الفصل الثاني

الحملة الفرنساوية

تمهيد

fig067
شكل ٢-١: نابوليون بونابرت.

قد رأيت ما كان من انغماس مراد بك ورفيقه في المظالم واختلاس الأموال بغير الحق. وكيف أنهما تطرقا بتصرفهما هذا إلى الأجانب القاطنين في هذا القطر تحت حماية دولهم؛ فإنهما لم يكونا يراعيان حرمة ولا ذمة. وكان أولئك الأجانب يتحملون تلك التعديات بالصبر الجميل لأنهم رفعوا شكواهم إلى دولهم مرارًا فأوعزت إلى المظالم أن يرعوي فلم يرعوِ. وما زال الحال كذلك حتى جاء نابوليون بونابرت الرجل العظيم برجاله لافتتاح هذه الديار. وقبْل الخوض في تفاصيل تلك الحملة نشرح للقارئ أولًا: ما الداعي الذي حمل الفرنساويين إلى تجريدها؟ ثانيًا: كيف كانت مصر عند وصول تلك الحملة إليها؟

(١) لماذا جرد الفرنساويون إلى مصر

لمَّا قتل الفرنساويون ملكهم لويس السادس عشر وتخلصوا من الحكم الاستبدادي أقاموا عليهم نوعًا من الحكومة دعوها «الإدارة»، وهي عبارة عن لجنة مؤلَّفة من خمسة أعضاء يسمون كلًّا منهم «مديرًا»، وذلك سنة ١٧٩٥ للميلاد ( ١٢١٠ﻫ)، ثم جعلوا يحملون على ممالك الأرض يفتحونها بهِمَّة كبير قوادهم الرجل العظيم بونابرت، فحاربوا النمسا ثم إيطاليا فغيرها ولم يَبْقَ في سبيلهم إلا دولة إنكلترا واقفة لهم بالمرصاد وهي على جانب عظيم من القوة ولا سيما في البحار. فتباحثت إدارة فرنسا بذلك مرارًا لكنها لم تستطع مناهضة تلك الدولة؛ لما كانت تعلمه من قوتها ومناعة جانبها.

وكان بونابرت قد مَرَّ في البحر المتوسط وضم قسمًا عظيمًا من شواطئه إلى فرنسا، فطمع بمصر وقد أعجبه شأنها وما فيها من الخيرات وما بها من التعزيز لدولته والإرهاب لإنكلترا. إلا أن الإدارة لم تكُن على بيِّنة من الأمر فعرض بونابرت رأيه هذا عليها وشرح لها شرحًا مستوفيًا كيف كان هذا الوادي منذ القدم منشأ لخيرات العالم المتمدن، ثم أمسى موضوعًا لمطامع الدول العظيمة، وشاغلًا لرجال الفتوح من الإسكندر إلى الأيام الأخيرة ثم قال مخاطبًا الإدارة:

إن مصر أيها السادة أكثر بقاع الأرض خصبًا. كانت أهراءً لرومية قديمًا وللقسطنطينية الآن. وفيها الحنطة والأرز وسائر أنواع البقول والسكر والنيلة والقطن والسنا والخيار شنبر والنطرون والكتان والقنب، وفيها صنوف الماشية والطيور الداجنة، وقد اشتهرت على الخصوص بحسن حميرها وقوة جِمالها. نعم إن مواد الاشتعال والزيت والبن نادرة فيها لكن ذلك مستدرك؛ لأن الشرق لا يستغني عن هذا الوادي وهو مركز متوسط بين أفريقيا وآسيا. فالقوافل تحط رحالها في القاهرة كما ترسو المراكب عند الشواطئ بعد سفر طويل. وهذه القوافل مؤلَّفة من مئات وأحيانًا ألوف من الجِمال قادمة من بلاد العرب أو سوريا وسواحل المغرب أو الحبشة أو أواسط أفريقيا أو من رأس الرجاء الصالح أو السنغال، تحمل أنواع التجارة من الخشب والفحم والزيت والتبغ والبن والأثمار، ومن الرقيق والتبر والعاج والريش والصمغ والأطياب والعطور والشالات وكل محاصيل الهند، فتبيعها في مصر وتأخذ بدلًا منها أحمالًا من مصنوعات أوروبا.

فما برحت مصر أيها السادة منذ القدم موصلًا تجاريًّا بين أوروبا والشرق، وهذه تجارتنا مع الهند قد كانت قبل اكتشاف رأس الرجا الصالح تأتينا عن طريق مصر، ترسو السفن عند برنيس من سواحل البحر الأحمر، ومنها تنقل السلع على الجمال في الصحراء ٢٤ مرحلة إلى طيبة (الأقصر)، ومنها في النيل إلى مصر وتتوزع فيها، ومنها تنقل إلى أوروبا. وكانت تنقل أحيانًا إلى القصير في البحر الأحمر، ومنها إلى السويس ثم على الجِمال إلى منف ومنها إلينا. وإذا أغضينا عن أهمية مصر بالنسبة لتجارة الهند، فإن لها أهمية عظمى بالنظر لتجارتها الخصوصية.

فإذا فتحنا هذه البلاد واعتنينا بإدارتها خمسين سنة فقط يبلغ عدد سكانها أضعاف أضعاف ما هو عليه الآن. كان سكان هذا الوادي في الأزمنة الخالية بين ١٢ و١٥ مليونًا، وهم الآن لا يبلغون ربع هذا القدر لسوء الإدارة. فضلًا عما تقدمه مصر لمعاملنا من حاصلاتها، وما نبيعه فيها وفي جوارها من مصنوعات بلادنا. فما هي مستعمراتنا بالنسبة إلى هذه البلاد الخصبة الشاسعة الأطراف؟ هلم إليها فنستغل من أرزها وسكرها وقطنها كما فعل غيرنا، وهي تغنينا عن حاصلات أميركا وتكفينا مئونة الارتباط معها.

ولا يخفى عليكم أيضًا أننا إذا ثبتنا قدمنا في مصر لا تبقى إنكلترا طويلًا في الهند، أو نجعل على سواحل البحر الأحمر حاميات نقيمها في معاقل منيعة نذخر فيها نتاج ذلك القطر ونحول التجارة الهندية إليه. ولو فرضنا بقاءها عن طريق رأس الرجا الصالح كما هي الآن فإننا نقيم بيننا وبينها بابًا للمنافسة ونشق ترعة بين السويس والنيل، ولا شك إذا فعلنا ذلك أننا نحبط مساعي إنكلترا جملة؛ لأن التجارة تتحول إلينا. أما هذه الترعة فقد كانت محفورة منذ القدم ولا يصعب علينا إعادة حفرها. فإذا فتحنا مصر لا يقتصر نفعها لنا مثل نفع سائر المستعمرات العظيمة، لكنا نعرقل مساعي إنكلترا بها فنكتفي مؤنة مقاومتها. هذا إذا لم نذهب بها إلى الحضيض.

فترددت الإدارة بقبول مشروعه لكنها ما زال يستحث أعضاءها حتى اشتد الجدال بينه وبينهم، فرأى فيهم إصرارًا على مقاومته فعرض بذكر استقالته فنهضوا إليه وأوقفوه وأعادوا النظر في ما عرضه، ووافقوه على رأيه بشرط أن يكون ذلك سرًّا؛ لئلا تتصل مقاصدهم بمسامع إنكلترا فتسعى ضدهم. فانحصر هذا المشروع بين بونابرت والخمسة المديرين فقط، حتى الكاتب الذي كتب الأمر بإعداد الحملة لم يكن يفهم حقيقته؛ لأنه أمر أن يكتبه بصورة مبهمة في ٥ مارس سنة ١٧٩٨.

ومن مقتضى هذه الأوامر السرية أن تكون هذه الحملة مؤلَّفة من أربعين ألف مقاتل، عليهم أربعون قائدًا يختارهم بونابرت، وطائفة من رجال العلم لا يقل عددهم عن المائة بين مهندسين وجغرافيين وطبيعيين وكيماويين ولغويين وفلكيين ونحو ذلك العدد من سائر الصناع. وعمارة بحرية بقيادة الأميرال برويس، يضاف إليها المراكب الراسية عند طولون. وأن يقبض في مدة عشرة أيام من الخزينة مليون وخمسمائة ألف فرنك فضلًا عن ثلاثة ملايين من خزينة بارن، وأن يتصرف بهذه المبالغ حسب حكمته والأوامر السرية المعطاة له.

فبذل بونابرت جهده لتعزيز هذه الحملة والإسراع في إعدادها. فشاعت الأقاويل عن هذه الإعدادات وكثرت الظنون، فقال بعضهم إنها حملة تعدها فرنسا لمحاربة إنكلترا، وقال آخرون إنها تفعل ذلك لافتتاح مدن جديدة في آسيا وأفريقيا، وقال آخرون غير ذلك.

وبونابرت لم يألُ جهدًا في إعداد المهمات وترتيب أمور الحملة، فجعل المراكب المعدة لنقل الجند أربعمائة مركب تسير في أربع فرق من أماكن مختلفة: الفرقة الأولى تسير من طولون، والثانية من جينوا، والثالثة من شيفيتافكيا، والرابعة من جاكسيو، ثم تجتمع وتتحد وتسير إلى مصر. وأن تنقل على هذه المراكب أيضًا مطبعة عربية كانت في البروباغندا برومية مع ما يلزمها من العمال. وعلى أنقاض هذه المطبعة أقيمت مطبعة بولاق الأميرية. ونلقوا أيضًا كل ما يلزم من الأدوات الكيمية والطبيعية والرياضية، وانضم إلى طائفة العلماء كثير من مشاهير علماء فرنسا وصناعهم متطوعين ومثل ذلك القواد. فكأن فرنسا بجملتها تاقت إلى مرافقة هذا القائد العظيم، فانضم إلى حملته كثير من أبطالها وعلمائها وصناعها بقلب واحد. وهم لا يعلمون إلى أين تذهب بهم الأٌقدار.

أما الجيوش فجعل فيهم ألفين وخمسمائة من الفرسان وألفًا من الطبجية والمهندسين، ومن بقي (من الأربعين ألفًا) من المشاة، وكان من جملة القواد الذين رافقوا تلك الحملة: كلابر وديزه ورينير وبون ومينو وهم قواد الخمس الفرق من المشاة. وكان مورات قائدًا للفرسان وكافرللي قائدًا لفرقة المهندسين ودومارتين على الطبجية.

هذا من قبيل الحملة البرية، أما الحملة البحرية فكانت مؤلفة:
  • أولًا: من ١٥ مركبًا حربيًّا من جملتها «الشرق» محمولها مائة وعشرون مدفعًا، ومركبان محمول الواحد منهما ثمانون مدفعًا، وعشرة مراكب محمول الواحدة منها ٧٤ مدفعًا. واثنان محمول كل منهما ٦٤.
  • ثانيًا: من أربع عشرة مدرعة في بعضها أربعون مدفعًا، وفي بعضها ٣٦ وفيها إبريقان.
  • ثالثًا: من ٧٢ مركبًا حربيًّا صغارًا على أشكال مختلفة. هذه هي الحملة البحرية، وهي كما رأيت أكثر من مائة قطعة ومعها سبعمائة مركب لنقل العساكر البَرِّيَّة ومهماتهم وخيولهم وأسلحتهم بقيادة برويس، وبلغ عدد الملاحين نحو عشرة آلاف.

أما الحملة العلمية المرافقة لتلك الحملة العسكرية، فكانت مؤلَّفَة من فرق لكل من العلوم أو الصنائع، وجملة أعضائها مائة، فيهم فرقة للهندسة وأخرى للفلك، وفرق أخرى للميكانيكيات وللكيميا والمعادن والحيوان والنبات. ومثل ذلك للجراحة والطب والاقتصاد السياسي والإنشاء والجغرافيا وعلم الآثار والبناء والتصوير والرسم والنقش والحفر والموسيقى … إلخ. وقد اختير لهذه الفنون أشهر من اشتغل بها، ومعهم المطبعة المتقدم ذكرها وعدة مترجمين. وجميع هذه المعَدات كانت على أُهبة السفر في ٢٠ أبريل سنة ١٧٩٨؛ أي بعد صدور الأمر ببضعة أسابيع. ومن الغريب أنه مع تعداد الرجال الذين ساعدوا في تنفيذ أوامر الإدارة وفيهم القُوَّاد العظام ورجال العلم والصُّنَّاع، لم ينكشف لأحد منهم حقيقة المقصود من هذه الحملة إلا لتاليران، وهو الرجل السياسي الذي أرسلته الإدارة إلى الأستانة لمخابرة الباب العالي بشأنها وطلب مصادقته على تجريدها.

وفي ٩ مايو سنة ١٧٩٨م وصل بونابرت إلى طولون، والجند في انتظاره كأنهم على جمر الغضا، فخطب فيهم فزادهم حماسة ورغبة في الحرب. وفي ١٩ منه ودع بونابرت امرأته وركب على الدارعة «الشرق»، وهي أكبر دوارع الأسطول ومعه أركان حربه كأنهم ذاهبون إلى نزهة أو غنيمة باردة. وأقبلت سائر المراكب من النقط الأخرى حتى اتَّحدت وعددها جميعًا يزيد على الخمسمائة، فسارت تخترق عباب البحر وعليها خمسون ألف نسمة. وفي ٩ يونيو سنة ١٧٩٨ وصلوا إلى مالطة، ومنها ساروا يطلبون الإسكندرية.

فأوجست إنكتلرا خِيفَةً من هذه الحملة فأنفذت نلسون أحد كبار قوادها البحريين في أسطول، وعهدت إليه أن يقتص آثار الأسطول الفرنساوي في البحر المتوسط، وأن يكون ساهرًا على إجراءاته، وأن يقاومه إذا رأى منه مسًّا لحقوق إنكلترا، فسار نلسون فطاف البحر المتوسط، ثم تنبأ أن الأسطول الفرنساوي لا يقصد إلا مصر أو سوريا فسار نحوهما. فبلغ ذلك بونابرت فأمر الأسطول أن يقيم غربي الإسكندرية ببضعة مراحل، وأن يكون دائمًا في استعداد للدفاع.

(٢) حالة مصر عند قدوم الحملة الفرنساوية

لم يكن في وادي النيل إذ ذاك أكثر من ثلاثة ملايين من السكان يتألفون من ثلاث طوائفَ كبرى؛ وهم أولًا: الأٌقباط سكان مصر الأصليون لا يزيدون عن مائتي ألف نفس، ثانيًا: العرب الذين افتتحوها، ثالثًا: الأتراك وفيهم المماليك، وشرذمات من طوائف أخرى.

والباشا هو الحاكم المرسل من الأستانة لتأييد سلطة السلطان، كان يقيم في قلعة الجبل في القاهرة، لا فائدة من وجوده هناك إلا إثبات سلطة جلالة السلطان على مصر، ويقوم ذلك بالخطبة له في الصلاة وضرب النقود باسمه. أما المماليك فكانوا أخلاطًا من الأتراك والشراكسة والكرج، وجميع ثروة البلاد وإدارتها في أيديهم. على أنهم مع ذلك لم يكن لهم في البلاد عصبية؛ لأنهم لم يكونوا يتوارثون الحكم إلا نادرًا. وإنما كان يتولى منهم من يمتاز بالقوة أو الاحتيال أو المحسوبية وما شاكل. وقَلَّمَا ارتقَوْا منصة الحكم بالحكمة والدراية وحسن السياسة؛ ولذلك كانت أحكامهم عرضة للفساد وداعية للخلل. وكان مقرهم في بهو كبير مختص بهم في قلعة الجبل، وفيها إصطبلات كبيرة لخيلهم ومخازن لأسلحتهم ومعداتهم. أما مساكنهم الخصوصية فكانت غالبًا في حي قيسون وحي بركة الفيل ودرب الحبانية في أجمل ما يكون من البناء مرصفة بالرخام والفسيفساء، وفيها الرياش من المخمل المزركش بالحرير. وفي بعضها حدائق غَنَّاءُ تزينها السراري الجميلات من نساء الكرج وغيرهن.

أما الجنود فكانوا لا يزيد عددهم على الثمانمائة أو الألف من المماليك الأشداء، وقَلَّمَا يكونون على شيء من الفنون الحربية وأكثرهم من الفرسان، أما المشاة فقليلون بينهم. فإذا امتطى المملوك صهوة جواده تقلَّد القربينة بمنكبيه والطبنجات في منطقته والسيف على يساره وهراوة في قربوزة وقضيبًا من الفولاذ أمام أنفه ممتدًّا من جبهته إلى ذقنه. وقد يتفق أن يتمرن أحدهم على الحركات العسكرية، أما الجماعات فلا يعرفون شيئًا عن المربعات أو الخطوط الحربية وإنما كانوا يُتقنون الفروسية. وفي يوم قدوم الفرنساويين إلى مصر كان على الأحكام إبراهيم بك ومراد بك كما مَرَّ بِكَ؛ الأول شيخ البلد والثاني أمير الحج، وبأيديهما الحل والعقد. وكان إبراهيم بك مشهورًا بالغنى والطمع والاحتيال، وكان مراد يفوقه إقدامًا وحزمًا وفيه كرم وسخاء. وكلاهما لم يؤيدا سلطتهما إلا بالقتل والنهب والاحتيال، وقد اتفقا على اقتسام إيراد البلاد.

أما العرب فمنهم فئة العلماء والفقهاء وفي أيديهم إدارة المعابد والتكيات، وهم في الغالب من عائلات قديمة متصلة بالصحابة أو غيرهم من أصحاب البيت، وكانت معيشتهم غالبًا في ترف ورخاء، وإن لم يبلغوا في ذلك مبلغ البكوات المماليك. وكانوا محترمين لدى الأهلين احترامًا دينيًّا وأدبيًّا. أما نفوذهم السياسي فكان ضائعًا في جانب استبداد المماليك.

وكانت التجارة رائجة في مصر وأصحابُها من ثقات العرب وأصحاب الأمانة؛ ولذلك قلَّت بينهم التفاليس. وكانت فرضة القاهرة بولاق وفيها كانت ترسو المراكب حاملة البضائع على اختلاف الأنواع قادمة من أقطار شتى من العالم. ومن بولاق تحمل إلى الخانات أو الوكالات كخان السبع قاعات وخان التركماني وتباع فيها بالإجمال. أما البيع بالمفردات فكان في الأسواق إلى شمال المدينة من باب زويلة إلى الباب الذي يشرف على الصحراء.

أما جباية جمع الخراج فكانت موكولة إلى فئتين من المصريين هما المسلمون والأقباط. فمن المسلمين كان الروزنامجية وعندهم تقاويم الأرضين وسجلات الأملاك، وكانوا ممتازين عن سائر الأهلين ومحافظين على أنسابهم، لا يتزوجون إلا من بنات أكْفائهم، وكانوا على جانب من الثروة ولهم عقارات واسعة يُضرب بهم المثل في ذلك. أما الأقباط فكانوا يقتصرون على ضبط الحسابات في القبض والصرف كسائر الحساب إلا فيما ندر.

وكانت مساكن الأقباط في القاهرة شمالي المدينة وغربيها فيما كان يعرف بباب المقس، حيث ثُمن الأزبكية الآن وفي باب البحر؛ ولذلك دُعِيَ بعض أحيائها بحارة النصارى، وأكثرهم من متوسطي الثروة. أما أصحاب المصارف والمداينون والصيارف فكانوا من اليهود، ويقيمون عائلات كثيرة في بيت واحد بحارة اليهود ويضطهدهم المماليك اضطهادًا شديدًا.

أما الأجانب في القاهرة فأكثرهم من الفرنساويين، وكانوا يلبسون اللباس العربي ويتكلمون اللغة العربية جيدًا، ويقيمون في جبهة الموسكي، وكانوا يتزاوجون مع المسيحيين من السوريين، وهؤلاء كانوا يقيمون غالبًا في درب الجنينة. وكان في وادي النيل جماعة كبيرة من السوريين يقيمون غالبًا في السواحل، وفي المدن الكبيرة مثل دمياط ورشيد وأسيوط يتعاطون التجارة، إما ببضائع أوروبا أو بحاصلات السودان من العاج والريش والصمغ أو ببضائع بلاد أخرى. أما علاقة مصر مع الدول الأجنبية في ذلك العهد فكانت قاصرة على التجارة. والبندقية «فنيس» أمتن علاقة معها من سائر الأمم، ولها قنصل مقيم في الإسكندرية فضلًا عن علاقات أخرى مع تجار فرنسا وإنكلترا.

هذا ملخص حالة مصر عند قدوم الفرنساويين إليها.

(٣) فتح الفرنساويين مصر (من سنة ١٢١٣–١٢١٦ﻫ/١٧٩٨–١٨٠١م)

مر بك في الفصل السابق أن الأسطولين الفرنساوي والإنكليزي سارا في البحر المتوسط قاصدين شواطئ الدلتا.

ففي يوم الأحد الواقع في ١١ محرم سنة ١٢١٣ﻫ ظهر في ميناء الإسكندرية أسطول مؤلَّف من خمسة وعشرين مركبًا إنكليزيًّا. وكان متسلم الإسكندرية «حاكمها» السيد محمد كريم أحد أعيان الوطنيين. فلما عَلِمَ بقدوم الأسطول جعل يراقب حركاته وسكناته، وأهل المدينة يتساءلون فيما بينهم عن أمره، وبعد قليل اقترب من الثغر قارب فيه عشرة من الإفرنج طلبوا مقابلة الحاكم، فجيء بهم إلى السيد محمد كريم وهو في مجلسه، وحوله رجال حكومته فسألهم عمَّا جاءوا من أجله فقالوا: «إن ما ترونه في هذا البحر أسطول إنكليزي جاء للتفتيش عن عمارة فرنساوية عظيمة خرجت مؤخَّرًا تريد جهة من الجهات، فربما داهمتكم فلا تقوَوْن على دفعها فنكون لكم نصراء عليها.» فظن السيد محمد كريم ذلك مكيدة فأغلظ لهم بالقول، فقالوا: «إننا نرسو في هذا البحر نحافظ عليه لا نطلب منكم إلا المدد بالماء والزاد بثمنه.»

فأجابوهم: «إن هذه البلاد بلاد السلطان ولا يد للفرنساويين فيها، فإذا جاءونا لا نبالي بهم فاذهبوا أنتم عنَّا.» فعادوا ثم أقلعت المراكب تخترق عباب البحر. أما السيد محمد كريم فأنفذ إلى مراد بك في القاهرة حال وصول الأسطول يخبره بما كان، وأرسل إلى كاشف البحيرة يأمره بجمع العربان وأن يأتي بهم للمحافظة على الثغر. فلما اتصل ذلك بمسامع الأمراء والبكوات لم يكترثوا به وقالوا: «لا نبالي بمن تحدثه نفسه بمداهمتنا، وإننا ندوسه تحت حوافر خيولنا.» أما الشعب فاضطرب وخاف. ثم جاء خبر آخر بإقلاع الإنكليز فسكن الجأش.

وفي يوم الإثنين في ١٨ منه وصلت ثغر الإسكندرية العمارة الفرنساوية، فأرسلت أحد قواربها تطلب القنصل، فمانع السيد محمد كريم في أول الأمر بتسليمه. ثم أذِن له فنزل حتى أتى الدارعة التي عليها بونابرت، فسأله عن حال المدينة فأخبره بما كان من أمر الأسطول الإنكليزي، وأن الأهلين في يقظة واستعداد للدفاع جهادًا في سبيل الدين.

(٣-١) تدابير المماليك لرد الفرنساويين

وكانت حامية الإسكندرية لا تزيد على خمسمائة من الإنكشارية، معظمهم يتعاطون التجارة أو يشتغلون بالصناعة، وكانوا مع ذلك في استعداد للدفاع. وكتب السيد محمد كريم إلى مراد بك وإبراهيم بك في القاهرة بما جرى إلى أن قال: «إن العمارة التي ظهرت في هذا اليوم لا يُعرف أولها من آخرها.» فلما تلا مراد بك الرسالة استشاط غيظًا ورمى بالكتاب إلى الأرض. ثم ركب جواده قاصدًا إبراهيم بك في سراي قصر العيني على ضفة النيل المطلة على جزيرة الروضة. فلما اجتمعا قررا عقد جمعية عمومية فبَعَثَا إلى كبراء البلاد ورجال الدولة، وفيهم بكير باشا الوالي، فاجتمعوا اجتماعًا حافلًا، وتباحثوا في ما جاءهم من الأنباء الأخيرة. فقال مراد بك وهو ينظر إلى بكير باشا شزرا: «لا ريب أن الفرنساويين لا يجسرون على القدوم إلى مصر من تلقاء أنفسهم، فلعلهم جاءوا بأمر من الباب العالي … ولكن الله قادر على أن ينصرنا على الاثنين.»

فأجابه بكير باشا: «إن هذا الكلام لا يليق صدوره منك، وكيف يخال لك أن الباب العالي يُسَلِّمُ بدخول أمة غريبة إلى بلاده! دع عنك ذلك وهَلُمَّ إلى سيفك ورجلك لدفع العدو الذي داهمك.» وبعد المفاوضة أقروا على المواد الآتية:
  • (١)

    أن يسير مراد بك في فرقة من الفرسان على الضفة الغربية لفرع رشيد من النيل نحو الإسكندرية لإيقاف الفرنساويين عن التقدم.

  • (٢)

    أن يعسكر إبراهيم بك بمن يبقى من الجند على الضفة الشرقية عند بولاق لحماية القاهرة.

  • (٣)

    أن يرسل بكير باشا إلى الأستانة يستمد الباب العالي «بالترياق من العراق»، ثم شاع في اسواق القاهرة خبر قدوم الفرنساويين فكثر الهرج وازداد الاضطهاد على المسيحيين. وعبثًا حاول إبراهيم بك وبكير باشا إقناع المسلمين أن هؤلاء المسيحيين من جملة رعايا الدولة العلية.

(٣-٢) فتح الإسكندرية

أما بونابرت فبعد أن استوعب كلام القنصل أقر على النزول إلى البر حالًا، فاعترضه الأميرال برويس بما يحُول دون ذلك من بُعد المسافة وصعوبة المسلك، فأَصَرَّ على النزول، وكانت قيادة القوتين البحرية والبرية بيده، فوافقه برويس مُكرَهًا فسار بالمراكب إلى جهة العجمي وبرج مرابوت على مسافة قصيرة جدًّا من الإسكندرية غربًا. وقَضَوُا النهار بطوله يستعدون للنزول. وفي الساعة العاشرة مساءً باشروا النزول بالسرعة الممكنة. وما زالوا مُجِدِّينَ في ذلك إلى الساعة الأولى بعد نصف الليل، وقد نزل منهم أربعة آلاف وثلاثمائة رجل، فنزل بونابرت — وكانت الليلة مقمرة — فنام نحو ساعتين على الرمال. ثم أرسل طلائعه وسار بمن بقي مشاةً مستترين بجنح الليل ومستنيرين بالقمر، وفي الصباح التقى بونابرت بقبائل من عرب البحيرة «ولد علي» تحت قيادة أميرهم فتبادلوا طلقات قليلة. ثم فر العربان وتقدم بونابرت برجاله حتى أشرفوا على الإسكندرية يستدلون على مكانها بعمود السواري.

ثم وقف بونابرت على مرتفع أشرفَ منه على الإسكندرية فرآها وفيها المآذن والمنائر تناطح السحاب. فجعل رجاله فرقًا بين الواحدة والأخرى مرمى رصاص، وخطب فيهم، وحرَّضهم أن يتجنبوا إهراق الدماء ما استطاعوا إلى حجبها سبيلًا، فهاجم الفرنساويون المدينة ودخلوها عنوة، وقد أصيب الجنرال كلابر برصاصة في رأسه لم تُمِتْهُ فاستلمت الجنود الفرنساوية الأسوار، وفرت الحامية المصرية تطلب ملجأ في الأبراج القديمة، وسقط الجنرال مينو عن أحد الأسوار التي استلمها هو فجُرِحَتْ فخِذه. أما الجنرال مرمون فدخل المدينة من بابها بعد أن حطمه بالفئوس، وخرق باقي الجيش الأسوار ودخلوا منها؛ لأنها لم تكن متينة البناء.

ثم أرسل بونابرت أحد ضباط جيشه إلى سكان المدينة يخبرهم أنهم في مأمن على أرواحهم وأموالهم، وأن الفرنساويين لم يأتوا لمحاربتهم وإنما جاءوا لمحاربة المماليك.

أما السيد محمد كريم والعساكر والأتراك ففروا إلى حصن فرعون، فاضْطُرَّ الأهلون إلى التسليم قهرًا، فدخل بونابرت ورجاله الأسواق، وبلغ ذلك السيد محمد كريم فجاء بمن معه وسلَّم سلاحه، وفعل مثل ذلك المشايخ والعلماء فأكرمهم بونابرت إكرامًا خصوصيًّا. ثم التفت إلى السيد كريم قائلًا: «قد أخذت سلاحك بالسيف وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير؛ لأني أخذتك بعد أن دافعتَ عن نفسك ما استطعت. ولكن الشجاعة حليفة الشرف، ها إني أعيد إليك سيفك على أمل أن تكون مساعدًا أمينًا للجمهورية الفرنساوية، كما كنت للحكومة السابقة على عتوها وظلمها.» ثم سأله إذا كان يرغب في معاضدة مساعيهم، وهي تأييد سلطة الباب العالي وقمع المماليك. فأجاب بالإيجاب فأقره على الإسكندرية تحت مُناظرة الجنرال كلابر، وكان قد اضْطُرَّ إلى البقاء في الإسكندرية بسبب الجُرح الذي أصابه.

ثم أباح بونابرت للمسلمين المحافظة على معتقداتهم وصلواتهم كما كانوا قبلًا. وجرَّد الأهلين من السلاح، وأمرهم أن يجعلوا على صدورهم الجوكار وهو علامة مصنوعة من الجوخ أو الحرير مستديرة بقدر الريال، مؤلَّفة من ثلاثة قطع كحلية وبيضاء وحمراء توضع بعضها فوق بعض بحيث تظهر الألوان الثلاثة؛ شارة العلم الفرنساوي ذي الثلاثة الألوان.

(٣-٣) منشور بونابرت إلى المصريين

ولما رسخت قدم الفرنساويين في الإسكندرية نزل للبر بعض رجال الحملة العلمية، ومعهم المطبعة العربية، وجعلوا يُنَقِّبُونَ في آثار الإسكندرية البنائية والجيولوجية. ثم أمر بونابرت أن تنزل جميع المهمات العسكرية من خيول وأسلحة ومدافع وغيرها إلى البر سريعًا، وأن يطبع منشور بالعربية يُفَرَّقُ في البلاد، فكُتِبَ وطُبِعَ، وهذا نصه بالحرف الواحد:

بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك في ملكه. من طرف الجمهور الفرنساوي المبني على أساس الحرية والمساواة السر عسكر الكبير بونابرت أمير الجيوش، يعرف أهل مصر جميعهم أن السناجق الذين يتولون مصر منذ زمن مديد يعاملون الملة الفرنساوية بالاحتقار والاعتداء، وقد حضرتِ الآن ساعة عقوبتهم، وا حسرتاه! إنه منذ أيام وعصور هؤلاء المماليك المجلوبون من بلاد الأباظة والكرج يفسدون في أحسن أقاليم الكرة الأرضية، ولقد حتم رب العالمين القادر على كل شيء بانقضاء دولتهم.

فيا أيها المصريون، وقد يقال لكم إنني ما نزلت هذه الجهة إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح لا تصدقوه، وقولوا لإخوانكم إنني ما قدمت إلا لآخذ بحقكم من الظالمين، وإنني أكثر من المماليك عبادة لله — سبحانه وتعالى — واحترامًا لنبيه محمد وللقرآن العظيم. وقولوا لهم أيضًا إن جميع الناس شرع عند الله، وإن الذي يميز بعضهم عن بعض هو العقل والفضائل والعلوم. وأي شيء في المماليك يميزهم عن غيرهم ويستوجب أن يكون لهم وحدهم كل ما تجلب به الحياة الدنيا. فحيثما تكون أرض مخصبة فهي للمماليك، ومثل ذلك أحسن الجواري وأكرم الخيل وأجمل المساكن. فإن كانوا قد أخذوا الأرض المصرية التزامًا، فليظهروا لنا الحجة التي كتبها لهم الله. ولكن رب العالمين رءوف على الناس، وبعونه تعالى من اليوم فصاعدًا لا يُستثنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية؛ فالعقلاء والفضلاء والعلماء بينهم يفوض إليهم تدبير الأمور والمهام، وبذلك تصلح حال الأمة كلها في الأراضي المصرية، كالمدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر الواسع الذي أضاعه طمع المماليك وظلمهم.

فيا أيها القضاة والمشايخ والأئمة ويا أيها الشربجية وأعيان البلاد، قولوا لأمتكم إن الفرنساويين هم أيضًا مسلمون مخلصون. وإثباتًا لذلك قد نزلوا رومية الكبرى، وأخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائمًا يحث النصارى على محاربة المسلمين، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الكفاليرية الذين كانوا يزعمون أن الله — تعالى — يطلب منهم محاربة المسلمين. ومع ذلك فإن الفرنساويين في كل وقت أحباء حضرة سلطان العثمانيين وأعداء أعدائه — أيد الله ملكه — وبعكسهم المماليك؛ فإنهم خرجوا عن طاعة السلطان غير ممتثلين لأوامره، ولم يطيعوه إلا عن طمع في قلوبهم كمين.

فطوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فتصلح حالهم وترفع مراتبهم، وطوبى للذين يقعدون في أماكنهم غير مائلين لأحد الفريقين المتحاربين. لكن الويل ثم الويل للذين يتحدون مع المماليك، ويساعدونهم في الحرب علينا، فلا يجدون طريق الخلاص ولا يبقى لهم أثر.

  • المادة الأولى: جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة على مسافة ثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها العسكر الفرنساوي يجب أن ترسل للصاري عسكر بعض وكلاء من عندها؛ لكي يُعَرِّفُوا المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا العلم الفرنساوي الذي هو أبيض وكحلي وأحمر.
  • المادة الثانية: كل قرية تقوم على العساكر الفرنساوية تُحرق بالنار.
  • المادة الثالثة: كل قرية تطيع العساكر الفرنساوية يجب عليها أن تنصب العلم الفرنساوي، كذلك علم سلطان العثمانيين محبنا دام بقاؤه.
  • المادة الرابعة: على المشايخ في كل بلد أن يختموا حالًا جميع الأرزاق والبيوت والأملاك خاصة المماليك، وعليهم الاجتهاد الزائد لكي لا يضيع أدنى شيء منها.
  • المادة الخامسة: يجب على المشايخ والقضاة والأئمة أن يلازموا وظائفهم، وعلى كل واحد من أهل البلد أن يبقى في مسكنه مطمئنًّا، كذلك تقدم الصلاة في الجوامع على العادة. وعلى المصريين جميعًا أن يشكروا فضل الله سبحانه وتعالى على انقراض المماليك قائلين بصوت عالٍ أدام الله إجلال سلطان العثمانيين. أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي. لعن المماليك وأصلح حال الأمة المصرية.

    تحريرًا في معسكر الإسكندرية في ١٣ شهر مسدور من السنة السابعة من الجمهورية الفرنساوية؛ يعني أواخر شهر محرم سنة ١٢١٣ﻫ. ا.ﻫ.

(٣-٤) زحف بونابرت على القاهرة

وأمر بتوزيع هذا المنشور في البلاد المصرية. ثم فكر في أمر التوجه إلى القاهرة وإخضاع سائر القطر. وكان من الإسكندرية إلى القاهرة طريقان: الواحد يمر بدمنهور وهو طريق الصحراء على البر الغربي، والثاني طريق رشيد في النيل. فرأى الطريق الثاني أصعب مسلكًا عليه لأن رشيد كانت لا تزال في حوزة المماليك، فأقر أن يسير عن طريق دمنهور في الصحراء، وكان قد أنفذ الجنرال ديزه عند استلام الإسكندرية؛ ليسير في ذلك الطريق، وأرسل عمارة بحرية لتحتل رشيد ثم تتقدم في النيل لملاقاته في الرحمانية.

وفي ٢٤ محرم سنة ١٢١٣ﻫ/٧ يوليو سنة ١٧٩٨م برح بونابرت الإسكندرية في الساعة الخامسة مساء اتقاء الحر تاركًا كلابر فيها. وما زال سائرًا بحملته إلى منتصف الليل، فنزلوا للراحة فرقدوا ساعتين ثم نهضوا، وما زالوا يواصلون السير ليلًا ونهارًا وقد قاسَوْا عذابًا شديدًا من قلة الماء حتى وصلوا دمنهور، فوجدوا خيرات كثيرة وماءً غزيرًا فمكثوا هناك يومين وليلتين. ثم شخصوا إلى الرحمانية في صباح ٢٨ محرم سنة ١٢١٣ﻫ/١١ يوليو سنة ١٧٩٨م.

وفي اليوم الثاني من سيرهم لاقتهم شرذمة من الفرسان المماليك، فجرت بين الفريقين مناوشة شفت عن انهزام المماليك، وقد قُتِلَ منهم نحو خمسين فارسًا. فواصل بونابرت سيره حتى وصل الرحمانية وقابل النيل، فتواثب العساكر على مائه كأنهم ذئاب خاطفة فشربوا وتركوا خيولهم للمرعى. وعسكر بونابرت ومن معه طلبًا للاستراحة على أثر ما قاسَوْه من مشاق السفر والعطش، ريثما تصلهم العمارة البحرية التي بعثوها إلى رشيد. وبعد ليلتين من مكوثهم هناك أتت العمارة وقد استولت على رشيد وجعلت فيها حامية تحفظها. وكانت الجيوش قد استراحت فتأهبت للرحيل إلى القاهرة، فسارت المشاة والفرسان على الضفة الغربية حذاء النيل، وإلى يسارها العمارة سائرة في النيل، وما زالوا يجدون السير حتى أتوا محلة سلامة عند المساء، فلم يمكنهم استطلاع حالة العدو تلك الليلة.

(٣-٥) خطة مراد بك في الدفاع

أما ما كان من أمر مراد بك فلما عهد إليه المسير إلى الإسكندرية كما تقدم جمع إليه فرسانه، وقبل خروجهم من القاهرة صاروا يصادرون الناس ويأخذون ما يحتاجون إليه بلا ثمن. ثم سار بهم إلى الجسر الأسود في البر الغربي، فمكث يومين ريثما تكامل العسكر وسناجقه، وفيهم علي باشا الطرابلسي وناصيف باشا، وكانا من أخصائه المقيمين معه في الجيزة. وأخذ معه كثيرًا من المدافع والبارود. وجعل الرجالة — وهم أسراب من الألداشات والغليونجية والأروام والمغاربة — حملة بحرية تسير في النيل على الغلايين الصغار التي أنشأها هو.

ولما برح الجسر الأسود أرسل إلى مصر بإشارة علي باشا الطرابلسي يأمر باصطناع سلسلة من الحديد في غاية الثخن والمتانة، طولها مائة وثلاثين ذراعًا تنصب بعرض البوغاز عند برج مغيزل من البر إلى البر؛ لتمنع مراكب الفرنساويين من المرور، وأن يشاد عندها جسر من المراكب عليها المتاريس والمدافع؛ ظنًّا منه أن الفرنساويين لا يناهضون المصريين في البر، ولا بد من قدومهم بحرًا، وأنهم يطاولونهم ويصابرونهم في القتال حتى تأتيهم النجدات. وما زال مراد بك سائرًا فيمن معه على ضفة النيل الغربية وإلى يمينه الغلايين وفيها من ذكرنا من الرجال قاصدًا الجيوش الفرنساوية، فوصل إلى قرية شبرايس وعسكر هناك بفرسانه، وأرسل عمارته لملاقاة عمارة الفرنساويين فالتقت بها على مسافة قصيرة من منية سلامة، وقد تجاوزت جنود البر بسبب الريح الشديدة التي طلعت عليها ذلك اليوم.

(٣-٦) التقاء الجيشين

فبغت الفرنساويون لذلك الاتفاق فأطلقوا نارهم، فأجابهم المماليك وكان على قيادة العمارة المصرية علي باشا الطرابلسي المتقدم ذكره، فاحتدمت الحرب بين الفريقين وكادت تدور الدائرة على الفرنساويين، وقد يئسوا لدخول عدة من مراكبهم في حوزة المماليك، فأرسل بيريه قائد العمارة الفرنساوية رسولًا يوصل الخبر إلى بونابرت ليسرع إلى إمدادهم. ثم اتفق أن إحدى قنابل الفرنساويين أصابت المركب الذي فيه ذخائر المماليك فأحرقتها وتطايرت أجزاؤها في الفضاء، فانذعر المماليك وخابت آمالهم. ثم وصل بونابرت بمن معه فحمِد الاتفاق الذي نجَّى عمارتهم، وأمر أن تجعل عساكره مربعات منتظمة لملاقاة المماليك في البر أيضًا، فالتقى الفريقان، وبعد الأخذ والرد عاد المماليك على أعقابهم يطلبون النجاة، وفر كل من كان في القرى المجاورة، فدخلها الفرنساويون فلم يجدوا فيها أحدًا، فواصلوا السير حتى أَتَوْا وردان، فعسكروا للاستراحة ثم بلغهم أن مراد بك ورجاله تحصنوا في إمبابة مقابل القاهرة.

وفي ٧ صفر سنة ١٢١٣ﻫ خرج بونابرت من وردان بجيشه قاصدًا القاهرة، وما مشى يسيرًا حتى ظهرت له الأهرام العظيمة وراء الأفق. وما زال أهل القاهرة منذ سفر مراد بك لملاقاة الفرنساويين في اضطراب يجتمع علماؤهم وفقهاؤهم في الجامع الأزهر، يقدمون الصلوات والتضرُّعات إلى الله أن ينصره على أعدائه، ومثل ذلك كان يفعل القراء وتلامذة المدارس. أما باقي الأهلين فكانوا في اضطراب عظيم ولا سيما عندما كانوا يسمعون بتقهقر المماليك.

(٣-٧) معركة إمبابة

أما إبراهيم فكان معسكرًا في بولاق كما تقدم. فلما بلغه تقهقر مراد بك من شبرايس بمدافعه خابَر رجال حكومته، فأقروا على بناء الطوابي عليها المدافع من بولاق إلى شوبرا تعزيزًا للقاهرة. أما سكان القاهرة فمن يسكن جأشهم وقد وقع في قلوبهم الرعب؟ وكان مراد بك قد تحصَّن في إمبابة على أن يقابل الفرنساويين هذه المرة بالمدافع وليس بالفرسان كما فعل في شبرايس. وفي صباح يوم السبت في ٨ صفر بلغ الفرنساويون الجسر الأسود ثم أم دينار، وفي صباح ٨ منه (٢١ يوليو) غادر الفرنساويون أم دينار ونزلوا على ميلين من إمبابة في حقل من البطيخ. فكان النيل عن يسارهم والأهرام وسلسلة جبال ليبيا عن يمينهم، وإمبابة أمامهم وفيها مراد وجنوده، وعليهم الألبسة والدروع من الحديد المصقول تتلألأ في أشعة الشمس. وألوان ملابسهم تزيدها رونقًا وأصوات خيولهم قد ملأت الفضاء.

ونظر بونابرت إلى معسكر العدو فرآه حصينًا، وفي مقدمته أربعون مدفعًا مُعَدَّة لإطلاق القنابل على الفرنساويين عند أول حركة يتحركونها نحوهم. فالتفت إلى رجاله وأشار إلى الأهرام قائلًا: «اعلموا أن خمسين جيلًا من الناس تنظر إليكم من قمم هذه الأهرام وتراقب حركاتكم، تنظر ما يئول إليه أمركم مع هؤلاء المماليك.»

fig141
شكل ٢-٢: الجيوش الفرنساوية بجوار الأهرام.
وترى فى شكل ٢-٢ الجيوش الفرنساوية بجوار أهرام الجيزة.

ثم أمر فرقة الجنرال ديزه أن تتقدم نحو اليمين والفرق الأخرى نحو اليسار تجنُّبًا لنيران تلك المدافع. فأدرك مراد بك مرادهم من هذه الحركات فأمر أيوب بك الدفتردار أن يطلق القنابل على فرقة الجنرال ديزه ويوقِفها عن المسير. فوقفت على شكل مربع تنتظر هجوم المماليك، فهجم أيوب بك هجمة الأُسُود وتبعته السناجق بالسيوف، فلاقاه مربع ديزه بنار كالصواعق المتساقطة فلم ينفك أيوب بك هاجمًا، وهو ينادي بأعلى صوته: «ويل لكم أيها الكفار الملاعين! قد ساقتكم كبرياؤكم إلى أرضنا، مهلًا إننا سنملأ القبور بأجسادكم، ونجعل هذا اليوم يومًا تذكره أعقابكم من بعدكم. أما نحن فإذا مات أحدنا فإنه يذهب شهيدًا إلى النعيم، والذي يبقى حيًّا فله السعادة إلى آخر أيامه.»

هجمت الفرق الفرنساوية من على اليسار، واشتد القتال وما زالت الحرب سجالًا حتى تقهقر المماليك، وقُتِلَ أيوب بك وفَرَّ مراد بك بمن بقي من رجاله قاصدًا الصعيد، واستولى الفرنساويون على إمبابة.

(٣-٨) خوف أهل القاهرة

فلما اتصلت تلك الأخبار بالقاهرة ضجت العامة وكثرت الغوغاء من الرعية وأخلاط الناس بالصياح منادين: «يا رب يا لطيف! يا رجال الله!» كأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم، والعقلاء منهم ينادونهم أن يتركوا ذلك الصياح قائلين: «إن الصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب، وضرب الرقاب لا برفع الأصوات والصراخ والنباح.» فكانوا لا يسمعون ولا يرجعون.

ثم ركبت طائفة من الأمراء والأجناد من المعسكر الشرقي في بولاق، وفيهم إبراهيم بك، وشرعوا في التعدية إمدادًا لمراد فتزاحموا على المعادي؛ لأن التعدية من محل واحد والمراكب قليلة، فلم يصلوا إلى البر الثاني حتى وقعت الهزيمة على المحاربين وريح النكباء يشتد هبوبها، وأمواج البحر في قوة اضطرابها، والرمال يعلو غبارها وتنسفها الريح في وجوه المصريين، فلم يستطع أحدهم أن يفتح عينيه من شدة الغبار. وكان ذلك من أعظم أسباب الهزيمة حتى خيل للناس أن الأرض زُلْزِلَتْ والسماء ساقطعة عليها. والهزيمة مع ذلك متواصلة حتى انهزم إبراهيم بك وبكير باشا. وجعل أهالي المدينة يأخذون ما خَفَّ حمله وغلا ثمنه ويفرون من وجه الموت جنوبًا وشرقًا إلى الصعيد أو إلى السويس وبلبيس. أما إبراهيم بك فسار نحو الشرق. كل ذلك ظنًّا منهم أن الفرنساويين قد عدوا إلى البر الشرقي، ولا سيما عندما رأوا الدخان يتصاعد من جهة بولاق، وقيل لهم إن الفرنساويين قد أحرقوها وجاءوا ليحرقوا المدينة وينهبوا ويفتكوا.

(٣-٩) وفد العلماء إلى بونابرت

ولما أصبح القوم تبين لهم أن الفرنساويين لا يزالون في البر الغربي، فاجتمع المشايخ والعلماء في الأزهر وتشاوروا في ما يفعلونه، وأقروا على مخابرة الفرنساوية للتفاهم في ما يئول إليه أمرهم. فبعثوا وفدًا ينوب عنهم في ذلك، فاغتنم بونابرت تلك الفرصة وأجابهم بخطاب فحواه: «إننا ما حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يعاملون الفرنساوية بالذل والاحتقار، وأخذ مال التجار ومال السلطان. ولما حضرنا إلى البر الغربي خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه، وقتلنا بعضهم وأسرنا آخرين، ونحن في طلبهم حتى لا يبقى أحد منهم بالقطر المصري. وأما المشايخ والعلماء وأصحاب المراتب والرعية، فيكونون مطمئنين في مساكنهم.»

ثم قال: «فليأتِ إلينا المشايخ لنؤلف لهم ديوانًا ننتخبه من عشرة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور.»

فلما عاد الوفد إلى المشايخ وبلغوهم ما قاله بونابرت اطمأنُّوا، وركب جماعة منهم إلى معسكر بونابرت في الجيزة، فتلقاهم بالترحاب وطمأنهم، وطلب إليهم أن يستدعوا كبارهم ليؤلف منهم ديوانًا.

(٤) الديوان العمومي

ثم دخل بونابرت القاهرة وجمع المشايخ، وطلب إليهم أن ينتخبوا منهم عشرة أشخاص فوقع الانتخاب على الأسماء الآتية:
  • الشيخ عبد الله الشرقاوي.

  • الشيخ موسى السرسي.

  • الشيخ خليل البكري.

  • الشيخ مصطفى الدمنهوري.

  • الشيخ مصطفى الصاوي.

  • الشيخ أحمد العريشي.

  • الشيخ سليمان الفيومي.

  • الشيخ يوسف الشبرخيتي.

  • الشيخ محمد المهدي الكبير.

  • الشيخ محمد الدواخلي.

هؤلاء العشرة هم أعضاء الديوان الوطني. وبعد أن تم انتخابهم انتخبوا رئيسًا عليهم منهم بالقرعة، فوقع الانتخاب على الشيخ عبد الله الشرقاوي.

واحتفل بونابرت بافتتاح الديوان وبالغ في إكرام أعضائه، وأمر بعض المصورين فصوروهم كل واحد على حِدَة. ولا تزال هذه الصور محفوظة في معرض فرسايل، وترى فيما يلي نسخًا من بعضها. وهو أول ديوان وطني تألَّف بمصر، لم ينتخبه الشعب؛ لأن الشعب لم يكن له ذكر، ولكن العلماء انتخبوه وهم نواب الشعب بحكم العرف، فكان ذلك فاتحة السلطة النيابية الانتخابية.

fig068
شكل ٢-٣: الشيخ عبد الله الشرقاوي.
fig069
شكل ٢-٤: السيد خليل البكري.
fig070
شكل ٢-٥: الشيخ محمد المهدي الكبير.
fig071
شكل ٢-٦: الشيخ سليمان الفيومي.

وأعضاء هذا المجلس هم خيرة علماء مصر في ذلك العصر؛ فالشيخ عبد الله الشرقاوي هو ابن إبراهيم الشافعي الأزهري الشهير بالشرقاوي، وُلِدَ سنة ١١٥٠ﻫ وتربى بالقرين ثم نُقِلَ إلى الأزهر، وقرأ على أعلم مشايخ عصره في الأزهر وغيره، وله مؤلفات إسلامية مفيدة، منها الحاشية على التحرير، ومتن العقائد وشرحها، وشروح ومختصرات كثيرة في الفقه واللغة والتاريخ. وكان في صباه في قلة من العيش ثم اتسعت حاله بالهدايا التي كانت تأتيه من بعض التجار. ولما مات الشيخ العروسي تولى بعده مشيخة الجامع الأزهر، ووقع بينه وبين والي مصر اختلاف وتغاضبا حينًا ثم تصالحا بشرط أن يلزم الشرقاوي داره، فلما جاء بونابرت إلى مصر سنة ١٢١٣ﻫ، وألَّف الديوان الذي نحن في صدده جعله رئيسًا عليه. واكتسب في أيام الفرنساويين مالًا كثيرة، فاتسعت عليه الدنيا فاشترى الأبنية والقصور والحمامات والحوانيت حتى توفي سنة ١٢٢٧ﻫ.

والسيد خليل البكري من سلالة أبي بكر الصديق، وتولى نقابة الأشراف بمصر ومشيخة السجادة. وتأيد منصبه بها بعد مجيء بونابرت فاستولى على أوقافها، وانتخبوه من جملة أعضاء الديوان كما رأيت. وكان وافر الحرمة مقبول الشفاعة عندهم، فكان أمراء المماليك الهاربون يوسطونه لدى الفرنساوية في العفو عنهم. ولما خرج الفرنساويون عادت نقابة الأشراف إلى السيد عمر مكرم. وتوفي سنة ١٢٢٣ﻫ.

والشيخ المهدي الكبير يختلف في نسبه عن سائر أولئك العلماء، فقد وُلِدَ قبطيًّا وأبوه اسمه أبيفانيوس فضل الله. ولما وُلِدَ سمي هبة الله، وكان أبوه كاتبًا في بيت سليمان كاشف أو مباشرًا لأموره، ولما ترعرع هبة الله أعجب به الكاشف، وأحب أن يجعله من ضمن مماليكه، ولم يكن له ميل إلى العسكرية، فأدخله في مصافِّ طلبة الأزهر، ولم يكن يقبل فيه غير المسلمين، فاعتنق الإسلام وسُمِّيَ محمد المهدي، وكان ذكيًّا فما زال يرتقي حتى صار من كبار العلماء والفقهاء، ودرس في الأزهر وألَّف كتبًا كثيرة ونال حظًّا من الوجهاء، واتسعت حاله ونال الإقطاعات والهدايا من الكشاف وغيرهم، فبنى الدور واقتنى الخدم وشارك في التجارات حتى أصبح من أهل الثروة. ولما دخلت الفرنساوية مصر قرَّبوه وسايرهم في أغراضهم، ووثقوا بقوله؛ فكان موضع ثقتهم، الواسطة العظمى بينهم وبين الناس حتى لقبوه كاتم السر، ولما رتبوا الديوان انتُخِب من أعضائه، وصار إليه النفوذ الأكبر، وله تاريخ طويل لا محل له هنا.

والشيخ سليمان الفيومي أصله من الفيوم. أتى إلى مصر وهو رقيق الحال وتلقى العلم في الأزهر، وتقرب من الأمراء المماليك لحسن إنشاده وقراءة الأشعار. وتقرب من بعض الأمراء البرقوقية وتعرف إلى الآغوات، وتوسط بهم إلى التوكل بالقضايا والدعاوى، واكتسب الأموال الطائلة وتحسنت حاله فتجمل بالملابس وركب البغال، وتعين أستاذًا في الأزهر برواق الفيمة، وكان للأمراء المماليك ثقة فيه فأنفذوه بمهمة خصوصية إلى الأستانة. ولما عاد إلى مصر توالت عليه الهدايا من الأمراء والأعيان وغيرهم فاتسعت حاله، وصار منزله ملجأً للناس على اختلاف الطبقات. ولما دخلت الفرنساوية مصر وهرب الأمراء جاءت نساؤهم إلى دار الشيخ الفيومي ووسطوه، فدافع عنهن لدى الفرنساوية وتوسط في العفو عن بعض رجالهن، وكان في جملة من تعينوا في الديوان كما رأيت.

(٥) الديوان الخصوصي

على أن الفرنساويين شعروا أن هذا الديوان لا يمثل كل عناصر الأمة وطبقاتها، فعمدوا إلى تشكيل مجلس عام يؤلَّف من الطوائف القاطنة في مصر على اختلاف عناصرها وطبقاتها ومذاهبها. ومتى اجتمعوا ينتخبون من بينهم ديوانًا يُسَمَّى الديوان الخصوصي أو الديوان الديمومي؛ أي يشتغل دائمًا والديوان الآخر يجتمع عند الاقتضاء. فنشروا منشورًا على أهل القطر طلبوا فيه إلى أعيان البلاد من المشايخ والتجار وأهل الوجاهة من كل الطوائف والملل أن يحضروا إلى دار الحكومة. فجاء كثيرون وانتخبوا منهم ستين شخصًا ممن ثبتت لهم صفة تميزهم عن العامة بالعلم أو الثروة أو غيرهما، وهذه أسماؤهم باعتبار طوائفهم:
  • مشايخ وعلماء: السيد البكري، السيد الدمرداشي، السيد حسين رفاعي، الشيخ عبد الله الشرقاوي، الشيخ محمد المهدي، الشيخ مصطفى الصاوي، الشيخ موسى السرسي، الشيخ محمد الأمير، الشيخ سليمان الفيومي، الشيخ أحمد العريشي، الشيخ إبراهيم بن المفتي، الشيخ صالح الحنبلي، الشيخ محمد الدواخلي، الشيخ مصطفى الدمنهوري.
  • وجاقلية: محمد آغا شوربجي فلاح، علي كخيا المجدلي، خليل آغا شوربجي فلاح، أحمد ذو الفقار أوطه باشي فلاح.
  • إنكشارية: يوسف شوربجي باش جاويش توزنكجيان، يوسف شوربجي باش جاويش جمليان، مصطفى أفندي شراكسة، أمير سليم شرابي.
  • عرب: مصطفى أفندي عاصي، مصطفى كخيا باش اختيار، حسن شوربجي بركاوي.
  • تجار الغورية: الحاج محمد الأشوبي شيخ الغورية، الحاج محمد أبو النصر، الحاج سيد شيخ المغاربة.
  • تجار البهار: الحاج أحمد محرم، الحاج أحمد المحروقي، إبراهيم أفندي، قاضي البهار الحاج حسين جار إبراهيم، المعلم ميخائيل كحيل، المعلم يوسف فرحات، الحاج أحمد حسين.
  • تجار البضائع التركية: السيد أحمد العقاد المحروقي، الحاج مصطفى شيخ العقادين، الحاج أحمد القازانجي.
  • تجار العطور: السيد محمد شيخ العطارين.
  • تجار السكر: درويش عبد القاهر البغدادلي، إبراهيم قرموط، محمد همشري.
  • تجار النحاس: السيد مصطفى مصباح. الحاج حسين النحاس.
  • صياغ وجوهرجية: الحاج سالم الجوهرجي، محمد البغدادلي.
  • تجار ورق: علي بن الحاج خليل الوراق.
  • تجار أقمشة: الحاج إبراهيم المصري، علي الصلانجي شيخ القماحين.
  • تجار صابون: السيد أحمد زرو، سيد يوسف فخر الدين.
  • تجار دخان وأقمشة سورية: أحمد نظام.
  • مشايخ الأقسام: شيخ جزاري الحسينية، شيخ العطوف.
  • الأقباط: المعلم لطف الله المصري، المعلم إبراهيم جر العايط، المعلم إبراهيم مقار، إبراهيم كاتب الصرة.
  • الفرنساويون: دلمار، وكاف، وبوديف.

هؤلاء أعضاء المجلس العام أو الديوان العام وهو منتخب من أعيان البلاد. وقد أصدروا بتعيينه أمرًا رسميًّا مؤرَّخًا في رجب سنة ١٢١٣ﻫ، واشترطوا في ذلك الأمر أن يكون في الديوان المذكور مندوب فرنساوي اسمه جلوتيه، ومندوب مسلم اسمه ذو الفقار كخيا، وأن يجتمعوا في يوم عيَّنه في الأمر المومأ إليه؛ لينتخبوا منهم ديوانًا مؤلَّفًا من ١٤ عضوًا يسمى «الديوان الخصوصي»، ويكون الانتخاب بالقرعة وبالأكثرية المطلقة. وعين لاجتماع الديوان الكبير ثلاثة أيام متوالية ثم لا يجتمع إلا عند الحاجة. ومتى تم انتخاب الديوان الخصوصي يصادق عليه السر عسكر (بونابرت). ثم ينتخب له رئيس يوالي اجتماعاته كل يوم لمساعدة الحكومة في النظر في مصلحة الوطنيين. ويعين له كاتب وترجمان ومحضر وعشرة حجاب يقومون بخدمته. وختم الأمر بتعيين رواتب أعضاء المجلس الخصوصي وأتباعهم، وهي مائة ريال في الشهر للرئيس وثمانون ريالًا لكل عضو. وللمحضر ٦٠ بارة في اليوم وللحاجب ٤٠ بارة.

فاجتمع الديوان العام المشار إليه، وانتخب من أعضائه ١٤ عضوًا يتألَّف منهم الديوان الخصوصي وهو غير الذي تقدم ذكره. فإن هذا لم يكُن فيه من المشايخ إلا الشرقاوي والمهدي والصاوي والبكري والفيومي، وباقي الأعضاء من سائر الطوائف على هذه الصورة: من التجار المحروقي وأحمد محرم، ومن النصارى القبط لطف الله المصري، ومن السوريين يوسف فرحات ومخائيل كحيل، ومن الإنكليز «رواحة»، ومن الفرنساويين بودني وموس. فهو مجلس وطني مختلط تشكل من نواب يمثلون أهم العناصر التي تتألف منها الأمة المصرية، بعضهم من الوطنيين الأصليين المسلمين والأقباط، والبعض الآخر من الجالية السورية والإفرنجية. فهو كثير الشبه بالمجلس النيابي الذي أشار اللورد كرومر بتشكيله من العناصر التي تتألف منها الأمة المصرية الآن، وجعل ذلك شرطًا لاستقلالها ونجاحها.

fig146
شكل ٢-٧: الديوان الخصوصي: أول مجلس شوري وطني في مصر أنشأه بونابرت سنة ١٧٩٨.
ولما تم تأليف المجلس الخصوصي على هذه الصورة كتب بونابرت بذلك مناشير علقوها في الأسواق، ضمَّنها التهديد المشوب بالتزلُّف مثل سائر منشوراته بمصر. وقد صوروا هذا الديوان في إحدى جلساته، وفيه بونابرت قاعدًا على دكة والعلم الفرنساوي بجانبه، وقد قعد الأعضاء بين يديه وفيهم الكاتب والترجمان والمحضر، وبعض الحجاب كما ترى في شكل ٢-٧.

وأخذ الديوان المذكور يوالي اجتماعاته، ولا يبرم بونابرت أمرًا مهمًّا بمصر إلا شاوره وأخذ رأيه فيه، وإنما كان شغله بالأكثر النظر في المسائل الوطنية. فالديوان الخصوصي هذا خطوة أخرى نحو السلطة النيابية في مصر؛ لأنه منتخب من وجهاء البلاد من كل الطوائف، وإذا لم تشترك العامة في انتخابه فالانتخاب حتى في الحكومات الدستورية اليوم يتم بالحقيقة على أيدي الوجهاء والخاصة الذين تنتخبهم العامة.

وشكَّل الفرنساوية مجلسًا آخر أو ديوانًا سمَّوه محكمة القضايا مؤلفًا من ١٢ عضوًا: ستة من الأقباط وستة من التجار المسلمين، وجلعوا قاضيه الأكبر أو رئيسه المعلم ملطي القبطي، وفوضوا إليه النظر في القضايا التي تقع بين التجار والعامة، وفي المواريث ونحوها؛ فهو شبيه بمحكمة أهلية مختلطة. وكانت تلك القضايا تُنظر إلى ذلك الحين في المحاكم الشرعية. فكان بونابرت أول من أسس المحاكم النظامية بمصر.

(٦) نزول الفرنساويين القاهرة

وفي يوم الثلاثاء ١١ صفر عدت الجيوش الفرنساوية إلى القاهرة، ونزل بونابرت في بيت محمد بك الألفي وأخذت العساكر الذين دخلوا القاهرة من الفرنساويين يعاملون الباعة باللين ويبتاعون ما يحتاجون إليه، ويدفعون فيه ثمنًا غاليًا فأحبتهم الناس وارتاحوا إليهم.

ثم أخذت العساكر الفرنساوية تعدي للبر الشرقي شيئًا فشيئًا حتى كثر عددهم في القاهرة، فامتلأت منهم الأسواق وسكنوا في البيوت، ولكنهم لم يشوشوا على أحد، وكانوا يأخذون ما يحتاجون إليه بزيادة في الثمن، ففجر السوقة وصغروا أقراص الخبز وطحنوا الحنطة بترابها، وكثرت باعة المأكولات، وفتح الأروام عدة حوانيت لبيع الأشربة وحانات وقهوات، وفتح بعض الإفرنج المتوطنين بيوتًا لصنع الأطعمة والأشربة على النمط الأفرنجي كأي لوكاندات إفرنجية، ولم يكن ذلك معروفًا في مصر إلى ذلك العهد؛ ولذلك وصفها المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي كأنها شيء جديد دخل عليهم فقال: «وفتحوا بيوتًا لصنع الأطعمة والأشربة على طرائقهم في بلادهم، وجعلوا على أبوابها علامات يعرفونها بينهم، فإذا مرت طائفة تريد الأكل بذلك المكان دخلوه، وهو يشتمل على عدة مجالس بين دون وعال ووسط، وعلى كل مجلس علامة ومقدار الدراهم التي يدفعها الداخل. وفي تلك المجالس موائد من الخشب عليها الطعام وحولها الكراسي، فيجلسون إليها ويأتيهم الفراشون بالطعام على قوانينهم، فيأكلون ويشربون على نسق لا يتعدونه، ثم يدفعون ما وجب عليهم من غير نقص ولا زيادة ويذهبون لحالهم.»

وفي اليوم السبت ١٥ صفر سنة ١٢١٣ اجتمع الديوان المتقدم ذكره، وتباحث في احتياجه إلى النقود فقرر استدانة خمسمائة ألف ريال من التجار المسلمين والنصارى والقبط والسوريين والإفرنج، وأخذوا في تحصيلها، وقرروا أن يُنادى في الأسواق أن من أخذ شيئًا من نهب البيوت عليه أن يحضر به إلى بيت القائمقام، وإن لم يفعل وظهر بعد ذلك يشتد عقابه. وأن ينادى على نساء الأمراء والبكوات بالأمان، وأن يسكنَّ بيوتهن وإن كان عندهن شيء من أمتعة أزواجهن يصالحن على أنفسهن. فجاء كثيرات منهن وصالحن ودفعن مبالغ عظيمة.

وفي يوم الأحد في ١٦ منه طلب بونابرت الخيول والجمال والأسلحة، فجمعوا شيئًا كثيرًا منها، وكذلك الأبقار والثيران وأشاعوا التفتيش وكسروا عدة دكاكين بسوق السلاح وغيره، وأخرجوا ما وجدوه فيها من الأسلحة، وأخرجوا كثيرًا من الخبايا والودائع بواسطة البنائين والمهندسين والخدم الذين يعرفون بيوت أسيادهم. فكانوا يطلعونهم على أماكن الخبايا ومواضع المدافن تقربًا من الفرنساويين. وفي ذلك اليوم قبضوا على شيخ الجعيدية «الرعاع»، ورموه بالرصاص ببركة الأزبكية مع رفيق له، ثم قبضوا على آخرين في الرميلة، فخاف الناس وصار يأتي الذين عندهم منهوبات ويقدمونها للديوان.

وفي يوم الثلاثاء ١٨ منه طلبوا أهل الحرف والتجار وضربوا عليهم مالًا على سبيل القرض لم يستطيعوا دفعه، فأمهلوهم ستين يومًا لدفعه فاستغاثوا وذهبوا إلى الجامع الأزهر والمشهد الحسيني، واستشفعوا المشايخ فتكلموا بأمرهم أمام الديوان، فلطف المطلوب إلى نصفه ووسعوا لهم في الأجل. وكان بكل عطفة أو حارة من عطف القاهرة وحاراتها باب كبير مصفَّح بالحديد يقفل ليلًا. فأمر بونابرت بنزع أبواب الدروب والعطف والحارات، واستمروا في ذلك عدة أيام فخاف الناس وكثرت ظنونهم في المقصود من تلك الأعمال. فظن بعضهم أن الفرنساويين عازمون على قتل المسلمين وهم في صلاة الجمعة، وقال آخرون غير ذلك. وكان في القاهرة دار لضرب النقود تضربها باسم السلطان، فأمر بونابرت أن يستمر الضرب كما كان، وعهد ذلك إلى أحد رجاله. وكان في نيته إنشاء بريد (بوسطة) بين مصر والإسكندرية لكنه لم يستطع ذلك لكثرة الأخطار التي تحيط برسل البريد في أثناء الطريق.

وفي ٢٠ منه وردت إلى الديوان كتب من قافلة الحج بالعقبة، فذهب أرباب الديوان إلى السر عسكر بونابرت وأعلموه بذلك، وطلبوا منه أمانًا لأمير الحج فامتنع؛ لئلا يكون في كثرة من الحجاج فيحدث ما يكدر الراحة. وقال: «لا أعطيه ذلك إلا إذا جاء في قلة ولا يدخل معه المماليك.» فقالوا: «ومن يخفر الحجاج؟» قال: «أنا أرسل لهم من عساكري أربعة آلاف يوصلونهم إلى مصر.» فكتبوا إلى أمير الحج كتابًا لطيفًا، وأوعزوا إليه أن يحضر بمن معه إلى الدار الحمراء، وأنه متى وصل إلى هناك يدبرون ما فيه الخير. فلم يصله ذلك الكتاب حتى خابره إبراهيم بك — وكان في بلبيس — يطلب إليه أن يوافيه إلى هناك حالًا. فسار إلى بلبيس فعلم بونابرت بإقامة إبراهيم بك في بلبيس، فأرسل إليه فرقة من جيوشه تحت قيادة الجنرال لاكلارك، فسار وعسكر في الخانقاه وراء المطرية، ومكث هناك يومين ولم يصادف أقل مقاومة.

وفي اليوم الثالث هجم عليه وعلى رجاله قبائل من العرب بينهم عدد كبير من المماليك، وبعد محاربة شديد تقهقرت الجيوش الفرنساوية نحو القاهرة لعجز خيولهم، فعلم الجنرال مورات بذلك فاستمد بونابرت فأمدَّه، فاجتمعت الجيوش الفرنساوية ثانية إلى الخانقاه، وتبعهم بونابرت بنفسه خِيفة أن يكونوا في ارتباك فينكسروا وتعود العائدة عليهم، فاتحدت جميع الجيوش الفرنساوية في الخانقاه، وساروا جميعًا في أثر العربان والمماليك حتى الصالحية، وهناك كان إبراهيم بك بمن معه ثُمَّ علموا أنه ترك الصالحية فارًّا نحو سوريا ملتجئًا إلى الجزار في عكا، وانضم كثيرون من رجاله إلى عسكر الفرنساويين وسلمت الصالحية بمن فيها.

(٧) واقعة أبي قير

فلما رأى بونابرت ذلك أسرع بالعود إلى القاهرة. وبينما هو في الطريق قابله رسول بكتاب مفضوض فتلاه، فإذا به خبر قدوم عمارة تلسون الإنكليزية إلى الإسكندرية وحصول واقعة كبيرة في أبي قير شفت عن تحطم العمارة الفرنساوية برمتها. فانذعر لذلك الخبر ولكنه تجلَّد وقال لأركان حربه وكان قد فض الكتاب وتلاه قبله: «دع هذا الخبر في سرك الآن لنرى ماذا يأتي به الغد.»

وتفصيل تلك الواقعة أن نلسون بعد أن برح الإسكندرية علم بقدوم الفرنساويين إليها ودخولهم القطر المصري، فعاد بعمارته ثم جاء الإسكندرية في ١٩ صفر سنة ١٢١٣ﻫ/أول أغسطس سنة ١٧٩٨م، وكانت العمارة الفرنساوية راسية في جون أبي قير على خط واحد مستقيم من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي تحت قيادة الأميرال برويس، وكانت قد أُرسِلَت في ذلك الصباح خمسة وعشرين نفرًا من كل دراعة من دوارعها إلى البر لخفر الفعلة المرسلين لاحتفار الآبار. فلما استكشفوا العمارة الإنكليزية نادَوْا بالرجال أن يعودوا إلى المراكب.

ثم تداول الأميرال برويس مع ضباطه في كيف يقابلون العمارة الإنكليزية، فأشاروا عليه أن يخرج من الجون ويستقبلها في ظهر البحر فأَصَرَّ على بقائه في مكانه؛ لأن عدد رجاله لا يسمح له بقَبُول مشورتهم، فبقيت العمارة في الجون بانتظار الإنكليز.

fig072
شكل ٢-٨: الأمير نلسون.

أما نلسون فكان مذ علم باحتلال الفرنساويين مصر وهو يُعمل فكرته في كيفية ملاقاتهم. فلما صار على مشهد من عمارتهم فكَّر في أحسن أسلوب يأخذهم به، فأقر على أن يرسل قسمًا من مراكبه يدخُل بين سفن الفرنساويين والبر، والقسم الآخر يأتيهم من الأمام، فيجعلهم هدفًا لنارين حاميتين، وكان عالمًا بما يحيط بهذا العمل من الخطر لكنه كان ممن يستسهلون الصعب. فسارت بعض مراكبه من وراء الفرنساويين بينهم وبين البر، وتقدمت بقية المراكب من الأمام، وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب، وابتدأ نلسون بإطلاق المدافع فأجابه الفرنساويون بنار مثل ناره. وبعد ١٢ دقيقة انكسرت دارعة فرنساوية، ثم انكسرت دارعتان أُخريان ولم يأتِ العِشاء حتى استولى الإنكليز على عدة دوارع فرنساوية غير التي كُسِرَتْ.

وكان الأميرال برويس على الدارعة «الشرق» ذات المائة والعشرين مدفعًا وعليها نحو ألف رجل. وكان نلسون من الجهة الأخرى على إحدى دوارعه يراقب حركات الفرنساويين، ويعطي الأوامر، فأصابته رصاصة في جبهته فوق إحدى عينيه فتدلى الجلد حتى غشي بصره فرفعه بيده غير مبالٍ، وهو ينظر إلى ما يكون من حركات الدوارع، وكان بجانبه أحد ضباطه فأمسكه بيده فانتبه كأنه كان في غفلة، وناداه قائلًا: «قد قُتِلْتُ فأرجو أن تذكرني أمام امرأتي.»

وحملوه إلى غرفته وأحاط به الأطباء وبعد أن كشفوا عن جروحه، طيبوا خاطره وطمأنوه أن الجرح لا يؤذن بالخطر السريع، أما هو فلم يكن ينتظر الشفاء ولكنه مع ذلك لم يشغل عن إصدار الأوامر إلى ضباط الدوارع، وكان يتتبع حركاتها وهو على فراشه. ثم ضمدوا جُرحه وهو يخاطب كاتب سره أن يكتب حالًا لنِظَارة البحرية في لندن عن هذه المعركة. فلم يستطع أحد من الحضور أن يمسك القلم من شد التأثر، فأخذ نلسون قلمًا وكتب ما أوتيه من النصر.

أما الأميرال برويس فأُصِيبَ أولًا ببعض الجراح، ثم أصابته قنبلة قطعت أحشاءه فسقط على الأرض فأرادوا حمله إلى أسفل الدارعة، فأشار أن يتركوه يفارق الحياة على ظهرها فتركوه. وبعد العِشاء بيسير أصاب «الشرق» الدارعة الفرنساوية العظيمة احتراق تطرَّق إلى جارتها، فبلغ ذلك الأميرال نلسون فطلب أن يحملوه إلى ظهر دراعته ليشاهد ذلك فحملوه. فلما رأى تلك المشاهد تأثَّر منها كثيرًا، فأمر أن يسير أحد الضباط في سرب من العساكر لمساعدة الفرنساويين في إنقاذ الدارعة «الشرق» من الحريق، ولم ينجُ من رجالتها إلا القليل. واشتد الحريق حتى رآه أهل الإسكندرية ورشيد. وما زال الإطلاق متواصلًا والاضطراب متسلطًا إلى ظهيرة اليوم التالي، وقد فاز الإنكليز فوزًا مبينًا.

وكان كلابر ورجاله في الإسكندرية بأثناء المعركة في خوف واضطراب، وكانوا جميعًا تحت السلاح. وفي الصباح وردت لهم الأخبار بانكسار العمارة الفرنساوية. ثم جاءت مكاتبات أخرى أن أسرى الفرنساويين وجرحاهم محفوظون بكل إكرام عند الإنكليز، وفي نية نلسون أن يبعث بهم إلى البر يقيمون في المستشفيات تحت معاينة بعض أطبائه. فلما وصل خبر انكسار الفرنساويين إلى رشيد والإسكندرية خاف الفرنساويون وانحط قدرهم في أعين الوطنيين. واضطر الرشيديون منهم إلى مواصلة المخابرة مع الإسكندرانيين، فأقاموا قافلة تنقل البرد وفيها الكتب والرسائل والأخبار لأجل المفاوضة في أمر الدفاع إذا أراد الإنكليز محاربتهم. فكتب كلابر إلى بونابرت بواقعة الحال وما انتهت إليه العمارة الفرنساوية، فوصله الكتاب في أثناء عوده من الصالحية كما مر بك. أما العمارة الإنكليزية فأقلعت عن الإسكندرية.

فسار بونابرت حتى أتى بلبيس فرأى ضباطه وأركان حربه على المائدة صباحًا، فرحين بانتصارهم على المماليك في الصالحية لا يعلمون بشيء من واقعة أبي قير فقال لهم ضاحكًا: «افرحوا ولتنشرح صدوركم واجتهدوا أن تعتادوا على هواء هذا الإقليم، فإننا أصبحنا لا مراكب لدينا تنقلنا إلى أوروبا.» فاضطربت قلوبهم عند ذلك فطلب إليهم أن لا يذيعوا الخبر، ثم ساروا حتى وصلوا القاهرة مساء الخميس ٤ ربيع أول.

(٨) فتح الخليج والمولد النبوي

وفي اليوم التالي كان يوم وفاء النيل (١٣ مسرى)، فأمر بونابرت أن يحتفل بفتح الخليج كالعادة فزينوا عدة غلايين (مراكب)، ونادوا في الناس الخروج للنزهة في النيل والمقياس والروضة على عادتهم. وأرسل بونابرت دعوة رسمية إلى كخيا الباشا وإلى القاضي وأرباب الديوان وأصحاب الشورى وأرباب المناصب وغيرهم للحضور في صبحها، وركب هو معهم في موكبه وزينته وعساكره وطبوله وزموره إلى قنطرة السد، وكسروا الجسر بحضورهم، وأطلقوا المدافع إطلاقًا متواليًا، وأحرقوا النفوط حتى جرى الماء في الخليج، ثم ركب وهم معه حتى أتى إلى داره. أما أهل المدينة فلم يخرج منهم تلك الليلة للنزهة في المراكب كالعادة إلا الافرنج والسوريون والقبط وقليلون غيرهم.

ثم جاء المولد النبوي ولم يكُن في نية العلماء الاحتفال به، فاستفهم بونابرت عن سبب ذلك فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال، وتعطل الأمور وعدم إمكانهم القيام بما يقتضيه ذلك الاحتفال من النفقات. فقال: لا بد من الاحتفال كالعادة. ودفع في الحال ثلاثمائة ريال فرنساوي، وأمر بتعليق قناديل وأحمال وتعاليق، واجتمع الفرنساويون يوم المولد، ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم وأرسل بونابرت طبلخانته الكبرى (الموسيقى) إلى بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها طول الليل والنهار بالبركة تحت داره، وأحرقوا في أثناء الليل نفوطًا وشواريخ كثيرة. وفي ذلك اليوم ألبس الشيخ خليل البكري فروة، وتقلد نقابة الأشراف ونودي في المدينة بأن كل من كان له دعوى على شريف فليرفعها إلى النقيب.

ثم جاء يوم احتفال الفرنساويين بجمهوريتهم للسنة السابعة، فاحتفلوا به غاية الاحتفال، وشخصوا فيه معركة إمبابة وانكسار المماليك، ونصبوا شجرة الحرية فدهش منها الوطنيون، ولم يكونوا يفهمون المقصود بها. ثم أرسل بونابرت مندوبًا ينصب العلم الفرنساوي ذي الثلاثة الألوان على قمة أحد الأهرام العظمى، وحفروا هناك أسماء الضباط الذين قُتِلُوا في واقعة إمبابة.

(٩) قتل السيد محمد كُرَيِّم

قد تقدم أن السيد محمد كُرَيِّم بقي في الإسكندرية كما كان فيها قبل مجيء الفرنساويين. وقبل واقعة أبي قير بيسير عثر الفرنساويين على كتاب مُرْسَل من محمد كُرَيِّم المذكور إلى مراد بك، يتواطأ معه على تسليم الإسكندرية. فاستُحضِر إلى القاهرة فحُكِمَ عليه أن يدفع ثلاثمائة ألف فرنك غرامة على خيانته، وأنه إذا لم يدفع المبلغ في خمسة أيام يُقطع رأسه. فقال له التراجمة: «أنت رجل غني فافدِ نفسك بهذا المبلغ.» فتبسم وقال: «لا لا أدفع شيئًا؛ لأني إذا قدر لي الموت لا يدفع الدفع مقدورًا، وإذا قدرت لي الحياة فأنا حي بلا دفع.» ثم استُحضِر وسُئِلَ عن تلك الخيانة فأنكر فأبرزوا له الكتاب فأُفحِم، فأرسله بونابرت إلى شيخ البلد فطلب العلماء من بونابرت أن يعفو عنه فأطلعهم على كتابه وأَصَرَّ على قتله وما انفك حتى أذاقه الموت، وطوف رأسه بالمدينة مكتوبًا فيه: «هذا جزاء الخائن.»

(١٠) الشارة الفرنساوية أو الجوكار

وفي ٢٠ منه استدعى بونابرت مشايخ القاهرة وعلماءها إلى بيته، فلما استقر بهم الجلوس خرج ثم عاد وبيده طيالة ملوَّنة بثلاثة ألوان كل طيلسان ثلاثة عروض: أبيض وأحمر وكحلي، فوضع واحدًا منها على كتف الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان. فرمى به إلى الأرض واستعفى، وتغير مزاجه وأخذ منه الغيظ مأخذًا عظيمًا. فقال الترجمان الذي كان مرافقًا لبونابرت: «يا مشايخ، ما بالكم لا تزالون في نفرة من حضرة الصاوي عسكر، فقد صرتم من أحبائه وهو يقصد بإلباسكم هذه الطيالسة تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته؛ فإنكم إذا تميزتم بها عظَّمتكم العساكر وأكثرت من احترامكم.» فقالوا: «لكنَّ قدرنا ينحط عند الله وعند إخواننا المسلمين.» فاغتاظ بونابرت وانتهر الشرقاوي قائلًا: «إن مثلك لا يصلح للرئاسة.» فنهض بقية الجماعة وجعلوا يلطفون من غضب بونابرت، ويطلبون إليه أن يعفيهم مما أراد فقال: «إن لم يكن هذا فلا بد من وضع الجوكار في صدوركم.» وهي العلامة التي يُقال لها: الوردة وقد تقدم ذكرها فقالوا: «نستمهلك ريثما نتروى في الأمر.» وانصرفوا.

ثم استدعى بونابرت الشيخ السادات إليه فحضر فلاطفه في القول، وأعرب له عن محبته له — كل ذلك بواسطة الترجمان — ثم ناوله خاتمًا من الألماس هدية، وطلب إليه أن يحضر في اليوم التالي فحضر. فأتى له بجوكار وعلقه بفرجينه فسكت ولما انصرف نزعه. وفي ذلك اليوم نودي بالمدينة بوجوب نقل هذه العلامة، وأنها هي علامة الطاعة والمحبة، فأنف الناس على أن بعضهم علم أنها لا تُخِلُّ بالدين وخاف العقاب فوضعها. وفي العصر نادَوْا بعدم إعطائها إلا لبعض الأعيان، أما الباقون فيضعونها إذا جاءوا لمقابلة رسمية.

(١١) سياسة نابوليون في مصر

ومن الغريب أن بونابرت مع رغبته في الاستيلاء على مصر وسهره على ذلك لم يُحسِن التصرف كما يجب. فقد رأيناه يُصَرِّحُ باحترامه الديانة الإسلامية وتأمين الأهلين على عاداتهم وأديانهم وأرزاقهم وأعراضهم. وأظهر تقرُّبه من المصريين حتى قيل إنه كان يتزيَّا بزيهم في الاحتفالات الوطنية، فيلبس القفطان والجبة والعمامة — وهو لباس أمراء الشرق أو سلاطينه — وقد مثله بعضهم بصورة نقلناها في شكل ٢-٩ عن كتاب نوابغ الأقباط ومشاهيرهم — كل ذلك يُوجِب الثناء عليه، إلا أننا لا نرى وجبهًا يصوب ادِّعاءه الإسلام، ادِّعاءً لم يصدقه أحد من المصريين، ولم يزدد الناس بسببه إلا حذرًا من الفرنساويين؛ لأنهم لم يَدَّعُوا غير دينهم إلا تقربًا منهم لغرض في نفوسهم يحاولون نيله.
fig148
شكل ٢-٩: بونابرت بلباسه الشرقي.

على أنه لو ادَّعى تلك الدعوى ثم تظاهر بما يُثبتها لكان خيرًا، لكننا رأيناه من الجهة الأخرى يأمر بالمساواة في الإرث بين الأنثى والذكر أمرًا يخالف نص القرآن مخالفة صريحة كما لا يخفى، وقد تجاهل العادات الشرقية وأراد أن يجعل الشعب المصري بعد ما قاساه في أيام المماليك أن يسير على خطوات الشعب الفرنساوي بعاداته وشرائعه وأزيائه. فكانت العساكر الفرنساوية تدخل بيوت الهوانم اللواتي لم يجسر الباشا أن يدخلها — وكان السبب في ذلك أن بونابرت أجاز لرجاله الدخول في بيوت النساء للتفتيش عن أسلحة أو مخبآت أو أمور أخرى — ولا يخفى ما في ذلك من تنفير القلوب، وكل منا يعلم أن الشرقي أشد حرصًا على عِرضه منه على حياته. ناهيك بما كان يأتيه الجند الفرنساوي من الفواحش التي تأباها النفوس الشرقية.

على أننا لا نُنكر على هذا الرجل العظيم ما أدخله بواسطة هذه الحملة من الإصلاح في أحوال الأمة المصرية صحيًّا وأدبيًّا وشرعيًّا، ولكننا لا نعجب بعد أن علمنا من سوء تصرُّفه إذا رأينا الأهلين بعيدين عن الإخلاص له، رغم قرب الشعب المصري من الطاعة والانقياد. ولا غرو بعد هذا إذا رأيناهم يشتفون بمصائبه، ويترقبون فرصة لشَقِّ عصا الطاعة وتفضيل سلطة المماليك على تمكُّنها من العسف والظلم؛ لأنهم شركاؤهم بالدين وهو أكبر رابط بين المشارقة. وقد خُدِعَ بونابرت بقبول العلماء الاجتماع في ديوان تحت حمايته، وما عَلِمَ أن قبولهم ذلك وغيره من مثله إنما جرى رغم إرادتهم، وامتثالًا لقول القائل: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.»

ومن الأمور المغايرة التي أتاها الفرنساويون، واستوجبوا من أجلها نفور الناس زيادة الضرائب والشدة في تحصيلها، واستحداث القوانين على الموتى، والضرائب على المواريث وعلى المسافرين من بلد إلى آخر فتُعطَى لهم تذكرة مرور بثمنها، وإباحة بيع المُسكِر في الشوارع، وهدم بعض الجوامع والمنائر، وتخريب بعض التُّرَبِ باسم الإصلاحات الصحية، وبناء القلاع والاستحكامات على التلال خارج القاهرة، وقطع أرزاق الأوقاف عن أهلها وتسليمها لغير المسلمين.

(١١-١) منشور آخر

وفي خاتمة الجميع وردت العلماء والمشايخ تحارير سرية من إبراهيم بك وأحمد باشا الجزار حاكم عكا في ٣ ربيع آخر، مآلها أن السلطان قد أرسل قوة عسكرية ستصلهم قريبًا لإنقاذهم من نير الفرنساويين. علم بونابرت بذلك، فجمع العلماء والفقهاء وأعيان البلاد، وخاطبهم يحاول إقناعهم أن خطابات المماليك لهم كاذبة.

وفي ١٨ ربيع آخر استكتب بونابرت المشايخ كِتابًا أرسل منه نسخة لجلالة السلطان، ونسخة لشريف مكة، وطبعوا منها عدة نسخ ألصقوها بالشوارع جعله عن لسان المشايخ، يتكلمون عن أعمال الفرنساويين بمصر، ومفاده:

إن الفرنساويين قد قاتلوا المماليك وهزموهم، وإنهم إنما أَتَوْا مصر وتكبدوا ما تكبدوه في سبيل حبهم للباب العالي؛ لأنهم من أخصاء جلالة مولانا السلطان وأعداء أعدائه، وأن السكة والخطبة لا تزالان باسمه، وشعائر الإسلام قائمة على ما كانت عليه، وأنهم هم أنفسهم مسلمون يحترمون النبي والقرآن الشريف، وأنهم أوصلوا الحجاج المتشتتين وأكرموهم وأركبوا الماشي منهم، وأطعموا الجائع، وسَقَوُا الظمآن، واعتنوا بإقامة الزينة يوم جبر البحر استجلابًا لسرور المؤمنين، وأنفقوا أموالًا برسم الصدقة على الفقراء، واعتنوا كذلك بالمولد النبوي، وأنفقوا المال في شأن انتظامه وعُلُوِّ شأنه، وأنهم قد اتفقوا رأيًا على لبس الجناب الأكرم مصطفى آغا كخيا بكير باشا والي مصر حالًا، وأنهم (المشايخ) استحسنوا ذلك لبقاء علاقة الدولة العلية، وأنهم مجتهدون في إتمام مهمات الحرمين. وقد أمرونا أن نعلمكم بذلك والسلام.

وأرسلوا من هذا المنشور نسخة إلى أحمد باشا الجزار والي عكا وأخرى إلى والي سوريا.

(١١-٢) ثورة أهل القاهرة

وفي أول جمادى الأولى سنة ١٢١٣ﻫ/٢١ أكتوبر (ت١) سنة ١٧٩٨جاء إلى الشيخ البكري جَمٌّ غفير من أولاد المكاتب والفقهاء والعميان والمؤذِّنين، وأرباب الوظائف والمستحقين من خَدَمة الأوقاف، وشَكَوْا من قطع مرتباتهم وخبزهم؛ لأن الأوقاف تَعَطَّلَ إيرادها، واستولى على نِظارتها غير المسلمين؛ فوعدهم أنه إذا قدموا شكواهم إلى الديوان يساعدهم في تحصيل حقوقهم.

وفي اليوم التالي اجتمع المشايخ في الجامع الأزهر وأرسلوا القراء يطوفون الأسواق ينادون قائلين: «فليذهب كل من يوحِّد الله إلى الجامع الأزهر، هذا هو يوم الجهاد في محاربة الكفار وأخذ الثأر.» فعج الناس وأقفلوا حوانيتهم وتقلدوا أسلحتهم وكانوا قد خبَّئُوها في أماكنَ معلومة، وساروا نحو الجامع أفواجًا يزاحم بعضهم بعضًا، وفي مقدمتهم السيد بدر وبعض رعاع الحسينية ينادون بأعلى أصواتهم: «نصر الله دين الإسلام.» وساروا توًّا إلى بيت قاضي العسكر فوجدوا هناك كثيرين آخرين ممن سبقوهم على شاكلتهم. فخاف القاضي وأغلق بابه، وأوقف حجابه فضربوهم وحاول هو الهرب فأمسكوه. وكان قد توجَّه القسم الأعظم من الجماهير إلى الجامع الأزهر. ثم سارت فرقة منهم إلى بيت الجنرال كافارلي، وفيه بعض الأدوات فنهبوه وأخربوه ولم يكُن الجنرال فيه.

وكان الجنرال ديبوي قائمقام القاهرة مقيمًا عند بركة الفيل، وشاهد في الصباح بعض الجماهير مارِّين في الأسواق، فلم يعبأ بحركاتهم، وعند الظهيرة رأى الجماهير تعاظمت والأسواق ازدحمت، فركب في جماعة وأسرع إلى بيت الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان بقرب الغورية فلم يجِده، فسار نحو بيت القاضي وهو يرى الجماهير تزداد والأصوات تتعاظم، فمر بين القصرين فرأى جمهورًا كبيرًا أوقفه عن المسير، فكلمهم بواسطة الترجمان فلم يسمعوا، فأمر رجاله بالهجوم عليهم فرماه بعض الناس من أحد الشبابيك على عنقه بحربة مشدودة برأس عمود، فقطعت له وعاءً دمويًّا كبيرًا وكانت القاضية عليه.

وتعاظمت الجماهير على الخصوص بجوار الجامع الأزهر، أما أهالي مصر القديمة وخط بركة الفيل فلم يتجرَّءُوا على ذلك، وكانت الجيوش الفرنساوية على غير استعداد لمثل هذه الثورة، وحصونهم على سفح المقطم والرُّبَى خارج القاهرة خالية من الجنود، فلم يكونوا يستطيعون تهديد المدينة. وجعل الثائرون يطوفون الأسواق يقتلون المسيحيين على اختلاف نزعاتهم بين الإفرنج وأقباط وسوريين ويونانيين وينهبون مساكنهم.

(١١-٣) دفاع الفرنساويين

فلما اتصل ذلك ببونابرت ركب في ٣٠ من دواليله، وسار إلى أكثر الأماكن تعرُّضًا للنهب والسلب، فانتعشت جنوده بوجوده فعهد قيادة المدينة إلى الجنرال بون، وفرق الطبجية عند مجتمعات الثائرين. وأصبح القوم في اليوم التالي وإذا بسفح المقطم والرُّبى خارج القاهرة مرصَّعة بالمدافع، وقد أرسل بونابرت وفدًا إلى المشايخ يطلب إليهم أن يوقفوا الرعاع عن التجمهُر فلم يفعلوا. وفي الساعة التاسعة (إفرنجية) من الصباح بلغ بونابرت أن بعض العربان قادمون إلى القاهرة يريدون الدخول إليها من باب النصر، فبعث أركان حربه سالكوسكي لينظر في أمر ذلك فبينما كان مارًّا عند باب العدوي هجم عليه بعض الثائرين وقتلوه، وكان بونابرت يحبه فأسف عليه كثيرًا.

وهُم في ذلك وصل الجنرال كلابر بجيشه من الإسكندرية بعدما شفي من جراحه، فاشتد أزر الجنود الفرنساوية وتألفوا للمحاربة بقلب واحد، فقبضوا على جمهور عظيم من الثائرين بجهة الأزبكية. وفي الساعة الثالثة بعد الظهر أُطلِقَت المدافع من الحصون خارج القاهرة على خط الجامع الأزهر بؤرة الثورة، وفيه زعماؤها، وما زال الضرب إلى المساء، فاضطرب الناس ووقع في قلوبهم الرعب فأجمع المشايخ على التسليم، فركبوا خيولهم وساروا إلى بونابرت يطلبون الأمان، فوبخهم على ما أتوه من سفك الدماء، ثم أمنهم وأوقف الضرب. أما سكان خط الحسين ومعظمهم من الجزارين فلم ينفكوا عن الضرب حتى فرغت جعبهم من البارود فهدَءُوا.

(١١-٤) دخول الجامع الأزهر

فدخلت الجنود الفرنساوية وأخذوا في تسكين الناس وتفريق الجموع، وفرقوا الخيَّالة في الأسواق للخفر فأدخلوا خيولهم إلى الجامع الأزهر وكسروا قناديله، ومَحَوْا بعض ما كان مكتوبًا عليه من الآيات القرآنية. وفي يوم الثلاثاء ٤ جمادى الأولى خرج المسلمون للصلاة في الجامع الأزهر فإذا بالخيول تعج فيه عجيجًا. وفي صباح الأربعاء ٥ منه بعث المشايخ إلى بونابرت يلتمسون إخراج الخيول من الجامع، فسألهم عن زعماء الثورة ومنشطيها فلم يجيبوه فرفض طلبهم. ثم تداخل محمد الجوهري من أعيان القاهرة وفضلائها في الأمر، وكان ممن لازموا الحياد فوافقه بونابرت على إخراج الخيالة من الجامع على أن يجعل في ذلك الخط خفرًا من سبعين رجلًا. ثم جاء السوريون واليونانيون الذين نُهِبَتْ بيوتهم بسبب الثورة إلى بونابرت وشكوا إليه خسائرهم. فعكف على الاقتصاص من زعماء الثورة. فجعل يقبض على من تقع عليهم الشبهة رجالًا ونساء حتى قتل منهم ١٢ شيخًا دفعة واحدة، وجعل جثثهم في أكياس ألقاها في النيل، وعزم من ذلك الحين على الصرامة في معاملته المصريين، فمنع المشايخ من المباحثة في الديوان وحصر شغلهم في نشر المنشورات على الشعب لأجل تسكين الثورة فسكن رُوع الشعب حسب الظاهر.

(١١-٥) فرمان السلطان

وفي ليلة السبت ٢٤ جمادى الأولى جاء إلى القاهرة هَجَّان بكتابات من أحمد باشا الجزار، وفيها فرمان عليه الطغراء العثمانية وكتابات أخرى من بكير باشا وإبراهيم بك وجميعها معنونة باسم مصطفى بك، فلما تناولها وقرأها لم يسعه من خوفه إلا أن يسلمها إلى بونابرت، فتُرجِمَت له، وهاك ترجمتها بعد الاستهلال: «إن الفرنساويين أبادهم الله وغشي أعلامهم غشاء العار؛ لأنهم كفار معاندون لا يؤمنون برسالة النبي ويسخرون بجميع الأديان، ويجحدون البعث وما قدره الله فيه من الثواب والعقاب، وهم يعتقدون أن الصدفة العمياء هي المتسلطة على الحياة والموت، وأن النفس مادة وأن الأجسام بعد انحلالها في الأرض لا تعود إلى الحياة ثانية، ولا يلحقها حساب ولا دينونة؛ وبناء على هذا الاعتقاد قد وضعوا أيديهم على هياكلهم، وطردوا منها قسسهم ورهبانهم، وعندهم أن الكتب المُنزَّلة خزعبلات وأكاذيب ملفَّقة، وأن القرآن والتوراة والإنجيل خرافات، وأن موسى وعيسى ومحمدًا رجال مثل سائر الرجال، وأن الناس جميعًا خُلِقُوا سواء لا شيء يميز بعضهم من بعض. وأن كلًّا منهم يعتقد بما يخطر له، وعلى هذه المعتقدات قد بَنَوْا جميع أعمالهم ووضعوا شرائع جهنمية، وقد اهتزت أوروبا لإجراءاتهم هذه وسُفِكَت في سبيل ذلك دماء غزيرة. وأنتم تعلمون ما يأمركم به الدين الإسلامي الحنيف، فعليكم الانتباه لملافاة ما يبثُّونه بينكم؛ لأن غرضهم هدم مكة والمدينة وأورشليم وذبح من فيها من الأطفال واقتسام تركاتهم وأراضيهم، أما من يبقى منهم حيًّا فيجبرونهم على اتباع مباديهم، وتعلُّم لغتهم فيذهب الإسلام من الأرض. فافهموا إذن ما تكون النتيجة إذا لم ينهض كل واحد لنُصرة الإسلام، ويجاهد ضد هؤلاء المُعَطِّلِين فانتبهوا إذن إلى الشراك التي نُصِبَتْ لكم، والأسد لا يكترث بالثعالب كثر عددها أو قل … إلخ.»

(١١-٦) منشور آخر لأهل مصر

فلما فهم بونابرت فحوى هذا الفرمان اجتهد أن يغرس في أذهان المشايخ أنها فتن قد سعى بها أعداء الدولة والدين، وما زال حتى استكتبهم منشورًا أمضوه وفرقوه في البلاد، وهذا نصه بالحرف الواحد:

نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد. نُعرِّف أهل مصر قاطبة أنه حصل بعض الخلل في مدينة المحروسة من طرف الجعيدية وأشرار الناس فحركوا الشرور بين الرعية، وعسكر الفرنساويين بعد أن كانوا أصحابًا وأحبابًا، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهب بعض البيوت، ولكن بلطف الله سكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته، وارتفعت هذه البلية؛ لأنه رجل كامل العقل ذو رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة إلى الفقراء والمساكين، ولولاه لكانت العساكر أَحرَقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلت كامل أهل مصر، فعليكم أن لا تثيروا الفتن ولا تطيعوا المُفسِدين ولا تسمعوا كلام المنافقين ولا تتبعوا الأشرار، ولا تكونوا مع الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يفتكرون بالعواقب؛ لكي تحفظوا أوطانكم وتطمئنُّوا على عيالكم وأديانكم، فإن الله — سبحانه وتعالى — يؤتي ملكه من يشاء ويُحَكِّم من يريد. ونخبركم أن كل من تسببوا في إثارة هذه الفتنة قُتِلُوا عن آخرهم وأراح الله منهم البلاد والعباد، ونصيحتنا لكم أن لا تُلقُوا بأيديكم إلى التهلكة واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم، وادفعوا الخراج الذي عليكم والدين النصيحة، والسلام.

وهذا المنشور مُمضى من علماء مصر كافة، طبعوه بالمطبعة التي أتت بها الحملة كما تقدم.

(١١-٧) نصيحة العلماء

ثم شاع بين الأهالي أمر الفرمان الذي ورد من جلالة السلطان فاضطربوا، فأصدر المشايخ والعلماء منشورًا يبرئون به الفرنساويين مما جاء بحقهم في ذلك الفرمان ونصه حرفيًّا:

نصيحة من علماء الإسلام بمصر. نخبركم يا أهل المدائن والأمصار من المؤمنين ويا سكان الأرياف من العربان والفلاحين، أن إبراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة من المكاتبات والمخاطبات إلى سائر الأقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة بين المخلوقات، وادَّعَوْا أنها من حضرة مولانا السلطان ومن بعض وزرائه بالكذب والبهتان. وسبب ذلك أنه حصل لهم الغم الشديد والكرب الزائد، واغتاظوا غيظًا شديدًا من علماء مصر ورعاياها، حيث لم يوافقوهم على الخروج معهم وأن يتركوا عيالهم وأوطانهم، فأرادوا أن يُوقِعُوا الفتنة والشر بين الرعية والعسكر الفرنساويين لأجل خراب البلاد وهلاك كامل الرعية؛ وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزائد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية. ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين بأنها من حضرة سلطان السلاطين لأرسلها جهارًا مع آغوات معينين. ونخبركم أن الطائفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوائف الإفرنجية دائمًا يحبون المسلمين وملتهم، ويبغضون المشركين وطبيعتهم، وهم أصحاب لمولانا السلطان قائمون بنصرته وأصدقاء ملازمون له لمودته وعشرته ومعونته، يحبون من والاه ويُبغضون من عاداه. ولذلك بين الفرنساويين والموسكو غاية العداوة الشديدة؛ ومن أجل هذا يعاونون حضرة السلطان على أخذ بلاد الموسكو إن شاء الله ولا يُبقون منهم بقية، فننصحكم يا أهالي الأقاليم المصرية أن لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية، ولا تعارضوا العسكر الفرنساوي بشيء من أنواع الأذية؛ فيحصل لكم الضرر والهلاك والبلية. ولا تسمعوا كلام المفسدين ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وإلا فتصبحون على ما فعلتم نادمين، وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين؛ لتكونوا في أوطانكم سالمين وعلى عيالكم وأموالكم آمنين مطمئنِّين. لأن حضرة صاري عسكر الكبير أمير الجيوش بونابرته اتفق معنا على أنه لا ينازع أحدًا في دين الإسلام، ولا يعارضنا فيما شرعه الله من الأحكام، ويرفع عن الرعية سائر المظالم، ويقتصر على أخذ الخراج ويزيل ما أحدثته الظَّلَمة من المغارم، فلا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد وارجعوا إلى مولاكم ملك الممالك وخالق العباد. فقد قال نبيه ورسوله الأكرم: «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم.» عليه أفضل الصلاة، والسلام ختام.

ولصقوا نسخًا من هذين المنشورين في أسواق القاهرة، وفرَّقوا منها في سائر بلاد القُطر.

(١٢) إصلاحات الفرنساويين بمصر

وأقام بونابرت على القاهرة الجنرال استنك عوضًا عن ديبوي الذي تقدَّم أنه قُتِلَ، ثم عمد إلى مداخل القُطر المصري الإسكندرية ورشيد ودمياط، فحصنها تحصينًا منيعًا، وجعل في القاهرة وضواحيها استحكامات تمنع ثورة الأهالي مرة أخرى. وأنشأ في القاهرة مطاحن هواء ومطاحن ماء؛ لأجل طحن الحِنطة، وأقام في الروضة مستشفى (أسبيتالية) يسع خمسمائة مريض.

وأقام مطاحن ومستشفيات أيضًا في الإسكندرية ورشيد ودمياط. وأُنشِئَ في القاهرة إذ ذاك مدرسة لتعليم أولاد الفرنساويين المولودين في مصر وجريدتان فرنساويتان الواحدة تُدعى «دكاد إجبسيان» والأخرى «كوريه ديجيبت»، ومرسح للتشخيص ومعامل للأقفال والأسلحة والنجارة. ومعامل للمدافع وتوابعها وآلات الهندسة والورق والأقمشة وسائر احتياجات البلاد. واستحدث فيها أيضًا أماكن للهو وحدائق للنزهة، وأنشأ مجمعًا علميًّا مصريًّا «إنستيتي ديجيبت»، وبالنتيجة إن الجيش الفرنساوي لم يكن ينقصه من داعيات الراحة إلا البريد.

وكان بونابرت لا يغفُل عن شيء يرى فيه راحة جيشه ورفاهية البلاد. فسكنت الأحوال مدة شهرين تمكَّن الفرنساويون في أثنائها من إجراء بعض الإصلاح في المدينة، فردموا ما جاور بركة الأزبكية والأماكن المجاورة لمسكن بونابرت فجعلوها رحبة واسعة. وجدَّدوا قنطرة المغربي وبَنَوْا جسرًا ممتدًّا من الأزبكية إلى بولاق، حيث ينقسم إلى فرعين: يسير أحدهما إلى طريق أبي العلاء والآخر إلى جهة التبانة وضفة النيل، وجعلوا بجانبي ذلك الجسر خندقين، وغرسوا على جانبيه أشجارًا وسيسبانًا، وأحدثوا طريقًا آخر بين باب الحديد وباب العدوي، عند المكان المعروف بالشيخ شعيب، ومهدوا جسرًا آخر من هناك إلى خارج الحسينية، وأزالوا ما يتخلل ذلك من الأبنية، وهدموا الأبنية التي بين باب الحديد والرحبة التي بظاهر جامع المقس ومهدوا الأرض بينهما. فعلوا ذلك كله ولم يُسَخِّروا أحدًا بل كانوا يدفعون الأجور فوق الاستحقاق. وجعلوا جامع الظاهر خارج الحسينية على طريق العباسية قلعة ومنارته برجًا فصار يُعرف بقلعة الظاهر.

fig073
شكل ٢-١٠: جرجس الجوهري أحد رؤساء القبط وكُتَّابهم في زمن الفرنساوية (نُقِلَتْ هذه الصورة بالفوتوغراف عن رسم له بباريس لكنها أُخِذَتْ من موقف منحرف فظهرت كما ترى).

وبنوا أماكن للأرصاد الفلكية والرياضيات والنقش والرسم والتصوير في حارة الناصرية، حيث الدرب الجديد، ورمموا ما فيه من بيوت الأمراء واستخدموها لتلك الغاية، وجعلوا بيت حسن كاشف جركس في تلك الخطة مكتبة للمطالعة يحضرها من يريد المطالعة منهم في أوقات معينة من النهار، وإذا دخلها أحد الوطنيين رحَّبوا به، وإذا أراد التفرج أطلعوه على ما أراد أو المطالعة سلموه ما أراد من الكتب، ولا سيما التي تدهش البسطاء بما فيها من الرسوم البديعة، وفي جملتها رسم للنبي ورسوم أخرى للخلفاء الراشدين وغيرهم من الأئمة والأماكن المهمة. وكان في مكتبتهم هذه كتب كثيرة عربية. وأفردوا للاشتغال بكل علم دارًا ولا سيما الكيميا؛ فإنهم خصصوا معملًا كبيرًا للتقطير والتصعيد واستحضار الخلاصات وسائر الأعمال العقَّارية، وكانوا يُجرون أمام الأهالي بعض التجارب الكيماوية التي تدهش غير العارفين بنواميس الكيمياء، وقد ذكر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بعض تلك التجارب وأظهر دهشته منها. وأفردوا أيضًا أماكن للتجارة والصناعة وطواحين هوائية واستخدموا العربات. وقرروا إطلاق مدفع كل يوم عند الزوال.

(١٢-١) منشور بونابرت عن تجديد الديوان

وفي ١٦ رجب سنة ١٢١٣ﻫ/٢٥ ديسمبر (ك١) سنة ١٧٩٨م أمر بونابرت بترتيب الديوان على نظام جديد كما تقدم في الكلام عن هذا الديوان عند إنشائه، وكتب بذلك منشورًا أرسله إلى الأعيان وألصق منه نسخًا في الأسواق ونصه:

من بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية خطابًا إلى جميع أهل مصر الخاص والعام. نعلمكم أن بعض الناس الضالِّي العقول الخالين من المعرفة وإدراك العواقب، أوقعوا الفتنة سابقًا بين أهل مصر فأهلكهم الله بسبب فعلهم، ونيتهم القبيحة، والباري — سبحانه وتعالى — أمرني بالشفقة والرحمة للعباد فامتثلت أمره وصرت رحيمًا بكم شفوقًا عليكم. ولكن كان حصل عندي غيظ وغَمٌّ شديد بسبب تحريك هذه الفتنة بينكم، ولأجل ذلك أبطلت الديوان الذي كنتُ رتبته لنظام البلد وإصلاح أحوالكم من مدة شهرين، والآن توجَّه خاطرنا إلى ترتيب الديوان كما كان؛ لأن حسن أحوالكم ومعاملتكم في المدة المذكورة أنسيانا ذنوب الأشرار وأهل الفتنة التي وقعت سابقًا.

فيا أيها العلماء والأشراف أعلِموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني، إنما خصامه من ضلال عقله وفساد فكره، فلا يجد مخلصًا ولا ملجأً ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من يد الله لمعارضته مقاديره سبحانه وتعالى. والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة. وأعلموا أيضًا أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصُّلبان على يديَّ. وقدر في الأزل أن أجيء من أرض المغرب إلى أرض مصر لإهلاك الذين ظلموا فيها وإجراء الأمر الذي أُمِرْتُ به. ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه. وأعلموا أيضًا أمتكم أن القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور أخرى تقع في المستقبل وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يختلف. وإذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم فلترجع أمتكم جميعًا إلى صفاء النية وإخلاص الطوية؛ فإن منهم من يمتنع من لعني وإظهار عداوتي خوفًا من سلاحي وشدة سطوتي. ولم يعلم أن الله مُطَّلِعٌ على السرائر يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. والذي يفعل ذلك يكون معارضًا لأحكام الله ومنافقًا، وعليه اللعنة والنقمة من الله علام الغيوب. واعلموا أيضًا أني قادر على إظهار ما في نفس كل منكم؛ لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد نظري إليه، وإن كنتُ لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده، ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم عِيانًا، ويتضح أن ما فعلته وحكمتُ به هو حكم إلهي لا يرد. وأن اجتهاد الإنسان بغاية جهده لا يمنعه من قضاء الله الذي قدَّره وأجراه على يديَّ، فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية وإخلاص السريرة، والسلام.

(١٢-٢) ترعة السويس

وفي ذلك اليوم (١٦ رجب) برح بونابرت القاهرة في سرب من رجال معيته وبعض المهندسين قاصدًا برزخ السويس، لاستطلاع آثار الترعة التي حُفِرَتْ قديمًا بين البحر المتوسط والنيل، فوصل السويس في ١٨ منه، وفي ٢١ منه قطع البحر الأحمر إلى آبار موسى، فجعل يتأمَّل ويتذكر ما قيل عنها من المعجزات. وفي ذلك اليوم عاد بمن معه قاصدًا السويس خوضًا في البحر مثلما فعل موسى، فأخطَئُوا الطريق حتى كادت المياه تغمر خيولهم، وبَعد المشقة وصلوا السويس في أوائل الليل، وفي الصباح التالي أتم بونابرت استكشافه وبرح السويس قاصدًا القاهرة، فمر ببلبيس فاستولى عليها وسار منها حتى أتى القاهرة في ٢٥ منه (في ٣ يناير سنة ١٧٩٩).

وفي يوم وصوله لاقاه الجنرال كلابر قادمًا من الإسكندرية، ومعه كتب وجرائد واردة من فرنسا وغيرها تُنبئ بتغير الباب العالي على الجمهورية الفرنساوية لافتتاحها مصر واستقلالها بأحكامها.

فلندع بونابرت يطالع كتبه وجرائده، ولنلتفت إلى الجنرال ديزه وحملته إلى الصعيد بعد واقعة إمبابة.

(١٢-٣) حملة ديزه في الصعيد

لما عدَّى الجيش الفرنساوي البر الشرقي، ودخل القاهرة بعد واقعة إمبابة، عهد بونابرت إلى الجنرال ديزه أن يسير جنوبًا لتعقُّب المماليك وإخضاع الصعيد. فسار في ١٦ محرم سنة ١٢١٣ﻫ حتى أتى بني سويف فلاقاه مراد بك برجاله، وطال الحرب بينهما وكثر الأخذ والرد، وانتهت الوقائع بتقهقر المماليك وإمعانهم في داخلية الصعيد.

وفي ١٣ جمادى الأخرى برح الجنرال ديزه بني سويف، فأتى المنيا في ١٨ منه وتربص هناك ينتظر الدوارع القادمة على النيل لنجدته، فتأخر وصولها بسبب الريح المعاكسة لسيرها. ثم سار من المنيا وما زال يتعقب مراد بك وأتباعه حتى أتى أسوان في البر الغربي فعسكر هناك. وكان كُلَّمَا مر بأثر من الآثار المصرية القديمة حفر عليه اسمه وأسماء المدن التي افتتحها. وقد شاهدنا مثل هذه الكتابة على جانبي باب من أبواب هيكل الكرنك بجوار الأقصر.

واستطلع ديزه أخبار العدو في أسوان، فعلم أنه مُعَسْكِرٌ فوق الشلال الأول بمسافة قصيرة، فاحتل جزيرة فيلوي وحصن أسوان لدفع المماليك إذا قدِموا إليها؛ لأنه لم يَرَ فائدة من تتبعهم إلى ما وراء ذلك، وقد حفر على صخر فوق الشلال جميع فتوحه على مثل ما تقدم. وهناك آخر ما وصله الفرنساويون في حملة بونابرت. ولم يكد يتم ديزه تحصين أسوان حتى سمع باحتلال ألفي بك جهات طيبة فعاد إليه وحاربه وهزمه. فأذعنت الصعيد وهدأت أحوالها.

(١٣) حملة بونابرت على سوريا

أما بونابرت فإنه علم من مطالعة تلك الجرائد ومن قرائن أخرى أن الدولة العلية تسعى في استرجاع مصر من الفرنساويين، وقد بعثت بمنشورات رسمية إلى سائر بلادها طعنًا بالجمهورية الفرنساوية، وأمرت أحمد باشا الجزار والي عكا أن يبعث جيشًا لاحتلال العريش ففعل. فبعث إليه بونابرت أن يُخلي تلك المدينة لأنها من حدود مصر فلم يطعه، فأمر بإعداد حملة يسير بها ليس للمدافعة عن مصر فقط بل لافتتاح سوريا أيضًا. فأعد حملة من اثني عشر ألفًا بينها ألف ومائتان من الطبجية، وسار قاصدًا سوريا بعد أن عهد بقيادة القاهرة إلى الجنرال دوغا، وبقيادة الصعيد إلى الجنرال ديزه، وقيادة الإسكندرية إلى الجنرال مرمرون، وأمر بتحصين دمياط. وجعل في تلك الحملة بعض مشايخ القاهرة ليستعين بنفوذهم الديني. وفي ٢١ شعبان أصدر منشورًا مطبوعًا فرقه في الناس، وهاك نصه بالحرف الواحد:

الحمد لله وحده. هذا خطاب إلى جميع أهل مصر من خاص وعام من محفل الديوان الخصوصي من عقلاء الأنام، وعلماء الإسلام والوجاقات والتجار الفخام.

نعلمكم معاشر أهل مصر أن حضرة صاري عسكر الكبير بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية صفح الصفح الكامل عن كل الناس والرعية بسبب ما حصل من أراذل الناس أهل البلد والجعيدية من الفتنة والشر مع العساكر الفرنساوية، وعفا عفوًا شاملًا وأعاد الديوان الخصوصي في بيت قائد آغا بالأزبكية، ورتبه مع أربعة عشر شخصًا أصحاب معرفة وإتقان، انْتُخِبُوا بالقرعة من ٦٠ رجلًا حصل انتخابهم بموجب فرمان؛ وذلك لأجل قضاء مصالح الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام، وتنظيمها على أكمل نظام وإحكام. كل ذلك من كمال عقله وحسن تدبيره ومَزِيدِ حُبِّهِ لمصر وشفقته على سكانها من صغير القوم حتى كبيرهم. ورتَّبَهم بالمنزل المذكور كل يوم لأجل خلاص المظلوم من الظالم، وقد اقتص من عسكره الذين أساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري، وقتل منهم اثنين في قره ميدان، وأنزل طائفة منهم عن مقامهم العالي إلى أدنى مقام؛ لأن الخيانة ليست من عادة الفرنساويين خصوصًا مع النساء الأرامل، فإن ذلك قبيح عندهم لا يفعله إلا كل خسيس. وقبض بالقلعة على رجل نصراني مكَّاس؛ لأنه بلغه أنه زاد المظالم في الجمرك بمصر القديمة على الناس. ففعل ذلك بحسن تدبيره ليمتنع غيره من المظالم، ومراده رفع الظلم عن كامل الخلق، ودائمًا يفكر في فتح الخليج الموصل من بحر النيل إلى بحر السويس لتخف أجرة الحمل من مصر إلى قطر الحجاز، وتحفظ البضائع من اللصوص وقطاع الطرق، وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق. فاشتغِلوا في أمر دينكم وأسباب دنياكم واتركوا الفتنة والشرور ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم، وعليكم بالرضى بقضاء الله وحسن الاستقامة؛ لأجل خلاصكم من أسباب العطب والوقوع في الندامة. رزقنا الله وإياكم التوفيق والتسليم. ومن كان له حاجة فليأتِ الديوان بقلب سليم إلا من كان له دعوى شرعية فيتوجه إلى قاضي العسكر المتولي بمصر المحمية بخط السكرية، والسلام على أفضل الرسل إلى الدوام.

(١٤) فتح العريش وغزة

وفي ٢٥ شعبان/أول فبراير (شباط) سنة ١٨٩٩م سار الجنرال كلابر والجنرال رينر في مقدمة الحملة نحو العريش، وفي ٥ رمضان أو ١٠ فبراير (شباط) سافر بونابرت بمن بقي منها. وكان على العريش قاسم بك من قِبَلِ الجزار، وقد عسكر خارج المدينة. ففي صباح ٨ منه كانت مقدمة الفرنساويين على مقربة من معسكر قاسم، وفي المساء هاجموه بغتة فقتلوه وشتَّتوا جيشه، واستولَوْا على الذخائر والمهمات وساروا نحو المدينة. أما بونابرت فوصل الصالحية في ٧ منه، وفي ١١ منه وصل المسعودية، فطلعت ريح شديدة نسفت عليه وعلى رجاله الرمال أحمالًا، وكانت المياه قليلة، فعطشت العساكر عطشًا عظيمًا، فعسكر هناك وبعث الخبراء يستطلعون خطوات كلابر وجِهَة مسيره، فعادوا وأخبروه فنهض، وما زال حتى أتى العريش في ١٢ رمضان، فرأى كلابر قد حاصرها وامتنع عليه فتحُها لقلة الطبجية ونفاد المؤن. فلما وصل بونابرت أرسل إلى حامية العريش كتابًا يطلب إليهم التسليم ويهددهم، فسلموا بعد بضعة أيام فدخل الفرنساويون العريش، وأمَّنوا أهلها على حياتهم وقبضوا على خمسة كشاف كانوا هناك من قِبَلِ المماليك، وأرسلوهم إلى القاهرة تحت الحجز، ثم جعلوا في العريش حامية، وساروا إلى غزة فاستولوا عليها بغير قتال، وجعلوا فيها حامية وديوانًا وطنيًّا لتنظيم الأحوال.

(١٥) فتح يافا وقتل حاميتها

وفي ٢٣ رمضان سنة ١٢١٣ﻫ/٢٨ فبراير (شباط) سنة ١٧٩٩م ساروا إلى يافا، فلما وصلوها أمر بونابرت الجنرال كلابر أن يتقدم في فرقته إلى عكا ففعل. وكانت حامية يافا أخلاطًا من الأتراك والمغاربة والأرناءوط والأكراد، فلم ير بونابرت محاصرتها فأمر بالهجوم عليها في ٢٧ منه/٤ مارس (آذار). فهجم الفرنساويون عليها وما زالوا حتى خرقوا الأسوار ودخلوها، ففرت الحامية فتتبعوها وقد تحصنت في بعض الخانات الكبيرة فألحوا عليها فقال الأرناءوط ومنهم تتألف معظم الحامية: «نحن نسلم لكم أنفسنا إذا أمنتمونا على حياتنا.» وكان على قيادة الهاجمين من الفرنساويين أحد أركان حرب بونابرت، فوعدهم بالأمان فسلموا فقادهم موثقين وعددهم نحو أربعة آلاف حتى أتى بهم المعسكر الفرنساوي، فلما رآهم بونابرت قال للقادم إليه: «ما هذه الجماهير؟» قال: «هي حامية هذه المدينة قد سلمت وجئنا بها إليك.» قال: «ماذا تريدون أن أفعل بهذا العدد؟ أعندكم زاد يكفيهم أو مراكب تنقلهم إلى مصر أو فرنسا؟ وإذا أرسلناهم في البر فمن يتولى خفارتهم؟» فأجابه قائلًا: «إننا قد قبلنا تسليمهم حجبًا للدماء.» فقال بونابرت: «نعم يجب أن تفعلوا ذلك ولكن مع الأطفال والنساء والشيوخ، وليس مع مثل هذا القدر من الرجال الأشداء المجنَّدين.» ثم أمرهم بالجلوس مكتوفي الأيدي أمام المعسكر، وفي اليوم التالي فرقوا فيهم شيئًا من البقسماط الجاف والماء.

ثم عقد بونابرت مجلسًا في خيمته للمفاوضة في ماذا يجب أن يفعل بهؤلاء الأسرى، وبعد الاجتماع عدة جلسات لم يقروا على شيء، فانزعج بونابرت لكثرة التردد في الأمر، وبعد التفكير والتأمل رأى أنه لا يستطيع استبقاءهم معه؛ لعدم وجود ما يكفيهم من الزاد ولا إرسالهم إلى مصر لعدم استغنائه عن رجال يسيرون لخفارتهم، ولا إطلاق سبيلهم لئلا يرتدوا عليه فأقر على إعدامهم. وفي ٤ شوال/١٠ مارس (آذار) سنة ٩٩ بعد الظهيرة قادوهم موثقين إلى صحراء رملية خارج يافا، ثم جعلوهم فرقًا ساقوا كلًّا منها إلى ناحية وقتلوا الجميع بالرصاص قتلًا ما أنزل الله به من سلطان. فلما بلغت هذه الفَعلة مسامع الجزار ورجاله في عكا أصروا على الدفاع إلى آخر نسمة من حياتهم؛ لئلا يصيبهم إذا سلَّموا ما أصاب أولئك.

(١٥-١) منشور بونابرت بفتح يافا

ولما استلم بونابرت يافا أمر بترميم حصونها، وبعث إلى الإسكندرية يأمر العمارة الباقية هناك أن توافيه إلى يافا. ثم فشا الطاعون في يافا وضواحيها لفساد الهواء من الجثث التي ملأت تلك الجهات. وكتب بونابرت إلى جند بيت المقدس يطلب إليهم التسليم، فأجابوا أنهم تابعون لولاية عكا وحالما تُسَلِّمُ عكا يُسَلِّمُونَ. ثم كتب إلى القاهرة منشورًا باستيلائه على يافا، وكان قد أرسل مثل هذا المنشور عندما استولى على العريش وغزة، ولنذكر هنا منشوره من يافا فقط على سبيل النموذج، وفيه تفصيل ما تقدم عن فتح يافا وهاك نصه بالحرف الواحد:

بسم الله الرحمن الرحيم. سبحان مالك الملك يفعل في ملكه ما يريد. هذه صورة تمليك الله — سبحانه وتعالى — جمهور الفرنساويين لبندر يافا من الأقطار الشامية. نُعرِّف أهل مصر وأقاليمها أن العساكر الفرنساوية انتقلوا من غزة ثالث وعشرين شهر رمضان، ووصلوا الرملة في ٢٥ منه في أمن واطمئنان، وشاهدوا عسكر أحمد باشا الجزار هاربين بسرعة قائلين: الفرار الفرار! ووجدوا في الرملة ومدينة اللد مقدارًا كبيرًا من مخازن البقسماط والشعير، ووجدوا أيضًا ١٥٠٠ قربة مجهزة جهزها الجزار ليسير بها إلى إقليم مصر مسكن الفقراء والمساكين، ومراده التوجُّه إليها مع العربان الأشرار من سفح الجبل، ولكن تقادير الله تفسد المكر والحيل. وما كان قصده سوى سفك الدماء مثل عادته في أهل الشام، وناهيكم ما هو مشهور عنه من التجبُّر والظلم والجور؛ فإنه تربية المماليك الظلمة المصريين، وفاته أن الأمر لله وكل شيء بقضائه وتدبيره.

وفي السادس والعشرين حلت طلائع الفرنساويين ببندر يافا من الأراضي الشامية، وأحاطوا بها وحاصروها من الجهة الشرقية والغربية، وأرسلوا إلى حكمها وكيل الجزار أن يسلمهم القلعة قبل أن يحل بهم وبعسكرهم الدمار، لكنه لخشونة عقله وفساد رأيه وسوء تدبيره لم يرد. وفي ذلك اليوم — أي ٢٦ من شهر رمضان — تكامل العسكر الفرنساوي على محاصرة يافا، وانقسم ثلاث فرق توجَّهت فرقة منهن على طريق عكا على مسافة أربع ساعات من يافا، وفي ٢٧ أمر حضرة صاري عسكر الكبير بحفر خنادق حول السور لعمل متاريس متينة، واستحكامات حصينة؛ إذ عرف أن سور يافا ملآن بالمدافع الكثيرة مشحون بعساكر الجزار الوفيرة.

وفي ٢٩ ناهز حفر الخنادق النهاية، وصار على مسافة ١٥٠ خطوة في السور، فأمر صاري عسكر أن تُنصَبَ المدافع على المتاريس، وأن توضع أهوان القنابر بإحكام، وأمر بنصب مدافع أخرى بجانب البحر لمنع الصلة بين عسكر البر، والمراكب التي أعدها عسكر الجزار في المينا للهرب والفرار. ولما رأى عسكر الجزار المحاصَرون في القلعة أن عديد الفرنساويين قليل غرَّهم الطمع، فخرجوا إليهم من القلعة مسرعين؛ ظنًّا منهم أنهم يغلبون على الفرنساويين، فهجم عليهم الفرنسيس وقتلوا منهم كثيرين وأجبروهم على الدخول إلى القلعة ثانية.

وفي يوم الخميس غاية شهر رمضان أشفق حضرة صاري عسكر، وخاف على أهل يافا إذا دخلت عساكره بالقهر والقوة، فأرسل إليهم مع رسول خطابًا هذا مضمونه: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له. باسم الله الرحمن الرحيم. من حضرة صاري عسكر برتيه كتخدا العسكر الفرنساوي إلى حضرة حاكم يافا، نخبركم أن حضرة صاري عسكر الكبير بونابرته أمرنا أن نعرفكم في هذا الكتاب أن سبب مجيئه إلى هذا الطرف هو إخراج عسكر الجزار فقط من هذا البلد؛ لأنه تعدى بإرسال عسكره إلى العريش ومرابطته فيها، والحال أنها إقليم مصر التي أنعم الله بها علينا، فلا تجوز له الإقامة بالعريش؛ لأنها ليست من أرضه فقد تعدى على ملك غيره، ونعرفكم يا أهل يافا أننا حصرنا بندركم من جميع أطرافه وجهاته، وضيقنا عليه بآلات الحرب والحصار والمدافع الكثيرة والكلل والقنابر، وفي برهة ساعتين يخرب سوركم وتبطل آلات حربكم. ونخبركم أن حضرة صاري عسكر لمزيد رحمته وحُنُوِّهِ خاف عليكم من سطوة عساكره المحاربين. فإنهم إذا دخلوا عليكم بالقوة والقهر أهلكوكم جميعًا؛ ولذلك أمرنا أن نرسل إليكم هذا الخطاب تأمينًا لأهل البلد ولا سيما الضعفاء والفقراء والغرباء، وأن نؤخَّر ضرب المدافع وإطلاق القنابر ساعة واحدة، وإني لكم لمن الناصحين، وهذا آخر خطاب بيننا.»

فجعلوا جوابنا حبس الرسول مخالفين بذلك الشريعة المطهَّرة المحمدية والقوانين الحربية. فتميز صاري عسكر من الغيظ، وهاج واشتد غضبه وأمر بإطلاق المدافع والقنابر. ولم يمض إلا اليسير حتى خرست مدافع يافا، وانقلب عسكر الجزار في وبالٍ وخسران، وعند الظهر انخرق سور يافا، وارتج له القوم ونقب من الجهة التي ضُرِبَتْ منها المدافع، ولا مَرَدَّ لقضاء الله ولا مُدافع. وفي الحال أمر حضرة صاري عسكر بالهجوم، وفي أقل من ساعة ملكت العساكر الفرنساوية جميع البندر والأبراج، ودار السيف في المحاربين، وحمي الوطيس وكثر القتل.

وفي يوم الجمعة غرة شوال وقع الصفح الجميل من حضرة صاري عسكر الكبير. ورق قلبه — لا سيما على من كان في يافا من أهل مصر — فأعطاهم الأمان وأمرهم بالعود إلى الأوطان. وكذلك أمر أهل دمشق وحلب بالرجوع إلى بلادهم؛ ليعرفوا مقدار رحمته ومزيد رأفته. وقُتِلَ في هذه الواقعة أكثر من ٤٠٠٠ من عسكر الجزار بالسيف. أما الفرنساويون فلم يُقتل منهم إلا القليل، وسبب ذلك أن سلوكهم إلى القلعة كان في طريقة أمينة خافية عن العيون، وأخذوا ذخائر كثيرة وأموالًا غزيرة واستولوا على المراكب التي في المينا، ووجدوا في القلعة نَيِّفًا وثمانين مدفعًا، وقد فات الجزار وعساكره أن آلات الحرب لا تدفع مقادير الله. فاستقيموا عباده وارضَوْا بقضاء الله ولا تعترضوا على أحكام الله، وعليكم بتقوى الله واعلموا أن المُلك لله يؤتيه من يشاء، والسلام عليكم ورحمة الله.

(١٦) حصار عكا

ثم سار بونابرت برجاله قاصدًا عكا تاركًا في يافا حامية كافية، فقابله في الطريق بعض العصاة من المماليك، فحصلت بينهما مناوشات شفت عن فرار المماليك، فواصل السير حتى أتى سفح الكرمل، وإذا بعكا قد تحصَّنت تحصنًا منيعًا بهمة واليها أحمد باشا الجزار، وهو الرجل الوحيد الذي كان يعتمد على الباب العالي في حماية سوريا.

fig074
شكل ٢-١١: مدينة عكا.

فعبروا النهر وعسكروا في البر الآخر. وفي ٢ شوال صعد بونابرت إلى رابية، وجعل يتأمل حصون عكا بالنَّظَّارة المكبِّرة، ثم أمر أن يسير بعض العساكر إلى المدينة، وكانت في مياهها عمارة إنكليزية بقيادة السير سدني سميث قد زادت الجزار تمسُّكًا بالدفاع. ففي اليوم التالي استطلعوا الحصون واستكشفوا قوات العدو. وفي ٤ شوال/٢٠ مارس (آذار) بدءوا بالمحاربة، وكانت الدوارع الإنكليزية تساعد الجزار من البحر، وقد أظهر هذا الرجل بسالةً عظيمة، لكنه اضطر أخيرًا إلى استنجاد قوات صيدا ودمشق وحلب.

أما بونابرت فأبقى الحصار على عكا وحوَّل شكيمة فتوحاته نحو جهات أخرى من سوريا، فأرسل فرقًا استولت على صفد وصور وطبريا وأماكن أخرى، وأَتَوْا منها بمؤن كثيرة. وبعد يسير وصلت الدوارع الفرنساوية من الإسكندرية ومعها المدافع والمؤن. وفي ٤ ذي القعدة سنة ١٢١٣ﻫ/٩ أبريل (نيسان) سنة ١٧٩٩م قُتِلَ الجنرال كافارلي.

وفي ٥ ذي الحجة/٩ مايو (أيار) وهو اليوم الخمسون لحصار عكا أَقَرَّ بونابرت على الهجوم النهائي، فهجموا عليها هجمة اليأس بقلوب لا تهاب الموت، ولم تكن عكا لتقف في طريقهم لولا العمارة الإنكليزية، وهي التي أخَّرت الفتح بدفاعها عنها بالبر والبحر، ثم جاءتهم نجدة من الأستانة تحت قيادة حسن بك فازداد المدافعون قوة، ومضى ذلك اليوم ولم ينل الفرنساويون شيئًا. وفي اليوم التالي هجموا هجمة أخرى لم ينالوا منها إلا التقهقر؛ لأنهم لاقَوْا مقاومة عنيفة قُتِلَ فيها الجنرال بون، فيئس بونابرت لحبوط مساعيه وفشل حملته السورية، على أنه كان يتعزى بما سبق استيلاؤه عليه من المدن والقرى السورية، إلا أن تلك الأماكن حالما سمعت بما أَلَمَّ بجيشه من الفشل انحازت إلى الباب العالي هربًا من العقاب. وزِدْ على ذلك أن السير سدني سميث كتب منشورات وزَّعها على المشايخ والأمراء في لبنان يدعوهم إلى الاتحاد مع الباب العالي، وأرسل إلى سراة المسيحيين أيضًا صورة منشور بونابرت الذي يقول فيه إنه هَدَّ أركان الديانة المسيحية، فامتنع اللبنانيون عن توريد الخمر والبارود للفرنساويين، فأصبح بونابرت في حالة اليأس الشديد لا يدري ماذا يصنع وقد خابت آماله. فكتب إلى ديوان مصر أنه قد هدم أسوار عكا، وأخرب بيوتها بالقنابل وجرح واليها الجزار، وأنه سيبرحها بعد ثلاثة أيام عائدًا إلى مصر، ومتى جاءها يقتص من الباغين. ثم استقدم حاميات صفد وطبرية وغيرها.

(١٧) رجوع حملة بونابرت إلى مصر

وفي ٢١ ذي الحجة/٢٣ مايو (أيار) أمر بونابرت بالمسير إلى مصر بكل رجاله وفيهم الجرحى، فقاسَوْا عذابًا مُرًّا من العطش وفشا فيهم الوباء فزادهم عناءً، فأمر بونابرت أن يسير الرجال الأصحاء على أقدامهم، وأن تُعطَى الخيول والجِمال للمرضى والجرحى. وزادهم شقاءً أن العمارة الإنكليزية كانت تتعقبهم في البحر والعربان يتعرضون لهم في البر والجنود العثمانية تسوقهم من وراءهم. أما هم فكانوا يخربون كل ما يمرون به من المدن والقرى. وفي ٦ ذي الحجة أو ٢ يونيو (حزيران) وصلوا العريش فأمر بونابرت بتحصينها تحصينًا منيعًا، واشتد عليهم القيظ، وكان في الماء الذي يشربونه علق يمتص الدَّمَ، فكان يعلق بحلقهم عند الشرب فيعذبهم عذابًا أليمًا.

ثم واصلوا المسير إلى القاهرة رغم الحر والوباء حتى وصلوها، فخرج المشايخ والأعيان إلى خارج المدينة لاستقبالهم، فدخلوها ولم يصدقوا أنهم تخلصوا من حملة سوريا، وممَّا مَرُّوا به من الصحاري الحارة. فأخذ بونابرت في تنظيم العساكر وتطبيب الجرحى وإعادة النظام واكتساب ثِقَة الأهلين، ولم يكد يفعل حتى بلغه تقدُّم المماليك من جهة الصعيد. وسبب ذلك أن مراد بك كان في أعلى الصعيد فبلغه قدوم حملة عثمانية لإخراج الفرنساويين من مصر، فجمع إليه رجاله وسار ببعضهم على الضفة الغربية للنيل، وأرسل البعض الآخر على الضفة الشرقية للاتحاد مع إبراهيم بك القادم من جهة سوريا، فعلم بونابرت بذلك فأنفذ جندًا على كل من الضفتين لمحاربة الفرقتين فالتقى جند الضفة الشرقية بفرقة إبراهيم بك وراء المقطم فشتتها وأخذ أمتعتها، والتقى جند الضفة الغربية وفيه بونابرت بمراد بك في الجيزة فانتشبت الحرب فانكسر المماليك، وتشتت شملهم فعادوت الجنود الفرنساوية ظافرة.

(١٨) حملة عثمانية لإخراج الفرنساويين من مصر

وفي ٦ محرم سنة ١٢١٤ﻫ/١٥ يوليو (تموز) سنة ١٧٩٩م، وردت لبونابرت رسالة من الجنرال مرمون في الإسكندرية تنبئه بمجيء الحملة العثمانية، ونزولها أبي قير في ١١ الجاري؛ فانزعج بونابرت من هذا الخبر، فأمر بإعداد حملة تسير إلى الإسكندرية، وبعث إلى الحصون في رشيد ودمياط أن تكون على يقظة واستعداد.

وسبب قدوم الحملة العثمانية أن الباب العالي بعث إلى الفرنساويين مِرارًا يقيم الحجة على استقلالهم بأحكام مصر، ويطلب إليهم الانسحاب منها، ولم يكن الجواب إلا المماطلة، وكانت إنكلترا في الوقت عينه تَسْتَحِثُّ الباب العالي على هذه المطاليب، وأخيرًا اتفقت معه أن يرسل كل منهما عمارة إلى أبي قير، حيث تتحد العمارتان وتخرجان الفرنساويين من مصر بالقوة. فسارت العمارة العثمانية تحت أميرالية باترونا بك وعليها ثمانية آلاف من الجنود البرية بقيادة مصطفى باشا سر عسكر، ومعهم حسن بك ورجاله، وسارت العمارة الإنكليزية بأميرالية السير سدني سميث المتقدم ذكره، والتقت العمارتان في أبي قير واتحدتا، فأسرع الجنرال مرمون إلى إعلام بونابرت.

فبرح بونابرت القاهرة برًّا ثاني يوم وصول الرسالة صباحًا، فسار من الجيزة إلى الرحمانية، ومن هناك كتب إلى القاهرة كتابًا يضرب به على وتر الدين، حيث يقول: «إن بين الذين قدِموا للمحاربة رجالًا روسيين لا يؤمنون بإله واحد، وإنما يعبدون آلهة ثلاثة.» ثم برح الرحمانية فوصل الإسكندرية في ٢٤ محرم/٢٣ يوليو (تموز) فلاقاه مرمون فعنفه لغفلته عن حصن أبي قير حتى احتله العثمانيون، وفي اليوم التالي استكشف استحكامات العدو، ثم سار برجاله نحو أبي قير فإذا بالجنود العثمانية تحت قيادة مصطفى باشا على مسافة ميل ونصف وراء أبي قير، ومنهم نحو ألف رجل في حصن على رابية من الرمال في اليمين بجوار الشاطئ، وجماعة آخرون في اليسار في حصن على رابية أخرى، وهاتان الرابيتان بمثابة جناحي الجيش.

فهاجم بونابرت أولًا الرابية اليمنى ففَرَّ من كان فيها إلى قرية وراء قلب الجيش، فأرسل كوكبة من الفرسان لملاقاة الفارِّين، وفعل مثل ذلك بالرابية اليسرى، ثم هجم على قلب الجيش فتقهقرت الجنود العثمانية إلى طابية كانوا قد جعلوها وراءهم، فتشجع الفرنساويون وتعقَّبوا الهاربين، لكنهم لم يسيروا يسيرًا حتى سمعوا دَوِيَّ المدافع الإنكليزية ووزيز قنابلها فارتدوا إلى الوراء. فارتد العثمانيون عليهم وتعقبوهم حتى كادوا يَظفرون بهم، لكنهم شغلوا بتقطيع رءوس القتلى فاغتنم أحد قواد الفرنساويين فرصة تغافلهم، وسار في فرقته عن اليسار قاصدًا الطابية الخلفية، وسار قائد آخر من اليمين فدخلا الطابية، وقطعا على العثمانيين خط الرجوع، وأسرع أحدهما «الجنرال مورات» بنفسه للقبض على مصطفى باشا في خيمته، فأطلق عليه الباشا عيارًا ناريًّا فلم يعبأ به وهجم عليه بسيفه، فقطع إصبعيه وأمر اثنين من رجاله فأوثقاه وأرسلاه إلى معسكر الفرنساويين. وأخذت العساكر الفرنساوية بالنهب فلم يغادروا في معسكر العثمانيين شيئًا من المؤن والذخائر. وفر من بقي من العثمانيين إلى البحر في قوارب أرسلها لهم السير سدني إلا بعض الحامية في حصن أقاموه هناك، فهجم عليه الفرنساويون وبعد دفاع سبعة أيام هدموه وأسروا من كان فيه، فشاع خبر انتصار الفرنساويين في القطر المصري فعظموا في عيون الأهلين.

(١٩) عود بونابرت إلى فرنسا

ثم ورد لبونابرت من فرنسا رسائل مُنْبِئَةٌ باضطرابهم هناك، وبثقل اليد عليهم، وفيه إلحاح كلي عليه أن يسير حالًا إلى فرنسا بعد أن يجعل في مصر حامية منتظمة، فكتم الأمر ولم يكاشف به أحدًا إلا الأميرال غانتوم؛ لأنه لم يرد بُدًّا من مكاشفته لكي يعد له دارعتين تنقلانه ومعيته إلى فرنسا. ولكي لا يجعل للمصريين شبهة بمقاصده عاد إلى القاهرة بما يلزم من احتفال النصر، فوصلها في ١٣ صفر فخرج الأعيان لملاقاته بالموسيقى.

وبعد قليل نزل إلى الإسكندرية مُظهِرًا التجول في الوجه البحري، فلما وصل الإسكندرية كتب إلى الجنرال كلابر — وكان على مديرية الغربية — يُولِّيه القيادة العامة على مصر، ويُبيِّن له وجوب المحافظة على الاحتلال لئلا تأتي دولة أخرى تحتل هذا القطر بعد أن بذلوا فيه ما بذلوه من المال والرجال، ووعده بنجدة يبعث بها إليه حال وصوله إلى فرنسا، وأخبره أخيرًا عن الداعي الذي حمله على هذه السرعة. وكتب كتابًا آخر إلى عساكره يشجعهم على الثبات والصبر، وكتابًا إلى علماء مصر ومشايخها يطلب إليهم أن يعتبروا الجنرال كلابر مكانه، جاعلًا السبب في سفره أنه ذاهب لقهر من بقي من أعدائه في أوروبا؛ لأنه إن لم يفعل ذلك لا يطمئن باله على مصر، ويعدهم أنه لا يغيب عنهم أكثر من ثلاثة أشهر، وأرسل هذه الكتب معًا إلى كلابر، وأوصاه أن يُطلِع أصحابها عليها في الوقت المناسب.

ثم بعث يستقدم الجنرال مينو إليه، فجاءه حالًا وهو على أُهبة السفر في ٢٥ صفر/٢٢ أغسطس (آب) فعهد إليه قيادة الإسكندرية ورشيد والبحيرة، وسلمه كتب كلابر وأوصاه أن يوصلها إليه حالًا. ثم ركب جواده وسار مساءً بمن معه إلى جهة مرابوت أو العجمي، وكان الأميرال غانتوم ودارعتاه بانتظاره هناك، وفي الساعة العاشرة من تلك الليلة نزل بمن معه إلى البحر. وفي صباح اليوم التالي ودَّعُوا سواحل الدلتا وأقلعوا قاصدين فرنسا.

أما أهل الإسكندرية — ولا سيما الخفر خارج المدينة — فإنهم شاهدوا في ذلك الصباح غبارًا عجاجًا بجهة حصن العجمي، فخافوا أن تكون كتيبة من العربان قادمة على المدينة، ثم تبين لهم أنها خيول مُسرجة ولا راكب عليها، فسألوا لمن هذه الخيول فقيل لهم إنها الخيول التي نقلت بونابرت ومعيته إلى البحر، وقد سافر إلى فرنسا. فانذعر القوم لتلك الأخبار، وكادوا لا يصدقونها حتى بلغهم مينو رسميًّا ما عهد إليه بونابرت قبل ذهابه.

ثم أرسل مينو الأوامر والكُتُب التي بيده إلى كلابر، فوصلته وهو في رشيد قادمًا لمقابلة بونابرت، فذهب إلى القاهرة وبلَّغ المشايخ والعلماء ما أمره به بونابرت وتلا عليهم كتابه إليهم وهؤلاء بلَّغُوا الأهلين، وهكذا ذاع خبر بونابرت في سائر القطر. وكان كلابر بالحقيقة أولى من سائر قواد تلك الحملة بذلك المنصب؛ لأنه كان أفضلهم حزمًا وعقلًا وهيبة وأنفة وبسالة.

fig075
شكل ٢-١٢: الجنرال كلابر.
فقد ظهر لك ممَّا تقدم أن الحملة الفرنساوية لم يكن القصد منها غير الاحتلال الدائم. ذلك كان قصد بونابرت، أما كلابر فلم يكُن ذلك رأيه وإنما كان ينظر إلى مصر نظره إلى بلاد لا تصلح لسُكنى الفرنساويين لما بينها وبين بلادهم من اختلاف الهواء والعادات والأخلاق، فضلًا عن أنه لم يكُن يرى إمكان استمرار الحال على ما تركها بونابرت؛ ولذلك بادر عند استلامه أَزِمَّةَ القيادة إلى إطْلَاع فرنسا على حالة مصر عند خروج بونابرت، فكتب إليها يقول:

رأي كلابر بمصر

قد سافر بونابرت إلى فرنسا في الفروكتيدور السادس بدون أن يعلن أحدًا، لكنه أرسل إليَّ كتابًا وآخر للصدر الأعظم أرسله إلى الأستانة، مع علمه أنه وصل إلى دمشق. أما أعداؤنا الآن فليسوا المماليك فقط وإنما هم ثلاث دول عظمى: الباب العالي وإنكلترا وروسيا. أما جنودنا فقد أصبحوا نصف ما كانوا يوم قدومهم إلى مصر مبعثرين في أنحاء القطر من العريش والإسكندرية إلى أسوان. أما معدَّاتهم فغير كافية لهم؛ لأن معامل الأسلحة والبارود معطلة. ومثل ذلك الألبسة فقد أصبحت رجالنا لاحتياجهم إلى الألبسة معرَّضين لأوبئة البلاد. وزِدْ على ذلك أننا خسرنا ١٢ مليونًا من الفرنكات بسبب تضمين الضرائب غير الاعتيادية بأمر بونابرت. نعم إن المماليك تشتتوا لكنهم لم يَبيدوا. هذا مراد بك ما انفك في مصر العليا في كثرة من الرجال يُمكنه بهم أن يشغل قسمًا من جنودنا لمدة طويلة. وهذا الصدر الأعظم جاء بحملة عثمانية لمناهضتنا، وقد سار من دمشق إلى عكا. أما حصوننا واستحكاماتنا فلا تزيدنا قوة. إن حصن العريش لا يدفع مهاجمًا والإسكندرية أشبه بمعسكر محاط بزريبة. فأفضل ما يمكنني إجراؤه والحالة هذه مخابرة الباب العالي؛ لعلنا نصل إلى وفاق فيه خير لنا. وقد علمت الآن أن عمارة عثمانية رست أمام دمياط.

(١٩-١) حملة أخرى لإخراج الفرنساويين

إلا أن كلابر مع ذلك لم يتقاعد عن تنظيم الأحوال واكتساب ثقة الأهلين، وجمع العوائد والمكوس لدفع مرتبات الجند، على حين أنه لم يكن ممَّن يريدون احتلال مصر أو استعمارها، بل كان يفضل الانسحاب منها على شروط لا يكون فيها عار على دولته، ولكن الأحوال لم تُنِلْهُ ما نواه؛ لأن الدولة العلية عادت إلى استخراج هذا القطر السعيد من أيدي الفرنساويين بالقوة، فأرسلت الصدر الأعظم يوسف باشا بنفسه إلى دمشق يُجَنِّدُ جندًا عظيمًا يسير به عن طريق البر إلى القاهرة، وجندًا آخر يسير بحرًا في عمارة السير سدني سميث باتفاق مع إنكلترا لمطاولة الفرنساويين من جهة البحر؛ ليسهل على حملة البر المسير في داخلية القطر. فسار جند البحر إلى دمياط ونزل في قلعة قديمة شرقِيَّ البوغاز، فأخرجتهم منها الجنود الفرنساوية.

أما الصدر الأعظم يوسف باشا فقدم يافا بحملته، ثم جعل يتخابر مع كلابر في رفاق ينتهون إليه، فانتهت المخابرة بمؤتمر عُقِدَ في العريش مؤلَّف من الصدر الأعظم من العثمانيين والجنرال ديزه والمسيو بوسيلك من الفرنساويين، أقرَّ على معاهدة صلح أُمْضِيَتْ في ١٢ جمادى الآخرة سنة ١٢١٤ﻫ/٣ ديسمبر (ك١) سنة ١٧٩٩م.

غير أن هذه المعاهدة لم يَطُلْ بقاؤها؛ لأن العثمانيين خرقوها بمهاجمتهم العريش في ٢ رجب أو ٢٣ ديسمبر (ك١)، وهي تحت قيادة الكولونيل كازال، وكان من البسالة على جانب عظيم، فأحب الأهلون التسليم، فأبى وأصر على الدفاع إلى آخر نَسَمة من حياته، ولم تكن العريش من المناعة على شيء فدخلها العثمانيون واستولوا عليها، فاتصل ذلك بالجنرال كلابر فاغتاظ جدًّا، وكتب إلى السير سدني يعنفه مع علمه ببراءته.

(١٩-٢) معاهدة الصلح

فعادت المخابرات وعقد مؤتمر ثان في ٤ شعبان سنة ١٢١٤ﻫ /٢٤ يناير (ك٢) سنة ١٨٠٠م في العريش مؤلَّف من ديزه وبوسيلك من الفرنساويين واثنين من العثمانيين، وأقروا على معاهدة عُرِفَتْ بمعادة العريش مقتضاها انسحاب الفرنساويين بمؤنهم وذخائرهم عن طريق رشيد والإسكندرية وأبي قير إلى فرنسا انسحابًا قانونيًّا بكل ما لديهم.

فسُرَّ كلابر لتلك المعاهدة لاعتقاده أن انسحابه على هذه الصورة لا يمس شرف دولته. ولما شاع خبر تلك المعاهدة بمصر فرِح الأهلون عمومًا، وكذلك الجنود الفرنساوية؛ لأنهم لم يكونوا راضين بالمُقام في بلاد تخالف بلادهم إقليمًا وأخلاقًا ومعيشة، فضلًا عمَّا كانوا يقاسونه من عصيان الأهلين وسفك الدماء. فضرب كلابر على البلاد ضريبة غير اعتيادية مقدارها ثلاثة آلاف كيس لنفقات الجيش في نقل المهمات، وصدرت الأوامر بالتأهُّب للرحيل. فباع الفرنساويون كل ما يصعب حمله من متاعهم، وبعث كلابر إلى الجنود المتفرِّقة في جهات الصعيد بالقدوم إلى مصر. واطمأن المماليك الذين كانوا قد فَرُّوا من وجه الفرنساويين، فعادوا إلى القاهرة بنسائهم وأولادهم. ثم نهض الصدر الأعظم بجيشه نحو القاهرة، حتى إذا أتى بلبيس سار علماء مصر ومشايخها بإذن من كلابر لملاقاته، وتقديم واجب العبودية لجلالة السلطان، فسُرَّ الصدر الأعظم بهم وخلع عليهم.

(١٩-٣) نقض المعاهدة

وبينما الحال كذلك ورد للجنرال كلابر كتاب من السير سدني، مآله نقض معاهدة العريش وتعريبه ملخصًا:

سيدي، اعلم حضرتكم أني قد تشرفت بأوامر شاهانية تمنع عقد أية معاهدة مع الجيوش الفرنساوية التي هي تحت قيادتكم في مصر وسوريا، إلا إذا سلموا أنفسهم وسلاحهم كما يفعل أُسَرَاءُ الحرب مع التخلي عن كل المراكب والمؤن التي لهم في الإسكندرية.

على أن السير سدني نفسه لم يكُن يرى إلا البقاء على المعاهدة، لكن دولته حملت الباب العالي على إصدار هذه الأوامر. وقد كتب السير سدني إلى دولته يظهر رأيه، ويُبَيِّنُ أوجه الخطأ التي أتتها بذلك النقض ولم تحصل نتيجة. أما كلابر فاستشاط غضبًا لذلك ولم يكن جوابه إلا الحرب، فأسرع إلى احتلال الطوابي على الروابي خارج القاهرة، وتعزيزها بما يلزم من العدة والرجال. وكان يوسف باشا قد أصبح على مقربة من القاهرة ومعه الجيوش العثمانية، فكتب إلى المشايخ والعلماء يستحثهم على إخراج الفرنساويين من بلادهم.

فعقد الجنرال كلابر مؤتمرًا حربيًّا قال فيه: «إن الدولة العثمانية قد سهلت انسحابنا فوقف الإنكليز في طريقنا فعلينا محاربتهم.» ثم بعث إلى الصدر الأعظم بعزمه على الحرب وحشد جيشه خارج القاهرة، وكانت مقدمة الجنود العثمانية بقيادة ناصيف باشا أحد قُوَّادِ الحملة معسكره في المطرية، النيلُ إلى يمينها والصحراء إلى يسارها، ووراء ذلك الخانقاه وفيها باقي الجيش بقيادة يوسف باشا، وعددهم نحو من أربعين ألفًا أو تزيد، وانضم إليهم الإنكشارية والمماليك تحت قيادة إبراهيم بك. فالتقى كلابر بمقدمة العثمانيين فتقهقرت بعد الدفاع الحسن، وفَرَّ ناصف باشا وبعض المماليك لجهة القاهرة فقدِم كلابر برجاله، فظهر له عن بعد غبار عجاج في سهل بين قريتين وهما سرياقوس إلى اليسار والمرج إلى اليمين، ثم انقشع الغبار عن الجنود العثمانية قادمة من الخانقاة لملاقاة الفرنساويين، فالتقى الفريقان وانتشبت الحرب فدافعت الجنود العثمانية دفاعًا حسنًا معهودًا بالرجال العثمانيين، إلا أنهم اضْطُرُّوا أخيرًا إلى التقهقر نحو الخانقاة، فتبعهم الفرنساويون فخرجوا منها، وما زالوا حتى تجاوزوا الصالحية فوصلها كلابر، فرآها خالية فاستولى على ما كان فيها.

(١٩-٤) ثورة أهل القاهرة

أما أهل القاهرة فلما علموا بمسير كلابر إلى المطرية ثاروا على من بقي في مصر من الفرنساويين، وبعد الظهيرة أتاهم ناصيف باشا ومعه جماعة من المماليك المتقدم ذكرهم، وقالوا إنهم غلبوا الفرنساويين وجاءوا لاستلام المدينة باسم جلالة السلطان. فأمر ناصيف باشا أن يَقتُلوا من بقي في مصر من المسيحيين رغم كونهم من رعايا الدولة العلية. أما العساكر الفرنساويون الباقون في القاهرة فكانوا يدافعون بالأمر الممكن. وطالت المذبحة في أحياء المسيحيين من الأقباط والسوريين والإفرنج، إلى أن جاء عثمان بك أحد ضباط العثمانيين إلى ناصيف باشا قائلًا: «ليس من العدالة أن تهرقوا دماء رعايا الدولة العلية؛ فإن ذلك مخالف للإرادة السنية.» وبث رجاله في المدينة لإيقاف القتل.

ثم تمكَّن الفرنساويون من احتلال القلعة وباقي الطوابي، ولبثوا ينتظرون ما يكون من ناصيف باشا، فهجم عليهم فأطلقوا عليه وعلى رجاله نارًا أرجعتهم إلى أماكنهم حتى لم يبقَ منهم في الأزبكية رجل واحد، واستمر إطلاق النار على المدينة من القلعة، وباقي الطوابي إلى منتصف الليل، فوقع الرعب في قلوب الأهلين، وهَمَّ المشايخ بالفرار فأمسكتهم الرعية قهرًا. وكان في بعض بيوت المدينة مَدافع فأخرجها الأهلون ورتبوها على هيئة بطارية أحاطوها بطابية، وحظروا على الناس الخروج من تلك الطابية، ولم يكُن عندهم قنابل، فاستخدموا عيار الموازين عوضًا عنها. وبعد مُضِيِّ يومين على تلك الحال أُنْبِئَ ناصيف باشا بقدوم جند فرنساوي من جهة المطرية لنجدة حامية القاهرة، فبَعَث إليهم سَرِيَّةً من الفرسان فلم ينالوا منهم مأربًا فوصل الفرنساويون منادين بانتصارهم في مواقعهم مع العثمانيين. وكانت المدينة برُمَّتِهَا مأربًا فوصل الفرنساويون منادين بانتصارهم في مواقعهم مع العثمانيين. وكانت المدينة برمتها في يد الوطنيين فعجز الفرنساويون عن الدخول إليها، ثم جاءت نجدة أخرى ولم يستطيعوا إخماد الثورة. ثم جاء الجنرال كلابر وقد كادت مؤت حيوشه في القاهرة تنفد، وخرج جميع المسيحيين من الأقباط والسوريين فارين من على السور طالبين الالتجاء إلى معسكر الفرنساويين، ثم تضايق الأهلون لقلة الماء؛ لأن الفرنساويين قطعوه عنهم.

وفي ٢٧ شوال أو ١٤ أبريل (نيسان) طلب كلابر إلى سكان بولاق أن يُسَلِّمُوا، فأجابوا أنهم تابعون للمدينة بما يلحق بها، فأطلق عليهم قنابل لا تزال بعض آثارها باقية إلى هذه الغاية، فسقطت البيوت ودخل الفرنساويون بولاق ولم يُبْقُوا عليها نهبًا وقتلًا، فلما تأتَّى ذلك لكلابر عرج نحو المدينة بالمدافع والحراريق، وكانت ليلة ليلاء ممطرة اختلطت فيها أصوات المدافع بقصف الرعد وشرارها بلمع البرق، وهجمت العساكر على المدينة خائضين في الأوحال يثِبون من حائط إلى آخر بين البيوت التي هدمتها مدافعهم، وفي أيديهم خِرَقٌ مبتلَّة بالزيت مشتعلة يرمونها ذات اليمين وذات اليسار لإحراق المدينة، فعَلَا الصياح من النساء والأطفال خوفًا من النيران، حتى كانوا يلقون بأنفسهم عن الجدران والسطوح تخلصًا من اللهيب.

فهَمَّ ناصيف باشا بالفرار فتتبعوه فدخل بيتًا لبعض ذويه واختفى. فأمر كلابر أن يُنادَى في الناس: «وما النصر إلا من عند الله، وهو — سبحانه وتعالى — قد أمر الظافرين بالرفق، وعليه فإن الصاري عسكر يعفو عن أهل القاهرة وسائر البلاد المصرية عمومًا، ولو اتحدوا مع الأتراك فليرجع كل إلى شأنه.» فكف الناس عن القتال وهدأت الأحوال، فبعث كلابر أن تنظف الأسواق وترفع الجثث وأمر أن تُنَوَّرَ المدينة ثلاثة أيام احتفالًا بالنصر، ودعا إليه العلماء والمشايخ، وأَعَدَّ لهم وليمة حافلة، وبعد يومين جمعهم في مجلسه، وأخذ يعنفهم على ما أتوه من الخيانة، فأجابه الشيخ المهدي: «إننا لم نأتِ خيانة، أما اتحادنا مع العثمانيين فكان بأمر منك.» وحجر كلابر على خمسة عشر شيخًا لم يتركهم حتى أخذ منهم غرامة مقدارها ١٢ مليونًا من الفرنكات، وسكنت بعد ذلك الأحوال واطمأنَّت القلوب.

ثم علم مراد بك بما حل بالمدينة وما كان من نصرة الفرنساويين، فأحب الانحياز إلى الجانب الأقوى، فجاء إلى ضواحي القاهرة وكتب إلى كلابر، ثم اجتمع معه وتفاوضا، فتعاهدا على الاتحاد وتهادَيَا هدايا فاخرة، فولاه مصر العليا مكافأة لصداقته.

(٢٠) مقتل كلابر

فاطمأنَّ كلابر من قبيل مصر بعد اتحاده مع المماليك، وعظم في عيون الأهلين وسكن في بيت مراد بك في الجيزة، وأمر بترميم الأماكن التي هُدِمَتْ بسبب تلك الثورة، وفي جملتها ديوان الجيش غربي الأزبكية في أول شارع بولاق إلى اليمين. وفي ١٤ يونيو (حزيران) سنة ١٨٠٠م دُعِيَ كلابر إلى غداء عند أركان حربه الجنرال داماس في منزله قرب ديوان الجيش. فبعد مناولة الطعام خرج كلابر والموسيو بروتين مهندس الحملة يتمشيان في رواق (ممشى) موصِّل بين بيت الجنرال داماس والديوان نحو الساعة الثانية بعد الظهر. فبينما كانا يتحادثان وثب رجل من آخر الرواق عليه ثوب خلق وفي يده خنجر طعن به صدر الجنرال كلابر، فنادى الحرس وهجم بروتين على الرجل فنال منه مثلما نال من كلابر فسقط بروتين على الأرض، فتركه ذلك الشقي وعاد إلى كلابر وطعنه ثانية وثالثة حتى أجهز عليه، ثم سمع ضجة ففر إلى حديقة بالقرب من ذلك المكان، واختبأ وراء الحائط فلما أتى الخفر لم يروا إلا ذينك الرجلين يخبطان بدمهما، فحملاهما إلى البيت وأتوا لهما بالطبيب فمات كلابر حالًا أما بروتين فبقي تحت المعالجة.

ونودي في المدينة بالقبض على ذلك الفاعل حيثما وُجِدَ، وكان بروتين قد أفهمهم شيئًا عن ملابسه وشكله. وبعد يسير جيء برجل عليه لباس رَثٌّ وأوقفوه أمام بروتين فعرفه وقال: هذا هو الجاني. ثم قرر آخرون أنهم رأوه منذ بضعة أيام يتردد بين البيوت ويختلط بخدمة الديوان.

fig076
شكل ٢-١٣: سليمان الحلبي قاتل الجنرار كلابر.

وبعد استنطاقه بسبل مختلفة وُجِدَ أن اسمه سليمان الحلبي، التقى به أحد آغوات الإنكشارية في بيت المقدس، وكان قد ذهب الإنكشاري إليها للتفتيش عن رجل يُقدِم على قتل كلابر. فخاطب سليمان الحلبي بذلك، فأجاب على شرط أن ينجي أباه في حلب من ضرائب فادحة يطلبها منه والي تلك الولاية، فجاء به إلى غزة وهناك أتاه بكتب توصية من آغا غزة لعلماء الأزهر. فبرح سليمان غزة في ٨ مايو فوصل القاهرة في ١٤، فنزل في بيت مصطفى أفندي ليلةً ثم تمشَّى إلى بعض العلماء فأبوا مشاركته بالجناية.

أما هو فلم ينفك حتى اغتنم تلك الفرصة وفعل ما فعل، فاستُدعي المشايخ المتهمون وهم ثلاثة، وبالاستفهام منهم أجابوا أنهم لم يروا الرجل ولم يعرفوه قبل تلك الساعة. ثم عين الجنرال مينو لجنة لفحص القضية فحكمت بإعدام المشايخ الثلاثة؛ لأنهم عرفوا عزم القاتل على القتل ولم يخبروا عنه. أما القاتل فحُكِمَ عليه بالإعدام على الخازوق لكنهم أوقفوا تنفيذ الحكم لبعد دفن الفقيد. فشيعوا جنازته باحترام واحتفال ولما وارَوْه التراب جاءوا بالجانين وأعدموهم.

(٢١) الجنرال مينو

وأقاموا على القيادة العامة بدلًا من كلابر الجنرال مينو، وكان ممن يرغبون في البقاء بمصر، فأسلم ودعا نفسه عبد الله ووُلِدَ له غلام دعاه سليمان. ثم ظهر من تصرفه بالأحكام أنه ليس على شيء من الهمة والدراية فسخر به الفرنساويون وكرهوه.

fig077
شكل ٢-١٤: الجنرال مينو.

وكان ديوان القاهرة مؤلَّفًا من طائفتي المسلمين والمسيحيين فجعله من المسلمين فقط.

وهذه أسماء المشايخ الذين تألَّف منهم الديوان بأمر الجنرال مينو، وهم تسعة مع من يلحقهم: الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان، والشيخ المهدي كاتب السر، والشيخ الأمير، والشيخ الصاوي وكاتبه، والشيخ موسى السرسي، والشيخ خليل البكري، والسيد علي الرشيدي نسيب ساري عسكر، والشيخ الفيومي، والقاضي الشيخ إسماعيل الزرقاوي، وكاتب سلسلة التاريخ السيد إسماعيل الخشاب، والشيخ علي كاتب عربي، وقاسم أفندي كاتب إفرنجي، وترجمان كبير القس رفائيل، وترجمان صغير إلياس فخر الشامي، والوكيل الكمثاري فوريه ويقال له مدبر سياسة الأحكام الشرعية، ومقدم وخمسة قواسة.

وأخذ مينو جانب المسلمين فعهد إليهم جباية الخراج بعد أن كانت في أيدي الأقباط. على أن ذلك كله لم يغير شيئًا من كره الوطنيين لتلك الأمة الأعجمية التي جاءت لامتلاك بلادهم، ومن جملة ما جرَّهم إلى ذلك أنه أعلن حماية فرنسا على مصر. وأن مصر قد أصبحت مستعمَرة فرنساوية. وشق ذلك على قواد الحملة فجاءوا إليه بصفة رسمية وبلَّغوه أن الجيش الفرنساوي غير راضٍ عن هذه البدع، وأن الجمهورية الفرنساوية لا تقصد بحملتها على مصر ما قد صرح به هو، فلم يجبهم بشيء وإنما وعدهم أنه سينظر في ما قالوا.

وكانت إنكلترا لا تَنْفَكُّ عن السعي في إخراج الفرنساويين من مصر؛ صيانة لمصالحها في الهند على الخصوص. فأعدت عمارة بحرية مؤلَّفة من ١٧٥ مركبًا وخمسة عشر ألفًا من الرجال، وأرسلتها إلى مصر بقيادة السير رلف أبركرومبي فسار إليها ودخل جون أبي قير في ٢ مارس (آذار) سنة ١٨٠١م، فشاهد آثار العمارة الفرنساوية التي حطمتها عمارة نلسون. وفي ٧ منه نزل السير رلف المذكور في قارب لاستكشاف الشاطئ؛ ليختار محلًّا ينزل فيه الجيش. وفي ٩ منه شرعت الجنود الإنكليزية بالنزول إلى البر، فأُطلِق عليهم من الرمل عدة قنابل، من طابية تحصن فيها متسلم الإسكندرية بألف وخمسمائة رجل. أما الإنكليز فلم يكترثوا بذلك بل استمروا على النزول بسرعة، والقنابل تتساقط حول قواربهم حتى امتلكوا البر ولم يلحقهم إلا ضرر يسير.

ثم شخصوا إلى الإسكندرية فلاقاهم الفرنساويون بأربعة آلاف وخمسمائة مقاتل وفيهم حامية الرحمانية. وانتشبت الحرب بين الطرفين طول ذلك النهار ولم يظهر أحد منهما. وكانت خسائر الفرنساويين خمسمائة رجل والإنكليز ألفًا ومائة. ومما أعاق الإنكليز قلة فرسانهم فعسكروا بجوار الإسكندرية، وبنوا الطوابي والخنادق وحفروا آبارًا لاستخراج الماء. أما القاهرة فكانت على عهدك بها لفساد سياسة مينو. وفي ٤ مارس وصلته الأخبار بوصول العمارة الإنكليزية إلى أبي قير، فبدلًا من الإسراع في النجدة جعل يتوهم أوهامًا لا طائل تحتها. وبعد اللتيا والتي بعث فرقة إلى بلبيس وأخرى إلى دمياط وأخرى إلى أبي قير برًّا وأخرى في النيل.

(٢١-١) مجيء الإنكليز إلى مصر

وفي ١١ منه جاءته الأخبار باحتلال الإنكليز أبا قير وهجومهم على الإسكندرية، فارتبك في أمره فجمع إليه مشايخ الديوان، وقال إنه ذاهب إلى السواحل وقد استخلف الجنرال بيليارد مكانه، وزعم أن سبب ذهابه قدوم بعض المالطية والإيطاليين إلى أبي قير، ثم استقدم الفرقة التي أرسلها إلى بلبيس، وأمر من بقي من الجيش في مصر أن يسيروا إلى الرحمانية. فبرح مينو القاهرة في ١٢ منه، لكنه لم يصل الإسكندرية إلا في ١٩ منه، وقد تحصن الإنكليز تحصُّنًا لا يقوى هو على مقاومته، فاستشار قواده فأشاروا عليه بالهجوم على ذلك الحصن الأيمن؛ لأنه أقوى حصونهم لكنه لم يجسر على ذلك نهارًا فهجم ليلًا فلم ينجح.

وفي اليوم التالي ٢١ مارس (آذار) أمر أن تهجم الجيوش كلها دفعة واحدة باكرًا بلا ضرب النفير، وكان الإنكليز في يقظة تامة؛ ففي الساعة الثالثة بعد نصف الليل سمعوا دوي المدافع عن يسارهم، فوجهوا نيرانهم نحوها، ثم سمعوا مثلها عن يمينهم فأجابوا بمثلها، وبعد معركة كبيرة تقهقر الفرنساويون مجانبة، ففهم أبركرومبي غرضهم من ذلك فعزَّز ميمنة معسكره واتخذ قيادتها بنفسه، فأصيب بجرح قتال ألقاه على الصعيد، فقدم السير سدني سميث وأنهضه، وما زالت الحرب قائمة حتى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، وقد قُتِلَ كثير من الضباط الفرنساويين. فأمر الجنرال مينو بالراحة فعادت رجاله وعدد قتلاهم وجرحاهم نحو ألفين، أما خسائر الإنكليز فكانت ٢٤٠ قتيلًا و١٢٥٠ جريحًا من جملتهم السير رلف أبركرومبي فنقلوه إلى إحدى الدوارع، فعاش بضعة أيام وتوفي، فتحولت قيادة العمارة إلى الجنرال هتشنسون.

وفي ٢٥ مارس (آذار) جاءت الإنكليز نجدة عثمانية بقيادة حسين قبطان باشا. فرأى الجنرال هتشنسون أن يبعث أربعة آلاف من الجنود العثمانيين وفرقتين من الإنكليز وثمانية مدافع بقيادة الكولونل سبنسر لاحتلال رشيد. فاتصل ذلك بالجنرال مينو فأرسل أركان حربه لاستطلاع قوة تلك التجريدة، فقدرها أقل ممَّا هي كثيرًا فاستخف بها فلم ينجد رشيدًا.

أما الكولونل سبنسر فما زال سائرًا حتى أتى رشيدًا فدخلها بسلام، ولما استقر بها بعث الطبجية بمدافعهم لضرب حصن جوليان، وفيه حامية من الفرنساويين فضيقوا عليهم حتى سلَّموا، فأمنوهم ثم أخرجوهم من الحصن. فاتصل ذلك بحامية الرحمانية فاستمدت الجنرال بيليارد في القاهرة، فأجاب معتذِرًا بعدم إمكانه الاستغناء عمن لديه من الجنود، فبعثت إلى مينو في الإسكندرية فأمدها بما استطاع.

(٢١-٢) نجدة العثمانيين للانكليز

فأصبحت الجيوش الفرنساوية بذلك أقسامًا متفرقة لا تقوى على دفاع: الجنرال بيليارد بالقاهرة في خمسة آلاف يتأهب لدفاع الجيوش العثمانية القادمة بطريق الصحراء بقيادة الصدر الأعظم يوسف باشا. وحامية الرحمانية لما بلغها سقوط رشيد خارت قواها. والجنرال مينو كان محاصَرًا في الإسكندرية لا يُبدي حراكًا، وقد ضايقه الإنكليز بقطع الجسر الفاصل بين الملاحة وبحيرة مريوط، وزِد على ذلك أنهم قطعوا المياه عن الإسكندرية، فلم يبقَ عنده إلا مياه الصهاريج.

أما الجنود العثمانية والإنكليزية فبعد أن احتلوا رشيدًا صعدوا في النيل في ٨ مايو (أيار) حتى أَتَوُا العطف فاستلموها، ثم ساروا إلى الرحمانية واستولَوْا عليها أيضًا، ففرت الجنود الفرنساوية إلى القاهرة، وأعلموا بيليارد بما كان فأمر بعقد مجلس حربي للمفاوضة بالدفاع النهائي؛ لأن العدو تكاثر عليهم: هتشنسون من الجهة الواحدة، والصدر الأعظم يوسف باشا من الجهة الأخرى، وكان قد استولى على دمياط وسار قاصدًا القاهرة في ثلاثين ألف مقاتل حتى عسكر في بلبيس في ١١ مايو (أيار). أما مراد بك فبعد محالفته الفرنساويين على ما تقدم تُوُفِّيَ، وتولى مكانه على الصعيد عثمان بك البرديسي، فلما علم هذا بقدوم العثمانيين والإنكليز نقض المحالفة.

فلما اجتمع المجلس الحربي تفاوضوا في جميع ذلك، فرأوا أن الجيوش الفرنساوية الموجودة في القاهرة — وفي جملتها حامية الرحمانية — لا تزيد على اثني عشر ألفًا نصفهم جرحى ومرضى، وليس لديهم من المال إلا اليسير. فلم ير بيليارد لحل هذا المشكل إلا وجهين: إما أن يسير بما لديه من الجند في النيل لملاقاة مينو فيتكاتفان على الدفاع أو أن يسير إلى دمياط. ولم ير بُدًّا على الحالين من إخلاء القاهرة، وكان يُفَضِّلُ المسير إلى دمياط لأنها تصلح للحصار إذا طال. وفيها من الحاصلات ما يقوم باحتياجات جيشه، وهو في الحالين عالم بعجزه عن مناهضة عدوه.

ثم حدَّثته نفسه أن يلاقي الجنود العثمانية والإنكليزية جميعًا عند اقترابهم من القاهرة. فخرج في خمسة آلاف في ١٦ مايو (أيار) متمثلًا بكلابر، وعسكر في نقاب، فوصلت إليه مقدمة جيوش يوسف باشا فلم يستطع الوقوف أمامها فعاد إلى القاهرة.

(٢٢) انسحاب الفرنساويين من مصر

وفي ٢٣ مايو وصل هتشنسون إلى طرامة فقطع ترعة منوف، وسار بنفسه إلى معسكر يوسف باشا وفاوضه في الطريقة التي يجب اتِّخاذها لإتمام مشروعهم، فأقروا على طريقة. ثم عاد هتشنسون إلى طريقه وسار في رجاله على فرع النيل الغربي حتى أتى الجيزة في ٣٠ منه، وواصل يوسف باشا سيره من الجهة الأخرى فانحصر بيليارد في القاهرة لا يستطيع حراكًا، فعقد مجلسًا حربيًّا أقر فيه على تسليم المدينة والانسحاب نحو الإسكندرية أو دمياط، فبعث إلى معسكر الإنكليز مندوبًا بشأن ذلك، وبعد المخابرة تقرر أن تنسحب الجيوش الفرنساوية الموجودة في القاهرة انسحابًا قانونيًّا بما لديهم من المهمات والأسلحة إلى فرنسا، وأن يكون ذلك على نفقة الإنكليز، وكتب بذلك معاهدة أُمضِيَت في ٢٥ يونيو (حزيران) سنة ١٨٠١، وتثبتت في ٢٦ منه على أن تنفذ بعد ١٥ يومًا.

ففي ١٠ يوليو (تموز)/٤ ربيع أول سنة ١٢١٦ﻫ، برح بيليارد القاهرة ومعه ١٣٧٣٤ من العساكر والضباط قاصدين رشيدًا، على أن يسافروا منها إلى فرنسا، فانذهل هتشنسون لما أوتيه من الفوز العظيم، وكاد لا يصدق به حتى ٧ أغسطس (آب) عندما علم بركوب الجيوش الفرنساوية راجعين إلى بلادهم.

أما مينو فكان في الإسكندرية ومعه عشرة آلاف مقاتل، فتفاوض مع من كان باقيًا لديه من القُواد فأصروا على المخابرة، وفي ٢ نوفمبر من تلك السنة عقدوا معاهدة الانسحاب وانسحبوا في أثناء ذلك الشهر مثل انسحاب بيليارد. وإذا أمعنت النظر رأيت هذه المعاهدة ومعاهدة العريش التي عُقِدَتْ في ٢٤ يناير (ك٢) سنة ١٨٠٠م شيئًا واحدًا، ولم تكن نتيجة ذلك التأخير إلا سفك الدماء.

وكانت الحكومة الإنكليزية قد أمرت الجنرال برد أن يقدم من الهند في ٦ آلاف من الجنود الهندية المنظَّمة إلى مصر؛ إمدادًا لأبركرومبي في البر، فجاء إلى القصير على سواحل البحر الأحمر، ومنها سار في الصحراء إلى قنا ثم نزل إلى القاهرة، فوصلها بعد التوقيع على الانسحاب فنزل إلى الإسكندرية وحضر انسحاب مينو وجماعته.

هذه هي الحملة الفرنساوية فتأمل كيف كانت نهايتها، وكيف أنها بعد قضاء ثلاث سنوات ونَيِّفٍ كلها حروب ومقاومات عادت بخُفَّيْ حُنَيْنٍ. وقد ذكر الجبرتي في حوادث سنة ١٢١٥ﻫ ما أحدثه الفرنساويون من العماير وغيرها، وما غيروه أو أخربوه فليراجعها من شاء.

(٢٣) من انسحاب الفرنساويين إلى ولاية محمد علي باشا (من سنة ١٢١٦–١٢٢٠ﻫ/١٨٠١–١٨٠٥م)

فبعد انسحاب الفرنساويين استلم يوسف باشا الصدر الأعظم زمام الأحكام في القاهرة باسم جلالة السلطان بمساعدة الجنرال هتشنسون، وكان حسين قبطان باشا أميرال العمارة العثمانية لا يزال في أبي قير والإسكندرية بعد سفر مينو. أما الإنكليز فلم يكن غرضهم إلا تثبيت سلطة الباب العالي والانسحاب، فجعلوا معسكرهم في مصر القديمة. وكان المماليك لا يزالون يحاولون التسلُّط، ولم تزَل بقية منهم بقيادة اثنين من كبارهم، وهما عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي وكان معسكرهم في الجيزة.

(٢٣-١) الكيد بالمماليك ولم ينجح

فأخذ القائدان العثمانيان يوسف باشا وحسين قبطان باشا يدبران مكيدة تذهب بمن بقي من المماليك، فاتفقا على أن يدعو قبطان باشا بعض أمرائهم إلى حفلة يعدها لهم في أبي قير، وأن يهجم يوسف باشا على من بقي منهم في الجيزة فيأتيان على إهلاكهم. فبعث قبطان باشا إلى بعض أمراء المماليك يدعوهم إلى وليمة وقال إنه أعدها لهم في معسكره بأبي قير، وأن غرضه من ذلك الاجتماع المفاوضة معهم فيما يجب اتخاذه من الوسائل لإصلاح البلاد. فأجابوا دعوته وهم في ريب من مقاصده، على أنهم لم يكونوا يستطيعون رفض الدعوة خيفة أن يجعلوا للقوتين العثمانية والإنكليزية بابًا للارتياب بمقاصدهم.

فلما وصلوا أبا قير رحب بهم حسين باشا ودعاهم إلى النزول معه في قاربه الخصوصي ليسيروا معًا إلى القومندان الإنكليزي على إحدى الدوارع للمفاوضة معه ببعض الشئون. فركبوا حتى صاروا على مسافة من البر، فالتقوا بقارب آتٍ من الدوارع قال من فيه إن لديهم كتبًا باسم قبطان باشا ومخابرات أخرى مهمة. فوثب القبطان عند ذلك إلى القارب الآخر وأمره أن يسير، فسار وبقي المماليك وحدهم فأوجسوا خيفة ثم سمعوا إطلاق المدافع عليهم من قارب العثمانيين، فتأكدوا أنها مكيدة فحاولوا الرجوع إلى البر ولم يصلوه حتى قُتِلَ عثمان بك الطمبورجي وثلاثة آخرون وجُرِحَ عثمان بك البرديسي واثنان آخران. وفي نحو ذلك الوقت أرسل يوسف باشا في القاهرة فرقة من رجاله يهاجمون المماليك في الجيزة، فوثبوا عليهم وأحرقوا بيوتهم، فالتجأ كبارهم إلى الإنكليز فحموهم رغم إصرار يوسف باشا على طلبهم.

ثم انسحبت الجيوش الإنكليزية من مصر بأمر الأميرال كيت، وبقيت مصر يتنازعها الجنود العثمانية والمماليك. وكان يوسف باشا في القاهرة نائبًا عن الباب العالي. ولم يكن بُدٌّ من تولية والٍ عثماني يقوم بأعباء الولاية، فسعى يوسف باشا بمساعدة حسين قبطان باشا في تولية خسرو باشا كخيا حسين قبطان باشا، فكتبا بذلك إلى الأستانة، فأجاب الباب العالي طلبهما وبعث لهما الفرمان المؤذن بذلك.

(٢٣-٢) ولاية خسرو باشا

فتولَّى خسرو باشا على مصر في ١٢ جمادى الأولى سنة ١٢١٦ﻫ، ولم يكن ينقصه لاستتباب الراحة إلا إبادة من بقي من المماليك. وكانوا مع ما أَلَمَّ بهم منذ قدوم الفرنساويين لا يزالون قادرين على المقاومة؛ نظرًا لمعرفتهم بأحوال البلاد وأحزابها. وبعد وفاة مراد بك واعتزال إبراهيم بك عن الأعمال أصبحوا تحت قيادة عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي كما تقدم، وقد دانت لهم مصر العليا. فناهضهم خسرو باشا فلم ينجح، ولم يكن إذ ذاك في سلطة الباب العالي إلا القاهرة والإسكندرية وما بينهما.

ولم يستطع خسرو باشا تحصيل ما يقوم بدفع مرتبات العساكر، فثاروا في ٢ مايو سنة ١٨٠٣م، وأحاطوا بالخزندار وحبسوه في بيته. فأمر خسرو باشا أن تُطلَق عليهم المدافع حتى علت الضوضاء واشتد الخصام، فتوسط طاهر باشا أركان حرب خسرو باشا في صرف ذلك المشكل، فلم يوافقه خسرو على قصده واتهمه باتحاده مع العصاة. فاغتاظ طاهر باشا وأخذ جانب العصاة، وأمرهم أن يهدموا الأسوار، فخاف الباشا ولم يَرَ إلا الفرار بحريمه وحاشيته على ضفة النيل الشرقية نحو المنصورة. ثم سار منها إلى دمياط وحاصر هناك. فاغتنم طاهر باشا تلك الفرصة وجمع إليه القضاة وأرباب الديوان، فأقروه على مصر بصفة قائمَّقامًا مؤقتًا لبينما ترِد الإرادة السنية بتولية من يتولى عوضًا من خسرو باشا.

ففي ٢٥ مايو (أيار) سنة ١٨٠٣م لاقى طاهر باشا من القوة العسكرية ما لاقاه خسرو باشا؛ وذلك أن اثنين من الآغوات وهما: موسى وإسماعيل تشكيا إليه من تأخر الرواتب، فانتهرهم فأغلظوا له فاشتد الخصام فجرَّدا السيف وقطعا رأسه ورمياه من الشباك، وانتهى الخصام باحتراق القصر.

فأصبحت مصر بغير والٍ يدير أعمالها. وفي هذه الفرصة تأتَّى لذلك الرجل العظيم محمد علي باشا أرومة العائلة الخديوية إظهار ما اختص به من البسالة وعلو الهمة، وما جعله الله فيه من الفضائل التي قدر له أن يبثها في هذا القطر السعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤