فبويع، ولقب بالملك الأشرف (الثالث).

وترى في شكل ١١-١٤ صورة النقود الذهبية للملك المنصور محمد ضُربت في القاهرة سنة ٧٦٤ﻫ.
fig97
شكل ١١-١٤: نقود الملك المنصور ضربت في القاهرة سنة ٧٦٤.

(١٩) سلطنة شعبان بن حسن (من سنة ٧٦٤–٧٧٨ﻫ/١٣٦٢–١٣٧٦م)

وحكم الأشرف شعبان ١٤ سنة وشهرين وبضعة أيام معظمها سكينة وسلام، وفي السنة الثالثة من حكمه أصيبت مصر وسوريا بقحط ضيق على الناس حتى أكلوا الكلاب والقطط، وأكل بعضهم أولاده من شدة الجوع، واستمر الأمر كذلك في بعض الأماكن ٣ سنوات، ولما كانت السنة الحادية عشرة من حكمه أصاب البلاد حروب أهلية أشد وطأة من الجوع، وسببها: أن يلبغا العمري أحد أمراء المماليك كان نائبًا للملك. ففي سنة ٧٧٦ﻫ سطت عليه عصبة من مماليكه في قصره فقتلوه، وساروا يريدون مثل ذلك من السلطان نفسه فردهم بعد حرب هائلة قتل فيها زعيمهم فتشتتوا، فولى على النيابة الجاي اليوسفي، وكان طماعًا، فتقرب من السلطان حتى تزوج بوالدته فنال منها ثروة عظيمة فقويت شوكته وكثر أشياعه فطمع بالسلطة فقتل زوجته المذكورة، وتواطأ مع قاتلي يلبغا على قتل السلطان فهاجموه فدفعهم ورئيسهم، وقتل منهم جمعًا كبيرًا، وتبعهم رجاله حتى أغرقوهم في النيل.

ولم يكد يطمئن من هذا القبيل حتى اجتمع عليه أضداد يريدون قتله، فتربصوا ينتظرون فرصة حتى إذا كان عائدًا من زيارة الحرمين كمنوا له في مضيق العقبة فقتلوا من معه من الحاشية، ولم يقفوا للسلطان على أثر، فظنوه قتل فعادوا إلى القاهرة، وعهدوا إلى الخليفة المتوكل بالله العباسي، وكان قد تولى الخلافة بعد المعتضد بالله سنة ٧٦٣ﻫ أن يبايع من يشاء، فكتب إليهم: «اختاروا من بينكم من تشاءون، وأنا أصادق على بيعته.» ثم علم الأمراء أن الأشرف لا يزال حيًّا مختبئًا في القاهرة فقبضوا عليه وخنقوه في ١٥ ذي الحجة سنة ٧٧٨ﻫ.

وترى في شكل ١١-١٥ نقود الملك الأشرف شعبان.
fig44
شكل ١١-١٥: نقود الملك الأشرف شعبان.

(٢٠) سلطنة علي بن شعبان (من سنة ٧٧٨–٧٨٣ﻫ/١٣٧٦–١٣٨١م)

وبايعوا ابنه علاء الدين علي وسنه سبع سنوات، فسُرَّ بذلك المنصب لصغر سنه، ولم يعلم أنه مدفن أبيه، ولا يلبث حتى يلحق به. فلقبوه بالملك المنصور (السادس) وأقاموا له الأمير لاين بك وصيًّا. ثم أبدل لاين بالأمير قرطاي، ثم أبدل هذا بالأمير برقوق، وهو الذي أتى على ختام هذه الدولة، وتأسيس دولة جديدة، وكانت هذه مقاصده منذ ولي الوصاية، لكنه بقي محافظًا على ولاء مولاه إلى أن توفاه الله في شهر ربيع أول سنة ٧٨٣ﻫ، وكانت مدة حكمه أربع سنوات وأربعة أشهر.

(٢١) سلطنة حاجي بن شعبان (من سنة ٧٨٣-٧٨٤ﻫ/١٣٨١-١٣٨٢م)

فبويع أخوه زين الدين حاجي وسنه ست سنوات، ولقب بالملك الصالح، ولم تمض على مبايعته سنة ونصف حتى ملَّ برقوق من إخفاء مقاصده فخلعه، ونفاه في ١٩ رمضان سنة ٧٨٤ﻫ واستلم مقاليد الملك، وكان الملك المنصور هذا آخر من حكم من دولة المماليك الأولى المسماة بالبحرية أو التركمانية، فانقرضت دولتهم بعد أن حكمت نحوًا من مائة وست وثلاثين سنة؛ أولها امرأة، وآخرها صبي، وقامت دولة المماليك الثانية أو الشراكسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤