الفصل الثالث

في أعماله، في خلافته

(١) تسيير بعث أسامة

أول عمل قام به أبو بكر بعد الفراغ من تجهيز الرسول ودفنه هو أنه أمر مناديه أن ينادي من الغد من متوفى الرسول ألا يبقينَّ بالمدينة أحد من جند أسامة بن زيد الذي كان جهزه رسول الله إلا خرج إلى عسكره بالجرف قرب المدينة، ثم قام أبو بكر فخطب الناس بعد أن تجمعوا، فقال: «أيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله يطيق، إن الله اصطفى محمدًا على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوِّموني، وإن رسول الله قُبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها، ألا وإن لي شيطانًا يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، وأنتم تغدون وتروحون في أجَل قد غُيِّب عنكم علمه، فإن استطعتم أن لا يمضي الأجل إلا وأنتم في عملٍ صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قومًا نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فإياكم أن تكونوا أمثالهم، الجد الجد والوجاء الوجاء، والنجاء النجاء، فإن وراءكم طالبًا حثيثًا أجلًا مرُّهُ سريع، احذروا الموت واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات.»

ثم إنه اهتم في إنفاذ بعث أسامة، فقال له أصحابه: أما ترى ارتداد العرب عامة وخاصة؟ ونجم النفاق، واشرأبَّت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم وقِلَّتهم وكثرة عدوهم، وأن هؤلاء جل العرب والمسلمين على ما ترى، فليس ينبغي لك أن تُفَرِّق عنك جماعة المسلمين! فقال لهم: والذي نفس أبي بكرٍ بيده لو ظننت أن السباع تخطَّفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ، ولو لم يبقَ في القُرى غيري لأنفذنه.

وكان الرسول قد أعد هذا البعث إلى أبنى لفتح أطراف الشام، وجعل فيه بعض كبار الصحابة وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، ولم يكن تجاوز آخرهم الخندق حتى بلغهم نبأ وفاة الرسول، فوقف أسامة، ثم بعث إلى خليفة رسول الله يستأذنه في أن يرجع بالناس، فقال له أبو بكر: لا بد والله من تسيير البعث، ثم إنه أخذ يعد العدة لتسيير البعث، فأعدها وخرج بنفسه يودِّع أسامة ويُشيِّعه، ولما قدم على أسامة وهو بالجرف خطب الناس فقال: «أيها الناس، قفوا أوصِكم: أوصيكم بعشرٍ فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلُّوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأةً، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بعيرًا ولا بقرة إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوامٍ قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قومٍ يأتونكم بآنيةٍ فيها ألوان من الطعام، فإذا أكلتم منها شيئًا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيوف خفقًا، اندفعوا باسم الله، أقناكم الله بالطعن والطاعون.»١ ثم أمره أن ينفذ كل ما أمره رسول الله به من أن يبدأ بقضاعة، ثم يأتي آبل، وألا يُقَصِّر في شيء من أمر الرسول؛ فمضى أسامة مغذًّا على ذي المروة والوادي، وانتهى إلى ما أمره رسول الله من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على آبل، فسلِم وغنم، وكان فراغه في أربعين يومًا سوى مقامه ومنقلبه راجعًا، وقد كان تسيير هذا البعث سياسة حكيمة وطَّدَت أمر الإسلام وأرهبت أهل الرِّدَّة والمشركين الذين قالوا: لو لم يكن أبو بكر على بصيرة من أمره وقوة من نفسه وكثرة من جنده لما بعث هذا البعث في مثل هذا الظرف. وقد صرف الله لسببِ هذا البعث عن أبي بكر والمسلمين كثيرًا من الفتن التي كان المشركون وأهل الردة يعدُّونها للفتك بالإسلام وأهله.

(٢) فتنة الردة وحروبها

مُنِيَ الإسلام بفتنة عظمى بعد وفاة النبي ، ولو لم يكن زعيم المسلمين أبو بكر هو المتولِّي لإخماد تلك الفتنة لعمَّت مصيبتها وفتكت بالإسلام، ولكن حكمة الصديق وعقله هما اللذان حالا دون تشتت كلمة الإسلام وتفرُّق أمر المسلمين؛ وذلك أنه لما بلغ الأعراب نبأ وفاة الرسول وانتشر المنافقون ومن في قلوبهم مرض يُحرِّضون على الردة وترك الإسلام. كثر المرتدُّون عن الإسلام، وانقسموا قسمين: قسمًا خرج عن الإسلام بالمرَّة، وهم: بنو طي، وغطفان، وأسد؛ جماعة المتنبي طلحة بن خويلد الأسدي، وحنيفة؛ جماعة مسيلمة الكذاب، وأهل اليمن الذين تزعَّمهم الأسود العنسي؛ وقسمًا ظلوا على إسلامهم، ولكنهم عطَّلوا شعيرة الزكاة، وهم: بعض بني تميم وغيرهم بزعامة مالك بن نويرة، وقد اختلف بعض الصحابة مع أبي بكر في وجوب قتال القسم الثاني كالقسم الأول، فقال أبو بكر: والله لأقاتلنَّ هؤلاء كما أقاتل أولئك؛ لأن تعطيل الزكاة كتعطيل الصلاة وسائر شعائر الإسلام، وقال عمر: وكيف نقاتلهم وقد قال رسول الله : «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عَصَموا مني مالهم وأنفسهم»؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقًا أو عقال بعير كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها، وقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدري لِما قال أبو بكر، فعلمتُ أنه الحق، ثم إن أبا بكر شمَّر لقتال هؤلاء المرتدِّين والقضاء على هذه الفتنة.

وكان سبب ارتداد أكثر العرب أنهم كانوا يظنون أن الرسول حيٌّ خالدٌ لن يموت، وأنه سفير الله يبلغه أوامره ونواهيه، وأنه معصوم عن كل خطأ وزلل وموت، فلما انتقل الرسول إلى جوار ربه طاش صوابهم، وأخذ بعض شياطين العرب الطامعين في المُلك والسلطان ينشرون الفِتَن بين الناس، ويكررون ما كان قاله شاعر المرتدين الخطيل بن أوس أخو الحطيئة:

أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثها بكرًا إذا مات بعده
فتلك لعمر الله قاصمة الظهر

ثم إن جماعة من هؤلاء الطامعين أخذوا يشيعون في قبائلهم أن قريشًا تريد أن تستعبد الناس وأن تجعل النبوة مُلكًا لها تتوارثه في أبنائها، وقد تجلَّى شيء من هذا الخوف في يوم السقيفة كما أسلفنا، ولكن حزم أبي بكر ورصانة الأنصار وطهارة قلوبهم وعُمق الإيمان في قلوبهم جعل هذه الفتنة قصيرة الأمد، فاستسلمت أصحابها لأمر أبي بكر وخضعت للأمر الواقع، ولكن أعراب الأطراف وزعماء النواحي الطامعين لم يقبلوا بهذا الأمر الواقع فاستغلوها فرصة لشقِّ عصا الطاعة وتفريق كلمة المسلمين.

وأول من شقَّ العصا هم بنو عبس وذبيان؛ فإنهم خرجوا من ديارهم بنجدٍ وجبل طيء، وساروا نحو المدينة حتى نزلوا بالأبرق وذي القصة، وبعثوا وفدًا منهم إلى أبي بكر يطلبون إليه أن يعفيهم من الزكاة، وأن يقتصروا على أركان الإسلام الأربعة الباقية، فلما سمع أبو بكر مقالتهم اشتدَّ غضبه وعزم على حربهم، وقال: والله لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه. ثم رجع الوفد إلى أصحابهم وأخبروهم بقلة من في المدينة من الرجال؛ لأن بعث أسامة لم يكن قد عاد بعدُ، وأحسَّ أبو بكر بسليم فطرته أن القوم يُبَيِّتُون أمرًا، فجعل على أنقاب المدينة عليًّا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود، ودعا الناس إلى المسجد، وقال لهم: «إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلًا تؤتَوْن أم نهارًا، وأدناهم منكم على بريد. وكان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا وأعدوا.» فما لبث المرتدون إلا ثلاثًا حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل، وخلَّفوا بعضهم بذي حُسى ليكونوا لهم ردءًا، فلما بلغوا الأنقاب قاتلهم أهلها، وبلغ الخبر أبا بكر فبعث إلى أمراء الأنقاب أن الزموا أماكنكم، ثم خرج في أهل المدينة على النواضح — وهي إبل السقي — فلما علم المرتدون بقدوم أبي بكر هربوا، فتبعهم المسلمون إلى أن بلغوا وادي «ذي خُشُب»، فخرج عليهم الردء الذين خلَّفهم المرتدون بذي حُسى والتقى الجمعان، وكادت الدائرة تدور على المرتدين لولا أنهم لجئوا إلى حيلة غريبة، هي أنهم نفخوا الأنحاء — أي القرب — التي كانت معهم وجعلوا فيها الحبال، ثم أخذوا يدهدهونها بأرجلهم في وجوه الإبل، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها — ولا تنفر الإبل من شيء مثل نفارها من الأنحاء — فثارت الإبل وقفلت راجعة بالمسلمين حتى دخلت بهم المدينة، ولكن لم يُقتل من المسلمين أحد ولا صرع، وفي ذلك يقول الخطيل بن أوس أخو الحطيئة الشاعر:

فدًى لبني ذبيان رحلي وناقتي
عشية يحدي بالرماح أبو بكر
ولكن يدهدي بالرجال فهبنه
إلى قدر ما أن تقيم ولا تسري
ولله أجناد تذاق مذاقه
لتحسب فيما عد من عجب الدهر
أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثها بكرًا إذا مات بعده
وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلَّا رددتم وخدنا بزمانه
وهلَّا خشيتم حس راعية البكر
وإن التي سألوكمُ فمنعتمُ
لكالتمر أو أحلى إليَّ من التمر
وقد ظن المرتدُّون بالمسلمين في المدينة الضعف والانكسار، فبعثوا إلى إخوانهم بالخبر وتجمعوا كلهم يريدون احتلال المدينة والقضاء على أبي بكر، ولكن لما أدرك الليل المسلمين أخذ أبو بكر يعبئ جمعه، ثم خرج بهم في أعجاز الليل، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيدٍ واحد، فوضع المسلمون السيوف في المرتدين حتى ولَّوهم الأدبار، ثم رجعوا إلى المدينة، فلم يلبث أسامة بن زيد أن رجع من غزاته، فرحَّب به أبو بكر وهنَّأه واستخلفه على المدينة وترك معه جنده ليستريحوا في المدينة، وخرج هو قاصدًا «ذا خشب» و«ذا القصة» حتى بلغ الربَذَة فقاتل مَن فيها من المرتدين وهزمهم وأسر منهم جماعة، وكان الحطيئة الشاعر فيمن أسر، وأظهر أبو بكر من ضروب البطولة في هذه الحملة ما دُهِشَ له المسلمون حتى قال له بعضهم: ننشدك الله يا خليفة رسول الله ألا تُعرِّض نفسك للهلاك، فإنك إن تُصَب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشدُّ على العدو، فابعث رجلًا فإن أُصيب أمَّرت آخر، فقال: لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي. فخرج حتى أتى بلاد ذبيان وجعلها حمًى لدواب المسلمين، ثم رجع إلى المدينة حتى إذا استراح جيش أسامة وثاب من حوالي المدينة خرج إلى ذي القصة٢ مُعسكِرًا بها، وعقد أحد عشر لواءً لأحد عشر قائدًا، وهم:
  • (١)

    سيف الله خالد بن الوليد، ووجَّهَهُ إلى طلحة بن خويلد الأسدي، فإذا فرغ منه قصد مالك بن نويرة بالبطاح.

  • (٢)

    عكرمة بن أبي جهل، ووجَّهَهُ إلى مسيلمة الكذاب باليمامة.

  • (٣)

    شرحبيل بن حسنة، ووجهه في إثر عكرمة بن أبي جهل.

  • (٤)

    المهاجر بن أبي أمية، ووجهه إلى جنود العنسي، ومعاونة الأبناء (الفرس) ثم يمضي إلى كندة.

  • (٥)

    حُذيفة بن محصن، ووجهه إلى أهل دبا.

  • (٦)

    عرفجة بن هرثمة، ووجهه إلى أهل مهرة.

  • (٧)

    سويد بن مقرن، ووجهه إلى تهامة باليمن.

  • (٨)

    العلاء بن الحضرمي، ووجهه إلى البحرين.

  • (٩)

    طريفة بن حاجز، ووجهه إلى بني سُليم ومن معهم من هوازن.

  • (١٠)

    عمرو بن العاص، ووجهه إلى قضاعة.

  • (١١)
    خالد بن سعيد بن العاص، ووجهه إلى عرب مشارف الشام.٣

ثم كتب لكل قائد من هؤلاء كتابًا هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله لفلان … حيث بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهده إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله، سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان، بعد أن يعذر إليهم، فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يُقِرُّوا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم، لا يُنظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقرَّ له قبِل ذلك وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، ومن لم يُجِب داعية الله قُتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمة، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقر قبِل منه وعلَّمه، ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخُمس فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لا يكونوا عيونًا، ولئلَّا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصِد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل، ويتفقَّدَهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حُسن الصحبة ولين القول.»

وبعث كتابًا إلى كل من وجَّهه إلى قتالهم من المرتدين هذا نصه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلامٌ على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، نُقِرُّ بما جاء، ونُكَفِّرُ من أبى ونجاهده.

أمَّا بعدُ: فإن الله تعالى أرسل محمدًا بالحق من عنده، إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ لينذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا، ثم تُوفي رسول وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمَّتِه، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بيَّنَ له ذلك، ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وقال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، وقال للمؤمنين: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ.

فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد حي قيوم لا يموت ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره منتقم من عدوه يجزيه، وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله وما جاء به نبيكم ، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يُعافه مبتلًى، وكل من لم يُعنهُ الله فهو مخذول، فمن هداه الله كان مهتديًا، ومن أضله كان ضالَّا.

قال الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، ولم يُقبل منه في الدنيا عمل حتى يقرَّ به، ولم يُقبل منه في الآخرة عدل ولا صرف. وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به؛ اغترارًا بالله وجهالة بأمره وإجابةً للشيطان.

قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، وقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.

وإني بعثت إليكم فلانًا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكفَّ وعمل صالحًا قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يُبقِي على أحدٍ منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يُعجِز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإن أذن المسلمون فأذنوا، كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذنوا اسألوا ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقرُّوا قَبِلَ منهم وحملهم على ما ينبغي لهم.»٤

وسيَّرَ أبو بكر هذه الكتب قبل أن تسير الجيوش، ثم خرجت الجيوش كل أمير إلى جهته.

(٢-١) أجناس المرتدين وأحوالهم

خبر الأسود العنسي

هو عبهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي الملقب بذي الخمار، كان بطَّاشًا جبارًا عاتيًا، أسلم لما قدمَت وفود المسلمين على النبي ، ثم إنه ارتدَّ في أيام النبي ، فكان أول مرتد في الإسلام، ثم ادَّعى النبوَّة وأخذ يعمل المخاريق والأعاجيب، واستهوى نفرًا من عوام العرب، واتبعته بنو مذحج، فتملَّك أكثر جنوبي بلاد العرب، وامتدَّ نفوذه على أعراب تلك الضواحي، وبلغت أخباره إلى رسول الله ، فكتب إلى من بقي على الإسلام من أهل اليمن يأمرهم بمحاربته والتحريض على قتله.

وكان رسول الله بعد موت باذان الفارسي الذي استعمله على اليمن بعد إسلامه قد قسَّم اليمن في سنة ١٠ﻫ إلى مقاطعات، جعل على كل مقاطعة أميرًا، ففي صنعاء: «شهر بن باذان»، وفي مأرب: «أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري»، وفي بلاد همدان: «عامر بن شهر الهمداني»، وفي زبيد وبلاد عك والأشعريين: «الطاهر بن أبي هالة»، وفي نجران وزمع: «خالد بن سعيد بن العاص»، وفي نجران: «عمرو بن حزم»، وفي حضرموت: «زياد بن لبيد البياضي»، وفي بلاد السكاسك والسكون شمال حضرموت: «عكاشة بن ثور»، وفي بلاد بني معاوية: «المهاجر بن أبي أمية»، وفي الجَنَد: «يعلى بن أمية».

وجعل معاذ بن جبل معلمًا ومفتيًا للجميع ينتقل في كل بلد، فلما أظهر الأسود دعوته وأجابته بنو مذحج، وثب على نجران وأخرج عاملَيها: خالد بن سعيد، وعمرو بن حزم؛ فلحقا بالمدينة، ثم سار الأسود في سبعمائة من جماعته إلى صنعاء فقتل صاحبها شهر بن باذان، واستولى على المدينة، وتزوج بامرأته، ثم استولى على ما بين صنعاء وحضرموت من الجنوب إلى أعمال طائف من الشمال إلى البحرين من الشرق. وعظُم أمره حتى هدد أكثر أمراء اليمن، وكاد يفتكُ بمعاذ بن جبل، فهرب منه حتى أتى أبا موسى الأشعري وهو ببلاد مأرب، فخرج معه وأتيا حضرموت، فنزل معاذ في السكاسك، ونزل أبو موسى في السكون، وأقام الطاهر بن أبي هالة ببلاد عك.

فلما بلغت هذه الأنباء مسامع رسول الله أرسل إلى من بقي في اليمن من أمراء المسلمين والأبناء أن يجتمعوا على قتاله وقتله إما غيلةً وإما مصادمةً، فقام بذلك من الأبناء: فيروز، وداذويه، ومعاذ، والطاهر، وجمعوا قواهم واهتموا بقتاله، ثم إنهم اتفقوا مع امرأته التي كانت تحت شهر بن باذان فسهَّلَت لهم الوصول إليه، ودخل عليه فيروز فقتله ليلًا، ولما أصبح فيروز نادى بشعار المسلمين، وهو الأذان، فوقعت الفتنة وانقسم الناس قسمَين: قسمًا ظلَّ على رِدَّته، وقسمًا رجع إلى الإسلام، وتقاتل الفريقان، لكن الغلبة كانت للمسلمين، فرجع عُمَّال رسول الله إلى بلادهم، وأقام معاذ بن جبل في صنعاء يُصلي بالناس.

وبعثوا وفدًا إلى رسول الله يُنبئه بما جرى، فلم يصل الوفد إلى المدينة حتى علمَ بوفاة الرسول، وكانت هذه أول بشارة قَدِمتْ على أبي بكرٍ الصديق،٥ ولما بلغت أهل اليمن وفاة رسول الله قَوِيَ عزم من أبطن الكفر، وأعلنوا خروجهم على الإسلام بزعامة أحد قادة الأسود وهو «قيس بن عبد يغوث»، فأخذ يُكاتِب المنهزمين من جماعات الأسود، فانضوَوْا تحت لوائِه، وأراد الفتك بزعماء أهل اليمن فدعاهم إلى وليمة وهو يُبطِن الغدر بهم، وكان فيهم «فيروز» و«داذويه» و«جُشيش» من الأبناء، فظفر بداذويه ونجا الآخران، فخرج قيس في أثرهما، فاحتميا بقبيلة حولان فحمتهما، واضطر قيس على الرجوع، فاحتل صنعاء واتَّخذها له مقرًّا، ففتك بأهلها وطرد من فيها من عيالات الأبناء وشرَّدَهم فهربوا في البر والبحر، وانتهب أموالهم وديارهم، فلما علم بذلك فيروز جمع له جمعًا واستعان ببني عقيل وعك وسار إليه.

ثم إن أبا بكر سيَّرَ إليه المهاجر بن أبي أُمية، وعكرمة بن أبي جهل، فساعدا فيروز والأبناء على قتال قيس بن عبد يغوث وجنوده حتى انهزموا، وأسرا قيسًا وعمرو بن معديكرب الزبيدي الذي كان ارتد وتبع الأسود، فسيَّراهما إلى أبي بكر، فلما دخلا عليه قال أبو بكر لقيس: يا قيس، قتلت عباد الله واتخذت المرتدين وليجة دون الله من دون المؤمنين؟ فأنكر قيس أن يكون قد فارق أمرًا، كما أنكر أنه قتل داذويه، ولم يكن هناك دليل ظاهر على أنه قتله؛ لأن القتل كان خِلسة، فتغاضى له أبو بكر عن دمه، ثم قال لعمرو بن معديكرب: وأنت يا عمرو! أما تستحي أنك كل يوم مهزوم أو مأسور؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك الله، فقال: لا جرم، لأقبلن ولا أعود، ورجعا إلى عشائرهما مؤمنَين صادقَين.

ثم إن المهاجر بن أبي أمية أخذ يتتبع جنود الأسود وجماعته بكل مكان ويقتلهم حتى استأصل شأفتهم ولم يُبْقِ لهم من أثر، وكانت مدة الأسود منذ أن ظهر إلى أن هلك قرابة أربعة أشهر.

خبر طليحة بن خويلد الأسدي

كان طليحة بن خويلد الأسدي كاهنًا طموحًا ذكيًّا، ادَّعى النبوة في حياة النبي وتبعه بعض العرب واليهود، فاتخذ فلطقة (سميراء) من بلاد بني أسد مقرًّا لحركته، وبلغ أمره النبي ، فبعث إليه ضرار بن الأزور الأسدي لمقاتلته والقضاء على فتنته، فسار إليه ولم يكد يصل إلى «سميراء» حتى بلغه خبر وفاة النبي الكريم، فرجع.

واستطار أمر طليحة، وانضم إليه جموع من قبائل غطفان وهوازن وغيرهما، وعَظُمَ شأنه، فبعث إليه أبو بكر خالدَ بن الوليد في عددٍ كبيرٍ من مقاتلة المسلمين، فيهم بعض وجوه العرب أمثال عدي بن حاتم الطائي. ولما ساروا واستأذن عدي خالدًا أن يتعجَّل ويدعو قومه إلى الرجوع إلى الإسلام ويتركوا طليحة، فسار إليهم ودعاهم، فأجابوه وتركوا طليحة وانضموا إلى جيش المسلمين، ودعا بني جديلة أحلاف طيء، فتركوا طليحة وانضموا إلى المسلمين.

وسار خالد حتى التقى بجموع بني أسد عند «بزاخة»، فقاتلهم قتالًا شديدًا، وكان طليحة مُتلفِّعًا في كساءٍ له بفناء بيته يتنبَّأ ويتكهَّن، والناس يقتتلون، فلما اشتدَّ القتال جاء عيينة بن حصن الأسدي زعيم بني أسد إلى طليحة فقال له: هل جاءك جبريل؟ قال: لا، بعدُ. ثم رجع يُقاتل حتى إذا بلغ القتال أشده رجع فسأله: هل جاءك جبريل؟ فقال طليحة: نعم. قال: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحًا كرحاه وحديثًا لا تنساه. فقال عُيينة: أظن أنه قد علم الله أنه سيكون حديثًا لا تنساه. يا بني فزارة هكذا فانصرِفوا؛ فهذا والله كذاب. فانصرفوا وانهزم الناس، وقام طليحة فأخذ امرأته النوار وهرب بها حتى لحق بالشام، وارفضَّت جموعه وتغلَّب عليهم خالد فأرجعهم إلى حظيرة الإسلام.

إلَّا نفرًا من بني غطفان التفُّوا حول سلمى بنت مالك بن حذيفة ﺑ «الحوأب»، تزعَّمتهم وأعلنت ثورتها على الإسلام وأهله، فتوجَّه إليها خالد في كوكبة من المسلمين فقاتلها، وقتلها وهي راكبة على جمل دونه نحو مائة رجل. وهكذا انتهت الفتنة الأسدية التي شنَّها طليحة الذي ما علم بانتهاء الفتنة في دياره ودخول قومه في الإسلام حتى رجع فنزل في بني كلب وأعلن الإسلام، ولم يزل مقيمًا بينهم طول عهد أبي بكر، ثم خرج معتمِرًا، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به؟ خلُّوا عنه فقد هداه الله للإسلام. ولما توفي أبو بكر وتولى عمر أتاه فبايعه واعتذر، وأبلى بلاءً حسنًا في فتوح العراق.

خبر مالك بن نويرة التميمي

لما أسلم بنو تميم أمَّر الرسول عليهم ستة من وجوههم، وهم: (١) الزبرقان بن بدر. (٢) قيس بن عاصم. (٣) صفوان بن صفوان. (٤) مالك بن نويرة. (٥) سبرة بن عمرو. (٦) وكيع بن مالك. فأقاموا في حياة النبي يجيئون بصدقات قومهم إليه ويُنفِّذون أوامر الإسلام، إلى أن انتقل النبي إلى جوار ربه، فأعلن مالك بن نويرة ووكيع بن مالك ارتدادهما عن الإسلام، ومنعا إرسال زكاة قومهما إلى أبي بكر، وتبعه بعض قومه، وظل الآخرون على الإسلام، فأخذوا يختصمون فيما بينهم ويتقارعون بالسيوف والحِراب.

وبينما هم كذلك جاءتهم سجاح بنت الحارث بن سويد، وهي امرأةٌ داهيةٌ نصرانية من بني تغلب، كانت تقيم مع قومها في الجزيرة، فلما علِمَت بوفاة النبي ادَّعَت النبوة، وتبعها نفر من قومها وأوشاب العرب؛ حتى عظُم جمعها، وأرادت أن تغزو أبا بكر في المدينة، فلما وصلت إلى ديار بني تميم دعت مالكًا إلى الدخول في دينها، فدخل فيه، ووادعها وثناها عن غزو أبي بكر، وأغراها بقتال مسلمي تميم، فقاتلتهم وهزمتهم، ثم جمعت جموعها وسارت إلى الحجاز تريد المدينة، حتى إذا بلغت النباج اعترضتها جموع من تميم فحاربوها وقتلوا بعض رجالها وأسروا بعضهم وأسرت هي بعض رجالهم، ثم تحاجزوا على أن تطلق الأسرى ويطلقوا أسراهم وترجع فلا تجتاز ديارهم، فيئست بذلك من الوصول إلى المدينة وانقلبت إلى اليمامة.

أما بنو تميم فإنهم رجعوا إلى الإمام وندموا على فعلتهم إلا مالك بن نويرة، فإنه ظل مرتدًّا متحيِّرًا حتى قدم عليه خالد بن الوليد في البطاح، فبثَّ السرايا في النواحي، وأمرهم أن يدعوا الناس للإسلام وأن يأتوه بكل من لا يجيب إليه، وإن امتنع قتلوه، فكان من أمر مالك أن وقع أسيرًا في يد بعض سرايا خالد، فجاءوا به مع نفر من بني ثعلبة، وقد اختلف رجال السرية في أقوالهم أمام خالد، فنفرٌ قالوا إن مالكًا وقومه قد أذَّنوا وصلوا، ونفر قالوا إنهم لم يفعلوا ذلك، فلما رأى خالد اختلاف القوم في أمرهم أمر بحبسهم، فحُبسوا في ليلة باردة، وأمر خالد مناديًا فنادى: أدفئوا أسراكم، وكان في لغة كنانة أنهم إذا «أدثروا» الرجل فأدفئوه: قصدوا قتله، فظن القوم أنه أراد القتل، فقتل ضرار بن الأزور مالكًا، وتزوج خالد أم تميم ابنة المنهال امرأة مالك. ولما بلغت هذه الأخبار أبا بكر وسمع عمر بمقتل مالك وتزوُّج خالد بامرأته أشار على أبي بكر بمعاقبة خالد، وقال: إن في سيف خالد رهقًا، فإن لم يكن هذا حقًّا، حقَّ عليه أن نُقِيده. وأكثر عمر على أبي بكرٍ في خالد، وكان أبو بكر لا يقيد من عماله، فقال لعمر: هيه يا عمر، تأوَّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد. وودى مالكًا، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه، فأقبل وسأله عن الأمر فأخبره به، فعذره وعنَّفه في تزوُّج المرأة، ثم قدم متمم بن نويرة أخو مالك على أبي بكرٍ ينشد أبا بكر دم أخيه ويطالبه برد السبي، فردَّ السبي إليه، وألحَّ عمر على أبي بكر بعزل خالد، فقال أبو بكر: لا يا عمر لم أكن لأشيم سيفًا سلَّه الله على الكافرين.٦

خبر مسيلمة الحنفي

كان مسيلمة الحنفي فيمن وفد من زعماء بني حنيفة على النبي ، وأسلم، ولكنه ما لبث أن ارتدَّ وادَّعى النبوة، وكتب إلى النبي كتابًا يقول له فيه قد أوحي إليه، وأن جبريل نزل عليه يخبره بأن الله قد قاسمه النبوة مع محمد، وشاطره الملك والسيادة في جزيرة العرب. فكتب إليه الرسول كتابًا نصه: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أمَّا بعدُ: فإن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.» وكان ذلك عقب حجة الوداع، فاستمر مسيلمة في ضلاله، فبعث إليه النبي الكريم أحد وجوه بني حنيفة من المسلمين، وهو الرجَّال بن عنفوة، وكان ممن أسلم وتفقَّه وقرأ القرآن، فأمره الرسول بأن يأتي قومه بني حنيفة فيفقِّههم في الدين ويُقرئهم القرآن، ويُعلِّمهم أهداف الإسلام، ويشغب على مسيلمة ويشد أمر المسلمين، فما كان من مسيلمة إلا أن خدعه واجتذبه إلى جهته، فتابع مسيلمة وشهد له بالاشتراك في الرسالة مع النبي، فكان بهذه الشهادة أعظم فتنة على الإسلام من مسيلمة. ولم يلبث الرسول أن تُوفي فعظُمَ أمر مسيلمة، وانضمت إليه جموعٌ كثيرة من بني حنيفة والقبائل المجاورة لها. فلما استُخلف أبو بكر وبعث القُوَّاد لمحاربة المرتدين بعث إليه بعكرمة بن أبي جهل وألحق به شرحبيل بن حسنة، فتعجَّل عكرمة في قتاله ولم ينتظر مجيء المدد إليه مع شرحبيل، فقاتله مسيلمة فهزمه وشتَّتَ شمل جموعه، وبلغت أخبار هذه الكسرة مسامع أبي بكر، فأمر خالد بن الوليد أن يتوجه إلى قتاله على رأس جيشٍ كثيف فيه صناديد المسلمين من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى شرحبيل يأمره بانتظار خالد حتى يجتمعا على جنود مسيلمة التي تبلغ عدتها أربعين ألفًا. فلما علم مسيلمة وبنو حنيفة بدنو خالد خرجوا فعسكروا في منتهى ريف اليمامة، وأخذوا يستنفرون الناس ويُحرِّضون الشبان على حمل السلاح ضد خالد، فنفر معهم عددٌ كبير، ولما قدم خالد وشرحبيل التقى بسرية لبني حنيفة، فأمر خالد بقتل أفرادها إلا قائدها مجاعة بن مرارة، فإنه استبقاه لشرفه.

ثم إن خالدًا سار حتى لقي حنيفة، فتقاتل الفريقان بشدة، وكادت الدائرة تدور على المسلمين حتى وصل المرتدون إلى فسطاط خالد، وأرادوا أخذ امرأته فمنعهم من ذلك مجاعة بن مرارة، وقال: نعم الحرة هي. ثم إن خالدًا أخذ يُحرِّض المسلمين ويدعوهم إلى الاستبسال، فأنزل الله سكينته على المسلمين، وحمل خالد حملةً شديدة على المرتدين فردَّهم ناكصين على أدبارهم، ثم طلب مسيلمة للبراز فبرز إليه، فلما اشتدَّ خالد عليه وكاد أن يفتك به فرَّ هاربًا وزال أصحابه عن أمكنتهم، ثم نادى خالد بجموع المسلمين أن يهجموا، فانقضُّوا على المرتدين واضطروهم على أن يدخلوا متحصنين في بستان مسيلمة الذي كان يسميه «حديقة الرحمن»، فقال البراء بن مالك أحد أبطال الأنصار: ألقوني عليهم، فألقوه، فقتل من على الباب وفتحه، فدخل المسلمون وأكثروا القتل في المرتدين، وأراد مسيلمة الفرار فلحق به وحشي — قاتل حمزة — فقتله، ثم تفرَّق بنو حنيفة وركبهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فقال مجاعة لخالد: تعال أصالحك. ورأى خالد ما لحق بالمسلمين من التعب، وظن أن في حصون بني حنيفة رجالًا وسلاحًا، فجنح إلى الصلح مصالحة على الصفراء والبيضاء ونصف السبي والسلاح وبستان ومزرعة من كل قرية، فأبوا، فصالحهم على الربع فصالحوه، وفُتحت الحصون فلم يجد خالد فيها إلا النساء والمستضعفين، فقال لمجاعة: خدعتني! فقال: قومي ولم أستطع إلا ما صنعت. ثم إن أبا بكر بعث إليه بكتاب يأمره فيه إن ظفر ببني حنيفة بقتل كل محتلم منهم، فوفَّى لهم بصلحه ولم يغدر بهم، وبعث وفدًا منهم إلى أبي بكر فأعلنوا إسلامهم، وأحسن إليهم أبو بكر وسألهم عن بعض أسجاع مسيلمة، فأسمعوه بعضها، كقوله: «يا ضفدع نقي نقي، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم معتدون.» فقال أبو بكر: سبحان الله، هذا الكلام ما خرج من إلٍّ ولا بر، فأين يذهب بكم عن أحلامكم؟ ثم إنه ردهم إلى قومهم.

خبر ربيعة

كانت بلاد البحرين مقرًّا لقبائل بني عبد القيس، وبكر بن وائل من بني ربيعة، وكانوا قومًا متحمِّسين، دعاهم الرسول إلى الإسلام فأسلموا، وأمَّر عليهم زعيمهم المنذر بن ساوى. فلما مات الرسول ومات بعده المنذر ارتدَّت قبائل البحرين، فأما بنو بكر فظلَّت على ردَّتها، وأما بنو عبد القيس فلم تلبث أن رجعت إلى الإسلام بفضل الجارود بن المعلى العبدي الذي ناقشهم، وأخذ يدعوهم بالحُسنى ويقول لهم: «هل تعلمون أن الله بعث أنبياء قبل محمد؟ فقالوا: نعم. فقال: هل تعلمون أنهم أحياء أم ماتوا؟ فقالوا: قد ماتوا. فقال لهم: إن محمدًا مثلهم قد مات، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.» فرجعوا معه إلى الدين وهدأت ثورتهم.

وكان زعيم بني بكر هو الحطم بن ضبيعة، وكان جبارًا عاتيًا، فأعلن ارتداده عن الإسلام، وأخذ يدعو إلى قتال أبي بكر ومنع الزكاة، فالتفَّ حوله كثير من المنافقين والمرتدين، وسار بهم حتى نزل «القطيف» و«هجر»، فلقي رجال الجارود، فقاتلهم وآذاهم، ثم إن أبا بكر بعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين ولحقه ثمامة بن أثال الحنفي في نفرٍ من مسلمي بني حنيفة وقيس بن عاصم المنقري في قومه، وأتاه كثير من أهل اليمن، فسلك بهم الدهناء حتى كادوا أن يهلكوا ولكن الله سلَّم، وبلغ البحرين وحاصر المرتدين مدة شهر، وخندق كل فريق على نفسه وأخذوا يتبادلون القتال في النهار، فإذا أمسوا رجع كلٌّ إلى خندقه، حتى إذا كانت ليلة سمع المسلمون منها جلبة وضوضاء في معسكر المرتدين، فبعث العلاء من يأتيه بحقيقة الخبر، فرجع الرسول فأخبره أن القوم سكارى، فعزم العلاء على أن يُبيِّتهم تلك الليلة شرَّ بيات، وهجم عليهم واضطرهم إلى الهرب نحو «دارين»، وهي إحدى جزر الخليج الفارسي، فعبر المسلمون البحر خلفهم سباحة وقاتلوهم هناك حتى ظفروا بهم وبمن انضم إليهم من الزط والسيابجة. وللعلاء بن الحضرمي خطبة رائعة في حضِّهم على اقتحام البحر، قال فيها: «إن الله قد جمع لكم أحزاب الشياطين، وشرد الحرب في هذا البحر، وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر، فانهضوا إلى عدوكم ثم استعرضوا البحر إليهم، فإن الله قد جمعهم …» فقالوا له: نفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولًا ما بقينا، فارتحل وارتحلوا، وغنموا مغانمَ كثيرةً من مال وسبي، وبلغ نفل الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر:

ألم ترَ أن الله ذلَّل بحره
وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعونا الذي شقَّ البحار فجاءنا
بأعجب من فلق البحار الأوائل
وكتب العلاء إلى أبي بكر يقول: «أمَّا بعدُ فإن الله تبارك وتعالى فجَّرَ لنا الدهناء فيضًا لا ترى غواربه، وأرانا آية وعبرة بعد غمٍّ وكرب، لنحمد الله ونُمجِّده، فادعُ الله واستنصره لجنده وأعوان دينه.» فلما قرأ أبو بكر كتاب العلاء أخذ يحمد الله ويقول: «ما زالت العرب فيما تحدث عن بلدانها تقول: إن لقمان حين سُئل عن الدهناء أيحتقرونها أو يدعونها؟ نهاهم وقال: لا تبلغها الأرشية، ولم تقر العيون، وإن شأن هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمة قبلها.»٧

خبر أهل عمان

أسلم أهل عمان في عهد النبي، فأمَّر عليهم الأخوين جيفرًا وعبادًا ابنَي الجلندي العماني، وظلَّا على أحسن سيرة إلى أن مات رسول الله ، وكان في وجوه عمان رجل يُسمى: لقيط بن مالك الأزدي، وكان يغار من الجلندي ويساميه، فلما مات رسول الله وارتدت العرب ادَّعى لقيط النبوة، وتبعه كثير من أعراب الأزد وأهل عُمان وأجلاف البادية، وكثرت جموعه فخافه ابنا الجلندي، ثم هاجمهما ففرَّا منه والتجآ إلى الجبال، وكاتبا أبا بكر بأمر لقيط، فبعث حذيفة بن محصن إلى عمان، وعرفجة بن هرثمة إلى مهرة، فلما وصلا كاتبا جيفرًا فأمدهما بما يقدر عليه.

وبعث إليهما أبو بكر عكرمة بن أبي جهل مددًا بعد هزيمته في اليمامة، فلحق بهما قبل أن يصلا عمان، فلما قاربوا الوصول إلى عُمان لحق بهم جيفر في عسكره، واتخذوا «صمار» مقرًّا لهم، وأخذوا يعدون العدة للقاء لقيط في «دَبا»، فالتقى جمعاهم واشتد القتال بين الطرفين، وكاد المسلمون ينهزمون لولا أن بني ناجية أمدتهم بأبطالها، فانهزم المشركون وانتصر المسلمون وغنموا وسبوا وبعثوا إلى أبي بكر بالخُمس مع عرفجة، وأقام حذيفة بعمان يرتب أمور المسلمين ويُسكن الناس، أما عكرمة فإنه خرج إلى «مهرة» ودعا أهلها إلى العودة إلى الإسلام، فقبل قسم ورفض قسم، فقاتل المرتدين وظفر عليهم وبعث بالخُمس إلى أبي بكر.٨

خبر كندة

كانت كندة ممن ارتد عن الإسلام في عهد الأسود العنسي بسبب ما وقع بينهم وبين زياد بن لبيد في أمر فريضة من فرائض الصدقة، فقاتلهم زياد وهزمهم، فاتفقوا مع بني معاوية من كندة على منع إرسال الصدقة إلى المدينة، وأخذوا يحرضون بطون بني كندة على منع الصدقة، فانضموا إليهم إلا آل شرحبيل بن السمط وابنه، فإنهم قالوا: إنه لقبيح بالأحرار التنقل، وإن الكرام ليلزمون الشبهة فيتكرَّمون أن ينتقلوا إلى أوضح منها مخافة العار، فكيف الانتقال من الأمر الحسن الجميل والحق إلى الباطل القبيح؟! اللهم إنا لا نمالئ قومنا على ذلك. وانتقلا ونزلا مع زياد وقالا له: بيِّت القوم، فإن لم تفعل خشينا أن يتفرق القوم عنا. فبيَّتهم في محاجرهم فأصاب رؤساءهم فقتلهم، وهرب منهم جماعات. وعاد المسلمون بالغنائم والسبايا، فمرُّوا على بني الحارث بن معاوية في ديارهم وفيهم الأشعث بن قيس، فخرج إليهم واستخلص السبي منهم، فكتب زياد إلى المهاجر بن أبي أمية يستحثه، فاستخلف المهاجر على جنده عكرمة بن أبي جهل، ثم قدم على زياد بجيشٍ كبير، فالتقوا ببني معاوية وبني الحارث، فهرب هؤلاء منهم وتحصَّنوا بالنجير — وهو من أقوى حصونهم — في حضرموت، وحصرهم المسلمون، وأظهر الأشعث بن قيس بطولةً فائقة، ثم اضطر أن يطلب الصُّلح على أن يُسلم الحصن بمن فيه على شريطة أن تؤُمَّن تسعة نفر سمَّاهم من الرؤساء، وكتب بذلك كتابًا، ولكنه نسي أن يذكر نفسه، فدخل المسلمون الحصن وقتلوا المقاتلة، وغنموا وسبوا وأمَّنوا التسعة نفر، فإذا الأشعث ليس بينهم، فأراد المهاجر قتله ولكن أصحابه أشاروا عليه أن يكتب إلى أبي بكر في أمره، فأُرسِل إلى أبي بكر مُوثقًا ليرى رأيه، فأطلقه أبو بكر وعفا عنه وزوَّجه أخته أم فروة، فأقام في المدينة وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن، ثم كان مع سعد بن أبي وقَّاص في فتوح العراق كلها، ولما آل الأمر إلى علي كان الأشعث معه يوم صفين على راية كندة، وحضر معه موقعة النهروان، وورد المدائن، ثم عاد إلى الكوفة فتُوفي فيها إثر اتفاق الحسن ومعاوية.

وبعدُ؛ فهذه حركات فتنة الردة وأخبارها، وقد قضى عليها جميعها أبو بكر بعزمه وحزمه وصدق إيمانه وحسن اختياره للقادة الأبطال الذين بعث بهم للقضاء عليها. ولولا إيمان أبي بكر بسموِّ هدفه وشرف غايته لتخاذل أمام ذلك التيار المخيف من المرتدين الذين انقضُّوا على المسلمين يريدون أن يفتكوا بهم، وعلى الإسلام يريدون أن يهدموا أركانه. وقد كان هؤلاء المرتدون قسمَين: قسمًا متعنتًا ركبته العصبية الجاهلية فثار طامعًا في أن يرجع إلى تقاليده الجاهلية، وهؤلاء طبقة الرؤساء وأصحاب المطامع، وقسمًا ضعيف الإيمان ينعق مع كل ناعق، رأى أولئك يحرِّضونه فاستجاب لهم، وقد ضرب له أولئك على وترٍ حسَّاس وهو الوتر المالي، فتحمَّسَ للفكرة ودافع عنها وقاتل في سبيلها. ولكن قوة أبي بكر كانت أشد، فقضت عليهم وعلى فكرتهم الخبيثة.

هذه أسرار فتنة الردة، وأما ما يزعمه المستشرقون من أنها دليل على أن الإسلام قد قام بالسيف والإرهاب، وأن الخوف والنفاق هما اللذان أدخلاهم في الإسلام إلى آخر ما هنالك من ترَّهات يمليها التعصُّب؛ فكلُّه باطل لا أصل له أبدًا؛ لأن جمهرة أهل الردة لم يكفروا بالإسلام تمامًا ويرجعوا إلى دينهم الوثني القديم، وإنما طلبوا إسقاط فريضة الزكاة زاعمين أنها نوع من الإتاوة التي لم تطب نفسهم بأخذها منهم، على أن هناك نفرًا ارتدَّ عن الإسلام ارتدادًا كاملًا لا لأنه دخل فيه بالقوة، بل لأنه طمع في الملك والسيطرة، فحاول تلك المحاولة، ولكنه فشل فرجع عنها صاغرًا تائبًا.

(٣) أخبار الفتوح الإسلامية في عهده

(٣-١) فتوح العراق

معركة ذات السلاسل

بعد أن تم للصديق القضاء على فتنة الردة، وأرجع العرب إلى دين الله ووطَّدَ قواعد الإسلام في الجزيرة العربية، عزم على أن يُتمِّم خطوات النبي الكريم في نشر راية الإسلام ولواء العروبة في الخافقَين، ووجد أن مملكتَي الفُرس والروم هما أعظم الممالك المجاورة للعرب، وأن هاتين الدولتَين قد طغتا واستعبدتا الناس، وأن كِسرى أبرويز إمبراطور الفُرس لما تلقى كتاب الرسول الكريم مزَّقه استكبارًا وجبروتًا، وبعث إلى عامله على اليمن — باذان — أن يبعث إلى رسول الله رجلَين جَلدَين يأتيانه به، فتوجَّها إليه، ولما دخلا إلى المدينة وكلَّمهما رسول الله دعاهما إلى الإسلام، وأبان لهما أن عاقبة الظلم وخيمة، وأن كِسرى ظالم قد علا في الأرض وطغا، وأن الله قد انتقم منه وسلط عليه ابنه شيرويه فقتله، وكان الأمر كما أخبر رسول الله، فلما تحقَّقَ الرجلان صِدق قول الرسول أسلما.

ثم إن شيرويه بعد أن تسلطن بعث إلى باذان ألا يتعرض للرسول العربي، وكان ذلك بدء نشوء الإسلام في اليمن، وأسلم باذان فأبقاه الرسول في إمارته، وكانت اليمن أول بلاد خاضعة للفُرس دخلت تحت لواء الإسلام، ثم تبعتها بلاد البحرين وبلاد عُمان وكانتا تحت حماية الفُرس أيضًا. فلما مات رسول الله واستُخلف أبو بكر وانتهى من فتنة الردة وكان سيف الله خالد بن الوليد هو أجلَّ من أظهر جرأة على المرتدين في بلاد اليمامة حين بعثه الصديق إليها، ثم انتدبه ليكون أول من يضع الحجر الأساسي للبناء الإسلامي في بلاد العراق وديار فارس وما إليهما، ويرفع الراية الإسلامية في هاتيك الديار العريقة في الحضارة والعلم، الغريقة في الوثنية والجهالة، فكتب إلى خالد في المحرم من السنة الثانية عشرة أن يهيِّئ نفسه وجنده للمسير من اليمامة إلى بلاد العراق، فدخلها من أسفلها، كما كتب إلى عياض بن غنم أن يسير حتى يأتيها فيدخلها من أعلاها، وأيما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه، فأخذ خالد يستعد للقاء العدو ويُرتب جيشه، ولم يقبل أن يُجنِّد أحدًا ممن كانوا قد ارتدُّوا عن الإسلام ولا أن يسافروا معه تلبيةً لأمر الخليفة الذي أمره ألَّا يُكرِه أحدًا من المجاهدين على السفر، كما أمره ألا يقبل سفر أحد من المرتدين سابقًا معه؛ لأن رأيه ألا يُستعان بمن ارتدوا على غزوٍ أبدًا، وأمره أن يبدأ بِفَرْج الهند، وهي الأبُلَّة، وأن يتألف أهلَ فارس ومن كان في مملكتهم من الأمم. وهناك رواية للطبري تقول: إن خالدًا قدِم المدينة على أبي بكر، ثم خرج منها إلى العراق، ولكن الرواية الأولى هي الأشهر والأكثر وثوقًا.

ومهما يكن من أمر، فإن خالدًا سار نحو العراق وغرضه الحيرة عاصمة عرب الجزيرة حتى يسيطر عليها ويقضي على النفوذ الأعجمي في بلاد العرب. أما عياض بن غنم فإنه سار وهو بين النباج والحجاز، حتى أتى المصيخ ودخل العراق من أعلاه. وكتب أبو بكر إلى حرملة والمثنى بن حارثة ومن معهما أن ينضموا جميعًا تحت إمرة خالد، فبعث إليهم خالد أن موعدهم الأبلة، فساروا جميعًا إليها حتى اجتمعوا بخالد، فكان عدد أجنادهم ثمانية عشر ألفًا، وجرت بين المسلمين وأهل تلك المواطن معارك نُجملها في المباحث التالية:

كان على الأبلة هرمز الفارسي، فلما علم بمقدم العرب إليه كتب إلى كِسرى شيرويه يُنبئه بالخبر، وما عتم أن جاءه كتاب من خالد قبل أن يصل إليه يقول له فيه: «أمَّا بعدُ فأسلِم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرِرْ بالجزية، وإلا فلا تلومنَّ إلا نفسك؛ فقد جئتُك بقومٍ يُحبُّون الموت كما يُحبُّون الحياة.» ثم إن خالدًا فرَّقَ جُنده ثلاث فِرَق: الأولى: عليها عثمان بن حارثة وقد سرحه قبله بيومين، والثانية: عليها عدي بن حاتم، وعاصم بن عمرو، والثالثة: عليها خالد نفسه، وتواعدوا جميعًا أن تكون الحفير ملتقاهم.

ولما سار خالد علِم أن هرمز سبقهم إلى الحفير في جموعه، فأمال خالد الناس إلى كاظمة، وبلغ ذلك هرمز فبادره إلى كاظمة وسيطر على الماء، وبقي المسلمون بلا ماء، فنادى خالد في المسلمين ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرنَّ الماء لأَصبَرِ الفريقَين وأكرم الجندَين. ثم احتدم القتال، وأرسل الله سحابة فأغدرت ما وراء المسلمين فقوَّاهم الله بها، ولما طال القتال برز هرمز طالبًا خالدًا للبراز، فنزل إليه خالد وتضاربا ضربتَين، ثم احتضن خالدٌ هرمز فقتله وانهزم الفُرس، وركب المسلمون أكتاف الفُرس إلى آخر الليل، وجمع خالد الأسلحة وفيها السلاسل، فكانت ألف رطل وقر بعير، فسُمِّيَت تلك المعركة بذات السلاسل، وغنِمَ خالد مغانم كثيرة، وبعث بالخُمس وبالفيل الذي كان مع الفُرس إلى أبي بكر، فلما قدم رسول خالد على أبي بكر ضجَّ المسلمون فرحًا وسجدوا لله شكرًا.

ثم إن خالدًا بعث حارثة في آثار فلول الفُرس، وأرسل معقل بن مقرن المزني إلى الأبلة ليجمع له أموالها وخيراتها وسبيها، فأتاها معقل ونزلها وجمع الأموال والسبايا، وقد بلغ سهم الفارس يوم السلاسل ألف درهم، والراجل على الثلث من ذلك.٩

معركة المذار (الثني)

كان هرمز كتب إلى أردشير شيرويه ملك فارس يُخبره عن خالد وبمسيره إليه، فأمدَّه بالقائد قارن بن قريانس، وسيَّره من المدائن حتى إذا انتهى إلى المذار — وهي من أعظم مواطنهم الحصينة — بلغته هزيمة هرمز ولحق به المنهزمون، فجمعهم وحصَّن نفسه بالمذار، فسار إليه خالد، وانقضَّ المسلمون على قادة الجيش الفارسي فمزَّقوهم وقتلوا صناديدهم وفرَّقوا جموعهم، وكانت مقتلةً عظيمة فاز فيها المسلمون بنصرٍ مُؤَزَّر ومغانمَ كثيرة، ولولا أن المياه حالت دون تخطِّي المسلمين للحقوا بفلولهم. وأقام خالد بالمذار، وسلَّم الأسلاب لمن سلبها بالغةً ما بلغت، وقسَّم الفيء، ونفل من الأخماس أهل البلاد، وبعث ببقية الأخماس، ووفَّدَ وفدًا مع سعد بن النعمان إلى أبي بكر.

وقد روى الطبري أن من قُتِل من الفُرس في وقعة المذار كانوا ثلاثين ألفًا سوى من غرق، ولولا المياه لأتى خالد على آخرهم، ولم يُفلِت منهم من أفلت إلا العراة وأشباه العراة. وقد عامل خالد الفلاحين أطيب معاملة عملًا بوصية أبي بكر، فأبقى لهم أراضيهم، وحفظ لهم حقوقهم بعد أن أخذ منهم الجزية، وكان ذلك في صفر من السنة الثانية عشرة للهجرة.

معركة الولجة

بعد أن أتم خالد ترتيب أموره عقب فتح المذار بعث إليه أردشير بقائدٍ قوي الشكيمة يُدعى «أندرزغر»، ثم ألحق به القائد «بهمن جاذويه»، فسار «أندرزغر» حتى أتى كسكر، ثم سار نحو الولجة، وسار بهمن في طريقٍ آخر وسط السواد، ولما بلغ خالدًا قدوم هذين الجيشَين عليه نادى المسلمين أن يتأهَّبوا ويحذروا ويتركوا الغفلة والاعتزاز، حتى إذا بلغ بهم «الولجة» تلقاه «أندرزغر»، فاقتتلوا أشد قتال حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، ثم إن الله ثبَّت جنده وأعانهم، فغلبوا الفُرس وهزموهم وتفرَّقَت جموعهم، وانهزم أندرزغر يهيم على وجهه والقوم من ورائه حتى مات عطشًا، والمسلمون يتبعون الفرس وخالد يحثهم على اتَّباعهم، ويقول للعرب مُرغِّبًا إياهم ببلاد العجم، ومُزهِّدًا إياهم ببلاد العرب، فكان مما قاله: «ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب، وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يُكتب إلا للمعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف، حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثَّاقل عما أنتم عليه.» حتى كتب الله النصر للعرب، وفُتحت «بلاد الولجة»، وسار خالد بالفلاحين سيرته بهم في المذار فلم يقتلهم بل أبقاهم في أرضهم بعد أن أخذ الجزية، ولم يسبِ إلا ذراري المقاتلة ومن أعانهم من عرب بكر بن وائل الذين انضموا إليهم.

فتح أُلَّيس وأمغيشيا

رأينا أن خالدًا أسر وسجن بعض ذراري المحاربين، وفيهم بعض العرب مثل ذراري بكر بن وائل؛ فغضب لهم قومهم البكريون وكاتبوا الفُرس على الانتقام من خالد وأصحابه، واتَّعَدُوا «أُلَّيس» فاجتمعوا عندها بجيشٍ كبير من الفُرس والعرب، وكان على الفُرس «بهمن روز» وعلى العرب عبد الأسود العجلي، وعلم خالد بمجمعهم، فسار إليهم حتى بلغ أُلَّيس، فتقدم جيشه ونادى: أين عبد الأسود؟ أين مالك بن خالد؟ فقال له خالد: يا ابن الخبيثة! ما جرَّأك عليَّ من بينهم وليس فيك عزم ولا غناء؟ فضربه فقتله، فدهش العرب والأعاجم، ثم التقى الجمعان والمشركون يزيدهم كلَبًا وضراوةً ما كانوا يتوقعون من قدوم «بهمن جاذويه» إليهم، فصادُّوا المسلمين، واشتدَّ عليهم خالد، وهجم على القوم وهو يقول: «اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا أقدرنا عليه حتى أُجري نهرهم بدمائهم.» ثم إن الله أظفر خالدًا وقومه بالمشركين فأعملوا سيوفهم وفتكوا بهم وأجروا دماءهم في النهر حتى صار ماؤه أحمر عبيطًا، ولحق بهم جيش المسلمين وفتح أمغيشيا، ثم بعث خالد إلى أبي بكر يخبره بفتح «أُلَّيس» و«أمغيشيا» وبالخُمس وبقدر الفيء وبعدَّة السبي، ولما دخل الرسول على أبي بكر مبشِّرًا قال له: ما اسمك؟ قال: جندل، فقال أبو بكر:

نفسُ عصامٍ سوَّدَت عصاما
وعوَّدته الكرَّ والإقداما
ثم أمر له بجائزة، وخطب أبو بكر في الناس، فكان فيما قاله لهم: «يا معشر قريش، عدا أسدكم على الأسد فغلبه، ولقد عجزت النساء أن يُنشئن مثل خالد.»١٠

فتح الحيرة

بعد أن تم لخالد فوزه في «أمغيشيا» سار إلى «الحيرة» في البر والفرات، فهدم المرازبة السدود، وأمرهم زعيمهم «أزادبه» وابنه أن يقطعوا مياه الفرات، فتوقَّفت سفن المسلمين واضطروا أن يخرجوا منها إلى البر، فجمع خالد جموعه وسار نحو جيش ابن «أزادبه» فتلقَّاه على فم الفرات عند بادقلى، واقتتل الجمعان أشد قتال حتى كان الفوز لخالد عند فرات بادقلى، ثم سار خالد حتى نزل بين الخورنق والنجف، ففرَّ «أزادبه» لما بلغه من تفرُّق جيش ابنه وموت أردشير، فلحق به خالد حتى حاصر الحيرة والقصر الأبيض وقصر العدسيين وقصر بني مازن وقصر ابن بقيلة، وجعل على حصار كل واحد من هذه القصور قائدًا يُحاصر من فيه، فجعل على القصر الأبيض ضرار بن الأزور، وعلى قصر العدسيين ضرار بن الخطاب، وعلى قصر ابن مازن ضرار بن مقرن، وعلى قصر ابن بقيلة المتين بن حارثة الشيباني، وحاصر هو نفسه الحيرة، وأمر القادة أن يطلبوا إلى من في تلك القصور من المقاتلين التسليم والخضوع للإسلام ودفع الجزية، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ولهم يوم وليلة يفكرون في الأمر، وقال لأمرائه: لا تمكنوا أعداءكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر، ولكن ناجزوهم ولا تردُّوا المسلمين عن قتال عدوهم.

ولما مضى الأجل انقضَّ عليهم المسلمون من كل صوب يرشقونهم بالسهام والحجارة والنبال حتى ضاق سكان القصور والمحاربون بالحصار، وضجَّ أهل الأديار من القسيسين والرهبان المقيمين في الديور المجاورة بهذا الحصار، وصاحوا بأهل القصور: ما يقتلنا غيركم، فنادى أهل القصور: يا معشر العرب، قد قبلنا اختيار واحدة من الثلاث: الإسلام أو الجزية أو المناجزة، فكفُّوا عنا حتى يقابل زعماؤنا زعيمكم، ثم خرج من القصور زعماؤهم، وهم: إياس بن قبيصة، وعدي بن عدي، وأخوه عمرو، وعمرو بن عبد المسيح الملقب ببقيلة، وحيري بن أكال، وذهبوا إلى خالد فخلا بأهل كل قصر على حِدَة، وبدأ بعديٍّ فقال له ولمن معه: ويحكم، ما أنتم؟ أعرب، فما تنقمون من العرب؟ أو عجم، فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادُّونا وتكرهوا أمرنا، ثم خيَّرهم بين الأمور الثلاثة، فاختاروا إعطاء الجزية، فقال خالد: تبًّا لكم! ويحكم! إن الكفر فلاةٌ مضلة، فأحمق العرب من سلكها! ولكنهم أصروا على طلبهم فلم يعارضهم خالد، ثم استقبل الآخرين فكان من أمرهم ما كان من أمر عدي، ثم إن خالدًا كتب لهم جميعًا كتابًا هذا نصه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديًّا وعمرًا ابنَي عدي، وعمرو بن عبد المسيح، وإياس بن قبيصة، وحيري بن أكال، وهم نقباء أهل الحيرة، ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به؛ عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم تُقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا رهبانهم وقسيسيهم، إلا من كان على غير ذي يد حبيسًا عن الدنيا تاركًا لها، وسائحًا تاركًا للدنيا، وعلى المنعة، فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بفعلٍ أو بقول فالذمة منهم بريئة، وكُتِبَ في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة.»١١

وفي وقائع الحيرة وما سبقها من الفتوح يقول القعقاع بن عمرو الشاعر:

سقى الله قتلى بالفرات مقيمة
وأخرى بأثباج النجاف الكوانفِ
فنحن وطئنا بالكواظم هُرمزًا
وبالثني قرنَي قارنٍ بالجوارفِ
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت
على الحيرة الروعاء إحدى المصارفِ
حططناهمُ منها وقد كان عرشهم
يميل به فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا
غبوق المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزَّلوا
إلى الريف من أرض العريب المقانفِ١٢

فتح السواد

لما تم لخالد فتح الحيرة والقصور، دخل الحيرة فصلى صلاة الفتح — وهي ثماني ركعات بتسليمة واحدة — ثم خطب الناس، فحمد الله وشجع المسلمين على الاستمرار في الفتح، وكان مما قاله في ذلك الحين قوله: لقد قاتلتُ يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف، ثم صيرت في يدي صفيحة يمانية، فما زالت معي، وما لقيتُ قومًا كقوم لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قومًا كأهل «أُلَّيس».

ثم إنه بعث المقداد إلى ضواحي السواد، فعلم بذلك زعماؤها، فتقاطروا إليه يعلنون خضوعهم، وكان أول القادمين دهاقين الملطاطين، والدهقان زادن بن بهيش، ودهقان فرات سربا، فصالحوه على ما بين «الفلاليج» إلى «هرمز جرد» على ألفَي ألف درهم، وأن للمسلمين ما كان لكسرى، وكتب لهم كتابًا هذا نصه:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من خالد بن الوليد لزاد بن بهيش وصلوبا بن نسطوتا، إن لكم الذمة وعليكم الجزية، وأنتم ضامنون لمن نقبتم عليه من أهل «البهقباذ» الأسفل والأوسط، على ألفَي ألف تُقبل في كل سنة في كل ذي يدٍ سوى ما على «بانقيا وبسما»، وإنكم قد أرضيتموني والمسلمين، وإنَّا قد أرضيناكم وأهل «البهقباذ الأسفل» ومن دخل معكم من أهل «البهقباذ الأوسط» على أموالكم، ليس فيها ما كان لآل كسرى ومن مال ميلهم. وشهد هشام بن الوليد، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحميري، وبشير بن عبيد الله بن الخصاصية، وحنظلة بن الربيع، وكُتب سنة اثنتي عشرة في صفر.»

ثم بعث خالد عماله إلى أراضي السواد لينظموا أموره، كما بعث إلى أمراء فارس كتابًا هذه صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمَّا بعدُ فالحمد لله الذي حل نظامكم، ووهَّنَ كيدكم، وفرَّقَ كلمتكم، ولو لم نفعل ذلك كان شرًّا لكم، فادخلوا في أمرنا ندَعْكم وأرضكم ونجُزْكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.»

وكتب إلى المرازبة كتابًا هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمَّا بعدُ فالحمد لله الذي فضَّ حدتكم، وفرَّقَ كلمتكم، وجفل كرمكم، وكسر شوكتكم، فأسلِموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا في الذمة وأدوا الجِزية، وإلا فقد جئتكم بقومٍ يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر.» وبعث خالد هذه الرسائل وأخذ يعدُّ العدة ويُرتِّب أموره، وبينما هو منصرف إلى ذلك جاءه خبر الحرب الأهلية تقع بين الفُرس بعد موت ملكهم «أردشير» واختلاف أمراء البيت المالك فيما بينهم، فلما وصلتهم كتب خالد اجتمع الأمراء واتفقوا على تولية «فرخ زاد» والتفوا حوله، فأخذ ينظم أمورهم ويرتب جيوشهم لعله يستطيع أن يوقِف الزحف الإسلامي المنحدر نحوهم.

فتح الأنبار

علم خالد بأن الفُرس أخذوا يرتبون جيوشهم لوقف زحفه، فخرج بنفسه على رأس جيش كثيف يريد الأنبار، فلما وصلها تحصَّن صاحبها «شير زاد» بقلاعها وخندقها، فأحاط المسلمون بخندق المدينة وأخذوا يرامون المشركين، فقال خالد: إني أرى أقوامًا لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم ولا تتوخوا غيرها، فأخذ المسلمون يرمون عيون المشركين ففقئ أكثر من ألف عين، حتى سُميت تلك الوقعة: وقعة «ذات العيون»، وتصايح القوم: «ذهبت عيون أهل الأنبار».

ثم هجم المسلمون على المدينة والتقوا بالمشركين عند الخندق، واشتدَّ القتال وأحسَّ المشركون بالفشل والانخذال، فطلب «شير زاد» من خالد أن يُصالحه، فرفض الصلح وأبى إلا احتلال المدينة، فقاتل المشركون أشد قتال، فنحر خالد ضعاف إبل حبيشة ورماها في الخندق، ودخل الجانب الآخر من الخندق، ولما رأى «شير زاد» أن لا قِبَل له بخالد صالحه على ما أراد على أن يُخلي سبيله ويُلحقه بمأمنه، وألا يأخذ معه شيئًا من المال والمتاع، فقبل خالد وخلَّى سبيله، فنجا «شير زاد» بنفسه ولحق ببهمن.١٣

وقعة عين التمر

لما فرغ خالد من فتح الأنبار ورتَّبَ أموره فيها استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقصد لعين التمر، وفيها يومئذٍ «مهران بن بهرام جوبين» في جمع عظيم من الفُرس، وجمع من العرب من بني التمر وتغلب وإياد عليهم عقة بن أبي عقة، فلما سمع المشركون بقدوم خالد إليهم قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدًا، فقال له: صدقت، دونكموهم، وإن احتجتم إلينا أعنَّاكم، فلما مضوا نحو خالد قالت الأعاجم لبهرام: ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب؟ فقال: دعوني فإني لم أُرِدْ إلا ما هو خيرٌ لكم وشرٌّ لهم، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهِنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم مُضعَفون. فاعترفوا له بفضل رأيه.

ثم إن عقة سار للقاء خالد، وبقي مهران في حصن عين التمر، ولما التقى الجمعان برز خالد لعقة فأخذه أسيرًا وانهزمت صفوفه ووقع كثير منهم في الأسر، فلما بلغت هذه الأخبار أذن مهران ترك حصنه وفرَّ في جنده، فدخل خالد الحصن وضرب أعناق أهل الحصن كما ضرب عنق عقة وأعناق جماعته من مشركي العرب الذين ناصروا الفُرس ليؤدِّب بهم سائر العرب، وغَنِم كثيرًا وسبى كثيرًا، وكان فيمن وقع أسيرًا: نُصير أبو موسى بن نصير، وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وسيرين أبو محمد بن سيرين، ثم إن خالدًا بعث بالمغانم والخُمس والسبايا إلى أبي بكر مع الوليد بن عُقبة.١٤

معارك دومة الجندل والحصيد وخنافس والمصيخ

استخلف خالد في عين التمر عويم بن الكاهل الأسلمي، وسار هو منجدًا عباس بن غنم الذي لقي عنتًا من أهل دومة الجندل ومن حولها من قبائل: بهراء وغسان وتنوخ والضجاغم، فلما بلغهم خبر مقدمه اجتمعوا فتشاوروا، فقال أكيدر بن عبد الملك أحد رؤسائهم: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن منه طائرًا في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدًا قلُّوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوه. وقال الجودي بن ربيعة ووديعة الكلبي وابن رمانس الكلبي: لا بد من قتاله. وأخذوا يعدُّون عدتهم حتى قدم عليهم فقاتلوه وقاتلهم، فهزمهم وضرب عنق الجودي، ثم أقام بدومة، وأرجع أحد قادته وهو الأقرع بن حابس إلى الأنبار.

ولم يلبث أعراب الجزيرة والفرات ودجلة الذين قُتِل إخوانهم في عين التمر ودومة الجندل إلا أن تجمعوا وتحالفوا على خالد انتقامًا لعقَّة وغيره من وجوه العرب الذين قتلهم خالد، فاتخذوا منطقتَي الحصيد وخنافس مكانًا يجتمعون فيه ليهاجموا خاعلى السفر، كما أمره ألا يقبللدًا في دومة، فلما تم جمعهم وانضم إليهم «روزبة» و«زرمهر» من قُوَّاد الفرس وسمع بذلك القعقاع خليفة خالد في الحيرة، فأرسل سريَّتين حالتا بين المشركين وبين الريف.

ثم قدم خالد إلى الحيرة، عندما بلغه الخبر، فبعث القعقاع وأبا ليلى بن فدكي ليلاقيا المشركين، فالتقى الجمعان وقُتل من الفُرس مقتلة عظيمة، وقُتل القائدان «روزبة» و«زرمهر»، وغنم المسلمون مغانمَ كثيرةً جليلة، وتجمع فلال الفرس إلى المصيخ، وكان به بعض العرب، فكتب خالد إلى القعقاع وأبي ليلى بن فدكي أن يلاقياه على المصيخ في ساعة حددها لهم، فلما اجتمعوا هاجموا المشركين من العرب والعجم فغلبوهم، وأتمَّ الله نصره لجنده.١٥

معارك الثني والفراض وسائر الجزيرة

بعد أن تم لخالد نصره في المصيخ سار نحو ربيعة بن بجير التغلبي، وقومه من بني تغلب النازلين في بلاد الثني والبشر «ويسمى الزميل» أيضًا، فأحاط بهم وقتل منهم مقتلةً عظيمة وغنم مغانمَ كثيرة ولم يكد يفلت منهم أحد، وكان خالد قد أقسم أن يبغتنَّ تغلب في دارها ويفتك بها إن هي رفضت الإسلام. ثم إنه بعث بالخمر والسبايا إلى أبي بكر مع النعمان بن عوف الشيباني وقسم النهب والسبايا، فاشترى الإمام علي بن أبي طالب بنت ربيعة بن بجير الثعلبي واستولدها، فولدت له عُمر ورقية.

ثم قصد خالد الفراض، وهي تخوم الشام والعراق، وكان الوقت صيفًا والحر شديدًا والشهر رمضان، فأفطر خالد وأفطر المسلمون في تلك السفرة التي تواصلت فيها الغزوات وتوالت الفتوح، فلما بلغ الرومَ في الشام خبرُ قدومه عليهم اتفقوا هم والفرس المقيمين على الحدود أن يبلغوا خالدًا وصحبه ويعملوا على الفتك به وتشتيت جمعه؛ فقد اغتاظوا من مقدمه غيظًا شديدًا، فجمعوا له الجموع واستمدوا بني تغلب وإياد والنمر، فأمدوهم، وحجز الفرات بين الطرفين فقال بعضهم لبعض: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فقال خالد: بل اعبروا إلينا، فقالوا: تنحَّوا حتى نعبر، فقال خالد: لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا، فعبروا إليه واقتتل الجانبان قتالًا عظيمًا، واستطاع خالد أن يفرق جمعهم ويقتل منهم جمعًا كبيرًا، ويُقال إن قتلى المشركين يوم الفراض كان مائة ألف.١٦ ومهما كان العدد مُبالَغا فيه فإنه يدل على كثرة القتلى من الفرس والروم والعرب، وقد كانت المعركة في أواخر ذي القعدة سنة ١٢ﻫ.
ولما أتم الله لخالد فوزه أذِن للجيش في الرجوع إلى الحيرة، فجعل على الجيش عاصم بن عمرو، وأظهر أنه سيظل في الساقة، ولكنه مضى في نفرٍ قليل من أصحابه إلى مكة يريد الحج في طريقٍ غير مطروقة، فأتمَّ حجَّه ورجع مسرعًا إلى الحيرة فتلقَّى كتابًا من أبي بكر يأمره بالتوجه إلى الشام.١٧

أمَّا بعدُ، فهذه فتوح سيف الله في العراق، وهي — كما رأينا — فتوحٌ خاطفة، فاز بها المسلمون بفضل عزم خالد وحنكته العسكرية وجرأته؛ فقد كان يقود الجيوش ويتقدمها بنفسه، ويبارز قواد خصومه فيفتك بهم ويُشتِّت جموعهم. ومما هو جدير بالذكر أن العراق لم يكن غريبًا عن المسلمين؛ فإن كثيرًا منهم زاروه في الجاهلية واتصلوا بأعرابه وتاجروا إليهم. وقد كان العرب المقيمون فيه من بني تغلب وبكر وربيعة ذوي صلات بعرب الحجاز ونجد لعلاقاتهم الاقتصادية والدينية الجاهلية، وكان المظنون أن هؤلاء العرب سيقفون مع إخوانهم من عرب الحجاز ضد الفُرس لجامعة اللغة ورابطة الدم، ولكن الفُرس تمكنوا من اجتذابهم إليهم ظنًّا منهم أنهم سيفيدونهم في تشتت شمل المسلمين، ولكن خاب ظنهم فانكسروا هم وحلفاؤهم أمام الفتح الإسلامي الكاسح. ولا عجب في ذلك؛ لأن جيش خالد كان مؤلَّفًا من خير قبائل العرب، بل من أفاضل المهاجرين والأنصار الذين أبلوا أفضل البلاء في غزوات النبي الكريم وحروب الردة ممن لم يدخل في قلوبهم زيغ ولا مرض، ولا اعتورهم شك في صدق الدعوة الإسلامية والتفاني في نشر لوائها عاليًا والاندفاع في الحماسة لها؛ فقد كان في جيش خالد جماعة من كبار الصحابة والقراء، وكان خالد يعتزُّ بهم ويفخر بقيادتهم، ويسأل الله دومًا أن ينصره ببركتهم.

ولما بعث إليه أبو بكر يُعفيه من قيادة العراق وأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة الشيباني ويتوجه إلى الشام أحضر خالد صحابة رسول الله الذين كانوا في جيشه وأراد الانفصال بهم إلى الشام، فلم يقبل المثنى بن حارثة، وقال لخالد: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر في استصحاب نصف الصحابة.١٨ وقد كان لهؤلاء الصحابة الكرام، فضلًا عن الفتح المادي للعراق، فتحٌ روحي؛ فقد عملوا على نشر مبادئ الإسلام في المواطن التي حلُّوا فيها منذ زمنٍ مبكرٍ جدًّا. ويظهر أن قسمًا كبيرًا من العرب وبعض الفرس — المقيمين في العراق — قد أعلنوا دخولهم في الإسلام، ولم يستقم على النصرانية إلا تغلب أو بعضها ونفر من تنوخ وإياد.
figure

ويحدثنا الطبري أن خالدًا حين نُدِبَ إلى الشام استخلف المثنى بن حارثة على من أسلم بالعراق من ربيعة وغيرهم، ولما سار خالد إلى الشام خرج المثنى من الحيرة حتى أتى بابل، فلقيه جيش هرمز في جيشٍ كبير من الفرس واقتتلا قتالًا شديدًا وانهزم هرمز، وبلغت أخباره مسامع الملك «شهريران بن أردشير»، فاغتمَّ لذلك أشد الغم، ثم إنه مَرِضَ ولم يطُل عهده حتى مات، وكثرت الاختلافات الداخلية في بلاده، وصار غربي الفرات كله تحت السيطرة الإسلامية فانشغلوا عن المسلمين. ولما تم للمثنى فتح بابل ونشر سلطانه على ما بقي من أراضي العراق معه تأخر عليه رسل أبي بكر، فاستخلف على جيشه بشير بن الخصاصية وتوجه إلى المدينة يستأذن أبا بكر في الاستعانة بمن حسنت سيرته من أهل الردة، فلما وصل المدينة وجد أن أبا بكر قد مرِض، فلما دخل على أبي بكر رحَّب به، وقال لعمر: إني لأرجو أن أموت يومي هذا، فإذا متُّ فلا تُمسيَنَّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلكم مصيبته عن أمر دينكم ووصية ربكم؛ فقد رأيتني يوم وفاة رسول الله وما صنعته، وما أصيب الخلق بمثله، وإذا فتح الله على أهل الشام فاردد أهل العراق إلى عراقهم، فإنهم أهله وولاة أمره، وأهل الجرأة عليهم. ثم توفاه الله فعمل عمر بوصيته كما سنرى تفصيله بعدُ في الفصل الخاص بعهد عمر (رضي الله عنه).

(٣-٢) فتوح الشام

توطئة عن بلاد الشام في أواخر عهد البيزنطيين

كانت بلاد الشام تحت السيطرة البيزنطية، وكانت في أواخر عهدهم في حالةٍ سيئة من النواحي الاقتصادية والسياسية والدينية، وكان السكان يلاقون ويلات جِسامًا من الطغاة البيزنطيين. وقد أحسَّ جيرانهم الفرس بفساد البلاد فأخذوا يشنُّون عليها الغارة تلو الغارة للسيطرة عليها ووضعها تحت حمايتهم، وقد كان الربع الأول من القرن السابع الميلادي فترةً مشئومة على بلاد الشام؛ لأنها أصبحت ميدانًا للحروب بين الفُرس والروم، وقد رأى عاهلا المملكتَين أن يضعا حدًّا لتلك الحروب، فعقد «شيرويه» إمبراطور الفرس صلحًا مع «هرقل» إمبراطور الروم في سنة ٦٢٨م، ورد إليه جميع من كانوا في حوزته من أسرى الروم، كما أعاد إليه خشبة الصليب المقدس التي كان القائد الفارسي «سربار» أخذها في حملته على القدس في سنة ٦١٤م، وقد استبشر الروم بعودة خشبة الصليب المقدس كثيرًا، واحتفلوا بذلك احتفالاتٍ باهرة وبالغوا في تكريم هرقل الذي تم ذلك على يديه، فأدخلوه القسطنطينية في مظهرٍ بهيج واحتفالٍ كبير، ورأى هرقل أن يزور القدس ليشكر الله على تلك النعمة، واتخذ يوم الردِّ عيدًا كنسيًّا ما يزال النصارى في سورية من روم وموارنة يحتفلون به في كل يوم ١٤ أيلول.١٩ ولما دخل هرقل القدس طرد جميع من فيها من اليهود وحرَّم عليهم أن يقربوا منها، وأن تكون مسافتهم بعيدة عنها ثلاثة أميال، وهكذا استطاع هرقل أن يعيد إلى البلاد بعض هدوئها وطمأنينتها، ولكنه ما عتم أن انغمس في اللهو والعسف؛ فقد اتخذ مدينة حمص الجميلة مباءة للهوِهِ وفِسقِه، وعاد الناس يقاسون منه ومن حُكَّامه ما كانوا يلاقون منهم من ذي قبل، وبينما كان أهل الشام يعانون الويلات من فساد الإدارة البيزنطية على يد هرقل وعصابته إذا هم يسمعون بأنباء السيل الإسلامي العربي في جنوب بلاد الشام أواخر عهد رسول الله محمد وأوائل عهد خليفته أبي بكر الصديق، ولم يكن أهل الشام والبيزنطيون يظنون أن وراء ذلك السيل الإسلامي العربي أهدافًا عميقة، بل ظنوا أنه كبعض غارات البدو والأعراب الذين كانوا يشنون أمثال هذه الغزوات في بعض السنوات.
قال المطران الفاضل الدبس في «تاريخ سورية»: إن هرقل عاد بعد انتصاره على الفُرس إلى ترفه وانغماسه بملاذِّه، وأتى حمص التي كان يؤمها يومئذٍ محبو الترف وترويح القلوب، وكان ذلك في مبادئ خلافة أبي بكر الصديق، وكان العرب يشنون الغارة على سورية فيزدريهم هرقل، ويحسب أنهم لا يطمعون بمناوأة من قهر الفرس، ورأى أبو بكر فتح سورية متيسرًا، فجهَّزَ عسكرًا وخطب فيهم عند سفرهم قائلًا: إذا لقيكم العدو فقاتلوه مستبسلين، والموت أولى بكم من القهقرى، وأمَّر أبا عبيدة على الجيش، وكان عشرين ألف مقاتل، ولما سمع هرقل أخبار حملة العرب أتى إلى دمشق وبعث «سرجيوس» والي قيصرية بخمسة آلاف جندي ليوقف العرب عن المسير ويقاتلهم إذا اضطُر إلى قتالهم فلم يكن مفر من القتال، ومحق العرب جنوده القلائل وأخذوه أسيرًا ثم أماتوه وأحرزوا غنائم وعادوا.٢٠

توطئة عن الأعمال العسكرية في الشام

كان الرسول الكريم أول من فكر في فتح الشام؛ فقد رأينا أنه كتب إلى أمراء عرب الشام يدعوهم إلى الإسلام، كما بعث في جمادى الأول من السنة الثامنة مولاه زيد بن حارثة في ثلاثة آلاف مقاتل، ووِجهتهم «مؤتة» — وهي أول مدينة سورية تتاخم الجزيرة العربية — ولما وصل «معان» علم أن الروم قد عبئوا له جيشًا عظيمًا بقيادة هرقل، وأنهم قد نزلوا مآب «موآب» من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم والعرب اللخميين وجذام وبلقين وبهراء وبليّ، فأقام زيد بن حارثة في «معان» يومين، ثم تذاكر مع صحبه في أمر الروم وجموعهم، فقال بعضهم: نكتب إلى رسول الله ونخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، وأبى آخرون أن يكتبوا إليه لما في ذلك من إظهار الخوف، ومن هؤلاء: عبد الله بن رواحة الشاعر؛ فقد شجع الناس وقال لهم: يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة من أجله، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلِقوا فإنما هي إحدى الحُسنيَين: إما ظهوره وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، وفي ذلك يقول رضي الله عنه:

فلا وأبي مآب لنأتينْها
وإن كانت بها عرب وروم
بذي لجب كأن البيض فيه
إذا برزت قوانسها النجوم
فعبأنا أعنتها فجاءت
عوابس والغبار لها بريم
فمضى الناس، والتقوا بالروم عند «مؤتة»، فأظهر المسلمون جرأة ما بعدها جرأة حتى قُتل زيد وهو يحمل الراية التي عقدها رسول الله له، فتناولها جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وقاتل عنها حتى إذا اشتد القتال اقتحم عن فرسٍ له شقراء فعقرها ثم قاتل حتى قُتِل، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد ويُنشِد، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قُتِل، فأخذ الراية ثابت بن أرقم العجلاني، فقال: يا معشر الناس، اصطلِحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء، فلما أخذ خالد الراية دافع القوم ثم انحاز وتحيَّزَ عنه حتى انصرف بالناس وانكفأ راجعًا، ولولا دهاؤه وبراعته لأتى الروم على كل جيش المسلمين، ولكن الله سلَّم، ولما دنا الجيش من المدينة تلقَّاه الرسول والمسلمون، ولقيهم الصبيان ينشدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر (رضي الله عنه)، فأُتي بعبد الله بن جعفر فحمله بين يديه، وجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون: يا فُرَّار، يا فُرَّار، فقال رسول الله: ليسوا بالفُرار، ولكنهم الكُرَّار في سبيل الله إن شاء الله.٢١
ولم يكد الرسول يستقر بعد فتح مكة والطائف حتى أخذ يعد العدة من جديد لغزو الشام والانتقام مما لقي المسلمون يوم «مؤتة»، ثم استنفر الناس لقتال الروم، وقد كان ذلك زمن عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار وأُحِبت الظلال، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه،٢٢ ولكن هذا كله لم يعق بين المسلمين وبين تلبية أمر المطاع الأمين ، فلبوا دعوته وجمعوا لهذه الغزوة الأموال الكثيرة، وأنفق كبار أغنياء الصحابة أموالًا جسامًا؛ فعثمان بن عفان أنفق في ذلك اليوم نفقةً عظيمة لم يُنفِق أحد أعظم من نفقته، وكذلك فعل عبد الرحمن بن عوف، وطلحة، وسعد. ولما استتبَّ برسول الله سفره وتم له ما يحتاج إليه في غزوته هذه وعزم على السفر، خلَّف عليًّا في أهله، واستخلف سباع بن عرفطة على المدينة، وسار في ثلاثين ألف مقاتل، ومر بالحجر حتى أتى «تبوك»، فلما وصلها أراح الجند وأخذ يستعد للقاء عدوه، فلما استقر هناك علمت أمراء النواحي العربية بمقدمه وعدده، فتوافدت عليه، وأول من قدم عليه «يُحنَّة بن رؤبة» صاحب «أيلة»، فصالح رسول الله وأعطاه الجزية، ثم جاء أهل «جرباء» و«أذرح» فأعطوه الجزية، وكتب لكلٍّ كتابًا.

ثم إن الرسول بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك الكندي أمير «دومة الجندل»، فلما قدم عليه صالحه وجاء به إلى رسول الله، فحقن دمه وخلَّى سبيله، ولم يقم الرسول في تبوك إلا بضع عشرة ليلة قفل بعدها إلى المدينة، ولم يستقر طويلًا حتى أخذ يعد العدة ليبعث بأسامة بن زيد إلى الشام، وكان من أمره ما ذكرناه سابقًا. ولما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى واستُخلف أبو بكر وأنفذ جيش أسامة فدخل الشام، ونفذ ما كان أمره به الرسول، رجع سالمًا غانمًا، ثم كان من أمر الردة ما ذكرناه.

(٤) تفصيل الأعمال العسكرية في عهده

بعد أن أطفأ أبو بكر نيران الردة رأى أن يتمم ما بدأ به رسول الله من نشر الدين الإسلامي في العراق والشام ومصر، فاختار أفضل القادة لهذا العمل الجليل ووجَّههم إلى الفتح، وكان أول عمل عسكري قام به في ديار الشام هو توجيهه بعث أسامة بن زيد بن حارثة إلى منطقة «أوبتي» وبلاد قضاعة في مشارف الشام للانتقام من قتلة زيد بن حارثة كما رأينا تفصيل ذلك في أخبار عهد الرسول. أما في عهد أبي بكر فقد رأينا أن أبا بكر عقد لواءً لخالد بن سعيد بن العاص ووجهه إلى مشارف الشام، ولكن أبا بكر لم يلبث أن عزل خالد بن سعيد، وتضطرب الروايات في سبب هذا العزل، وفي القول بأن خالدًا سار أو لم يسر.٢٣ ومهما يكن من أمر فإننا لم نسمع بشيء عن قيادة خالد بن سعيد في فتوح الشام الأولى.
يذكُرُ أكثر المؤرخين أن أبا بكر عقد أربعة ألوية لفتح الشام في أول السنة الثالثة عشرة للهجرة،٢٤ بعد مُنصرَفه من مكة إلى المدينة، وهي: «لواء» يزيد بن أبي سفيان بدلًا من خالد بن سعيد، «ولواء» شرحبيل بن حسنة، وأمرهما أن يتخذا طريق تبوك فالبلقاء، «ولواء» عمرو بن العاص، وأمره أن يسير بقرب الشاطئ إلى أيلة، «ولواء» أبي عبيدة عامر بن الجراح، وكانت عدة كل لواء ثلاثة آلاف، ثم تتالت إليه النجدات حتى تبلُغ سبعة آلاف، ويقول بعضهم: إن أبا عبيدة لم يسر في ذلك الحين بل أرسله أبو بكر نجدةً للقُوَّاد في معركة اليرموك. ومهما يكن من أمر فإن أبا عبيدة لم يظهر إلا في معركة اليرموك.٢٥

سارت جيوش المسلمين نحو سورية، وكان أول فتح تم على أيديهم هو فتح يزيد لتبوك؛ فقد دخلها ولم يلقَ فيها كبير عناء، ثم خلَّفها وراءه وسار حتى التلال التي تشرف على وادي عربة فعلم بمقدمهم البطريق سرجيوس قائد فلسطين المقيم في قيسارية «قيصرته»، فاستعد للقائه والتقى جمعاهما عند «وادي عربة» وانتصر يزيد واضطر سرجيوس إلى الانسحاب إلى غزة، فلحق به المسلمون وجرت بين الطرفين معركةٌ كُبرى في شباط سنة ٦٣٤م عند «دائن» من أعمال «غزة» قُتل فيها سرجيوس، وكاد المسلمون أن يُفنوا الجيش البيزنطي، فطاش صواب البيزنطيين وبلغت أخبار انهزامهم إلى مسامع الإمبراطور هرقل، فأمر أخاه الأمير «تذارق» تيودوروس أمير حمص أن يسير في جحفلٍ كبير إلى جنوبي دمشق ويحميها من العرب، كما أمر بعض القادة بحماية «القدس» و«قيصرية»، ويظهر أن عدم وجود خطة معينة للعرب في فتوح الشام جعل البيزنطيين يضطربون في الاستعداد لهم؛ لأن كل قائدٍ عربي كان يرتاد المنطقة التي يراها صالحة لغزوه.

وكانت أعظم معركة جرت بين الطرفين هي معركة «أجنادين» في تموز سنة ٦٣٤؛ فقد جمع البيزنطيون جموعهم ليلاقوا الفرق العربية التي أخذت تغزو ديارهم جنوبي فلسطين. ويظهر أن خالد بن الوليد قد شعر بأن القوم أخذوا يتجمعون للقائه، فكتب إلى أبي بكر يستنجده، فأجابه بأن يترك القيادة العراقية للمثنى بن حارثة ويتوجه نحو الشام كما أسلفنا، ولا نعرف بالضبط موعد سفر خالد ولا مقدار الجند الذي سار بهم من العراق إلى الشام ولا الطريق التي سلكها، أما عدد جنوده فالروايات تختلف في تقديرها بين العشرة آلاف وبين الخمسمائة، وأما موعد سفره فيُقال: إنه كان في المحرم، ويقال: بل في ربيع الثاني من سنة ١٣ﻫ، وأما الطريق التي سلكها من الحيرة إلى الشام فقد اختلفوا فيها جدًّا، ولعل أقرب تلك الروايات من الصحة ما يذكره الطبري بقوله: وجه أبو بكر خالد بن الوليد أميرًا على الأمراء الذين بالشام، وضمهم إليه، فشخص خالد من الحيرة في ربيع الآخر سنة ١٣ﻫ في ثمانمائة، ويقال: في خمسمائة، واستخلف على عمله المثنى بن حارثة، فلقيه عدوه «بصدوداء» فظفر بهم، وخلف بها ابن حرام الأنصاري، ولقي جمعًا «بالمصيخ» و«الحصيد» عليهم ربيعة بن بجير التغلبي، فهزمهم وسبى وغنم، وسار ففوَّزَ من «قراقر» إلى «شوى»، فأغار على أهل «شوى» واكتسح أموالهم وقتل حرقوص بن النعمان البهراني، ثم أتى «أرك» فصالحوه، وأتى «تدمر» فتحصَّنوا ثم صالحوه، ثم أتى «القريتين» فقاتلهم فظفر بهم وغنم، وأتى «حوارين» فقاتلهم فهزمهم وقتل وسبى، وأتى «فصم» فصالحه بنو مشجعة من قضاعة، وأتى «مرج راهط» فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى، ووجَّه بُسر بن أرطاة وحبيب بن مسلمة إلى «الغوطة» فأتوا «كنيسة» فسبوا الرجال والنساء وساقوا العمال إلى خالد.٢٦

ولما وصل خالد إلى الشام قصد «بُصرى» حيث التقى بيزيد وشرحبيل وأبي عبيدة، فعاونهم على فتح «بصرى» صلحًا، وكانت أول مدن الشام فتحت في عهد أبي بكر، ثم اتجه الجميع إلى الجنوب لينجدوا عمرو بن العاص في «وادي عربة»، على أن البيزنطيين لما علموا بقدوم الجيش الإسلامي غيَّروا أمكنتهم وقصدوا أجنادين.

(٤-١) معركة أجنادين

أجنادين (أجنابتين) كانت مدينة بين «الرملة» وبين «جبرين»،٢٧ وقد جمع البيزنطيون فيها قواتهم بقيادة «تيودوس» أخي الإمبراطور «هرقل»، ويختلف المؤرخون في عدد الجيش البيزنطي، فيقول البلاذري: إنه كان مؤلفًا من مائة ألف محارب، ويذكر لامنس أنه بضعة آلاف، فيقول: «إن تلك الآلاف القليلة من حاميات المدن وبعض الجنود الإمبراطورية التي لم تُدرَّب التدريب الكافي لم تكن تتوقع الهيبة في قلوب المسلمين.»٢٨ ولا ندري المصدر الذي نقل عنه لامنس هذا الخبر.

وقد كان التقاء المعسكرين في جُمادى الأولى عام ١٣ﻫ/تموز من عام ٦٣٤م، وقد انتصر المسلمون على قوات «بيزنطية» التي اضطروها إلى التراجع للقدس، وتختلف المصادر العربية في ذكر القائد العربي لهذه المعركة، فبعضها يذكر أن القيادة كانت لأبي عبيدة؛ لأن أبا بكر حين بعثه جعله قائدًا عامًّا لأمراء المسلمين في فتوح الشام، وبعضها يذكر أنها كانت لخالد. ومهما يكن من شيء فإن فوز المسلمين بهذه المعركة كان فوزًا مؤزَّرًا تشتت به شمل الروم البيزنطيين.

(٤-٢) معركة اليرموك الخالدة

بعد أن ظفر المسلمون في معركة «أجنادين» واضطروا البزنطيين إلى التراجع للقدس وقيصرته أخذوا يعدون العدة لضربهم ضربةً قاضية، ورأى خالد أن يحل قضية القيادة، فإنه لما وجد تفرق القيادات وسوء نتائج ذلك حشد القوم وخطبهم، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: «إن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبية على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن مَن وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به، وبالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته.» فقالوا له: وما الرأي؟ قال: «إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله؛ فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقص منه إن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه إن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينفعكم عند الله ولا عند خليفة رسوله، هلمُّوا فإن هؤلاء قد تهيَّئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلمُّوا، فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدًا، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم، ودعوني إليكم اليوم.»

فأمَّروه وخرجت الروم في تعبئة لم يرَ الراءون مثلها قط، وخرج خالد في تعبئة لم تُعبئها العرب قبلًا، خرج في ستة وثلاثين كردوسًا إلى الأربعين، وكان القاضي أبا الدرداء والقاص أبا سفيان بن حرب، وعلى الطلائع قباث بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود،٢٩ وكان في الجيش عددٌ كبير من عظماء المسلمين بينهم ألف من الصحابة، ومائة من أهل بدر، وكان القاص أبو سفيان يقُص بين الصفوف يُحرِّضهم على القتال والاستشهاد، ويصيح: الله الله إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا اليوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.

وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال له: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثُرُ الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، ثم نشب القتال وتطارد الفرسان.

وبينما المعارك ناشبة جاء صاحب البريد من المدينة فسألوه عن الخبر، فلم يخبر إلا بالسلامة — وإنما جاء بموت أبي بكر الصديق واستخلاف عمر، وعزل خالد، وتأمير أبي عبيدة، ثم إنه أبلغ خالدًا ذلك وأعطاه كتاب عمر، فأخذه وجعله في كفانته، وخاف إن هو أظهر ذلك أن تنتشر الفوضى، ثم إن خالدًا اشتد في القتال والاستبسال حتى صلى المسلمون إيماءً وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب حتى دخل في جند العدو وبين صفوفهم، وصار بين خيلهم ورجلهم، فأدار الخيَّالة ظهورهم للمسلمين وهربوا إلى الصحراء، أما الرجالة فقد سقطوا بين يدي المسلمين، كأنما هدم بهم حائط، وغنم المسلمون مغانمَ كبيرة، حتى كان سهم الفارس ألفًا وخمسمائة (رضي الله عنهم وأرضاهم)، وبعث فينا من يسير بنا لتطهير الأرض من المستعمرين والصهيونيين اليوم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير سبحانه.

١  الطبري: ٣، ٢١٣.
٢  تاريخ الطبري: ٣، ٢٢٢.
٣  تاريخ الطبري ٣، ٢٢٥.
٤  تاريخ الطبري: ٣، ٢٢٦-٢٢٧.
٥  تاريخ الطبري: ٣، ٢١٥–٢٢٠.
٦  تاريخ الطبري: ٣، ٤٤١.
٧  تاريخ الطبري ٣، ٢٥٩–٢٦١.
٨  تاريخ الطبري: ٣، ٢٦٣.
٩  تاريخ الطبري: ٤، ٦-٧.
١٠  تاريخ الطبري ٤، ١٣.
١١  تاريخ الطبري ٤، ١٤.
١٢  تاريخ الطبري ٤، ١٣-١٤.
١٣  تاريخ الطبري: ٤، ١٦.
١٤  تاريخ الطبري ٤، ٢٢.
١٥  تاريخ الطبري: ٤، ٢٤-٢٥.
١٦  تاريخ الطبري ٤، ٢٦.
١٧  تاريخ الطبري ٤، ٢٦.
١٨  الطبري: ٤، ٢١١٥، طبع أوروبا.
١٩  تاريخ سورية، للمطران الدبس ٤، ٥٥٢.
٢٠  تاريخ سورية للدبس ٤، ٥٥٣.
٢١  الطبري ٣، ١١٠.
٢٢  الطبري ٣، ١٤٢.
٢٣  الطبري: ٤، ٢٨، وفتوح الشام للبلاذري ص١٠٨.
٢٤  يرى بعض المستشرقين أن فتوح الشام ابتدأت في أواخر السنة الثانية عشرة، وأن لواء أبي عبيدة كان في السنة الثالثة عشرة كما في تاريخ سورية للأب لامنس ١، ٥٤.
٢٥  البلاذري، ص١٠٨، وتاريخ سورية، لامنس: ١، ٥٤، ودائرة المعارف الإسلامية: ١، ٩٠٤.
٢٦  تاريخ الطبري: ٤، ٤٩ … وفتوح البلاذري، ص١١٠.
٢٧  معجم البلدان، ١، ١٢٦.
٢٨  تاريخ سورية، لامنس ١، ٥٤.
٢٩  تاريخ الطبري، ٤، ٣٣-٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤