الفصل السادس

الدولة الطولونية

من سنة ٢٥٧–٢٩٢ﻫ/٨٧٠–٩٠٥م

(١) حكم أحمد بن طولون (من سنة ٢٥٧–٢٧١ﻫ/٨٧٠–٨٨٤م)

كان أحمد بن طولون قد عرف دسائس ابن المدبر وشقير الخادم، وكان الوزير قد أرسل إليه جميع الكتب الواردة منهما بحقه، وبعد يسير توفي شقير خوفًا، وهمَّ ابن طولون بعزل ابن المدبر لكنه عرف بعد ذلك أن أخاه على خزينة الخليفة فأغضى عنه، أما ابن المدبر فكان قد ملَّ مناظرة ابن طولون، وهو لا يقوى على كيده، فطلب إلى أخيه أن ينقله إلى وكالة خراج سوريا ففعل، وقبل تركه مصر أعاد صلات المودة مع ابن طولون فأزوج ابنته لخمارويه بن أحمد بن طولون، ووهبه معها الأملاك التي كانت له في مصر.

ثم أرسل المعتمد يستحث ابن طولون في جمع الخراج، فأجابه: لست أطيق ذلك والخراج في يد غيري، فأحيل الخراج إليه، فأصبحت جميع أعمال مصر الإدارية والعسكرية والمالية بيده، فألغى الخراج الهلالي الذي وضعه ابن المدبر، وقبل إلغائه حسب مقداره فبلغ مائة ألف دينار سنويًّا، فأحب أن يستشير بشأنه، فتشاور مع عبد الله بن دسومة أمين متولي الخراج، وكان عاتيًا طماعًا، فقال: إن أمنني الأمير تكلمت بما عندي، فقال له: قد أمنك الله — عز وجل — فقال: «أيها الأمير، إن الدنيا والآخرة ضرتان، والحازم من لم يخلط بينهما، والمفرط من خلط بينهما، فيتلف أعماله، ويبطل سعيه، وأفعال الأمير — أيده الله — الخير، وتوكله توكل الزهاد، وليس كمثله من ركب خطة لم يحكمها، ولو كنا نثق بالنصر دائمًا طول العمر؛ لما كان شيء عندنا آثر من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر، كثير المصائب، مدفوع إلى الآفات، وترك الإنسان ما قد أمكنه وصار في يده تضييعٌ، ولعل الذي حماه من نفسه يكون سعادة لمن يأتي من بعده، فيعود ذلك توسعة لغيره بما حرمه هو، ويجتمع للأمير — أيده الله — بما قد عزم على إسقاطه من الهلالي في السنة بمصر دون غيرها مائة ألف دينار، وإن فسخ ضياع الأمراء والمتقبلين في هذه السنة؛ لأنها سنة ظمأ توجب الفسخ زاد مال البلد، وتوفر توفرًا عظيمًا، فيضاف إلى مال الهلالي فيضبط له الأمير — أيده الله — دنياه، وهذه طريقة أمور الدنيا، وأحكام أمور الرئاسة والسياسة، وكل ما عدل الأمير — أيده الله — إليه من أمر غير هذا فهو مفسد لدنياه، وهذا رأيي، والأمير — أيده الله — على ما عساه يراه.»

فقال ابن طولون: ننظر في ذلك — إن شاء الله — وشَغل قلبه كلامه، فبات تلك الليلة بعد أن قضى أكثر الليل يفكر في كلام ابن دسومة، فرأى في منامه رجلًا من إخوانه الزهاد في طرسوس، وهو يقول: «ليس ما أشار عليك من استشرته في أمر الارتفاق والفسخ برأي تحمد عاقبته فلا تقبله، ومن ترك شيئًا لله — عز وجل — عوضه الله عنه، فامض ما كنت عزمت عليه.» فلما أصبح أنفذ الكتب إلى سائر العمال بذلك؛ فأبطل الضرائب المتقدم ذكرها، ونُشرت في سائر الدواوين بإمضائه، ثم دعا ابن دسومة، وأخبره بما كان، فقال له: «قد أشار عليك رجلان؛ الواحد حي في اليقظة، والآخر ميت في النوم، وأنت إلى الحي أقرب، وبضمانته أوثق.» فقال له: «دعنا من هذا فقد قُضي الأمر، ولست قابلًا منك ما تقول.»

وفي غد ذلك اليوم ركب أحمد نحو الصعيد، فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس أحد غلمانه، فسقط الغلام في الرمل، فإذا بفتق فتح، فتقدم أحمد، وأمرهم أن يحفروا هنا ففعلوا، فأصاب فيه من المال ما كان مقداره مليون دينار، وهو الكنز الذي شاع خبره، وكتب إلى العراق يخبر به المعتمد، ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البر وغيرها فأذن له؛ فبنى منه مستشفى، وحصنًا، وسبيلًا، وجوامع، وفرق قسمًا منه على الفقراء.

(١-١) إصلاحاته

وأول جامع شاده ابن طولون: جامع التنور، ابتناه على قمة جبل المقطم في مكان كان يدعى تنور فرعون، يقال: إنه سُمي كذلك لأنه على مرتفع، فكانوا يضرمون فيه النار ليلًا، فظن بعض المشايخ أن في ذلك المكان كنزًا، فأخذ يحتفر فيه فلم يظفر بشيء، فعلم ابن طولون فاحتفر فأصاب مالًا أكثر كثيرًا من ذي قبل، وعند ذلك أمر ببناء الجامع هناك، ودعاه جامع التنور، واحتفر ابن طولون بئرًا عند بركة الحبش تعرف ببئر عفصة، وابتنى ساقية، وقناطر خارج المغافر عرفت بقناطر ابن طولون ناظر بناءها مهندس مسيحي ماهر، ولا تزال آثارها باقية.

وفي سنة ٢٦٠ﻫ أعاد أحمد بن طولون حفر ترعة الإسكندرية، وكانت قد سُدت بالرمال المحمولة، وبنى في الإسكندرية آبارًا مسقوفة بالبناء العقد، وأحواضًا تحت الأرض؛ لكي يأتي منها بالماء العذب النقي ما يكفي المدينة، وفي تلك السنة ركب مع رئيس خزنته أبي أيوب والقاضي بقال في جزيرة الروضة فرأى المقياس محتاجًا إلى إصلاح؛ فأمر بإصلاحه إصلاحًا متقنًا أنفق عليه عشرة آلاف دينار، وأقام أبو أيوب بعد يسير مقياسًا آخر في دار الأسلحة في الجزيرة المذكورة؛ حيث بنيت السجون، ولكن لم يبق منها إلى أيام المقريزي إلا أثر طفيف.

وفي أواخر السنة المذكورة توجه أحمد بن طولون إلى الإسكندرية؛ لتفتيش الأشغال التي كان أمر بإجرائها، وأوصى بها لابنه البكر العباس، ثم أمر بترميم منارة الإسكندرية، وأقام فوقها القبة، ويقال: إن هذه المنارة كان ارتفاعها خمسمائة قدم.

وأمر ابن طولون ببناء المستشفى (المارستان) في العسكر، وقد كانت الفسطاط قبله مجردة من مثل ذلك، وخصص لأجل النفقات اليومية للمستشفى والبنايات الأخرى أطيانًا واسعة تأخذ محصولاتها، وخصص لها أيضًا دخل مبيع الرقيق، وكان يأتي بنفسه لزيارة المستشفى، وتفقد سير الأطباء فيه، وعيادة المريض والمجاذيب، واتفق ذات يوم أن أحد المجاذيب في المستشفى هم بقتله، ولولا القضاة لذهب بحياته، ولم يكن شيء من ذلك ليثني عزمه عن العيادة، وبنى في العسكر حمّامين، وقد بلغ مقدار نفقات بناء المستشفى والحمامين والجامع عند جبل المقطم ستين ألف دينار، وبقيت هذه البنايات رغم التقلبات السياسية التي كان يُخشى أن تذهب بها، ولا يزال كثير من آثارها إلى هذه الغاية.

(١-٢) محارباته

قلنا: إن إبراهيم بن الصوفي فر من وجه أحمد بن طولون، والتجأ إلى الواحات الكبرى في الصحراء، فهذا تمكن بعد ذلك من التجنيد، والتقدم نحو مدينة أشمونين، فبلغ ذلك ابن طولون فأنفذ إليه جيشًا تحت قيادة ابن أبي الغيث، وهذا لم يلتق بجيش ابن الصوفي، فسار لمحاربة عبد الرحمن العمري وكان معتديًا على حدود النوبة، وبعد حرب شديدة سار ابن الصوفي إلى أسوان فلاقاه ابن أبي الغيث مغضيًا عن أبي عبد الرحمن، وحاربه ففر من وجهه، وسار من طريق عيذاب إلى مكة حيث قبض عليه، وأرسل إلى أحمد بن طولون، فألقاه في السجن مدة، ثم صرفه مؤذنًا له بالسكنى في المدينة، وبقي فيها إلى أن توفاه الله.

أما أبو عبد الرحمن العمري فاستفحل أمره، وأقام الاستحكامات في النوبة فشق ذلك على أحمد، ولم يستطع صبرًا؛ فأنفذ إليه جيشًا آخر تحت قيادة شبه الببكي إلى أسوان، فلما بلغها رأى أبا عبد الرحمن مشتغلًا بمقاومة جيوش زكريا ملك النوبة والحرب بينهما قائمة، فقال: هذه فرصة لا يصح ضياعها، فهجم على حصون أبي عبد الرحمن بدون أن يستأذن من ابن طولون، فلم يعبأ أبو عبد الرحمن بتكاثر الأعداء عليه فجعل رجاله فرقتين، وحارب الفئتين، وتغلب على شبه، وأعاده على أعقابه صفر اليدين إلى الفسطاط، فلم يصادف من ابن طولون إلا احتقارًا وانتهارًا.

وبعد ذلك بقليل قدم الفسطاط عبدان يحملان رأس أبي عبد الرحمن العمري فرمياه بين أقدام أحمد بن طولون، فسألهما عما أتى بهما إليه؟ وما حملهما على قتل سيدهما؟ فأجابا أن لا غرض لهما إلا الحصول على رضا أمير القطر المصري. فقال لهما أحمد: «إن ما ارتكبتماه تستوجبان عليه عقاب الله وعقابي» وأمر بقتلهما، وغسل رأس أبي عبد الرحمن ودفنه بما يلزم من الاحترام، وحقيقة الأمر أن العبدين لم يقتلا سيدهما بأيديهما، وإنما قتل بمكيدة محمد بن هارون شيخ قبيلة مضر، فسولت لهما النفس أن يقطعا رأسه، ويحملاه إلى ابن طولون، فينالا جائزة عظيمة، وما علما أن المروءة وكرم الأخلاق تأبيان مثل ذلك.

ثم ثار أبو نوعة صديق ابن الصوفي القديم، فانضم إليه عصبة من الأتباع، فجاهر بالعصيان ضد ابن طولون، فأرسل إليه حملة فغلبها فأنجدها ابن طولون فغلبته، وفر أبو نوعة إلى الواحات واضطر أخيرًا إلى التسليم.

وبعد سنة من هذه الحادثة ثار محمد بن فاراب الفرغني وتابعه أهالي برقة جميعهم، فأرسل إليهم أحمد بن طولون لؤلؤًا، وقال له: نج المدينة من العصاة فتكون عليها واليًا، فحاربهم لؤلؤ، وفاز عليهم؛ فجعله ابن طولون واليًا على برقة ومتعلقاتها.

(١-٣) الموفق والمعتمد

وفي السنة نفسها اضطر ابن طولون إلى محاربة شديدة كان يُخشى عليه منها، وهي محاربة أبي أحمد طلحة الملقب بالموفق بالله أحد أبناء المتوكل على الله، وأخو المعتمد على الله الخليفة، وذلك أن صاحب الزنج (بجوار زنجبار) ادعى أنه من سلالة علي بن أبي طالب، فقدم البصرة سنة ٢٥٤ﻫ واستولى عليها وعلى الكوفة وغيرهما، واستفحل أمره، فأنفذ أمير المؤمنين المعتمد على الله يستدقم أخاه أبا أحمد الموفق بالله من مكة، وكان الخليفة المهتدي بالله قد بعثه إليها منفيًّا، فقدم سنة ٢٥٧ﻫ فأوصى المعتمد بالخلافة من بعده لابنه المفوض، وبعده للموفق، وجعل غربي المماليك الإسلامية للمفوض، وشرقيها للموفق، وكتب بينهما بذلك كتابًا ارتهن فيه إيمانهما بالوفاء بما قد وقعت عليه الشروط.

وكان الموفق يحسد أخاه المعتمد على الخلافة، ولا يراه أهلًا، فلما جعل المعتمد الخلافة من بعده لابنه، ثم الموفق بعده شق ذلك عليه، وزاد في حقده، وكان المعتمد متشاغلًا بملاذ نفسه من الصيد واللعب والتفرد بجواريه؛ فضاعت الأمور، وفسد تدبير الأحوال، وفاز كل من كان متقلدًا عملًا بما تقلده.

وكان في الشروط التي كتبها المعتمد بين المفوض والموفق أنه ما يحدث في عمل كل واحد منهما من حدث تكون النفقة عليه من مال خراج قسمه، واستخلف على قسم ابن المفوض موسى بن بغا فاستكتب موسى بن بغا عبيد الله بن سليمان بن وهب، وانفرد الموفق بقسمه من ممالك الشرق، وتقدم المعتمد إلى كل منهما أن لا ينظر في عمل الآخر، وجعل كتاب الشروط بالكعبة.

ولما كانت البصرة والكوفة واقعتين في حصة الموفق كان عليه محاربة الزنوج ودفعهم، فتأهب في جيش كبير وسار إليهم وناهضهم، فطال زمن المحاربة حتى انقطعت مواد خراج المشرق عن الموفق، وتقاعد الناس عن حمل المال الذي كان يحمل في كل عام، واحتجوا بأشياء أخرى؛ فدعت الضرورة الموفق إلى أن كتب إلى أحمد بن طولون في مصر في حمل ما يستعين به في حروب صاحب الزنج، وكانت مصر في قسم المفوض؛ لأنها من الممالك الغربية، إلا أن الموفق شكا في كتابه إلى ابن طولون شدة حاجته إلى المال بسبب ما هو في سبيله، وبعث الكتاب مع تحرير خادم المتوكل ليقبض منه المال.

فما هو إلا أن وصل تحرير إلى ابن طولون، وإذا بكتاب المعتمد قد ورد عليه يأمره فيه بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كل سنة من الطراز والرقيق والخيل والشمع وغير ذلك، وكتب إليه أيضًا كتابًا سريًّا يقول فيه: «إن الموفق إنما أنفذ تحريرًا إليك عينًا ومستقصيًا على أخبارك، وأنه قد كاتب بعض أصحابك فاحترس منه، واحمل المال إلينا وعجل نفاذه.»

وكان تحرير الخادم لما قدم إلى مصر أنزله أحمد بن طولون معه في داره بالميدان، فمنعه من الركوب والخروج من الدار التي أنزله بها حتى سار من مصر، وتلطف في الكتب التي أجاب بها الموفق، ولم يزل بتحرير حتى أخذ جميع ما كان معه من الكتب التي وردت من العراق إلى مصر، وبعث معه إلى الموفق ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وما جرى الرسم بحمله من مصر، وأخرج معه العدول، وسار بنفسه صحبته حتى بلغ به العريش، وكان قد أرسل إلى أماجور متولي الشام فقدم عليه بالعريش فأسلمه خادم الموفق والمال، وأشهد عليه بتسليم ذلك، ورجع إلى مصر، ونظر في الكتب التي أخذها من تحرير فإذا هي إلى جماعة من قواده باستمالتهم إلى الموفق؛ فقبض على أربابها، وعاقبهم حتى هلكوا في عقوبته.

فلما وصل جواب ابن طولون إلى الموفق ومعه المال كتب إليه كتابًا ثانيًا يستقل فيه المال، ويقول: «إن الحساب يوجب أضعاف ما حملت» وبسط لسانه بالقول، والتمس ممن معه من يخرج إلى مصر ويتقلدها عوضًا عن ابن طولون، فلم يجد أحدًا عوضه؛ لما كان من دعة ابن طولون، وملاطفته وُجوه الدولة.

(١-٤) كتاب ابن طولون إلى الموفق

فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال: «وأي حساب بيني وبينه أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره؟» وكتب إليه بعد البسملة:

وصل كتاب الأمير — أيده الله تعالى — وفهمته، وكان — أسعده الله — حقيقًا بحسن التخير لمثلي، وتصييره إياي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتقي الأعداء بحده؛ لأني دائب في ذلك، وجعلته وكدي، واحتملت الكلف العظام، والمؤن الثقال باستجذاب كل موصوف بشجاعة، واستدعاء كل منعوت بغنى وكفاية بالتوسعة عليهم، وتواصل الصلاة والمعاون لهم صيانة لهذه الدولة، وذبًّا عنها، وحسمًا لأطماع المتشوفين لها والمنحرفين عنها، ومن كانت هذه سبيله في الموالاة، ومنهجه في المناصحة فهو حري أن يعرف له حقه، ويوفر من الإعظام قدره، ومن كل حال جليلة حظه ومنزلته.

فعوملت بضد ذلك من المطالبة بحمل ما أمر به، والجفاء في المخاطبة بغير حال توجب ذلك، ثم أكلف على الطاعة جعلًا، وألزم في المناصحة ثمنًا، وعهدي بمن استدعى ما استدعاه الأمير من طاعته أن يستدعيه بالبذل والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام لا أن يكلف ويحمل من الطاعة مؤنة وثقلًا، وإني لا أعرف السبب الذي يوجب الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير — أيده الله تعالى — ولا ثمَّ معاملة تقتضي معاملة أو تحدث منافرة؛ لأن العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى من سواه، ولا أنا من قبله. فإنه والأمير جعفر المفوض — أيده الله تعالى — قد اقتسما الأعمال، وصار لكل واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه؛ إنه من نقض عهده، أو أخفر ذمته، ولم يف لصاحبه بما أكد على نفسه فالأمة بريئة منه ومن بيعته، وفي حل وسعة من خلفه، والذي عاملني به الأمير من محاولة صرفي مرة، وإسقاط رسمي أخرى، وما يأتيه ويسومنيه ناقض لشرطه مفسدة لعهده، وقد التمس أوليائي وأكثروا الطلب في إسقاط اسمه وإزالة رسمه، فآثرت الإبقاء وإن لم يؤثره، واستعملت الأناة وإن لم تستعمل معي، ورأيت الاحتمال والكظم أشبه بذوي المعرفة والفهم، فصبرت نفسي على أحر من الجمر وأمر من الصبر، وعلى ما لا يتسع به الصدر، والأمير — أيده الله تعالى — أولى من أعانني على ما أؤثره من لزوم عهده، وأتوخاه من تأكيد عقده بحسن العشرة والإنصاف، وكف الأذى والمضرة، وأن لا يضطرني إلى ما يعلم الله — عز وجل — كرهي له أن أجعل ما أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة، والعساكر المتضاعفة التي قد ضرست رجالها من الحروب، وجرت عليهم محن الخطوب مصروفًا إلى نقضها، وفي حيزنا من يرى أنه أحق بهذا الأمر وأولى من الأمير، ولو أمنوني على أنفسهم فضلًا عن أن يعثروا مني على ميل أو قيام بنصرتهم؛ لاشتدت شوكتهم، ولصعب على السلطان معاركتهم، والأمير يعلم أن بإزائه منهم واحدًا قد كبر عليه وفض كل جيش أنهضه إليه على أنه لا ناصر له إلا لفيف البصرة، وأوباش عامتها، فكيف من يجد ركنًا منيعًا، وناصرًا مطيعًا، وما مثل الأمير في أصالة رأيه يصرف مائة ألف عنان عدة له فيجعلها عليه بغير ما سبب يوجب ذلك، فإن يكن من الأمير أعتاب أو رجوع إلى ما هو أشبه به وأولى، وإلا رجوت من الله — عز وجل — كفاية أمره، وحسم مادة شره، وإجرائنا في الحياطة على أجمل عادته عندنا، والسلام.

فلما وصل الكتاب إلى الموفق أغاظه غيظًا شديدًا، فأحضر موسى بن بغا، وكان عون الدولة وأشد أهلها بأسًا وإقدامًا، فتقدم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر، وتقليدها أماجور، فامتثل وكتب إلى أماجور كتاب التقليد وأنفذه إليه، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إرساله إلى أحمد بن طولون لعجزه عن مناهضته. ثم خرج موسى بن بغا عن الحضرة مقدرًا أنه يدور عمل المفوض؛ ليحمل الأموال منه، ولما علم بتوقف أماجور عن مناهضة أحمد بن طولون كتب إليهما يأمرهما بحمل الأموال، وعزم على قصد مصر، والإيقاع بابن طولون، واستخلاف أماجور عليها فسار إلى الرقة.

وبلغ ذلك ابن طولون فأقلقه، ليس لأنه يقصر عن مناهضة موسى بن بغا؛ لكن لتحمله هتك الدولة، وأن يأتي سبيلَ من قاوم السلطان وحاربه وكسر جيوشه إلا أنه لم يجد بدًّا من المحاربة؛ ليدفع عن نفسه ما يكره، فتأمل مدينة فسطاط مصر فوجدها لا تؤخذ إلا من جهة النيل، فأراد — لكبر همته وتدبره — أن يبني حصنًا على الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة (جزيرة الروضة) يكون معقلًا لحرمه وذخائره وخاصته، ثم يشتغل بعد ذلك بحرب من يأتي من البر.

وقد زاد فكره من يقدم من النيل فأمر ببناء الحصن على الجزيرة، واتخذ مائة مركب حربي سوى ما يضاف إليها من العلابيات والحمائم والعشاريات والسنابيك والزوارق وقوارب الخدمة، وعمد إلى سد وجه البحر الكبير، وأن يمنع ما يجيء إليه من مراكب طرسوس وغيرها من البحر المالح إلى النيل بأن توقف هذه المراكب الحربية في وجه البحر الكبير؛ خوفًا مما سيجيء من مراكب طرسوس كما فعل محمد بن سليمان من بعده بأولاده كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، وجعل فيها من يذب عن هذه الجزيرة، وأنفذ إلى الصعيد وإلى أسفل الأرض لمنع من يحمل الغلال إلى البلاد؛ ليمنع من يأتي من البر الميرةَ.

وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وقد اضطربت عليه الأتراك، وطالبوه بأرزاقهم مطالبة شديدة حتى استتر منهم كاتبه عبد الله بن سليمان؛ لتعذر المال عليه، وخوفه على نفسه منهم، فخاف موسى بن بغا عند ذلك، ودعته ضرورة الحال إلى الرجوع فعاد إلى الحضرة، ولم يقم بها سوى شهرين، ومات من علة في صفر سنة ٢٦٤ﻫ.

هذا، وأحمد بن طولون يجِدُّ في بناء الحصن على الجزيرة، وقد ألزم قواده وثقاته أمر الحصن، وفرَّقه عليهم قطعًا قام كل واحد بما لزمه من ذلك، وكد نفسه فيه، وكان يتعهدهم بنفسه في كل يوم، وهو في غفلة عما صنعه الله له من الكفاية والغنى عما يعانيه، ومن كثرة ما بذل في العمل قُدر أن كل طوبة منه وقفت عليه بدرهم صحيح، ولما تواترت الأخبار بموت موسى بن بغا كف عن العمل، وتصدق بمال كثير شكرًا لله على ما منَّ به عليه من صيانته عما يقبح فيه عند الأحدوثة، وما رأى الناس شيئًا كان أعظم من عظيم الجد في بناء هذا الحصن، ومباكرة الصناع له في الأسحار حتى فرغوا منه، فإنهم كانوا يخرجون إليه من منازلهم في كل بكرة من تلقاء أنفسهم من غير استحثاث؛ لكثرة ما سخا به من بذل المال. فلما انقطع البناء لم يرَ أحد من الصناع التي كانت فيه مع كثرتها، كأنما هي نار صب عليها ماء فطفئت لوقتها، ووهب للصناع مالًا جزيلًا، وترك لهم جميع ما كان سلفًا معهم، وبلغت نفقات هذا الحصن ثمانين ألف دينار ذهبًا، وقال سعيد بن القاضي من أبيات بشأن ذلك:

وإن جئت رأس الجسر فانظر تأملًا
إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرًا لم يبق من يستطيعه
من الناس في بدو البلاد ولا حضر
مآثر لا تبلى وإن باد أهلها
ومجد يؤدي وارثيه إلى الفخر

أما الموفق فلما تفرق جيشه لم يعد يرى بدًّا من الإغضاء عن مقاومة أحمد بن طولون إغضاءً وقتيًّا.

(١-٥) بناء الجامع

وكثر أتباع ابن طولون، ورجال حاشيته، وجنده حتى ضاق جامع العسكر ذرعًا عن إحصائهم أيام الجمعة للصلاة، فرفعوا إليه أن يبتني لهم جامعًا آخر أكثر اتساعًا؛ فاستجاب التماسهم على أن يبتنيه على جبل يشكر، وكان لهذا الجبل شأن ديني عندهم، وكانوا يقولون: إن موسى الكليم ناجى ربه عليه مرارًا، وأنه اقتبل في ذلك المكان بعض الشرائع المقدسة، وعزم أحمد أن يجعل ذلك الجامع أعظم ما بني من الجوامع إلى ذلك العهد، وأن يقيمه على ثلثمائة عمود من الرخام. فقيل له: إن مثل هذا العدد لا يتيسر الحصول عليه، وإنه إذا أصر على عزمه لا يترك للمسيحيين ما يقوم ببناء معابدهم، فتردد بين أن يتم مشروعه وأن لا يحرم الطوائف الأخرى من التمتع بحقوقها الدينية في بناء المعابد.

fig029
شكل ٦-١: جامع ابن طولون.

وكان المهندس المسيحي — الذي تقدم ذكره، ويسمى ابن الكاتب الفرغاني — من ذوي الاطلاع والمعرفة بفن الهندسة وصنعة البناء، وقد أودع السجن لتهمة توجهت نحوه بغير الحق. فلما بلغه ما كان من عزم ابن طولون وتردده كتب إليه من السجن أنه قادر على إتمام مشروعه، وأنه لا يحتاج في ذلك إلى أكثر من عمودين يجعلهما عمودي القبلة. فاستحضره وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، وطلب إليه أن يشرح له ذلك؛ فرسم الجامع على الكيفية التي كانت في ذهنه، فجاء كثير الشبه بجامع سامرا. فأعجب ابن طولون كثيرًا، وأمر بإطلاقه، وخلع عليه، وجعل تحت أمره مائة ألف دينار، وقال له: أنفق، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك، وأمر ابن طولون أن يكون بناء الجامع من القرميد والجير، ونهى عن إدخال أي مادة كانت مما يقبل الاشتعال قائلًا: «ورغبتي من ذلك أنه إذا طرأ على الفسطاط دمار بالماء أم بالنار، فلا يكون على جامعي بأس فيبقى، ولو دمرت جميعها.»

ولما أتم بناء هيكل الجامع أخذ في زخرفته فبيضه، وعلق فيه القناديل الجميلة النحاسية بالسلاسل النحاسية الطوال، وجعل على أفاريزه آيات من القرآن الشريف لا يزال معظمها ظاهرًا إلى هذا اليوم، وفرش الحصر، وحمل إليه صناديق المصاحف، ونقل إليه القراء والفقهاء، ويقال إنه: هو الذي رسم القبلة والمنارة بنفسه، وجعلها منفصلة عنه برواق يحيط بالجامع ويفصل المنارة عن صحن ثانٍ خارجي، وقد هدم بعض هذه المنارة إلا أن الناظر إليها لا يسعه إلا التعجب من عظمتها، ويقال: إن تجاه المنارة المذكورة الباب الكبير، وجعل للجامع ٣٣ شباكًا، وأقام بجوار الجامع بناءً دعاه دار الإمارة يستطرق إلى الجامع من كُوَّة في جداره القبلي قرب المحراب والمنبر مزين بالستائر، وفي الدار المساند الجميلة والطنافس الثمينة. فكان ابن طولون ينزل في تلك الدار إذا ذهب إلى الصلاة يوم الجمعة فإنها كانت تجاه القصر والميدان، فيجلس فيها، ويجدد وضوءه، ويغير ثيابه، وفي موضعها الآن سوق الجامع.

ومن يزر هذا الجامع اليوم يره خرابًا مهجورًا، وقد استعملته الحكومة مرارًا منازل للحجاج والفقراء فبنوا في قناطره فسدوها، وقد هدم بعض تلك القناطر، وبعض المنارة، وفي صحن الجامع الميضأة، ولا يزال أثر المنبر الخشبي باقيًا، وفي جوار المنارة غرف يقال: إنها كانت مصلى أحمد بن طولون وذريته.

وقد استغرق بناء هذا الجامع سنتين فانتهى في رمضان سنة ٢٦٣ﻫ فأذن ابن طولون بالصلاة فيه، ولكن الفقهاء لم يكونوا يدخلونه؛ لئلا يكون مبنيًّا بمال لم يكتسب بالحق والعدل، فأقسم لهم أنه لم ينفق عليه درهمًا من الدراهم التي وجدها اتفاقًا فصدقوه، فاحتفل بتدشينه في يوم الجمعة التالي، وصار يرد إليه الجماهير من المسلمين، وتذكارًا لذلك الاحتفال نقشوا على ألواح كبيرة من الرخام الأبيض بعض الآيات من القرآن الكريم، وقال المقريزي: إنهم كانوا يحرقون أقراص الند في أثناء الصلاة فيعبق الجامع بدخانه والمؤمنون في الصلاة.

وكان القاضي بكار بن قتيبة الإمام الأول، وربيع بن سليمان الخطيب الأول لهذا الجامع، وفي ذلك الحين أنشأ محمد بن ربيع مدرسة في إحدى غرف الجامع، وكان ابن طولون وأولاده وجميع حاشيته لا يتركون الجامع إلا بعد أن يتم محمد تدريسه، وكانت دروس هذه المدرسة محصورة في الحديث، وممن كان يحضر عليه أبناء أحمد بن طولون، وكانوا يواظبون على الحضور والانصراف كسائر التلاميذ كل ذلك بأمر والدهم، وفي مساء يوم التدشين عاد ابن طولون إلى دار الإمارة كسائر التلاميذ كل ذلك بأمر والدهم، وفي مساء يوم التدشين عاد ابن طولون إلى دار الإمارة؛ لإعادة الوضوء، وتغيير الثياب، فمكث مدة طويلة في الجامع يصلي لله ويشكره على ما أولاه من النعم بنجاح أعماله، ووهب الجامع عشرة آلاف دينار، وخصص له رواتب تدفع من ماله ما بقي حيًّا.

وبنى ابن طولون بجوار الجامع خارج صحنه حوضًا، وفسقية للوضوء، ثم بنى صيدلية يحضر فيها بأمره كل يوم جمعة طبيب يعالج الفقراء مجانًا، ولا سيما الذين يأتون للصلاة، وحُسبت نفقات البناء فبلغت مائة وعشرين ألف دينار غير الأوقاف، ويقال: إن أحمد بن طولون وجد ما عدا الكنزين المتقدم ذكرهما كنزًا ثالثًا من الذهب النقي، ويقال: إن هذا الذي جعله يضرب الدينار الأحمدي الذي اشتهر بنقاوته، والمفضل على سائر أنواع الذهب القديم للتذهيب به.

وفي أثناء بناء الجامع توفي أماجور الذي كان حاكمًا في سورية فخلفه ابنه علي، فاغتنم أحمد بن طولون تلك الفرصة؛ ليضم سوريا إلى مصر والموفق مشغول عنه بمحاربة الزنج، فأظهر أنه عازم على محاربة الروم جهادًا في سبيل الدين، وجمع جيشًا جرارًا فيه كثيرون من المتطوعين، فكتب إلى ابن أماجور يستنصره في تلك الحروب، وأن يبايعه على سوريا؛ لأن الخليفة أقطعه إياها فأطاعه.

(١-٦) عصيان العباس

وفي غرة سنة ٢٦٥ﻫ برح أحمد بن طولون مصر مستخلفًا ابنه العباس وسنه إذ ذاك ٢٣ سنة، وعهد بتدبير الأحكام إلى وزيره أحمد الواسطي، ولما احتشدت جيوش ابن طولون في فلسطين أتاه محمد حاكم الرملة خاضعًا فأقره في منصبه، ولما بلغ دمشق رحب به علي بن أماجور وأمر بأن يخطب باسمه فأقره في منصبه أيضًا، وهكذا فعل في حمص وعليها عيسى فأقره عليها، ثم استولى على حلب وحماه وكانتا من أعمال أنطاكية، وحاكمها يدعى سيما الطويل فكتب إليه أحمد بن طولون يطلب مبايعته فوعده ولكنه لم يف، فأعاد الطلب فوعد أيضًا، ولما تكرر منه الوعد والإخلاف تقدم أحمد بجيشه إلى إسكندرونة، ثم هاجم أنطاكية من جهة باب البحر فلم يقدر عليه؛ لأنه كان منيعًا فهاجمها ثانية وثالثة بلا فائدة، وما زال حتى كاد يتولاه اليأس، فأتاه بعض أهالي المدينة ينبئونه بباب آخر في الجهة المقابلة يدعى باب الفرس لجهة الجبال، وقالوا: إنه سهل المأخذ، فسار أحمد بجيشه، وهاجم المدينة من ذلك الباب، وما طلع الفجر إلا والمتاريس في يده، وأما سيما فدافع دفاعًا حسنًا حتى قتل، وجيء برأسه إلى أحمد بن طولون فشق عليه قتله؛ لأنه كان صديقًا له، وأما المدينة فذهبت فريسة الفتك والنهب حتى نودي بالطاعة فسكنت الغوغاء، ووضع أحمد يده على باياس وأطنة وطرسوس، وبينما هو يهمُّ بالتقدم في فتوحه إلى ما وراء ذلك جاءه من مصر أن ابنه العباس الذي استخلفه عليها قد شق عصا الطاعة، ومد يده إلى الخزائن والأحكام، واستبد فيهما فلم يرد أحمد الرجوع إلى مصر قبل إتمام عمله في سوريا؛ فسار إلى محاربة محمد بن أتامش صاحب الرقة، ثم أخيه موسى فأسره، ولم يرجع إلى مصر إلا في نهاية سنة ٢٦٥ﻫ بعد أن فتح الشام، وبعض آسيا الصغرى، واستخلف في الرقة غلامه لؤلؤًا.

أما العباس فبعد أن نبذ طاعة والده انقيادًا لذوي الأغراض شعر بخطئه، وخاف سوء العقبى؛ فجمع إليه الخزينة، وفيها مليونان من الدنانير، واستدان فوقها ٣٠٠ ألف دينار، وفر بمن معه إلى الجيزة على ضفة النيل الغربية، وساق معه أحمد الوساطي وزير والده مغلولًا، ولكنه خشي أن لا يكون مكانه هناك أمينًا فعهد بحكومته فيه إلى أخيه ربيع مظهرًا السفر إلى الإسكندرية، وسافر إلى برقة.

فلما وصل أحمد بن طولون إلى الفسطاط ونزل العسكر ورأى من أمر ابنه ما رأى أحب استقدامه بالحسنى، فكتب إليه كتبًا كلها نصح واستعطاف، وأرسلها مع بكار بن قتيبة فعاد بلا نتيجة، وكان ذلك بدسيسة من التف حوله، وهم الذين أغروه على كل ما فعل، وقد أصبحوا يخافون غضب ذلك الأمير الخطير؛ فأوعزوا إلى العباس أن يمعن في إفريقية. ففي سنة ٢٦٧ﻫ جمع إليه رجال دعوته وسار في داخلية البلاد ساعيًا جهده في اجتذاب مشايخ القبائل إليه فلم يفز إلا مع القليل منهم، فكتب إلى إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان أن يبايعه على إفريقية مدعيًا أن الخليفة قلده إياها، وكان سعيه مع هذا باطلًا أيضًا. ثم هاجم حصن لبدة ففتحت له أبوابها فدخلها، وأمعن أتباعه في النهب والقتل فاستاء الأهالي فكتبوا إلى إلياس بن منصور النفوسي رئيس الإباضية فوعدهم بالمساعدة.

وفي أثناء ذلك سار إبراهيم صاحب القيروان بجيش إلى طرابلس الغرب؛ لقتال العباس فقاتله في الليل، وكان العباس مشهورًا بالشجاعة والحماسة، وكان شاعرًا ينشد الأشعار الحماسية في أثناء القتال، ومما أنشده قوله:

لله دري إذا أعدو على فرسي
إلى الهياج ونار الحرب تستعرُ
وفي يدي صارم أفري الرءوس به
في حده الموت لا يبقى ولا يذر
إن كنت سائلة عني وعن خبري
فها أنا الليث والصمصامة الذكر
من آل طولون أصلي إن سألت فما
فوق المفتخر بالجود مفتخر
لو كنت شاهدة كري بلبدة إذ
بالسيف أضرب والهامات تبتذر
إذن لعاينت مني ما تبادره
عني الأحاديث والأنباء والخبر

وفي الصباح التالي وصل إلياس ومعه ١٢ ألفًا من الإباضية مددًا لإبراهيم فضمها إلى جيشه واستأنف الحرب وخسر العباس في هذه الواقعة أكثر ضباط جيشه وأشجع جنوده وجميع المؤن والمهمات العسكرية التي أتى بها من مصر. أما هو فتمكن بعد الجهد من الفرار إلى برقة، فبلغ ذلك أباه فانفطر له قلبه رغم عصيانه ومناوأته.

وفي أواخر سنة ٢٦٧ﻫ أنفذ أحمد جيشًا إلى برقة، وبعد بضعة أيام أتى بنفسه إلى الإسكندرية في جند كبير قيل: إنه كان مؤلفًا من مائة ألف رجل فأتاه أحمد الواسطي وكان قد تخلص من العباس، فأنفذه ابن طولون بجيش إلى برقة؛ ليهاجم من فيها من العصاة فهاجمهم، وقتل العدد الأعظم منهم. أما العباس فقبض عليه حيًّا، وجاء به إلى أبيه في منتصف سنة ٢٦٨ﻫ وبعد بضعة أيام عاد ابن طولون إلى الفسطاط، ومعه ابنه العباس، ولما بلغ الفسطاط اعتقله في قصره.

وبعد ثلاثة أشهر وصلت الجيوش ومعهم الأسرى الباقون فأحضرهم والعباس معهم فأمره أبوه أن يقطع أيدي هؤلاء المفسدين وأرجلهم بيده ففعل. ثم التفت إليه وعنفه بكلام تتفتت له الحجارة، ثم أمر بأن يضرب مائة جلدة، أمر بذلك وقلبه يقطر دمًا. ثم أعاده إلى الاعتقال، وأمر بقتل من بقي من العصاة وإلقاء جثثهم في النيل.

(١-٧) اضطرابات خارجية

وما كادت مصر تتخلص من هذه الاضطرابات الداخلية حتى داهمتها اضطرابات خارجية أشد وطأة وأصعب مراسًا. فإن الضغائن بين أحمد بن طولون والموفق كانت لا تزال كامنة إلى ذلك العهد، وما أصاب الأموال من السلب، وما تكبده ابن طولون على إثر ذلك من النفقات في الحروب حمله على الاقتصاد في النفقة والاعتدال بالسخاء؛ فساء ذلك بعض الذين كانوا يتقربون منه طمعًا بالمال، وفيهم غلامه لؤلؤ الذي كان غارقًا بإنعامه وقد ولاه بلادًا واسعة، فأضمر له شرًّا بإيعاز كاتبه محمد بن سليمان الذي لم يكن ابن طولون يحبه. فأمسك لؤلؤ عن أداء الخراج إلى ابن طولون على أن يؤديه إلى الموفق ويبايعه على ما في يده فطار الموفق فرحًا. أما القواد الذين كانوا مع لؤلؤ فلم يكن بينهم وبين أحمد بن طولون ما يوجب العداء فأعلموه بغدره فأدرك العواقب الناجمة عن هذه الخيانة، ولكنه اتخذ الحزم والتأني نبراسًا؛ فكتب إلى لؤلؤ يدعوه إلى طاعته بعبارات لطيفة فأبى.

فنظر أحمد في الأمر نظرًا بعيدًا فرأى العاقبة محمودة، فكتب إلى المعتمد سرًّا يعلنه أنه يخاف خيانة ربما كان فيها خطر على حياة الخليفة، ويدعوه إلى مصر قائلًا: «إن لدينا هنا مائة ألف مقاتل مستعدة للدفاع عن أمير المؤمنين، وقمع عدوه (يعني الموفق) وإعادة السلطان إليه» وبعث مع هذا الكتاب هدية تساوي مائة ألف دينار، وسار في جيش جرار سنة ٢٦٩ﻫ وتقدم إلى دمشق ومعه ابنه العباس، واستخلف على مصر ابنه الثاني خمارويه، وجاهر أنه قدم لأمرين: إنقاذ الخليفة المعتمد، ومعاقبة لؤلؤ فلم يظفر بلؤلؤ؛ لأنه كان قد انضم إلى الموفق في محاربة الزنج.

وثارت في أثناء ذلك فرقة من الجند كان قد أرسلها أحمد إلى سليسيا، وعصت قائدها خلفًا فتمكن هذا من النجاة بحياته إلى دمشق، فاغتنم سكان طرسوس هذه الفرصة لخلع طاعة ابن طولون؛ فأبطلوا الصلاة باسمه، فحمل عليهم اقتصاصًا منهم. ثم ورد إليه كتاب من المعتمد أوقفه عن عزمه، وذلك أن الخليفة المشار إليه أدرك أن ليس في يده من الخلافة إلا اسمها، وأن أخاه الموفق أضر بنفوذه ضررًا بليغًا. فلما جاء كتاب ابن طولون تقبَّلَهُ بسرور، وأجابه شاكرًا له وشاكيًا من تصرُّف أخيه، وألقى إليه أن يتصرف بالأمر بمقتضى حكمته، وأن يلاقيه في الرقة. فأنفذ إليها ابن طولون جيشًا لملاقاته؛ لأن المعتمد أحب أن يغتنم اشتغال أخيه بالحرب مع الزنج للقدوم إلى أحمد؛ فتظاهر بالخروج في حاشيته للصيد، وسافر في جمادى الأولى حتى بلغ إلى إسحاق بن كنداج أمير الموصل وما بين النهرين، وكان قد كتب إليه وزير الموفق بما كان، وأمره أن يحتال في القبض على الخليفة. فاستقبل إسحاق الخليفة بإكرام واحترام وشيعه.

فلما قارب عمل ابن طولون، وارتحل الأتباع والغلمان الذين مع المعتمد وقواده، ولم يترك ابن كنداج أصحابه يرحلون. ثم خلا بقواده عند المعتمد، وقال لهم: إنكم قرب عمل ابن طولون، والأمر أمره، وتصيرون من جنده وتحت يده أفترضون بذلك وقد علمتم أنه كواحد منكم؟ وجرت بينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار، ولم يرحل المعتمد ومن معه، فقال ابن كنداج: قوموا بنا نتناظر في غير حضرة أمير المؤمنين، فأخذ بأيديهم إلى خيمته؛ لأن مضاربهم قد سارت، فلما دخلوا خيمته قبض عليهم وقيَّدهم، وأخذ سائر من مع المعتمد من القواد فقيَّدهم، فلما فرغ من أمورهم مضى إلى المعتمد فعزله في مسيره من دار ملكه وملك آبائه وفراق أخيه الموفق على الحال التي هو بها من حرب كأنه يريد قتله وقتل أهل بيته، وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه حتى أدخلهم سامرَّا.

فعلم الموفق بذلك فسرَّ لكنه خشي أن يعود أخوه مرة ثانية إلى قصده الأول، فأرسل إليه من يراقب حركاته ووهب إسحاق جميع البلاد التي كانت من أعمال ابن طولون؛ فأصبح حكمه ممتدًّا من بغداد إلى أطراف إفريقية، وأهداه سيفين، ولقبه بذي السيفين إشارةً إلى تسلطه على الشرق والغرب.

فلما علم ابن طولون بذلك اشتد غيظه، فجمع إليه من كان في دمشق من فقهاء بلاده وعلمائها وأشرافها، وأعلمهم أن الموفق هتك حرمة الأخوة نحو أخيه، وحاول الاستقلال بالدولة الإسلامية، وأن الخليفة أمير المؤمنين قد أصبح في حالة يرثى لها يقضي نهاره بالأسف والكدر الشديدين، وما زال ينهض همتهم، ويحرك عواطفهم حتى أقروا على أن يذكر الخطيب بعد صلاة الجمعة حالة الخليفة، ويطلب إلى الله أن يحفظه ويكبت أعداءه، وزادوا على ذلك أن الموفق عاصٍ على الخليفة فهو محروم من حقوق الخلافة، ثم زاد هو على هذا أن الموفق خلع الطاعة، وبرئ من الذمة فوجب جهاده على الأمة.

فاعترض بعض الحضور على ذلك، ومنهم بكار، وقال: إن كتب الخليفة تخالف ما قررتموه؛ لأنه أوصى أن يكون الموفق وارثًا للخلافة قطعيًّا فأجابه ابن طولون أن الخليفة لم يكن حرًّا بما فعل، وألقى بكارًا في السجن ريثما يرد من الخليفة الجواب على ذلك، وانتهى الأمر بإقرار الجميع على ما سبق ذكره، وأن يحافظوا على كل كلمة فاهوا بها، وأن ينادوا بذلك في الجماهير بالصلاة كما تقدم.

فلما بلغ الموفق ذلك أوعز إلى أخيه المعتمد أن يخلع ابن طولون، وما انفك حتى أجابه إلى طلبه فجاهر على المنابر بعبارة ونصها: «اللهم العنه لعنًا يفلُّ حده، ويتعس جدَّه، واجعله مثلًا للغابرين إنك لا تصلح عمل المفسدين» فصرح ابن طولون بلعن الموفق في جميع بلاده، وأرسل جيشًا للاستيلاء على مكة فأنفذ حاكمها هارون إلى الموفق الخبر، فأرسل إليه مددًا تحت قيادة جعفر، فحاربوا المصريين في مكة فغلبوهم بعد أن قتلوا مائتي رجل منهم وأسروا قائدهم، فنودي بلعن ابن طولون في مسجد مكة.

إلا أن هذا جميعه لم يكن ليثني ابن طولون عن عزمه في أعماله الأخرى؛ فإنه سار إلى سليسيا لإخماد الثورة ومقاصة المعتدين فمرَّ في طريقه بدمشق، وبنى قبة فوق مدفن الخليفة معاوية كان قد هدمها العباسيون، وزينها بالقناديل، وأقام فيها من يتلو القرآن، ثم قدم أطنة لمقاصة بزمار حاكمها لامتناعه عن مبايعته، وكان بزمار قد قبض على رسل ابن طولون فشق ذلك على ابن طولون فأسرع إلى قتاله بفرقة من الجند، فحوَّل بزمار نهر سدنس على جيش ابن طولون وكانوا في منتصف الشتاء ففاضت مياهه، وساعدها البرد القارس؛ فأهلكا معظم الجند، فاضطر أحمد إلى رفع الحصار، وتأجيل الانتقام. فانتقل لنجدة جهات أخرى كان يهددها الروم، فسار بفرقة من رجاله إلى باياس فأنطاكية حيث كان ينتظره القضاء المبرم، وذلك أنه شرب فيها مقدارًا كبيرًا من لبن الجاموس فأضر في صحته فأنذره الطبيب الذي كان معه، واسمه سعيد بن ثيوفيل فأهمل إنذاره، وتغافل عن الاحتماء الصارم، فاشتد مرضه كثيرًا، فأسرع إلى مصر محمولًا على الأذرع في محفة لكن الضعف لم يسمح له بالاستمرار على هذه الكيفية فنزل عند الفرما، ثم حمل إلى الفسطاط في النيل فبلغها في آخر السنة وهو في حالة خطرة. فنادى إليه الأطباء وهددهم بالقتل إذا لم يبذلوا الجهد في شفائه.

فحدث في مصر من القلاقل ما شغل ابن طولون عن الاهتمام بصحته، وذلك أن أحد العلويين — واسمه أحمد بن عبد الله — لما بلغه حال أحمد بن طولون من المرض شق عصا الطاعة، فانضمت إليه فرقة من رجال الصعيد فأنفذ إليها أحمد فرقة من رجاله ففرقتها، وعادت برأس قائدها، وعاد معها الأمن، واستتبت الراحة.

(١-٨) المصالحة

أما الموفق فبعد أن حارب الزنج طويلًا فاز بهم، لكنه ملَّ الحرب، ومال إلى السكينة، وكانت شعائره العدوانية نحو ابن طولون أخذت على طول الزمن في الخمود، فرغب في حقن الدماء وإقامة الحدود، ولم تكن رغبة ابن طولون في المصالحة أقل من رغبة الموفق، والظاهر أن المرض أضعف منه حاسة الانتقام فمال إلى صرف القلاقل، وكان الموفق أشد رغبة في صرفها، فعهد إلى سعيد بن مخلد وجماعة من ذويه أن يكتبوا إلى ابن طولون كتابة يوهمونه أنها منهم بغير علم الموفق يبينون له أن ما حصل إنما كان من عواقب التسرع في الحكم، وأن يتفقوا معه على المصالحة ففعلوا كما أمرهم. فلما اطلع ابن طولون على هذه الكتب علم أنها من تدبير الموفق. على أن ذلك لم يمنع قبوله بالمصالحة فوافقه على نسيان ما مضى من سوء التفاهم، ووعده بإعادة الصلات الودية على أن يصرح الموفق جهارًا بتنازله عن شعائر الحقد أو الانتقام. فعلم الموفق من مطالعة الكتاب أن ابن طولون كشف ضميره فأجابه أنه آسف على ما فرط منه، وعامل على استئصال جراثيم الحقد، وأنه يرغب إلى صديقه الجديد أن يقبل تلك المصالحة فقبل.

أما المعتمد فسر جدًّا لما دار بينهما، وكتب بخط يده إلى ابن طولون يحمد سعيه، ويطلب إليه أن يبقى مسالمًا لأخيه الموفق، وأخبره أنه قد أبطل لعنه. فلم تبلغ مصر رسالته إلا بعد وفاة ابن طولون؛ لأن صحته كانت تتأخر يومًا فيومًا، والألم المعدي المتسبب عن إفراطه من أكل لبن الجاموس يشتد عليه مصحوبًا بحمى شديدة وضعف عام، ثم رافق ذلك زرب ذهب بما بقي من قواه.

فلما أحس أحمد بدنو الأجل استغاث بصلوات شعبه على اختلاف معتقداتهم. فصعد المسلمون بقرآنهم والمسيحيون بأناجيلهم واليهود بتوراتهم إلى المقطم فأقاموا فروض الدعاء إلى الله أن يشفي ملكهم، وكان في جملة من حضر الاحتفال الفقهاء وطلاب العلم، وكانت جوامع المدينة غاصة بالجماهير يقرءون القرآن، والحسنات تفرق في الفقراء بسخاء، فانتفع الناس في موته كما انتفعوا في حياته، ولمّا تأكد قرب الساعة صلى قائلًا: «اللهم ارحم عبدك، وعلمه قدر نفسه؛ لأنه لم يعرف لها قدرًا، وأنصفه برحمتك.» وأخذ بعد ذلك يكرر الشهاة إلى أن قضى، وقبل وفاته بقليل أخرج بكارًا من السجن لكنه لم يلبث بعد وفاة ابن طولون إلا أيامًا حتى توفي ودفن في الفسطاط، ولا يزال مقامه معروفًا.

وكانت وفاة أحمد بن طولون يوم الأحد العاشر من شهر ذي القعدة سنة ٢٧٠ﻫ (الموافق ١١ مايو سنة ٨٨٤م) ودفن عند سفح المقطم على طريق المتوجه إلى القرافة الصغرى.

ولما بلغ المعتمد وفاة ابن طولون حزن حزنًا شديدًا، ورثاه بقصيدة تدل على أن المعتمد كان شاعرًا أكثر من كونه حاكمًا، وحكم ابن طولون ١٨ سنة كلها حروب وظفر، ومن تأمل سيرة حياته يجد فخره إنما كان بكثرة المصاعب، وهي التي كانت تثير فيه الهمة، وتحمله على توسيع نطاق مملكته، وقد خلف ثروة قدرها عشرة ملايين دينار، وعددًا كبيرًا من الأسلحة والأمتعة، و٧ آلاف مملوك تحت السلاح و٢٤ ألف مملوك بغير سلاح، وكثيرًا من الخيل والبغال والجمال وحيوانات أخرى، ويقال: إن غلة مصر بلغت في أيامه مائة مليون دينار سنويًّا، وقال آخرون: إنها لم تبلغ عشر هذا القدر وهو الأرجح، وكان شجاعًا همامًا حليمًا شفوقًا.

(١-٩) مناقبه

ومن أمثال شفقته: أنه ركب في غداة باردة إلى المقس في ضواحي الفسطاط فأصاب بشاطئ النيل صيادًا عليه ثوب خلق لا يواريه منه شيءٌ، ومعه صبي في مثل حاله، وقد ألقى شبكته في البحر. فلما رآه رق لحاله وقال: «نسيم ادفع إلى هذا عشرين دينارًا.» فدفعها إليه ولحق ابن طولون. فسار ولم يبعد ورجع فوجد الصياد ميتًا والصبي يبكي ويصيح، فظن ابن طولون أن بعض سودانه قتله وأخذ الدنانير منه، فوقف بنفسه عليه وسأل الصبي عن أبيه فقال له هذا الغلام (وأشار إلى نسيم الخادم) دفع إلى أبي شيئًا فلم يزل يقلبه حتى وقع ميتًا. فقال: فتشه يا نسيم. فنزل وفتشه فوجد الدنانير معه بحالها، فحرض الصبي أن يأخذها فأبى، وقال: هذه قتلت أبي وإن أخذتها قتلتني. فأحضر ابن طولون قاضي المقس وشيوخه، وأمرهم أن يشتروا للصبي دارا بخمسمائة دينار تكون غلة، وأن تحبس عليه، وكتب اسمه في أصحاب الجرايات، وقال: أنا قتلت أباه؛ لأن الغنى يحتاج إلى تدريج وإلا قتل صاحبه. هذا كان يجب أن يُدفع إليه دينار بعد دينار حتى تأتيه هذه الجملة على تفرقة فلا تكثر في عينه.

وأحمد بن طولون أول من جلس في مصر للنظر في المظالم فكان يجلس لذلك يومين في كل أسبوع في محل يقتبل فيه التظلمات، وينصف أصحابها، وكان تقيًّا يحترم الشعائر الدينية كثيرًا، فكان له في قصره حجرة جعل فيها رجالًا سماهم المكبرين يبيت منهم في كل ليلة أربعة يتناوبون الليل نوبًا؛ يكبرون، ويسبحون، ويحمدون، ويهللون، ويقرءون القرآن تجويدًا بالألحان، ويتوسلون بقصائد زهدية، ويؤذنون أوقات الأذان.

ومن مناقبه الحميدة: حبه لعمل الخير المجرد، والتصدق على كل من طلب الصدقة. فكان ينفق في سبيل ذلك ألفي دينار شهريًّا سوى ما يطرأ عليه من النذور، وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش، ويفرق للناس في القدور الفخار، والقصاع على كل قدر أو قصعة، لكل مسكين أربعة أرغفة في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران مما في القدر، وكانت تعمل في داره، ويُنادى من أحب أن يحضر دار الأمير فليحضر، وتفتح الأبواب، ويدخل الناس الميدان، وابن طولون في المجلس — الذي تقدم ذكره — ينظر إلى المساكين، ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسره ذلك، ويحمد الله على نعمته، ولقد قال له مرة ابراهيم بن قراطقان وكان متوليًّا تفريق الصدقات: «أيد الله الأمير، إنا نقف في المواضع التي تفرق فيها الصدقات فتخرج لنا الكف المخضوبة نقشًا، والمعصم الرائع فيه الحديد، والكف فيها الخاتم.»

فقال: «يا هذا، من مد يده إليك فأعطه فهذه هي اللطيفة المشهورة التي ذكرها الله في كتابه، فقال: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ احذر أن ترد يدًا امتدت إليك.»

وابن طولون أول من بنى قلعة في يافا، وترك عند وفاته ٣٠ ولدًا ١٧ ذكرًا و١٣ أنثى، ولم يكن عمره عند وفاته أكثر من خمسين سنة، وأوصى أن تكون الأحكام لبنيه من بعده؛ ليكون له من نسله دولة تخلد ذكره. إلا أن هذه الدولة لم تمكث بعده إلا ٢٢ سنة.

وهذه صورة النقود التي ضربت في عهد ابن طولون سنة ٢٥٧ﻫ، وعليها اسمه، واسم الخليفة المعتمد (انظر شكل ٦-٢).
fig14
شكل ٦-٢: نقود المعتمد وعليها اسم ابن طولون.

(٢) خمارويه بن أحمد (من سنة ٢٧٠–٢٨٢ﻫ/٨٨٤–٨٩٥م)

وبعد وفاة ابن طولون أقيم ابنه خمارويه حالًا في مكانه في ذي القعدة سنة ٢٧٠ﻫ وسنه ٢٠ سنة، ولقب بأبي الجيش فسر الناس من توليته، وأما العباس فكان لا يزال في السجن، وقد كرهته الأمة لما كان من عقوقه، وقال بعضهم: إن أباه ناداه قبل وفاته وعفا عما كان منه، وأوصى له بإمارة الشام تحت إمارة أخيه خمارويه، لكنه ما لبث أن أقيم أخوه على الأحكام حتى ذهبت حياته بأمره، ولم يشأ خمارويه أن يجعل مركز حكومته في الفسطاط كما فعل أبوه فجعلها في القطائع التي كان قد بناها أبوه مقرًّا لرجاله.

وأول شيء أتاه خمارويه أنه قرب قلوب الرعية إليه بنزاهته ونصرته للحق. ذلك أن كنيسة الإسكندرية كانت سنة ٢٦٨ﻫ تحت رعاية البطريرك ميخائيل، وكان هذا قد عزل الأسقف سكا لسوء سيرته وتعاليمه، فسار هذا الأسقف إلى الفسطاط مضمرًا شرًّا، فسعى إلى أحمد بن طولون فسادًا، وادعى أن البطريرك وافر الثروة، وهو لا يحتاج إلى المال، وكان أحمد إذ ذاك يتأهب للمسير إلى سوريا، وفي احتياج للنفقات فاستحضر البطريرك المذكور، وقال له: «إن من كان في مكانك — أيها البطريرك — لا يحتاج إلى أكثر من الطعام واللباس، وقد علمت أنك ذو ثروة، والبلاد في احتياج إلى نفقات كبيرة فادفع ما لديك إلى بيت المال.» فاجتهد البطريرك في رفع تلك التهمة عنه فذهب اجتهاده عبثًا، وألقي في السجن ومعه أحد شمامسته المدعو ابن المنذر سنة كاملة، فأخذ يوحنا وإبراهيم ابنا موسى كاتب أحمد بن طولون على عاتقهما أن يطلق البطريرك بعد أن يدفع مبلغًا يجمعه من رعاياه المسيحيين. فكتب على نفسه صكًّا بمبلغ ٢٠ ألف دينار يدفعه على دفعتين لكنه لم يستطع الدفعة الأولى إلا بعد العناء الشديد، والاستقراض، وبيع أوقاف الكنيسة؛ لأن ما فرضه على أبناء الكنيسة لم يكن وافيًا بالمطلوب. فأصبح البطريرك في حالة اليأس، وانزوى في دير القديسة مريم في قصر الشمع بجوار الفسطاط لا يعلم كيف يقوم بدفع المبلغ الباقي، فأكثر الضرائب على الأسقفيات إلى حد لم يكن في الإمكان القيام بدفعه فنسب إليه الاستبداد، وهو براء منه، ولما آن وقت الدفع لم يكن قادرًا عليه فقيد ثانية إلى السجن، وبعد يسير توفي ابن طولون. فلما تولى خمارويه رأى من العدالة أن يخلي سبيله، ويبرئ ذمته مما كان باقيًا عليه ففعل، وكان لذلك وقع عظيم عند الأقباط.

(٢-١) حدائق خمارويه وإصطبلاته

ثم أخذ في تدبير الأحكام فلم يغير شيئًا مما كان في أيام أبيه؛ فأبقى أرباب المناصب كما كانوا، فبقيت قيادة جيش الشام في يد أبي عبد الله، وقيادة ما بقي من الجيوش في يد سعيد الأيسر، ولكي يتأكد مناعة الشام أرسل إليها مراكب حربية تطوف في مياهها، ولما اطمأن باله من قبيل ذلك عكف على الداخلية فأقبل على قصر أبيه، وزاد فيه، وأخذ الميدان فجعله كله بستانًا وزرع فيه أنواع الرياحين والشجر الطعم العجيب، وأنواع الورد والزعفران، وكسا أجسام النخل نحاسًا مذهبًا، وجعل بين النحاس وأجسام النخل مزاريب الرصاص، وأجرى فيها الماء المدبر، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة وكتابات مكتوبة يتعهدها البستاني بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وطعموا له شجر المشمش باللوز وأشباه ذلك، وبنى في البستان برجًا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ؛ ليقوم مقام الأقفاص، وسرح فيه من أصناف القماري والدباسي والنونيات، وكل طائر مستحسن حسن الصوت، وجعل فيه أوكارًا تفرخ الطيور فيها، وسرح في البستان من الطير العجيب كالطواويس ودجاج الحبش ونحوها، وعمل في داره مجلسًا في رواقه سماه: بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد على أحسن نقش، وجعل في حيطانه صورًا بارزة من خشب معمول على صورته، وصور حظاياه، والمغنيات اللاتي يغنينه بما عليهن من اللباس بألوانه، وجعل عليهن من الحلي مثل ما اعتدن لبسه.

وجعل أمام هذا البيت فسقية ملأها زئبقًا، وسبب ذلك: أنه شكا إلى طبيبه الأرق فأشار عليه بالتغميز فأنف من ذلك، فقال: تأمر بعمل بركة من زئبق فعمل بركة، يقال: إنها ٥٠ ذراعًا طولًا في ٥٠ عرضًا، وملأها من الزئبق، وجعل في أركان البركة سككًا من الفضة الخالصة، وجعل في السكك زنانير من حرير في حلق من الفضة، وعمل فراشًا من أدم يحشى بالريح حتى ينتفح فيحكم حينئذٍ شده، ويلقى على تلك البركة، وتشد زنانير الحرير التي بحلق الفضة في سكب الفضة، وينام على هذا الفراش، ولا يزال هذا الفراش يرج ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه، ولم يعرف ملك قط تقدم خمارويه في عمل هذه البركة.

وبنى أيضًا بالقصر قبة تضاهي قبة الهواء سماها الدكة، وكان كثيرًا ما يجلس فيها؛ ليشرف منها على جميع ما في داره من البستان وغيره، ويرى الصحراء والنيل والجبل وجميع المدينة، وبنى ميدانًا آخر أكبر من ميدان أبيه، وبنى أيضًا في داره دارًا للسباع عمل فيها بيوتًا بآزاج كل بيت يسع سبعًا ولبوته، وبجانب كل بيت بيت حوض من رخام، وجعل لتلك السباع سياسًا يقومون بما تحاج إليه من الطعام والشراب والتنظيف، وكان من جملة هذه السباع سبع أزرق العينين، يقال له: زريق قد أنس بخمارويه، وصار مطلقًا في الدار لا يؤذي أحدًا، ويقام له بوظيفته من الغذاء في كل يوم. فإذا نصبت مائدة خمارويه أقبل زريق معها وربض بين يديه يلتقط ما يرميه إليه من فضلاتها. فإذا نام جاء زريق ليحرسه فإن كان قد نام على سرير ربض بين يدي السرير، وإذا كان على الأرض فبجانبه لا يغفل عن ذلك لحظة واحدة.

واتسعت أيضًا إصطبلات خمارويه فعمل لكل صنف من الدواب اصطبلًا مفردًا، وعمل للنمور دارًا مفردة، ومثل ذلك للفهود والفيلة والزرافات، كل ذلك سوى الإصطبلات التي في الجيزة، وكان له أيضًا بمصر إصطبلات تنتج فيها الخيل لحلبة السباق، وللرباط في سبيل الله برسم الغزو، وبلغت مرتبات الجيش في أيامه تسعمائة ألف دينار في كل سنة، وكانت حلبة السباق في أيامهم تقوم مقام الأعياد؛ لكثرة الزينة، وركوب سائر العساكر، والغلمان على كثرتهم بالسلاح التام والعدة الكاملة، فيجلس الناس لمشاهدة ذلك كما يجلسون للأعيان، وكان له معرض للخيل فريد.

وقد تقدم أن خمارويه قتل أخاه، وكان ذلك بإيعاز أبي عبد الله قائد جنود الشام، ثم خاف أبو عبد الله أن يعود خمارويه إلى الانتقام منه؛ إذ يندم على قتل أخيه فعمد إلى المكيدة فكاتب الموفق يقول له: «إن هذا الغلام خمارويه لا يفهم من أمور الأحكام إلا أنها وسيلة للتمتع بالملاهي.» وكتب إليه غير ذلك مما شوق الموفق إلى الاستيلاء على مصر، وأخذت العداوة تنمو بينهما من ذلك الحين، وفي سنة ٢٧١ﻫ حصلت واقعة عظيمة بين أحمد بن الموفق الملقب بالمعتضد بالله وخمارويه تدعى واقعة الطواحين.

(٢-٢) واقعة الطواحين

وتفصيل واقعة الطواحين أن أحمد بن الموفق لولا ما كان في قلبه من البغض لخمارويه لم يستول على دمشق؛ لأن أبا عبد الله سلمه إياها بدون حرب. فلما علم خمارويه بذلك جرد جيشه قاصدًا استرجاعها حتى بلغ الرملة، ومعه سعيد الأيسر قائد الجنود المصرية العام، فبلغ ذلك المعتضد بالله فسار من دمشق نحو الرملة إلى عساكر خمارويه، فأتاه الخبر بوصول خمارويه إلى عساكره، وكثرة من معه من الجموع، فهمَّ بالعودة فلم يمكنه أصحاب خمارويه الذين صاروا معه، وكان المعتضد قد أوحش ابن كنداج وابن أبي السياج ونسبهما إلى الجبن حيث انتظراه ليصل إليهما ففسدت نياتهما معه.

ولما وصل خمارويه إلى الرملة نزل على الماء الذي عليه الطواحين فملكه. فنسبت الواقعة إليه. ثم وصل المعتضد وقد عبأ أصحابه، وكذلك أيضًا فعل خمارويه، وجعل له كمينًا عليهم سعيد الأيسر. فحملت ميسرة المعتضد على ميمنة خمارويه فانهزمت. فلما رأى ذلك خمارويه ولم يكن رأى مثله من قبل ولى منهزمًا في نفر من الأحداث الذين لا علم لهم بالحرب، ولم يقف دون مصر، فنزل المعتضد إلى خيام خمارويه، وهو لا يشك في تمام النصر. فخرج الذين عليهم سعيد الأيسر، وانضاف إليهم من بقي من جيش خمارويه، ونادوا بشعارهم، وحملوا على عسكر المعتضد، وهم مشغولون بالنهب، ووضع المصريون السيف فيهم، فظن المعتضد أن خمارويه قد عاد فركب وانهزم ولم يلو على شيء. فوصل إلى دمشق ولم يفتح له أهلها بابها، فمضى منهزمًا حتى بلغ طرسوس، وبقي العسكران يتضاربان بالسيوف وليس لواحد منهما أمير. فطلب سعيد الأيسر خمارويه فلم يجده، فأقام أخاه أبا العشائر، وتمت الهزيمة على العراقيين، وقتل منهم خلق كثير، وقال سعيد للعساكر: «إن هذا أخو صاحبكم، وهذه الأموال تنفق فيكم.» ووضع العطاء فاشتغل الجند عن الشغب بالأموال.

وسير البشارة إلى مصر ففرح خمارويه بالظفر، وخجل للهزيمة، غير أنه أكثر الصدقة، وفعل مع الأسرى فعلة لم يسبق إلى مثلها قبله. فقال لأصحابه: إن هؤلاء أضيافكم فأكرموهم، ثم أحضرهم بعد ذلك، وقال لهم: من اختار منكم القيام عندنا فله الإكرام والمواساة، ومن أراد الرجوع جهزناه وسيرناه. فمنهم من أقام، ومنهم من سار مكرمًا، وعادت عساكر خمارويه إلى الشام ففتحتها أجمع، فاستقر ملك خمارويه له، وهذه الواقعة كانت الأخيرة بين خمارويه والموفق، ثم عادت الصلات الودية بين الاثنين، وضربا النقود وعليها اسماهما واسم المعتمد في وقت واحد كما ترى في شكل ٦-٣.
fig15
شكل ٦-٣: نقود عليها أسماء المعتمد والموفق وخمارويه.

وفي سنة ٢٧٨ﻫ توفي الموفق، وبايع قواده بولاية العهد لابنه المعتضد بعد المفوض ابن أخيه، وفي أول سنة ٢٧٩ﻫ خلع المعتمد ولاية العهد عن ابنه المفوض، وجعلها للمعتضد، وفي تلك السنة توفي الخليفة المعتمد على الله بعد أن حكم ٤٣ سنة، فبويع ابن أخيه المعتضد بالله، فاغتنم خمارويه الفرصة؛ لتوطيد العلائق بينه وبين الخليفة الجديد، فأنفذ الحسين بن عبد الله المعروف بابن القصار وفدًا إلى بغداد ومعه الهدايا الثمينة يعلن الخليفة أن مصر ستؤدي الخراج، وقدره مائتا ألف دينار، وأنها ستدفع أيضًا عن السنين الماضية ٣٠٠ ألف دينار. فأجابه الخليفة بتثبيته في إمارته لمدة ٣٠ سنة على ما كان تحت إمارة أبيه، وأرسل إليه أيضًا الخلعة والسيف المختصين بهذا المنصب، فدفع خمارويه الدفعة الأولى تمامًا لكنه تأخر بعد ذلك رويدًا رويدًا على أنه لم يكن يغفل عن توطيد علائق المودة بينه وبين الخليفة، فأرسل إليه وفدًا يعرض عليه زفاف ابنته قطر الندى لابن المعتضد، فقبل الخليفة بأن يكون الزفاف له، وحصل ذلك على أعجب سبيل؛ فحُملت قطر الندى إلى المعتضد، وذهبت معها عمتها العباسة بنت أحمد بن طولون مشيعة لها إلى آخر أعمال مصر من جهة الشام، ونزلت هناك، وضربت فساطيطها، وبنيت هناك قرية فسميت باسمها، وقيل لها: العباسة.

ولما استقر له السلام على هذه الصورة مع الخليفة جعل يوسع سلطانه فأمر طغج بن جف أمير دمشق أن يتقدم بفرقة من عساكر طرسوس إلى بلاد الروم. ففعل وحارب الروم، واستولى على عدة مدن، وعاد بالغنائم.

وفي سنة ٢٨٢ﻫ التي كانت زاهية بزفاف قطر الندى سودت بموت خمارويه مقتولًا في دمشق، وذلك أنه نمى إليه أن بين بعض نسائه وبعض كبراء خدامه علائق حبية سرية، فشق ذلك عليه فأخذ في تحقيق الأمر، وتأكيد الجرم على فاعله، ومقاصته بما يقتضيه العدل، فخشي هؤلاء من العقاب الشديد فاتفقوا مع نسائه على قتله؛ لينجوا كلهم من شره، فقتلوه على فراشه في ليلة من ليالي ذي الحجة من سنة ٢٨٢ﻫ وقال آخرون في كيفية قتله غير ذلك.

وبعد موته ألقي القبض على عشرين من الخدم الذين وقعت عليهم الشبهة، بعد التحقيق تأكدت الجريمة على العشرين، فحُكم عليهم بالإعدام، فنقلت جثة خمارويه إلى مصر، ودفنت بسفح المقطم بقرب جثة أبيه أحمد، وكانت مدة حكمه ١٢ سنة و١٨ يومًا، وكان من أحسن الناس حظًّا، وحال موته بويع ابنه جيش الملقب بأبي العساكر، وهو صغير لم يبلغ رشده.

(٢-٣) جيش بن خمارويه (من سنة ٢٨٢–٢٨٣ﻫ/٨٩٥–٨٩٦م)

وفي سنة ٢٨٣ﻫ أبى طغجُ بن جف حاكم الشام مبايعةَ جيش على بلاده، وبعد يسير ثارت الجيوش في مصر بدعوى أنهم لا يقبلون موضع أحمد بن طولون صبيًّا لم يبلغ رشده، ولا يعرف شيئًا من أمور الأحكام، وكان إذا أبدل رجلًا بآخر، قالوا: قد اختار من هو في سنه أو على شاكلته، وبعد تسعة أشهر من حكمه ثار عليه الجميع، وقتلوه، ونهبوا قصره، وأحرقوا المدينة.

(٣) هارون بن خمارويه (من سنة ٢٨٣–٢٩٢ﻫ/٨٩٦–٩٠٤م)

وأقام زعماء الثورة أخاه هارون مكانه، وقيل: إن المعتضد ثبته على مصر؛ لأنه وعده بمال يحمله إليه مقداره مليون من الدنانير، وفي السنة المذكورة توفي لؤلؤ، وهو الذي كان يسعى بين أحمد بن طولون والموفق سعيًا آل إلى حرب بين الفريقين، وكان لؤلؤ قد ضم جيشه إلى جيش الموفق في محاربة الزنج إلا أنه لم يأته ذلك الضم بفائدة تذكر، ولما وصل أحمد بن طولون إلى الشام لم يستطع القبض على لؤلؤ نفسه فقبض على ما كان له في دمشق من الأهل، وفيهن نساؤه وأولاده وسواريه، وباعهم في سوق الفسطاط. فلما بلغ ذلك لؤلؤًا أخذ منه الغيظ كل مأخذ، فتوجه إلى الموفق وطلب إليه أن يعطيه جندًا؛ ليغذو به مصر، ويمتلكها، وينتقم من ابن طولون، وكان الموفق قد عقد صلحًا مع ابن طولون — كما تقدم — ولم يشأ أن يجيب لؤلؤًا سلبًا، فوعده بنيل مرغوبه، وكرر الوعد مرارًا، وإنما فعل الموفق ذلك على نية أن يستبقيه عنده لعله يحتاج إلى مصالحة ابن طولون فيرسل إليه هدية، ولما توفي ابن طولون بقي لؤلؤ في خدمة الموفق ٣ سنوات، وأخيرًا جرده من أمواله، وطرده من خدمته فأتى مصر حيث بيعت نساؤه وأولاده، وبقي فيها إلى أن مات شر موتة.

وفي سنة ٢٨٤ﻫ أي بعد تنصيب هارون بسنة أخذ الأهلون ورجال الحكومة يقللون من الطاعة له، ويحتقرون أوامره شيئًا فشيئًا حتى صاروا في استعداد كلي لنبذ الطاعة، والمجاهرة بالعصيان، ورئيس هذه الثورة طغج بن جف صاحب الشام، وفي سنة ٢٨٥ﻫ علم المعتضد بما كان من تقسيم بلاد هارون، وكره الرعايا له فرأى أن يغتنم الفرصة لاسترجاع تلك البلاد لسلطانه كما كانت في عهد أسلافه. فتقدم نحو آمد فبايعه حاكمها محمد بن أحمد بن عيسى بن شيخ وكان مستقلًّا بها، ثم تقدم إلى قنسرين وتملكها.

فلما بلغ ذلك هارون أوجس خيفة، ولم يعد يعلم ماذا يفعل، وله من رعاياه أعداء ألداء؟ فكاتب المعتضد أنه مستعد لتسليمه البلاد التي هي قريبة من العصيان عليه، وكتب أيضًا إلى حكام قنسرين والعواصم جميعها أن يذعنوا لسلطة الخليفة المعتضد، فقبل المعتضد تلك العطية بكل سرور فوضع يده على تلك الأماكن فبايعه أهلها.

(٤) القرامطة

وفي سنة ٢٨٩ﻫ زادت القلاقل التي كانت تهدد هارون بانتشار القرامطة في سوريا، ومنشأ هذه الطائفة بالبحرين سنة ٢٨١ﻫ ويقال في كيفية ظهورها: أن رجلًا يعرف بيحيى بن المهدي قصد قطيف فنزل على رجل يعرف بعلي بن المعلى بن حمدان مولى الزياديين، وكان يغالي في التشيع. فأظهر له يحيى أنه رسول المهدي، وأنه خرج إلى شيعته في البلاد يدعوهم إلى أمره، وأن ظهوره قد قرب. فوجه علي بن المعلى إلى الشيعة من أهل القطيف فجمعهم وأقرأهم الكتاب الذي مع يحيى بن المهدي إليهم من المهدي. فأجابوه أنهم خارجون معه إذا ظهر أمره، ووجه إلى سائر قرى البحرين بمثل ذلك فأجابوه، وكان فيمن أجابه سعيد الجنابي، وكان يبيع للناس الطعام ويحسب لهم بيعهم. ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدة، ثم رجع ومعه كتاب يزعم أنه من المهدي إلى شيعته، ونصه: «قد عرفني رسولي ابن المهدي مسارعتكم إلى أمري فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلثين.» ففعلوا ذلك، ثم غاب عنهم، وعاد ومعه كتاب مفاده ادفعوا إلى يحيى خمس أموالكم فدفعوا إليه الخمس، وكان يحيى يتردد في قبائل قيس، ويورد لهم كتبًا ويزعم أنها من المهدي، وأنه ظاهر فيكونون على أهبة، وصار أمر هؤلاء ينتشر، وعددهم يتعاظم حتى طمعوا بالغزو فبلغوا الشام، واستفحل أمرهم حتى حاربوا طغج صاحب دمشق، وحاصروها سنة ٢٩٠ﻫ فاجتمع إليها جميع قوات الشام، وهاجموا القرامطة وشتتوهم بعد أن قتلوا شيخهم يحيى.

وفي سنة ٢٩٢ﻫ كان على دست الخلافة العباسية الخليفة المستكفي بالله بن المعتضد، فأحب أن ينفذ ما كان نواه سلفه في سوريا ومصر فأنفذ جيشًا إلى الشام تحت قيادة محمد بن سليمان فتملكها حالًا، وكانت له مباء، ثم هجم على مصر فاخترقها حتى بلغ عاصمتها (الفسطاط) فاستعد هارون للمدافعة، ورجاله ينقصون يومًا فيومًا؛ لما كان يسير منهم إلى صفوف الأعداء بعد كل وقعة، ولم يكن ذلك منتهى الشقاء؛ فإن معسكر هارون نفسه كان مرسحًا تتلاعب فيه الدسائس، وينمو فيه الخصام بين رجاله، واشتد القتال بينهم يومًا فركب هارون جواده، وأخذ في ردهم بعضهم عن بعض؛ فأصيب بطعنة من أحد المغاربة فسقط ميتًا في ١٨ صفر سنة ٢٩٢ﻫ وكانت مدة حكم هارون ٩ سنوات كلها تعاسة وشقاء، ويقال: إن عمه شيبان هو الذي قتله.

(٥) شيبان بن أحمد (من سنة ٢٩٢–٢٩٢ﻫ/٩٠٤–٩٠٤م) وانقضاء الدولة الطولونية

وفي يوم موته أقيم عمه شيبان مكانه إلا أنه لم يهنأ بالحكم؛ لأن الناس رفضوه بصوت واحد، وخابروا محمد بن سليمان أن يعطيهم الأمان فأمنهم، ثم حرضوه على المسير إلى مصر فسار حتى نزل الباسة فلقيه طغج في أناس من القواد كثيرين فساروا به إلى الفسطاط، وأقبل إليهم عامة أصحاب شيبان.

ولما رأى شيبان إصرارهم على ذلك، ولم يبق لديه أحد ممن يعتمد عليهم، وافقهم على التسليم، فاستلم محمد بن سليمان زمام الأمور فأعطاهم الأمان فبايعوه. أما شيبان فلم يكن يأمن من سكناه في مدينة أقام فيها مغتصبها منه ففر من المعسكر ليلًا، فبعث محمد بن سليمان من يقبض عليه فلم يظفر به، وقال آخرون: إنه لم يفر، ولكنه قتل جزاء قتله هارون بعد عشرة أيام من قتله، وهكذا انتهت الدولة الطولونية بعد أن حكمت ٣٧ سنة وبضعة أشهر.

ويوم الخميس أول ربيع أول من تلك السنة ألقى محمد بن سليمان النار في القطائع، ونهب أصحابه الفسطاط، وكسروا السجون وأخرجوا من فيها، وهجموا على الدور، واستباحوا وهتكوا وفعلوا كل قبيح من إخراج الناس من دورهم وغير ذلك، وأخرجوا ولد أحمد بن طولون وهم عشرون إنسانًا، وأخرجوا قوادهم، ولم يبق في مصر منهم أحد يذكر، وخلت منهم الديار، وعفت منهم الآثار، وتعطلت منهم المنازل، وحل بهم الذل بعد العز، والتطريد والتشريد بعد اجتماع الشمل ونضرة الملك ومساعدة الأيام. ثم سيق أصحاب شيبان إلى محمد بن سليمان وهو راكب فذُبحوا بين يديه كما تذبح الشياه، وقتل من السودان سكان القطائع خلق كثير، وهكذا بادت دولة بني طولون فرثتهم الشعراء والكتباء.

وقد وقفنا على قصائد لكثير من الشعراء المعاصرين للدولة المذكورة؛ يرثونها بها، ويبالغون في الأسف عليها منهم أحمد بن محمد الحبيشي، وأحمد بن يعقوب، وإسماعيل بن أبي هاشم، وسعيد بن القاضي، وأحمد بن إسحاق الجفر، ومحمد بن طسويه … وغيرهم. فمما قاله سعيد بن القاضي من قصيدة طويلة قد مر بعضها قوله:

جرى دمعه ما بين سحرٍ إلى نحر
ولم يجر حتى أسلمته يد الصبر
وهل يستطيع الصبر من كان ذا أسى
يبيت على جمر ويضحي على جمر
تتابع أحداث يضيعن صبره
وغدر من الأيام والدهر ذو غدر
أصاب على رغم الأنوف وجدعها
ذوي الدين والدنيا بقاصمة الظهر
وفقد بنى طولون في كل موطن
أمرُّ على الإسلام فقدًا من القطر
وكان أبو العباس أحمد ماجدًا
جميل المحيا لا يبيت على وتر
كأن ليالي الدهر كانت لحسنها
وإشراقها في عصره ليلة القدر
يدلُّ على فضل ابن طولون همة
محلقة بين السماكين والغفر
فإن كنت تبغي شاهدًا ذا عدالة
يخبر عنه بالجلي من الأمر
فبالجبل الغربي خطة يشكر
له مسجد يغني عن المنطق الهذر
وتنُّور فرعون الذي فوق قلة
على جبل عالٍ على شاهق وعر
بنى مسجدًا فيه يروق بناؤه
ويهدي به في الليل إن ضل من يسري
وعين معين الشرب عين زكيةٌ
وعين أجاج للرواة وللطهر
بناءٌ لو أن الجن جاءت بمثله
لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر
ولا تنسَ مارستانه واتساعه
وتوسعة الأرزاق للحول والشهر
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأملًا
إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
ترى أثرًا لم يبقَ من يستطيعه
من الناس في بدو البلاد ولا حضر
وقام أبو الجيش ابنه بعد موته
كما قام ليث الغراب في الأسل السمر
أتته المنايا وهو في أمن داره
فأصبح مسلوبًا من النهي والأمر
وورَّث هارون ابنه تاج ملكه
كذاك أبو الأشبال ذو الناب والهصر
وقد كان جيش قبله في محله
ولكن جيشًا كان مستقصر العمر
فقام بأمر الملك هارون مدة
على كظظ من ضيق باع ومن حصر
وما زال حتى زال والدهر كاشحٌ
عقاربه من كل ناحية تسري
فمن يبك شيئًا ضاع من بعد أهله
لفقدهم فليبك حزنًا على مصر
ليبكِ بني طولون إذ بان عصرهم
فبورك من دهر وبورك من عصر

أما القرامطة فاغتموا غياب الجيوش لمحاربة مصر، وعادوا إلى ما كان عليه في سوريا، فعلم محمد بن سليمان بذلك فسافر إلى بغداد مستخلفًا في مصر حاميتها وجيش الخليفة. إلا أن الأمور لم تكن قد سكنت تمامًا فثار ابن قلندج وضم إليه عصبة سببت اضطراب الراحة فاستدركها ابن كيغلغ حاكم سوريا، فترك دمشق ومعه جيش الخليفة الذي كان تحت قيادته، وجاء لإخماد ثورة مصر، فاغتنم القرامطة فرصة أخرى، واستولوا على دمشق، وتقدموا إلى طبريا فنهبوها، ولكنهم لم يجاوزوها مخافة أن تلاقيهم الجيوش التي كانت في مصر فعادوا قاصدين الكوفة، وكان هناك من المواقع ما لا علاقة له بهذا التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤