الفصل الخامس

الدولة العباسية للمرة الأولى

من سنة ١٣٢–٢٥٧ﻫ/٧٥٠–٨٧٠م

(١) خلافة أبي العباس بن محمد (من ١٣٢–١٣٦ﻫ/٧٥٠–٧٥٤م)

بويع الخليفة أبو العباس عبد الله بن محمد الملقب بالسفاح في ١٣ ربيع أول سنة ١٣٢ﻫ وهو من سلالة العباس بن عبد المطلب، وأول الخلفاء العباسيين؛ فأقال ولاة الأمصار الذين كانوا قبل خلافته، وأبدلهم بولاة من أقاربه وذويه. فجعل على مصر عمه صالح بن علي قاتل مروان. فسار صالح حتى دخلها في محرم سنة ١٣٣ﻫ وبعد يسير بعث إلى الخليفة وفدًا من أهل مصر بمبايعتها، ثم قبض على عبد الملك بن موسى وجماعته، وقتل كثيرًا من دعاة بني أمية، وحمل طائفة منهم إلى العراق؛ فقتلوا بقلنسوة من أرض فلسطين، وفي غرة شعبان سنة ١٣٣ﻫ ورد إليه كتاب أمير المؤمنين بإمارته على فلسطين، وأن يستخلف على مصر من أراد؛ فاستخلف أبا عون عبد الملك بن يزيد نائبًا عنه، وسار ومعه عبد الملك بن نصير، وعدة من أهل مصر.

وفي ١٣ ذي الحجة سنة ١٣٦ﻫ توفي أبو العباس في الهاشمية سرير خلافته بعد أن قضى على دست الخلافة ٤ سنوات و٨ أشهر و٢٦ يومًا، وسنه ٣٣ سنة ونصف، وهو أول من اتخذ وزيرًا؛ لأن خلفاء بني أمية لم يكونوا يستوزرون، ولكنهم استكتبوا.

(٢) خلافة المنصور بن محمد (من ١٣٦–١٥٨ﻫ/٧٥٤–٧٧٥م)

وخلف أبا العباس أخوه المنصور بن محمد، الملقب بأبي جعفر، واتخذ الهاشمية سريرًا لملكه كما فعل سلفه، وفي سنة ١٤٠ﻫ عهد ولاية مصر إلى أبي عون الذي كان نائبًا فيها، وفي سنة ١٤١ﻫ عزل أبا عون عن مصر وولي موسى بن كعب، وكان أحد نقباء العباسيين؛ فدخل مصر في ١٥ ربيع آخر من السنة المذكورة، ونزل العسكر.

وفي ٥ ذي الحجة من تلك السنة عزل موسى وولى محمد بن الأشعث الخزاعي، وأراد توليته أمر الخراج فأبى، فتولاه نوفل بن الفرات، ثم رأى بعد حين أن أهل الدواوين مالوا بكليتهم نحو صاحب الخراج فندم، وآل الأمر إلى نفور بينه وبين نوفل، وفي ٥ رمضان سنة ١٤٣ﻫ صرف محمدًا وولى حميد بن قحطبة بن شبيب الطائي فجاء مصر بجيش، وفي ٢٢ ذي القعدة سنة ١٤٤ﻫ صرفه وولى يزيد بن حاتم المهلبي.

فترى أنه تقلب على مصر في مدة لا تتجاوز سبع سنوات ستة أمراء؛ الأمر الدال على ما فُطر عليه المنصور من التقلب، فإنه كان لا يثق بأحد، ولا يقر على أمر، وكان كثير الهواجس والظنون، سريع الحكم، ويدلك على ذلك ما كان من أمره مع أبي مسلم الذي له الفضل على جميع الخلفاء العباسيين؛ إذ لولا مساعيه ما وصلت الخلافة إلى يدهم. فإنه بمجرد ما قيل له: إن أبا مسلم متشيع لأهل البيت أمر بقتله، ولشدة هواجسه ترك الهاشمية التي كانت إلى ذلك العهد (سنة ١٤٥ﻫ) سريرًا للخلافة العباسية، وشرع في بناء مدينة دعاها مدينة السلام، ثم دعيت بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين. ثم خلع عن ولاية العهد ابن أخيه عيسى بن موسى، وكان السفاح قد أوصى له بها بعده، وبايع لابنه محمد المهدي بن المنصور مكانه على أن يكون عيسى المذكور خليفة بعده.

أما يزيد بن حاتم فتولى مصر في أيام المنصور نحوًا من ثماني سنين عمل فيها بأمانة، وفي إمارته ظهرت دعوة بني الحسن بن علي بمصر، وتكلم بها الناس، وبايع كثير منهم لعلي بن محمد بن عبد الله، وطرق المسجد في ١٠ شوال سنة ١٤٥ﻫ ثم قدمت الخطباء برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي في ذي الحجة فنصب في المسجد، وفي تلك السنة منع يزيد أهل مصر من الحج، ولم يحج منهم أحد، ولا من أهل الشام؛ لما كان في الحجاز من الاضطرابات بأمر بني حسن، وفي سنة ١٤٦ﻫ ورد كتاب أبي جعفر يأمر يزيد بن حاتم بالتحول من العسكر إلى الفسطاط، وأن يجعل الديوان في كنائس القصر من أجل ليلة المسجد.

fig028
شكل ٥-١: خريطة بغداد.

وفي هذه السنة كان الفراغ من بناء مدينة بغداد، فتحول إليها الخليفة أبو جعفر المنصور في صفر، فلما دخلها أمر أن تجتمع إليه العلماء والفلاسفة، وفي سنة ١٤٧ﻫ حج يزيد واستخلف عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج صاحب شرطته، وبعث جيشًا لغزو الحبشة من أجل خارجي ظهر هناك؛ فظفر به الجيش، وقدم رأسه في عدة رءوس؛ فحملت إلى بغداد.

وفي سنة ١٤٨ﻫ ضم يزيد برقة إلى عمل مصر، وهو أول من فعل ذلك، وفي سنة ١٥٠ﻫ خرج القبط في سخا؛ فبعث إليهم جيشًا فرجع منهزمًا، وفي سنة ١٥٢ﻫ توفي يزيد بن حاتم، وأقام المنصور عوضًا عنه عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، وهذا لم يحكم مصر إلا ٣ سنين، وفي سنة ١٥٥ﻫ أُبدل بأخيه محمد بن عبد الرحمن، وفي سنة ١٥٦ﻫ توفي محمد المذكور فولى مكانه موسى بن علي بن رباح.

ولداعي هذه التغييرات الكثيرة في إمارة مصر لم يرتح أهلها، فلم يكن لها فرصة للتقدم خطوة نحو الأمام؛ لاعتقاد كل حاكم أنه عن قليل معزول، فبدلًا من أن يسعى في زرعٍ ما ربما لا يستغله كان يسعى فيما فيه نفعه الشخصي، ولذلك كان كل واحد منهم يزيد في مقدار الضرائب المفروضة، أو يخترع ضرائب جديدة بحيث إنه لم يبق شيء معفي من الضرائب؛ حتى الفعلة، وبائعي البقول، وقادة الجمال، وكل الصناع، حتى المتسولين، كل هؤلاء كانوا يدفعون الضرائب، فعم البلاء، واشتد الجوع؛ فأكل الناس الكلاب، ولحم الآدميين!

وفي ٦ ذي الحجة سنة ١٥٨ﻫ توفي أبو جعفر المنصور، وهو في بير ميمون على بضعة أميال من مكة؛ حيث توجه لقضاء فروض الحج، وكان عمره ٦٣ سنة، ومدة حكمه ٢٢ سنة إلا ٧ أيام، وهذه صورة من النقود التي ضربت في أيام الخليفة المنصور سنة ١٤٦ﻫ (انظر شكل ٥-٢).
fig9
شكل ٥-٢: نقود المنصور.

(٣) خلافة محمد المهدي (من سنة ١٥٨–١٦٩ﻫ/٧٧٥–٧٨٥م)

فخلفه محمد المهدي ابنه، وهو الخليفة الثالث من بني العباس، وكان كأبيه متقلبًا مترددًا، وفي سنة ١٥٩ﻫ صرف موسى بن علي عن مصر، وولى محمد بن سليمان من أهالي سوريا، ثم عزله وأعاد موسى بن علي، وفي سنة ١٦٠ﻫ صرف هذا وولى عيسى بن لقمان الجمحي، وفي سنة ١٦٠ﻫ صرف عيسى وولى واضحًا مولى أبي جعفر، وبعد يسير أبدله بمنصور بن يزيد الرعيني، وهو ابن خال الخليفة المهدي، وفي سنة ١٦٣ﻫ أبدله بيحيى بن داود الملقب بأبي صالح من أهل خراسان، وكان أبوه تركيًّا، وهو من أشد الناس، وأعظمهم هيبة، وأقدمهم على الدم، وأكثرهم عقوبة؛ فمنع من إغلاق الدروب ليلًا، ومن إغلاق الحوانيت حتى جعلوا عليها شرائح القصب لمنع الكلاب، ومنع حراس الحمامات أن يجلسوا فيها، وقال: «من ضاع له شيء فعليَّ أداؤه» فكان الرجل يدخل الحمام فيضع ثيابه، ويقول: «يا أبا صالح، احرسها» فكانت الأمور جارية على هذا النمط مدة ولايته، وأمر الأشراف والفقهاء وأهل النوبات بلبس القلانس الطوال، والدخول بها عليه يوم الاثنين والخميس بلا أردية، وكان أبو جعفر المنصور إذا ذكره قال: هو رجل يخافني ولا يخاف الله.

وفي سنة ١٦٤ﻫ عزل أبو صالح وولى سالم بن سوادة التميمي، وفي ١٥ محرم سنة ١٦٥ عزله المهدي وولى إبراهيم بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، فابتنى دارًا عظيمة بالموقف من العسكر، وخرج دحية بن المعصب من نسل عبد العزيز بن مروان نابذًا، ودعا إلى نفسه بالخلافة؛ فتراخى عنه إبراهيم، ولم يحفل بأمره حتى ملك عامة الصعيد؛ فسخط المهدي على إبراهيم، وعزله عزلًا قبيحًا في ٧ ذي الحجة سنة ١٦٧ﻫ وولى موسى بن مصعب بن الربيع من أهل الموصل.

ولما جاء هذا مصر أخذ من إبراهيم وممن كان معه ثلثمائة ألف دينار، ثم سيره إلى بغداد، وشدد موسى في استخراج الخراج، وزاد على كل فدان ضعف ما يقبل، وجعل يقبل الرشوة، وضرب خراجًا على الحوانيت وعلى الدواب؛ فتضايق الأهالي، وكره الجند ذلك ونابذوه، وثارت قيس واليمانية، وكاتبوا أهل الفسطاط فاتفقوا عليه؛ فبعث بجيش لقتال دحية بالصعيد، وخرج في جند مصر كلهم لقتال أهل الحوف، فلما التقوا انهزم عنه أهل مصر بأجمعهم، وأسلموه؛ فقتل في ٩ شوال سنة ١٦٨ﻫ من غير أن يتكلم أحد منهم، وكانت ولايته عشرة أشهر وكان ظالمًا غاشمًا.

فولى المهدي مكانه أسامة بن عمر وقتيًّا إلى أن أنفذ إليها الفضل بن صالح أخا إبراهيم — المتقدم ذكره — أميرًا فأخذ يسعى في إخماد ثورة أهل الحوف، وخاف خروج دحية؛ لأن الناس كانوا قد كاتبوه ودعوه، فسير الفضل عساكره إليه، وكان قد أتى بها من الشام فانهزمت رجال دحية، وقبض عليه، وسيق إلى الفسطاط؛ فضربت عنقه في جمادى الآخرة سنة ١٦٩ﻫ وكان يقول للفضل: أنا أولى الناس بولاية مصر؛ لأني قمت في أمر دحية، وقد عجز عنه غيري، ويقال: إنه ندم على قتل دحية، وفي تلك السنة بنى الفضل الجامع بالعسكر، وكان الناس يجتمعون فيه.

وبقيت مصر في راحة وهدوء تامَّينِ بعد إخماد ثورة أهل الحوف، وكذلك كانت سائر الإمارات الإسلامية؛ فسكن بال الخليفة المهدي من قبيل داخلية المملكة، فعكف على توسيع نطاقها؛ فغزا ملك اليونان بجند تحت قيادة ابنه الثاني هارون الرشيد، فتغلب هارون على بلدان عديدة ضمها إلى مملكة أبيه، ووضع على القسطنطينية جزية مقدارها سبعون ألف دينار، فأظهر هارون شجاعةً وإقدامًا وقعا في عيني أبيه موقعًا عظيمًا؛ فكافأه بأن جعل له حق الخلافة بعد أخيه موسى الهادي، وفي ٢٣ محرم سنة ١٦٩ﻫ توفي الخليفة المهدي، وله من العمر ٤٢ سنة، ومدة حكمه عشر سنين وشهران ونصف، وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد الخليفة المهدي سنة ١٦٣ﻫ (انظر شكل ٥-٣).
fig10
شكل ٥-٣: نقود الخليفة المهدي.

(٤) خلافة موسى الهادي (من سنة ١٦٩–١٧٠ﻫ/٧٨٥–٧٨٦م)

فبويع موسى الهادي، وهو الخليفة الرابع من بني العباس، وحَالَمَا استلم زمام الأحكام عزل الفضل بن صالح عن مصر وولى علي بن سليمان، وحاول إلغاء وصية أبيه القاضية بخلافة هارون من بعده على نية أن يجعل الخلافة لابنه، لكنه لم يأت على إدراك مناه حتى أدركه الموت في يوم الجمعة الواقع في ١٤ ربيع الأول سنة ١٧٠ﻫ وعمره ٢٤ سنة، ولم يحكم إلا سنة وشهرًا و٢٢ يومًا.

(٥) خلافة هارون الرشيد (من سنة ١٧٠–١٩٣ﻫ/٧٨٦–٨٠٩م)

فبويع ابنه هارون الرشيد يوم وفاة أخيه، وهو الخليفة الخامس من بني العباس، وفي أيامه بلغت دولة العرب من العمران والمجد ما فاح أرجُه في أقاصي الأرض المعمورة، ولم تعد ترى عصرًا مثل ذلك العصر، وكأن شمس الدولة العربية في أيامه بلغت خط الهاجرة، ثم أخذت تنحدر بعده رويدًا رويدًا نحو الأفق، وفي يوم مبايعته ولد له غلام دعاه عبد الله، وهو بِكر أولاده، وولي عهده، ولقب بعدئذ بالمأمون.

وأقر هارون الرشيد عليًّا على مصر، فأظهر هذا في ولايته حزمًا وسياسة، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ومنع الملاهي والخمور، لكنه عكف على هدم الكنائس المحدثة في مصر، فبذل له النصارى خمسين ألف دينار على أن يتخلى عن هدمها فأبى، وكان كثير الصدقة فعلق به الأهلون حتى قالوا: إنه أهل للخلافة فطمع فيها؛ فسخط عليه هارون الرشيد وعزله، وولى مكانه موسى بن عيسى العلوي في ٦ ربيع أول سنة ١٧١ﻫ وحالما استلم زمام الإمارة أذن للمسيحيين بابتناء الكنائس التي هدمت بأمر علي بن سليمان، فابتنيت بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة.

وفي ١٤ رمضان سنة ١٧٢ﻫ عُزل بعد أن تولى الإمارة سنة وخمسة أشهر، وتولى مكانه مسلمة بن يحيى، وفصل بين إدارة الحكومة والمالية أو الخراج، وجعل على الخراج عمر بن غيلان، وفي ٥ شعبان سنة ١٧٣ﻫ عزل مسلمة بن يحيى عن الصلاة وتولى محمد بن زهير، وفي غاية ذي الحجة سنة ١٧٣ﻫ عزل وتولى مكانه داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة، وفي ٧ صفر سنة ١٧٥ﻫ عزل داود بن يزيد وولى مكانه موسى بن عيسى ثانية، وفي هذه السنة أوصى هارون الرشيد بالخلافة لابنه الثاني محمد الملقب بالأمين وهو لم يبلغ الخامسة من عمره وأخوه المأمون في السادسة، وسبب ذلك: أن الأمين كان ابن زبيدة ابنة عم الخليفة، وأما المأمون فكان ابن جارية فارسية؛ فغضبت زبيدة لحرمان ابنها من الخلافة، وكان الرشيد يحبها فأوصى بالخلافة لابنها الأمين على أن يكون للمأمون حق الخلافة بعده.

وفي ٢٦ صفر سنة ١٧٦ﻫ عهدت إمارة مصر إلى إبراهيم بن صالح ثانية، وكان قد تولاها في خلافة أبي جعفر كما تقدم، وفي ١٨ رمضان سنة ١٧٦ﻫ تولى إمارة مصر عبد الله بن المسيب بن زهير الضبي أخو محمد بن زهير، ثم صُرف في رجب سنة ١٧٧، فخلفه إسحاق بن سليمان من بني العباس؛ فلما وصل مصر زاد في خراج المزارعين زيادة أجحفت بهم، فخرج عليه أهل الحوف فحاربهم؛ فقُتل كثير من أصحابه، فكتب إلى الرشيد بذلك؛ فعقد لهرثمة بن أعين في جيش عظيم، وبعث به فنزل الحوف فتلقاه أهله بالطاعة وأذعنوا فقبل منهم، واستخرج الخراج كله؛ فسر الخليفة مما أتاه هرثمة من النصر، فصرف إسحاق بن سليمان وولى مكانه هرثمة في ٢ شعبان سنة ١٧٨ﻫ وبعد قليل أرسل الرشيد هرثمة إلى إفريقية وولى على مصر عبد الملك بن صالح أخا إبراهيم بن صالح على الصلاة، وأرسل معه عبد الله بن زهير على الخراج.

وفي ١٢ محرم سنة ١٧٩ﻫ أبدل عبد الملك بن صالح بعبيد الله بن المهدي شقيق الخليفة، وبعد قليل تنحى هذا عن الإمارة لموسى بن عيسى وهي المرة الثالثة لإمارته، وفي سنة ١٨٠ﻫ عادت إمارة مصر إلى عبيد الله بن المهدي ثانية، وفي ٧ رمضان سنة ١٨١ﻫ سُلِّمت إمارة مصر إلى إسماعيل بن صالح، وكان خطيبًا بليغًا؛ فقال فيه ابن عفير: «ما رأيت على هذه الأعواد أخطب من إسماعيل بن صالح.»

وفي ١٤ جمادى الآخرة سنة ١٨٢ﻫ صرف الرشيد إسماعيل بن صالح وولى إسماعيل بن عيسى العباسي، ثم صرف هذا وولى الليث بن الفضل البيوردي من أهل بيورد، فقدم مصر في ٥ شوال سنة ١٨٢ﻫ وخرج منها في رمضان سنة ١٨٣ إلى الخليفة بالهدايا والمال، واستخلف أخاه الفضل بن علي في مصر، ثم عاد في آخر السنة، وخرج ثانية بالمال في ٢١ رمضان سنة ١٨٥ﻫ واستخلف هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، ثم عاد في ١٤ محرم سنة ١٨٦ﻫ فكان كلما أغلق خراج سنة وفرغ من حسابها خرج بالمال إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد مع الحساب.

ثم بعث بمُسّاح يمحسون الأراضي، ومن جملتها أراضي أهل الحوف، فانتقض لهم من القصبة أصابع؛ فتظلموا إلى الليث، فلم يسمع منهم، فتجهزوا وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم الليث في أربعة آلاف من جند مصر في شعبان سنة ١٨٦ﻫ فالتقى بهم في رمضان فانهزم عنه الجند في ١٢ منه، وبقي في نحو المائتين، فحمل بمن معه على أهل الحوف فهزمهم حتى بلغ بهم غيقة، وكان التقاؤهم على أرض جب عميرة، وبعث الليث إلى الفسطاط بثمانين رأسًا من رءوس القيسية، ولما عاد إلى الفسطاط عاد أهل الحوف إلى منازلهم، ومنعوا الخراج، فسار الليث إلى الخليفة هارون الرشيد في محرم سنة ١٨٧ﻫ وطلب إليه الجيوش؛ لأنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش يبعث به معه، وكان محفوظ بن سليم بباب الرشيد فرفع محفوظ إلى الرشيد يضمن له خراج مصر عن آخره بلا سوط ولا عصا فولاه الخراج، وصرف الليث بن الفضل عن صلاة مصر وخراجها.

وفي ٢٥ جمادى الآخرة سنة ١٨٧ﻫ عزل، وأقيم مقامه أحمد بن إسماعيل بن صالح، وفي ١٨ شعبان سنة ١٨٩ﻫ أبدل بعبد الله بن محمد العباسي الملقب بابن زنيبة، وفي هذه السنة أبدل عبد الله المذكور بحسين بن جميل التختاخ، وفي أيامه امتنع أهل الحوف من الخراج، فبعث إليه الخليفة هارون الرشيد يحيى بن معاذ في أمرهم. فنزل بلبيس في شوال سنة ١٩١ﻫ وصرف الحسين بن جميل عن إمارة مصر في شهر ربيع الآخر سنة ١٩٣ﻫ وولى مالك بن دلهم، وفرغ يحيى بن معاذ من أمر الحوف، وقدم الفسطاط في جمادى الثانية فورد عليه كتاب الرشيد يأمره بالخروج إليه، فكتب إلى أهل الحوف أن أقدموا حتى أوصي بكم مالك بن دلهم، وأدخل بينكم وبينه في أمر خراجكم. فدخل كل رئيس منهم من اليمانية والقيسية، وقد أعد لهم القيود، فأمر بالأبواب فأخذت، ثم دعا بالحديد فقيدهم، وتوجه بهم في منتصف رجب، وفي السنة التالية عهدت إلى الحسين قيادة الجيش والخراج فضلًا عن الإمارة، وفي ١٢ ربيع آخر سنة ١٩٢ﻫ أُبدل بمالك بن دلهم، وكان على الخراج الخصيب بن عبد الحميد، وإليه تنسب مدينة منية خصيب.

وأخيرًا في ٤ صفر سنة ١٩٣ﻫ عادت إمارة مصر إلى الحسن بن جميل إلى أن توفي الخليفة هارون الرشيد في ٣ جمادى الآخرة من تلك السنة في طوس، وسنه ٤٧ سنة، ومدة حكمه ٢٣ سنة وشهر و١٩ يومًا، ولا حاجة لتعداد خلال هذا الخليفة الذي رفع شأن الخلافة الإسلامية إلى حد من العظمة لم تدركه في سائر أطوارها؛ فقد كان حازمًا عادلًا تقيًّا باسلًا وديعًا محبًّا للعلم والفضل وأهلهما، ولدينا من الأحاديث عن كرم أخلاقه ما يتحدث به العامة والخاصة؛ فنكتفي بأنه جعل الخلافة عَلَمًا هو مسماها، فإذا قيل لنا: إن الأمر الفلاني حصل في أيام الخليفة، نفهم أنه حصل في خلافة هارون الرشيد.

ومما يحكى عنه أنه كان بينه وبين شرلمان ملك فرنسا في ذلك العهد صداقة وولاء، وأنه أهدى إليه أشياء كثيرة من أعمال الشرق منها الساعة الشهيرة المكتوب عليها بالحروف الكوفية، وهذه صورة النقود التي ضُربت في أيام الخليفة هارون الرشيد سنة ١٩١ﻫ (انظر شكل ٥-٤).
fig11
شكل ٥-٤: نقود هارون الرشيد.

(٦) خلافة محمد الأمين (من سنة ١٩٣–١٩٨ﻫ/٨٠٩–٨١٣م)

وفي يوم وفاة الرشيد خلفه ابنه محمد الأمين. أما المأمون فكان أبوه قبل وفاته قد وهبه جميع حلله وأسلحته الخصوصية وولاه خراسان بما فيها من العدة والرجال، وأن يكون عليها حاكمًا مستقلًّا عن أخيه الأمين. فالأمين عند استلامه زمام الخلافة أنكر على أخيه وصية أبيهما، ولم يسلمه شيئًا مما له ألحق به، ويقال: إن كل ذلك كان بدسيسة الفضل بن ربيع. فتنافر الأخوان، والأمين أشدهما ضغينة، فأرسل إلى الكعبة فأتى بالكتابين اللذين جعلهما الرشيد هناك ببيعة الأمين والمأمون؛ فأحرقهما الفضل، وجعل ولاية العهد لموسى بن الأمين، فلم يبق بعد ذلك باب للمصالحة بين الأخوين، وكان الأمين محبًّا للهو ومعاقرة الخمرة. أما المأمون فكان متيقظًا يتحين الفرص، فدعا إلى مبايعته بخراسان، فالتف حوله حزب كبير يدعون إلى نصرته؛ لما رأوا فيه من العدل وكرم الأخلاق، ثم جعل المأمون يجمع قواته، ويستنصر دعاته، واتحد معه هرثمة بن أعين الذي كان أميرًا على مصر قبل ذلك الحين، فعظم الأمر على الأمين فولى حاتم بن هرثمة على مصر سنة ١٩٤ﻫ استعطافًا لأبيه هرثمة، ولكن ذلك لم يجده نفعًا؛ لأن هرثمة لم يتحول عن ولاء المأمون.

وفي سنة ١٥٩ﻫ أنفذ الأمين جيشًا فيه أربعون ألف مقاتل إلى خراسان لمقاتلة أخيه، فلاقاهم طاهر بن الحسين قائد جند المأمون، وأرجعهم على أعقابهم، فعظم المأمون في عيون المسلمين عمومًا؛ فبايعه أهل خراسان، وتابعهم كثيرون. فلما رأى الأمين ذلك، ورأى أن تولية حاتم بن هرثمة على مصر لم تجده نفعًا عزله وولى جابر بن الأشعث في السنة عينها، وابتنى حاتم بن هرثمة في سفح جبل المقطم حيث القلعة الآن قبة عظيمة دعاها قبة الهواء بقيت إلى انقراض دولة بني طولون وخراب القطائع.

وبعد تولية جابر على مصر اشتد أزر الأمين، وطمع بالفوز على أخيه؛ فجند جندًا آخر مؤلفًا من ٤٠ ألفًا لمحاربته، وجندًا آخر أنفذه من جهة أخرى تحت قيادة عبد الله بن حميد بن قحطبة الذي كان أبوه أميرًا على مصر في عهد أبي العباس. أما طاهر بن الحسين فسار لملاقاتهم ولم يبال بتلك الجيوش، لكنه لم يلتق بهم فتقدم إلى الأهواز.

وكان على مصر جابر بن الأشعث — كما تقدم — فلما حدثت فتنة الأمين والمأمون قام السري بن الحكم غضبًا للمأمون، ودعا الناس إلى خلع الأمين فأجابوه، وبايعوا المأمون في ٢٢ جمادى الآخرة سنة ١٩٦ﻫ، وقام في بغداد الحسين بن علي أحد سراتها، ودعا الناس إلى خلع الأمين وتولية المأمون فأجابوه، وبايعوا في ١١ رجب من تلك السنة، ووثب العباس بن عيسى على الأمين ووالدته زبيدة، وأودعهما السجن موثقين. ثم تمكن الأمين ببعض الوسائط من تسلق كرسي الخلافة ثانية فبايعه من في بغداد فقط. أما خلافة المأمون فكانت على الحجاز واليمن والشام ومصر وغيرها، وعقد على مصر لحاتم بن هرثمة بن أعين، وأرسل إليها عباد بن محمد نائبًا عنه مؤقتًا.

وفي سنة ١٩٧ﻫ حمل طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين على بغداد، وحاصراها نحوًا من سنة، فضجر الأهالي، وملوا من طول هذه المحاصرة، وصاروا ينظرون لها نهاية فلم يروا لها حلًّا إلا بخلع الأمين فخلعوه للمرة الثانية ففر، وبعد قليل قبض عليه، وقتل، وجيء برأسه والخاتم والقضيب والبردة إلى المأمون، ولم يكن عمر الأمين عند موته إلا ٢٩ سنة و٣ أشهر وبضعة أيام، ومدة حكمه أربع سنين وثمانية أشهر وثمانية عشر يومًا، وكُفَّت بموته الحروب وحقنت الدماء.

(٧) خلافة عبد الله المأمون (من ١٩٨–٢١٨ﻫ/٨١٣–٨٣٣م)

فبويع المأمون مبايعة قطعية في ٢٥ محرم سنة ١٩٨ﻫ يوم قتل أخيه الأمين. فاستقدم عباد بن محمد الذي كان عينه نائبًا في مصر، وعهد إمارتها إلى المطلب بن عبد الله الخزاعي، وبعد أشهر قليلة أبدل بالعباس بن موسى بن عيسى الذي تولى على مصر ثلاث مرات في أيام هارون الرشيد فتولى صلاتها وخراجها، وفي سنة ١٩٩ﻫ تخلى العباس بن موسى عن إمارة مصر؛ فأرسل المأمون عوضًا عنه المطلب بن عبد الله سلفه، وبعد قليل أبدل بالسري بن الحكم، وأخذت من ذلك الحين تنتشر المملكة الإسلامية إلا أن الأيام تلد العجائب فتأتيك كل يوم بنبأ جديد.

فإن العلويين سلالة الإمام علي بن أبي طالب لم يكفوا عن المطالبة بحقوقهم في الخلافة؛ فدعوا الناس إلى مبايعة علي بن موسى. فلما علم المأمون بذلك، وكان لا يزال في خراسان استشار وزيره الفضل بن سهل في الأمر، فنصح له أن يوصي بالخلافة بعد وفاته لعلي المذكور؛ لأن الفضل كان شيعيًّا. إلا أن تلك السياسة لم تفد إلا زيادة الخرق اتساعًا، فتضاعف التمرد، ونمت الأحزاب، وقد شق ذلك خصوصًا على بني العباس؛ لأنهم رأوا الخلافة قد خرجت من أيديهم إلى العلويين، فثاروا في بغداد سنة ٢٠٢ﻫ ثورة شفت عن خلع المأمون، ومبايعة إبراهيم بن المهدي.

أما سطوته فلم تتجاوز سور بغداد؛ لأنه لم يكن أهلًا للأحكام، فخارت قواه دون ذلك، فعجز الذين أقاموه عن استبقائه أكثر من سنة وبضعة أشهر، فتنازل عن الخلافة سنة ٢٠٣ﻫ وفرَّ هاربًا، فعاد المأمون إلى بغداد في سنة ٢٠٤ﻫ فدخلها في حلة خضراء علوية، وبعد أسبوع عادت الجنود إلى الملابس السوداء العباسية.

وفي هذه السنة توفي الإمام محمد بن إدريس الملقب بالشافعي صاحب المذهب الشافعي، وكانت وفاته في الفسطاط، ولم يبلغ من العمر أكثر من ٥٤ سنة، وتوفي أيضًا السري بن الحكم أمير مصر، وأقيم مقامه محمد بن السري بمبايعة الجند له بقطع النظر عن أوامر الخليفة بهذا الشأن، وفي سنة ٢٠٧ﻫ توفي طاهر بن الحسين رئيس قواد المأمون في مرو عاصمة خراسان، وكان قد أقامه المأمون هناك حاكمًا، فقدم ابنه عبد الله بن طاهر إلى مصر، وأقام في بلبيس.

ونظرًا لما بين مصر ودار الخلافة من بعد المسافة أصبح الناس لا يعبأون بالأوامر التي كانت تأتيهم منها، وزد على ذلك أن الدولة أصبحت في ضعف شديد؛ لما كان يهددها من تمرد عمالها، واحتقار رعيتها لها — ولا سيما المصريين — فإنهم كانوا لا ينفكون عن خرق حرمتها، ومخالفة أوامرها حتى عقدوا لعبد الله بن السري عليهم بمبايعة الجند — كما تقدم — وما زالوا على ذلك نحوًا من خمس سنوات، وفي سنة ٢١١ﻫ تحصن عبد الله بن طاهر في بلبيس، فالتفت عليه عصبة من أهلها وبايعوه، فاستفحل أمره، فسار إلى الفسطاط في ربيع الأول من تلك السنة، وأنزل عبد الله بن السري، وجعل على الفسطاط عباد بن إبراهيم، وفي سنة ٢١٢ﻫ أبدل عباد بعيسى بن يزيد الجلودي.

وفي سنة ٢١٣ﻫ أنفذ المأمون إلى عبد الله بن طاهر أن يقف عند حده، وينسحب من مصر، وعقد على مصر وسوريا لأخيه المعتصم، وأعطاه خمسمائة ألف دينار، وأمر بمثل هذا المبلغ هبة لعبد الله بن طاهر للتعيش، ويقال: إنه أمر بمثل ذلك أيضًا لابنه العباس؛ فيكون جملة ما أُخرج من خزينته في يوم واحد مليونًا وخمسمائة ألف دينار، وهذا منتهى السخاء.

واستخلف المعتصم عمير بن الوليد التميمي على الصلاة في ١٧ صفر، فخرج ومعه عيسى الجلودي لقتال أهل الحوف، وكانت بينهم معارك عظيمة قُتل فيها عمير، فاستخلف مكانه عيسى الجلودي، فحارب أهل الحوف بمنية مطر، ثم انهزم في رجب، وأقبل المعتصم إلى مصر في أربعة آلاف من أتراكه، فقاتل أهل الحوف في شعبان، ودخل إلى مدينة الفسطاط في ٢٢ منه، وقتل أكابر الحوف، ثم خرج إلى الشام في أول محرم سنة ٢١٥ﻫ في أتراكه، ومعه جمع من الأسارى في حر وجهد شديد، وولى على مصر عبدويه بن جبلة على الصلات، فخرج أهل الحوف في شعبان، فبعث إليهم وحاربهم حتى ظفر بهم.

ثم قدم الأفشين حيدر بن كاوس إلى مصر في ٣ ذي الحجة، ومعه علي بن عبد العزيز الجروي؛ لأخذ ماله فلم يدفع إليه شيئًا فقتله وصرف عبدويه، وخرج إلى برقة وولى عيسى بن منصور الرافعي فوليَ من قِبل المعتصم أول سنة ٢١٦ﻫ على الصلاة، فانتقضت مصر السفلى عربها وقبطها في جمادى الأولى، وأخرجوا العمال لسوء سيرتهم، وخلعوا الطاعة، فقدم الأفشين من برقة في منتصف جمادى الآخرة، ثم خرج هو وعيسى في شوال؛ فأوقعا بالقوم، وأسرا منهم وقتلا. ثم رجع عيسى فسار الأفشين إلى الحوف، وقتل جماعتهم، وكانت حروب إلى أن قدم الخليفة عبد الله المأمون في ١٠ محرم سنة ٢١٧ﻫ فسخط على عيسى، وحل لواءه، وأخذه بلباس البياض عقوبة له، وقال له: «لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك؛ حملتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتم الخبر حتى تفاقم الأمر، واضطربت البلاد.» ثم ولى كيدر الصفدي بالنيابة عن المعتصم.

وسبب قدوم الخليفة إلى مصر: أنه كان عائدًا من محاربة الروم، فرأى أن يمر بمصر لمراقبة شئونها، وكان قلقًا عليها لما بلغه من تمرد أهلها، ونقض عمالها، فدخلها وجعل يمر بقراها يتفقد أحوالها، ويقال: إنه كان يبني له في كل قرية دكة يضرب عليها سرادقه، والعساكر حوله، وكان يقيم في القرية يومًا وليلة، وبلغ الفسطاط في يوم الجمعة ٩ محرم سنة ٢١٧ﻫ وما زال يتحرى أُصول الفساد ويقتلعها إلى أن برح مصر في آخر صفر من تلك السنة قاصدًا دمشق.

ولم يفتر المأمون في أثناء تجواله بمصر عن تنظيم أحوالها، وإصلاح داخليتها، وتأييد مجالسها وأحكامها، وأمر بترميم مقياس النيل الذي بناه أسامة في الروضة، وبناء جامع فيه، ومقياس آخر في بنبنودا (الصعيد) وترميم مقياس إخميم.

وبعد أن برح المأمون مصر بلغه أن الدواوين في مصر سارت على خطة لا يرضاها من حيث قبول الزيادات، وفسخ عقود الضمانات، وانتزاعها ممن كابد المشقة والتعب في إصلاحها وإسمادها وتسليمها لمن يدفع الزيادة من غير كلفة ولا نصب. فلما علم بذلك أنكره، ومنع ارتكابه، وأصدر أوامره الصارمة بإعفاء الكافة أجمعين، والضمناء والعاملين من قبلوا الزيادة فيما يتصرفون فيه، ويستولون عليه ما داموا مغلقين، وبأقساطهم قائمين، وتضمن ذلك منشور قرئ على الناس ينبههم فيه إلى ما جاء في الكتاب العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

وفي ١٩ رجب سنة ٢١٨ﻫ توفي الخليفة المأمون على إثر حمى حادة على نهر البذندون في سيلسيا، ودفن في طرسوس، وعمره ٤٨ سنة وبضعة أشهر، ومدة خلافته عشرون سنة وخمسة أشهر و١٣ يومًا.

أما آثار المأمون: فأجل آثار الخلفاء؛ لأنها تدل على ما بلغه العلم، وما بلغت إليه الصناعة من السعة والإتقان، وقد كان لشدة تعلقه بالعلم والصناعة يتعاطاهما بنفسه، ويأخذ بناصرهما، وكان يبذل النفس والنفيس في سبيل تقدمهما، ولولاه لفات العرب كثير من المؤلفات التي كتبت بالفارسية أو السريانية أو اليونانية أو الهندية أو اللاتينية؛ فهو الذي سعى في نقل أكثرها إلى اللغة العربية، ونشَّط رعيته لمطالعتها، والاستفادة منها، ولا يقتصر فضله من هذا القبيل على أبناء اللغة العربية؛ فإن أهالي أوروبا عمومًا مدينون له؛ لأنه حفظ لهم كتابات كثيرة يونانية ولاتينية؛ لولا نقلها إلى العربية وحفظها فيها لأزالتها يد الزمان كما أزالت غيرها مما نسمع به ولا نراه، وكان كلفًا بمجالسة العلماء والحكماء لا يخلو مجلسه منهم، ولم يكن يقتصر على العلماء من شعبه وملته، لكنه استدعى إليه جماعة من علماء النصارى واليهود واليونان والفرس حتى المجوس والهنود، وقربهم منه، ولم يفرق بين أحد منهم بالإكرام والسخاء، وكان إذا صرفهم إنما يصرفهم متأسفًا على مفارقتهم، وهم أشد أسفًا منه على ذلك؛ لأنهم كانوا يرتاحون إلى مجالسته لما كانوا يتمتعون به من لطفه ودعته.

وقد نبغ في أيامه علماء كثيرون من المسلمين وغيرهم بعلوم كثيرة كالفلك والهندسة والفلسفة العقلية وغيرها. منهم أحمد بن كثير الملقب بالفرغاني، وعبد الله بن سهل، ومحمد بن موسى، وما شاء الله اليهودي، ويحيى بن أبي المنصور، وقد أقام بواسطتهم الأرصاد الكثيرة، وكان عالمًا بالفلك، فكان يعاونهم بالرصد أحيانًا في مرصد الشماسية قرب بغداد، وأحيانًا في المرصد على جبل قيسون قرب دمشق.

ومن الأطباء الذين كانوا يجالسونه: سهل بن سابور، وجبرائيل الذي بحث في الرمد على الخصوص، ويوحنا بن البطريق الملقب بالترجمان؛ لأنه ترجم الكتب الطبية من اليونانية إلى العربية.١

ففي خلافة المأمون وأبيه بلغت دولة العباسيين مجدًّا عظيمًا، واتسع نطاق مملكتهم؛ فبلغت حدود الصين شرقًا فاستولوا على الهند، ومنها شمالًا إلى السواحل المتجمدة من البحر الشمالي إلى أقصى عشائر الأتراك، وساروا في بلاد اليونان إلى البوسفور، ومن الجنوب إلى جبال الحبش العليا الوعرة المسلك إلى القبائل البربرية في داخلية إفريقيا، ومن الغرب إلى الجزائر فطرابلس الغرب، ومنها شمالًا في أوروبا إلى ما وراء الأندلس في أرض فرنسا. فكانت حدود تلك المملكة تلاطمها أمواج الأوقيانوس الأتلانتيكي غربًا، والأوقيانوس الهندي والعربي جنوبًا، ويكاد يمسها الأوقيانوس المتجمد شمالًا.

إلا أنها قبل وفاة المأمون أخذت بالانقسام على نفسها؛ فانحطت شوكتها، وابتدأ ذلك في غربيها، فانفصلت عنها الأندلس، واستقلت بنفسها من زمن المنصور، وتولتها دولة أموية جديدة.

وتمرد طاهر بن الحسين في خراسان (قبل وفاته) فشق عصا الطاعة، واستقل بالحكم بنفسه، وجعله إرثًا لنسله من بعده بالاستقلال التام عن بغداد، وتعرف دولتهم هذه بالدولة الطاهرية، ومثل ذلك فعلت أكثر الإمارات اقتداء بمن سار أمامها، فطلبت كل منها استقلالها.

أما مصر: فقد كانت مقطعة للمعتصم، وظلت تابعة لخلافة بغداد، وهي لم تبق إلا لطمع المعتصم بالخلافة بعد المأمون.

(٨) خلافة محمد المعتصم (من ٢١٨–٢٢٧ﻫ/٧٣٣–٨٤٢م)

فلما توفي الخليفة المأمون خلفه أخوه محمد المعتصم بن هارون الرشيد الثالث في ١٨ رجب سنة ٢١٨ﻫ وهو أول من اتخذ لفظ الجلالة في لقبه؛ فلقب نفسه بالمعتصم بالله.

وكان قد أقر إمارة مصر لكيدر الذي كان نائبًا عنه فيها، ثم كتب إليه يأمره بإسقاط من في ديوان مصر من العرب، وقطع العطاء عنهم. ففي شهر ربيع آخر سنة ٢١٩ﻫ توفي كيدر، وتولى مكانه المظفر بن كيدر، وفي سنة ٢٢٠ﻫ توفي المظفر وتولى مكانه موسى بن أبي العباس الملقب بالشيباني ويلقبه آخرون بالشامي، وفي سنة ٢٢٤ﻫ استدعى موسى من مصر؛ فاستخلف مالكًا الذي يلقبه بعضهم بالهندي، والبعض الآخر بالكندي، وهو ابن كيدر المتقدم الذكر، وفي سنة ٢٣٥ﻫ عزل مالك وعهدت ولاية مصر بأمر الخليفة إلى أبي جعفر أشناس، وهو آخر من ولي مصر بأمر المعتصم.

وفي سنة ٢٢٧ﻫ أصيب الخليفة المعتصم بحمى في سامرَّا، وفي ١٨ ربيع أول من تلك السنة توفي، ومن الغريب ما لهذا الخليفة من الحظ في الرقم ٨ فإن بينه وبين أبي العباس أول الخلفاء العباسيين ثمانية أعقاب، وولد في شعبان وهو الشهر الثامن من السنة القمرية، وهو الخليفة الثامن من بني العباس، وتولى الخلافة سنة ٢١٨ وسنه ٣٨ سنة وثمانية أشهر، ومدة حكمه ٨ سنين و٨ أشهر و٨ أيام، وتوفي في ١٨ ربيع في السنة الثامنة والأربعين من عمره، وترك ثمانية أولاد ذكور وثماني إناث، وحضر ثماني مواقع حربية، وأخيرًا وجد في خزينته عند موته ثمانية ملايين من الدنانير وثمانون ألف درهم، وقد قيل: إنه بناء على هذا الاتفاق الغريب دعي «بالمثمن».

وقد كان هذا الخليفة نقطة ابتداء تقهقُرِ دولة العرب، ولعله كان السبب في ذلك التقهقر؛ لأنه كان ضعيف السياسة، بعيدًا من الفضائل والآداب، أميًّا لا يعرف الكتابة، لكنه كان قوي البدن يحمل ما وزنه ألف رطل (ليبرا) ويمشي به خطوات، وكان مع ذلك شجاعًا ومحبًّا على نوع خصوصي للحرب، ولاقتناء الأسلحة والخيل الجياد والعساكر المنظمة، وهو أول من جنَّد الأتراك، واستعان بهم في الحرب.

وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد الخليفة المعتصم سنة ٢١٩ للهجرة، أو ٨٣٤ للميلاد (انظر شكل ٥-٥).
fig12
شكل ٥-٥: نقود المعتصم بالله.

(٩) مبدأ الدولة الطولونية

إن الأمة العظيمة التي يدعوها بعض المؤرخين تركية، وبعضهم تترية، وفيها شعوب التركمان والمغول والتتر تشغل بقعة من الأرض في آسيا الشمالية تمتد من نهر جيحون إلى حدود الصين، ويحدها شمالًا الأوقيانوس المتجمد، ونظرًا لما بينهما وبين شبه جزيرة العرب من الأبعاد والجبال والأودية والأنهار؛ مما لا يسهل تخطيه، كانت في مأمن من غزوات العرب وفتوحهم، وفي غنى عن معاهداتهم أو غير ذلك مما يستدعي ارتباطهما الواحدة بالأخرى. إلا أن الشعوب التركية أخذت من عهد الخلفاء الراشدين في غزو بلاد التتر مما يلي بلادها، والعرب أيضًا كانوا يفعلون مثل ذلك مما يلي ولاياتهم، وما زالوا يفتحون فيها حتى بلغوا حدود تركستان وما وراءها، فأفضى الأمر إلى تزاحم هاتين الأمتين، فتنازعتا؛ فقامت الحرب بينهما سجالًا مدة طويلة في أماكن مختلفة، وكان الاستئسار بينهما متبادلًا، فكان العرب يرسلون بأسراهم من الترك إلى بلاط الخلافة بمثابة الجزية؛ لاستعمالهم في منازل الخلفاء، وكبار الأمراء، ويدعونهم بالمماليك.

والمماليك الذين كانوا في دور الخلفاء كانوا يمتازون غالبًا بالقوة البدنية والعقلية، وكانوا يتقربون من أسيادهم شيئًا فشيئًا حتى استخدموهم في بلاطهم.

وقد كان المماليك في بادئ أمرهم في ظلمات من الجهل والهمجية، وعَلَى أبعاد من الفضيلة وشعائر الدين، لا يعرفون القراءة، لكن بمخالطتهم للأمراء ورجال الدولة أصبحوا على جانب من التهذيب والاستنارة؛ لاعتناقهم الديانة الإسلامية، ثم تدربوا شيئًا فشيئًا في شئون الدولة فبرعوا في السياسة، وتدبير الأحكام، وإدارة الأعمال؛ فعظموا في عين الخلفاء، فلما كثر تمرد ولاة الأمصار صار الخلفاء يعهدون إليهم ولاية الأمصار، فكثر أنصارهم، فأقاموا لهم أحزابًا من أبناء البلاد ينجدونهم عند الحاجة، ولم يكن ذلك كل ما فعله الخلفاء، لكنهم كانوا يبذلون المبالغ الوافرة في ابتياعهم؛ ينتقون منهم الممتازين جمالًا، وقوة، وذكاء؛ ليدخلوهم في خدمتهم الخاصة، ومن ذلك ما فعله الخليفة المعتصم؛ إذ رغب في تعزيز حاشيته فابتاع من أولئك المماليك ألوفًا فوق ما كان عنده منهم، وأمر بتدريبهم على استعمال السلاح، وإلحاقهم بالجيش؛ ليختار منهم — متى شاء — من يصلح لبطانته، فكبرت نفوسهم، وجعلوا يعيثون فيمن حولهم؛ فكثرت التشكيات في حقهم، وكثر الهرْج في بغداد حتى اضطر المعتصم إلى بناء مدينة سامرَّا لإقامته معهم.

وكان للمعتصم بالله بطانة من المماليك عليهم رئيس يقال له: «طولون» من قبيلة الطغرغر إحدى الأربع والعشرين قبيلة التي تتألف منها تركستان، وكانت عائلته مقيمة في جوار بحيرة لوب في بخارى الصغرى فأُسر في إحدى المواقع الحربية، وجيء به إلى ابن أسد الصمامي، وكان من عمال المأمون؛ يدفع له جزية سنوية من المماليك، والخيول التركية، وأشياء أخرى، ففي سنة ٢٠٠ﻫ كان طولون في جملة من أرسلهم ابن أسد من المماليك، وكان متناسب الأعضاء، قوي البنية؛ فأعجب المأمون به، فألحقه بحاشيته، وما زال يراقبه حتى جعله رئيس حرسه، ولقبه بأمير الستر، وهذا المنصب لم يكن يناله إلا من كان للخليفة ثقة خصوصية بأمانته وإخلاصه؛ ليكون محافظًا على حياته الشخصية، وبعد أن صرف طولون نحوًا من ٢٠ سنة في هذا المنصب في أيام المأمون، والمعتصم أصبح ذا عائلة وأولاد منهم أحمد الذي لقب بعد ذلك بأبي العباس، وهو مؤسس الدولة الطولونية، ولد في بغداد، وقال آخرون: في سامرا سنة ٢٢٠ﻫ من والدة تركية تدعى قاسمة، ويدعوها بعضهم هاشمة كانت في عداد السراري، وقال آخرون: إنه ابن المهلبي خادم طولون، وأن طولون رباه صغيرًا، والله أعلم.

(١٠) خلافة الواثق بن المعتصم (من سنة ٢٢٧–٢٣٢ﻫ/٨٤٢–٨٤٧م)

وقبل أن يترعرع أحمد بن طولون توفي المعتصم بالله، وبويع ابنه هارون أبو جعفر؛ فلقبوه بالواثق بالله، وفي السنة الأولى من خلافته عزل القسم الأعظم من ولاة الأمصار وأصحاب المناصب الذين كان قد ولاهم أبوه، وكان في نيته إقالة أشناس من إمارة مصر، لكنه لم يكد يفعل حتى توفي أشناس في الفسطاط سنة ٢٢٨ﻫ فأقام مقامه علي بن يحيى الأرمني، وبعد نحو سنة أُبدل بعيسى بن منصور للمرة الثانية، وفي سنة ٢٣١ﻫ توفي الخليفة الواثق بالله في ٢٤ ذي الحجة وسنه ٣٤ سنة، ومدة حكمه ٥ سنوات و٩ أشهر و١٣ يومًا.

(١١) خلافة المتوكل بن المعتصم (من ٢٣٢–٢٤٧ﻫ/٨٤٧–٨٦١م)

وعند وفاة الخليفة تواطأ وزيراه أحمد بن أبي داود ومحمد بن عبد الملك الملقب بالزيات مع واصف التركي رئيس الحجاب على أن يبايعوا محمد بن الواثق ويلقبوه بالمهتدي بالله، إلا أنهم رأوا سنه لا يجيز له تعاطي الأحكام؛ فعدلوا عنه إلى جعفر بن المعتصم، فبايعوه ولقبوه بالمتوكل على الله، وقد كان الواثق والمتوكل أخوين من أب واحد ووالدتين؛ والدة الأول جارية يونانية تدعى قراطيس، ووالدة الثاني جارية تركية تدعى سرجه.

وفي سنة ٢٣٢ﻫ عقد المتوكل على مصر لهرثمة بن نصر الجبلي، وفي السنة التالية أبدله بابنه المنتصر بن المتوكل وسنه ٢٣٤ﻫ تولاها حاتم بن هرثمة، وفي أيامه ثارت البجة في النوبة بعد أن كانوا عاهدوا المأمون على الصلح؛ فأنفذ المتوكل لحربهم محمد بن عبد الله، فخرج إليهم من مصر في عدة قليلة، ورجال منتخبة على المراكب في النيل؛ فاجتمع البجة في عدد عظيم قد ركبوا الإبل، فهاب المسلمون ذلك، فبعث إليهم محمد بن عبد الله كتابًا لفه بثوب، فاجتمعوا لقراءته، فحمل عليهم وفي أعناق الخيل الأجراس؛ فانزعرت جمال البجة، ولم تثبت أمام صلصلة الأجراس، فركب المسلمون أقفيتهم، وأثخنوا فيهم، وقتلوا كبيرهم؛ فقام من بعده ابن أخيه، وبعث يطلب الهدنة؛ فصالحوه على أن يطأ بساط أمير المؤمنين، فسار إلى بغداد، وقدم على المتوكل، وصولح على أداء الأدوات والبقط، واشترط عليه أن لا يمنع المسلمين من العمل بالمعدن.

وفي تلك السنة أبدل حاتم بن هرثمة بعلي بن يحيى الأرمني (ثانية) وفي سنة ٢٣٥ أُبدل هذا بإسحاق بن يحيى الجبلي، وفي هذه السنة أوصى المتوكل بالخلافة بعده لابنه المنتصر، وبعده لابنه الثاني المعتز بالله، وبعد هذا لابنه الثالث المؤيد بالله، وجعل مملكته حصصًا؛ فولى المنتصر: إفريقية، وكل المغرب من العريش إلى آخر حدود المغرب بما فيه مصر، وأضاف إلى ذلك قنسرين، وسوريا، وبين النهرين، وديار بكر، والموصل، وكل البقاع التي يرويها دجلة، ومكة، والمدينة، وحضرموت، والبحرين، والسند، وسامرا، والكوفة وكل توابعها، وولى المعتز: خراسان، وطبرستان، وفارس، وأرمينيا، وأذربايجان، وولى المؤيد: دمشق، وحمص، والأردن، وفلسطين. أما المنتصر فلم يقنع بما قسم له، وطمع بتوليته الخلافة قبل وفاة أبيه؛ فأخذ يسعى في خلعه.

وفي سنة ٢٣٦ﻫ أقيم على مصر خوط عبد الواحد بن يحيى، وفي سنة ٢٣٨ﻫ أبدل بعنبسة بن إسحاق، وفي سنة ٢٣٩ﻫ أمر المتوكل ببناء حصن في مدينة الفرما وحصون أخرى في دمياط وتنيس، وتولى بناءها عنبسة، وأنفق عليها أموالًا طائلة؛ وقاية من غزوات الروم، لكنهم لم يكادوا يتحصنون حتى هجم الروم على دمياط وملكوها ومن فيها، وقتلوا جمعًا كثيرًا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال وأهل الذمة، فلما علم بذلك عنبسة ركب إليهم يوم النحر في جيشه، ونفر كثير من الناس؛ فأخبروه أن الروم قد ساروا إلى تنيس، وتحصنوا في أشموم، فلم يتبعهم عنبسة؛ فكتب يحيى بن الفضل إلى الخليفة المتوكل على الله رسالة فيها هذه الأبيات:

أترضى بأن يوطأ حريمك عنوة
وأن يستباح المسلمون ويحربوا
حمار أتى دمياط والروم وثبٌ
بتانيس رأي العين منه وأقرب
مقيمون بالأشموم يبغون مثلما
أصابوه من دمياط والحرب ترتب
فما رام من دمياط شبرًا ولا درى
من العجز ما يأتي وما يتجنب
فلا تنسنا أنا بدار مضيعة
بمصر وأن الدين قد كاد يذهب

وفي ٢٠ رجب سنة ٢٤٢ﻫ سار المنتصر إلى أبيه في سامرا، وأخذ يسعى بالدسائس والتواطؤ مع المفسدين على أبيه، واستخلف على مصر يزيد بن عبد الله، وفي سنة ٢٤٥ﻫ خرج يزيد بن عبد الله إلى دمياط مرابطًا، ثم رحل فبلغه نزول الروم في الفرما فرجع إليهم فلم يلقهم، وفي سنة ٢٤٧ﻫ بنى مقياس النيل في جزيرة الروضة، وكان قد سقط بزلزلة فأعاد بناءه، فعرف من ذلك الحين بالمقياس الجديد أو الكبير، وهو المقياس الباقي هناك إلى هذه الغاية، وجرت على العلويين في أيام يزيد شدة. هذا ما كان من أمر يزيد.

أما المتوكل: ففي سنة ٢٤٣ﻫ انتقل إلى دمشق على نية أن يتخذها مستقرًّا إلى حين؛ فتبعه المنتصر، وما زال ساعيًا بالمفاسد توصلًا إلى بغيته حتى سنة ٢٤٤ﻫ إذ قارب الفوز بغرضه الوخيم، فثارت عصبة من الأتراك المجندين في دمشق على الخليفة بدعوى تأخر دفع مرتباتهم، وكان ذلك بدسيسة المنتصر؛ فتلافى الخليفة الشر بدفع المتأخر لهم، وبرح دمشق عائدًا إلى سامرا، وفي سنة ٢٤٧ﻫ علم الخليفة بمقاصد ابنه فأمر به إليه فوبخه على مسمع من الناس، وفي يوم الأربعاء الرابع من شوال من السنة المذكورة ذُبِح المتوكل على فراشه في منتصف الليل بيد أحد ضباط الحرس التركي المدعو بغا الصغير بدسيسة المنتصر، وكان سن المتوكل عند موته ٤١ سنة، ومدة حكمه ١٤ سنة و١٠ أشهر و٣ أيام.

وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد المتوكل على الله سنة ٢٤٥ﻫ (انظر شكل ٥-٦).
fig13
شكل ٥-٦: نقود المتوكل على الله.

(١٢) خلافة المنتصر بن المتوكل (من سنة ٢٤٧–٢٤٨ﻫ/٨٦١–٨٦٢م)

فاستوى المنتصر على منصة الخلافة قبل أن تفارق أباه رجفة الموت، فلما استتب له الملك حدثته نفسه أن يحرم أخويه مما أوصى به أبوه لهما على ما مرَّ بك. فحملهما سنة ٢٤٨ﻫ على أن يوقعا على صك بحرمانهما من الخلافة، ومما أوصى لهما به أبوهما من المدن، وساعد المنتصر على ذلك وصيف التركي وشركاؤه بقتل المتوكل مخافة أن يلقوا جزاء ما فعلته أيديهم إذا وصلت الخلافة إلى أحد الأخوين. على أن حياة المنتصر لم تكن لقصرها تستحق كل هذه الاحتياطات؛ لأنه أصيب بعد توليته بأيام بداء أعيا الأطباء، وما زال حتى ذهب بحياته، وهو يتقلب على مثل جمر الغضا من الألم.

(١٣) خلافة المستعين بن محمد (من سنة ٢٤٨–٢٥٢ﻫ/٨٦٢–٨٦٦م)

وبعد وفاة المنتصر تشاور وصيف التركي، وبغا الصغير، وبغا الكبير، والوزراء، والأعيان؛ فيمن يجب أن يكون الخليفة عليهم، فأجمعوا على حرمان أبناء المتوكل، ووقع اختيارهم على أحمد بن محمد بن المعتصم، وقالوا: لا تخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم، فبايعوه يوم وفاة المنتصر، ولقبوه بالمستعين بالله، ولم يكد يتم ذلك حتى قامت عصبة يريدون استخلاف المعتز بالله إلا أنهم كانوا نفرًا يسيرًا؛ فتفرقوا، ولم تكن النتيجة إلا القبض على ولدي المتوكل وسجنهما.

(١٣-١) أحمد بن طولون

ومن ذلك الحين أخذ نجم أحمد بن طولون بالظهور في أفق الأعمال السياسية، فتوفي والده سنة ٢٣٩ﻫ وهو لم يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وكان ذلك في أيام الخليفة المتوكل في الثماني السنوات الأولى، فرأى في أحمد اللياقة؛ ليخلف أباه على إمارة الستر، وكان أحمد قد تعلم وتربى تربية حسنة، وكان تقيًّا رضي الخلق كريم النفس لين العريكة مع إقدام وبسالة وعلم بالسياسة، وكان مغرمًا بمطالعة الحديث؛ فاكتسب شهرة بالتقوى والعدالة، فأحبه جميع الضباط الأتراك الذين كانوا في بلاط الخليفة، وفيهم أحد كبرائهم برقوق فأزوج أحمد ابنته فجاءه منها غلام دعاه عباسًا.

ومن الغريب أن أحمد بن طولون شبَّ بين الدسائس والمفاسد، ولم يصبُ إليها، ولم تحدثه نفسه يومًا باتباعها بل كان يمجها وينفر منها. أما آدابه ومعارفه: فكانت تتسع يوميًّا بالاختبار والمراقبة، فقد كان على كثرة شواغله لا يترك فرصة تفوته في توسيع دائرة علمه، فكان يسير من وقت إلى آخر إلى ترسوس في آسيا الصغرى؛ للتعلم في مدارسها، وكان لشدة كلفه بالعلم كلفًا بالعلماء. فالتمس من عبيد الله بن يحيى رئيس وزراء الخليفة إذنًا بالتوجه إلى ترسوس لملازمة دروسه، فأذن له مع استبقاء مركزه ولقبه ومرتباته كالعادة فسار إليها، ثم دعته والدته أن يأتي إليها، فجاء سامرا في خلافة المستعين بالله غير عالم بشيء مما حصل في غيابه من قتل المتوكل وتولية المنتصر.

وبينما كان عائدًا من ترسوس هذه المرة وسنه ١٩ سنة هجم بعض أهل البادية على الركب الذي كان هو برفقته يريدون سلبه، وفيه ما يساوي مبالغ وافرة كلها محمولة إلى الخليفة المستعين بالله، فخافت حامية الركب، وكاد اللصوص يظفرون فدفعهم أحمد بعزم شديد، وأعادهم على أعقابهم القهقرى. فلما بلغ الركب سامرا أخبروا الخليفة بما كان من بسالة ابن طولون فنفحه بجائزة ألف دينار، وأنزله منزلة الأمراء، ووهبه إحدى جواريه واسمها مية، وهي التي ولدت له ابنه الثاني «خمارويه» سنة ٢٥٠ﻫ وهي أول سني ظهور نجمه.

وفي أثناء ذلك ثارت عصبة كبيرة تريد خلع المستعين، وذلك أن المماليك الأتراك الذين كانوا يخدمون في بلاط الخلفاء وجندهم — على ما تقدم — كانوا يزدادون عددًا وقوة منذ أيام المعتصم؛ لتقلبهم في المناصب العالية فأمسوا وفي أيديهم أزمة الدولة يديرونها كيف شاءوا، وقد كان قبل وفاة المتوكل يقتنعون بعزل وتولية الأمراء والوزراء، وقتل من شاءوا ممن ليس على غرضهم، لكنهم بعد ذلك لم يعد يرضيهم إلا التداخل في عزل الخلفاء وتوليتهم. فكانوا إذا لم يعجبهم خليفة سعوا في استبداله فيستنجدون أحزابهم وينفذون مآربهم، وقد كانت تولية المستعين بالله بمساعي بعض كبراء الحرس الخاص؛ فاستاء البعض الآخر، وجعلوا يسعون في خلعه، فخلعوه سنة ٢٥٢ﻫ بعد أن تولى أمرها ثلاث سنوات و٨ أشهر.

(١٤) خلافة المعتز بن المتوكل (من سنة ٢٥٢–٢٥٥ﻫ/٨٦٦–٨٦٩م)

وبعد خلع المستعين بايعوا ابن عمهِ المعتز بالله، وهو ابن المتوكل على الله، وأخو المنتصر، وكان محرومًا من حقوق الخلافة منذ قتل أبيه، وعمره إذ ذاك ١٨ سنة وبضعة أشهر، وكان بعد أن فرَّ من سجن سامرا مع أخيه المؤيد بالله قد أعادهما ابن عمهما المستعين إلى القيود. فالأحزاب التي قويت بعد ذلك، وخلعت المستعين، لم يكن لها دخل في قتل المتوكل، فحلوا قيود المعتز، وبايعوه يوم الجمعة في ١٤ محرم سنة ٢٥٢ﻫ وجاءوا إلى المستعين، وأجبروه على أن يتنازل ففعل فنقلوه إلى قلعة، وجعلوا عليه حراسًا، ثم أرسلوه إلى واسط في سرب تحت قيادة أحمد بن طولون فقتل في الطريق، ويقال: إن الحاجب سعيدًا هو الذي قتله بناءً على أوامر سرية من المعتز بالله، وقال البعض: إن أحمد بن طولون هو الذي فعل ذلك بيده. غير أن الجمهور أجمع على تبرئته من هذه التهمة الفظيعة.

والأظهر أن الأحزاب التي دعت إلى خلع المستعين، وإجباره على الاستقالة أمروا بإبعاده إلى واسط، ولم يريدوا أن يصحبه إلا من لا يرتاب أحد في أمانته له وإخلاصه، فلم يجدوا أنسب من ابن طولون، وكان إلى ذلك العهد مكتسبًا ثقة الطرفين، فعهدوا إليه تلك المهمة، فقام بها حق القيام. ثم إن الأحزاب في سامرا مع فوزهم بخلع المستعين وتولية المعتز أوجسوا شرًّا من بقاء الأول في قيد الحياة، فأوعزوا إلى الثاني أن خلافته لا ترسخ إلا بقتل المستعين. فكتبت فتيحة أم المعتز إلى أحمد بن طولون وهو في طريقه إلى واسط تحثه على قتل المستعين، وتعده بولاية واسط مكافأة له؛ فرفض ذلك أحمد بنفس أبية، فأرسلت حاجبًا يدعى سعيدًا وبيده أوامر إلى أحمد بن طولون مؤذنة بتسليم المستعين إلى سعيد، وعود أحمد إلى سامرا؛ فأذعن أحمد إلى الأوامر، فسلم المستعين إلى سعيد. فسار به في الصحراء تبعًا للأوامر السرية التي كانت معه، وذبحه في فسطاطه، وعاد برأسه إلى المعتز، ورمى به الأرض بين أقدامه.

أما أحمد بن طولون فدخل إلى خيمة المستعين بعد ذهاب سعيد، فرأى الجثة بلا رأس، فعلم الدسيسة، وتكدر من هذا الفعل الوحشي الذي قضى بقتل البريء. ثم هم إلى الجثة فغسلها وكفنها، ونقلها إلى سامرا حيث صُلي عليها ودفنت، وقد قال أحمد بن طولون عند استيلائه على مصر وسوريا ما مفاده: «وُعدت بولاية واسط على أن أقتل المستعين؛ فأبيت محافظة على القسم الذي قسمته، وما زلت في تقوى الله، وقد كافأني من فضله بولاية مصر وسوريا، ولا يفلح الظالمون.»

وكانت مصر في أثناء جميع هذه الحوادث ينتابها ما ينتاب غيرها من الإمارات الإسلامية. فإن يزيد بن عبد الله الذي كان استخلفه المنتصر على مصر أصبح عليها أميرًا عندما صار المنتصر خليفة، وبقي يزيد قائمًا بأعباء مصلحته طول مدة خلافة المستعين بالله. أما المعتز بالله فبعد ما جلس على دست الخلافة عزله في ٣ ربيع أول سنة ٢٥٣ﻫ وولى مزاحم بن خاقان من أعيان الأتراك الذين ساعدوه في حصوله على الخلافة، ومن أعماله أنه أكثر من الإيقاع بسكان النواحي، وولى الشرطة أرجوز فمنع النساء من الحمامات والمقابر، وسجن المؤنثين والنوائح، وفي رجب منها منع من الجهر بالبسملة في الصلاة بالجامع، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجوز، وأخذ أهل الجامع بتمام الصفوف، ووكل بذلك رجلًا من العجم يقوم بالسوط من مؤخر المسجد، وأمر أهل الحلق بالتحوُّل عن القبلة قبل إقامة الصلاة، ومنع من المساند التي يستند إليها ومن الحصر التي كانت للمجالس في الجامع، وأمر أن تصلى التراويح في رمضان خمس تراويح، ولم يزل أهل مصر يصلونها ستًّا إلى رمضان سنة ٢٥٣ﻫ، ومنع من التثويب، وأمر بالآذان في يوم الجمعة في مؤخر المسجد، وأن تغلس بصلاة الصبح، ونهى أن يشق ثوب على ميت أو يسود وجهٌ أو يحلق شعر أو تصيح امرأة، وعاقب في ذلك وشدد فيه.

وفي ٥ محرم سنة ٢٥٤ توفي مزاحم فتولى ابنه أحمد بن مزاحم، وفي تلك السنة استقال هذا؛ فعين المعتز مكانه باكباك أحد كبار الأتراك، وكان هؤلاء يتولون الإمارات اسمًا بلا رسم؛ لأنهم لم يكونوا يبرحون مجلس الخليفة. أما الأحكام في الإمارات فكانت موكولة إلى نواب يعهدون إليهم أمرها، وكان عدد مثل هؤلاء النواب في مصر يكثر أحيانًا؛ فقد يكون منها نائب في الفسطاط، وآخر في الإسكندرية، وآخر في الصعيد … إلخ، وكان يستبد أحدهم بالأعمال العسكرية، والآخر بالأعمال الإدارية، والآخر بالقضاء … وهكذا، ونظرًا لما كان لأحمد بن طولون من السمعة الحسنة انتخبه باكباك — المتقدم ذكره — وجعله قائدًا للقوة العسكرية في الفسطاط. أما الإدارة المالية أو الخراج فعهد بها إلى أحمد بن المدبر ودعاه مفتش الخراج.

(١٤-١) ابن المدبر

وابن المدبر هذا لم يكن من التدبير على شيء، بل كان عاتيًا غشومًا، فزاد الضرائب، وشدد الوطأة خصوصًا على المسيحيين، وكان من دهاة الناس وشياطين الكتاب، فابتدع في مصر بدعًا صارت مستمرة من بعده لا تنقض؛ فأحاط بالنطرون وحجر عليه بعد ما كان مباحًا لجميع الناس، وقرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالًا سماه المراعي، وقرر على ما يطعمه الله من البحر مالًا سماه المصائد، فانقسم مال مصر إلى خراجي وهلالي. أما الخراجي فهو ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تزرع حبوبًا ونخلًا وعنبًا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج وغيره من طرف الريف، وأما الهلالي فعلى نوعين سماهما بالمرافق والمعاون، وهو ما يؤخذ من الضرائب على مثل ما ابتدعه ابن المدبر كما تقدم.

فكره الأهلون هذه المعاملة، وجعلوا يسعون إلى الكيد به، وقد كان عالمًا بذلك؛ فجعل في حاشيته الخاصة نحوًا من مائة غلام هندي ممتازين بالقوة والشجاعة كانوا يرافقونه إلى حيث توجه.

فلما قدم أحمد بن طولون إلى الفسطاط؛ ليستلم زمام القوة العسكرية فيها قدم أحمد بن المدبر بحاشيته للقائه، وأهدى إليه هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار، وقدم معه شقير الخادم غلام فتيحة أم المعتز وهو يتقلد البريد، فرأى ابن طولون بين يدي ابن المدبر مائة غلام قد تقدمت الإشارة إليهم، وكان لهم خلق حسن، وطول أجسام، وبأس شديد، عليهم أقبية ومناطق ثقال عراض، وبأيديهم مقارع غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة، وكانوا يقفون بين يديه في حافتي مجلسه إذا جلس. فإذا ركب ركبوا بين يديه فيصير له بهم هيبة عظيمة في صدور الناس.

فلما بعث ابن المدبر بهديته إلى ابن طولون ردها عليه، فقال ابن المدبر: إن هذه لهمة عظيمة، ومن كانت هذه همته لا يؤمن على طرف من الأطراف، فخافه وكره مقامه بمصر معه، وسار إلى شقير الخادم صاحب البريد واتفقا على مكاتبة الخليفة بإزالة ابن طولون، فلم يكن غير أيام حتى بعث ابن طولون إلى ابن المدبر يقول: «قد كنت أعزك الله أهديت لنا هدية وقع الغنى عنها، ولم يجز أن يغتنم مالك — كثره الله — فرددناها توفيرًا عليك، ونحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذين رأيناهم بين يديك؛ فإنا إليهم أحوج منك.» فقال ابن المدبر لما بلغته الرسالة: «هذه أخرى أعظم مما تقدم قد ظهرت من هذا الرجل؛ إذ كان يرد الأعراض والأموال، ويستهدي الرجال، ويثابر عليهم.» ولم يجد بدًّا من أن يبعثهم إليه؛ فتحولت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون، فكتب ابن المدبر فيه إلى الخليفة يغري به، ويحرض على عزله، فبلغ ذلك ابن طولون فكتم ما في نفسه ولم يبده.

وفي ٢٥ رجب سنة ٢٥٥ﻫ كثرت دسائس الأتراك في بغداد بمساعدة الحاجب صالح بن واصف أحد قتلة المتوكل فأوعز إلى المعتز — وعمره إذ ذاك ٢٤ سنة — أن يتنازل عن الخلافة، ولم يحكم فيها إلا ٤ سنوات و٦ أشهر؛ فتنازل في ذلك اليوم، فأودعوه السجن، وقطعوا عنه الغذاء، فمات جوعًا بعد ستة أيام؛ فأقاموا عوضًا عنه ابن عمه المهتدي بالله بن الواثق، وعمره ٣٧ سنة.

(١٥) خلافة المهتدي بن الواثق ثم المعتمد بن المتوكل (من ٢٥٥–٢٥٧ﻫ/٨٦٩–٨٧٠م)

وفي أيام المهتدي بن الواثق ظهر لابن طولون عدوٌّ آخر في مصر هو إبراهيم الصوفي مأمور إقليم إسنا، وكان قد وضع يده على البلاد التي حوله، وقتل كل من كان يحاول مقاومته؛ فأنفذ إليه ابن طولون فرقة من جيشه، فحاربها، وغلبها؛ فرجعت متقهقرة إلى قرب إخميم، وهناك أتتها نجدة اتحدت معها؛ فتغلبت على جيوش ابن الصوفي ففر المذكور في البرية ملتجئًا إلى الواحات في بطن الصحراء الكبيرة مع من بقي معه من الرجال.

وكان أحمد بن عيسى بن شيخ الشيباني يتقلد جندي فلسطين والأردن، فلما مات وثب ابنه على الأعمال واستبد بها، فبعث ابن المدبر بسبعمائة وخمسين ألف دينار حملت من مال مصر إلى بغداد، فقبض ابن شيخ عليها، وفرقها في أصحابه، وكانت الأمور قد اضطربت ببغداد؛ فطمع ابن شيخ في التغلب على الشامات، وأشيع أنه يريد مصر.

وفي رجب سنة ٢٥٦ﻫ ذُبح المهتدي في سامرا، وبويع المعتمد على الله وسنه ٢٥ سنة، وهو ابن المتوكل الثالث؛ فبايعه الجميع إلا ابن شيخ فإنه لم يدعُ له ولم يبايعه لا هو ولا أصحابه، فبعث إليه بتقليد أرمينيا فوق ما معه من بلاد الشام، وفسح له في الاستخلاف عليها، والإقامة على عملها؛ فدعا حينئذ للمعتمد وبايعه، ثم كتب الخليفة سرًّا إلى ابن طولون أن يتأهب إلى حرب ابن شيخ، وأن يزيد في عدته، وكتب لابن المدبر أن يطلق له من المال ما يريد؛ فعرض ابن طولون الرجال، وأثبت من يصلح، واشترى العبيد من الروم والسودان، وجهز كل ما يحتاج إليه، وخرج في احتفال عظيم، وجيش كبير، وبعث إلى ابن شيخ يدعوه إلى طاعة الخليفة، ورد ما أخذ من المال، فأجاب بجواب قبيح؛ فسار أحمد في ٦ جمادى الآخرة مستخلفًا أخاه موسى بن طولون على مصر، وبينما هو في الطريق، ورد إليه كتاب الخليفة يدعوه إلى العود، فعاد إلى الفسطاط، ودخلها في شعبان، وأتى عوضًا عنه لمحاربة ابن شيخ أماجور التركي، فلقيه أصحاب ابن شيخ وعليهم ابنه، فحاربهم أماجور؛ فانهزموا منه، وقتل قائدهم، واستولى أماجور على دمشق، ولحق ابن شيخ بأرمينيا، وتقلد أماجور أعمال الشام كلها، وهدأت الأحوال.

(١٥-١) القطائع

أما ابن طولون فلما عاد إلى الفسطاط شرع في بناء الاستحكامات، وتحصين البلاد، وكان إلى ذلك الحين يسكن القصر الذي كان يسكنه أسلافه من ولاة الأحكام، ولم يكن هذا القصر داخل سور الفسطاط، بل كان في ضاحية العسكر، وكان العسكر أشبه بمدينة فيها الأسواق والشوارع والبناياب الجميلة، وكان كافيًا لسكنى رؤساء الجيوش، وولاة الأمور.

أما في أيام ابن طولون فضاق ذرعًا عن سعة مهماته وعبيده وتحفه، فأخذ يسعى في البحث عن محل آخر يفي بالمقصود مع قربه من الفسطاط، فصعد إلى المقطم، ونظر إلى ما حوله؛ فرأى بين العسكر والمقطم بقعة من الأرض مساحتها نحو ميل مربع لا شيء فيها من العمارة إلا بعض المدافن للنصارى واليهود، فاختارها للبناء، فأمر بحرث المدافن وهدمها، واختط في موضعها بناءً عظيمًا دعاه القصر، ومحلًا آخر بالقرب منه دعاه الميدان، وتقدم إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله، فاختطوا وبنوا حتى اتصل البناء بعمارة الفسطاط، ثم قُطِّعت إلى قطائع، وسُميت كل قطيعة باسم من سكنها، فكانت لغلمان النوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، ولغلمان الروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وللفراشين قطيعة مفردة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم، وبنى القواد مواضع متفرقة؛ فعمرت القطائع عمارة حسنة، وتفرقت فيها السكك والأزقة، وبُنيت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران، وسُميت أسواقها؛ فقيل: سوق العيارين، وسوق الفاميين، وهكذا البقالين، والشوايين … إلخ، ولكل من الباعة سوق حسن عامر؛ فصارت القطائع المذكورة أبنية كبيرة أعمر وأحسن من الشام، وكان للقصر مجلس يشرف منه ابن طولون يوم العرض، ويوم الصدقة؛ لينظر من أعلاه من يدخل ومن يخرج.

واتسعت أحوال ابن طولون، وكثرت إصطبلاته وكراعه، وعظم صيته، فبلغ ذلك أماجور والي الشام؛ فأخذته غائلة الحسد، وخشي من مد سلطة ابن طولون إليه؛ فأخذ يسعى في خلعه، فكتب إلى الخليفة المعتمد على الله ما نصه: «إن قوات ومهمات ابن طولون أصبحت أعظم مما كانت لابن شيخ الذي لما ثار في سوريا لم نخضعه إلا بعد شق الأنفس، وهذا ابن طولون قد كثرت حاشيته، وقويت سطوته بالرجال والمال، وصار يخشى منه، والأمر لأمير المؤمنين.» وكتب ابن المدير مفتش الخراج أيضًا مثل ذلك، وفي قلبه من أحمد ما تعلم من الضغائن، وتواطأ على ذلك مع كاتب سره شقير الخادم.

فأرسل المعتمد إلى ابن طولون أن يتخلف عن مصر حالًا إلى سامرا، ويستخلف مكانه من يشاء، فلما بلغ ابن طولون ذلك الأمر هم إلى القيام به، وهو لا يدري ما وراء الأكمة؛ فجاء من ذويه من أطلعه على معنى هذا الاستدعاء إلى سامرا، فلما علم بدخيلة الأمر جهز أحمد الواسطي كاتب سره وصديقه، وأرسله مكانه إلى سامرا بالهدايا الفاخرة إلى الوزير؛ فاستجلب خاطره، فسعى أمام الخليفة، فألغى الأمر السابق، وأصدر أمرًا آخر يزيد مدة ولاية ابن طولون في مصر، ويصرح له بنقل عائلته جميعها إليها، وقد كانت إلى ذلك اليوم في سامرا. فسر ابن طولون بهذا الفوز، وفرق في الناس الزكاة.

وفي سنة ٢٥٧ﻫ حكم على باكباك أمير مصر الأصيل الذي كان قد عين ابن طولون قائدًا للقوة العسكرية بقطع الرأس لجناية ارتكبها، وعين مكانه برقوق حمو أحمد بن طولون، وهذا حالما استلم الأمر بالإمارة عهد إلى صهره بالنيابة العامة ليس فقط على الفسطاط، بل على سائر القطر المصري، فأمر عيسى بن دينار متولي الإسكندرية أن يسلم زمامها إليه؛ فتوجه ابن طولون إلى الإسكندرية، وتسلم إدارتها، ثم سلمها لعيسى المذكور، وأقره عليها، فأصبحت سياسة مصر جميعها بيد أحمد بن طولون، وفي السنة التالية توفي برقوق؛ فولي أحمد مكانه واليًا عامًّا على القطر المصري.

١  راجع الجزء الثالث من كتابنا تاريخ التمدن الإسلامي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤