اتجاه جديد لنجيب محفوظ

«اللص والكلاب» — آخر عمل فني لنجيب محفوظ — هل نضعه في خانة القصة القصيرة الطويلة Long Short Story، أم نضعه في خانة الرواية القصيرة Short Novel؟ أكثر الذين تناولوا هذا العمل بالتحليل والنقد، أجمعوا على وضعه في الخانة الأولى، خانة اللون المطول من القصة القصيرة. من هنا — ومن وجهة نظري الخاصة — أراني مضطرًّا إلى مخالفة هذا الإجماع، والخلاف بعد ذلك يستند إلى المقاييس النقدية، إذا ما وضعنا هذه المقاييس بالنسبة إلى العمل الفني موضع التطبيق.

حجة الذين قالوا عن «اللص والكلاب» إنها قصة قصيرة طويلة، أن مجرى الأحداث فيها يسير في خطٍّ واحد، يشمل حياة البطل من البداية إلى النهاية. صحيح أن خط السير الواحد الذي تنبثق منه الأحداث والمواقف بالنسبة إلى الشخصية المرسومة، هو السمة الرئيسية للقصة القصيرة؛ ذلك لأننا إذا نظرنا إلى القصة القصيرة، على أنها قطاع حي من قطاعات الحياة، فهو بلا شك ذلك القطاع الطولي الممتد الذي يقدم إلينا التجربة المعاشة، من خلال مجموعة متلاحقة من اللحظات الزمنية والنفسية، تتركز حدثيًّا وموقفيًّا في اتجاه واحد.

وعبر الرؤية النقدية ونحن في مجال التحديد والمقارنة، نستطيع أن نشبِّه القطاع الطولي الممتد — وهو عماد القصة القصيرة — بالمجرى الرئيسي للنهر، حين يندفع إلى الأمام وحده بغير روافد، بغير تلك القطاعات العرضية التي تصب في المجرى وتكتنفه، وتضاعف من قدرته على التدفق. الفارق الفني بين القصة القصيرة والرواية القصيرة يتمثل في تلك الروافد، في تلك القطاعات العرضية التي تقوم بدور التكثيف والتعميق وتوليد طاقة الاندفاع. هناك — أعني في القصة القصيرة — مسار واحد للأحداث والمواقف، وهنا — أعني في الرواية القصيرة — مجموعة مسارات تبدو عبر رؤية النقد، وهي موزعة من الناحية الاتجاهية بين الطول والعرض. هذا المسارات لا يمكن أن تجدها مثلًا في قصة «لعبة الشطرنج» أو «رسالة من امرأة مجهولة» للكاتب النمساوي ستيفان زفايج؛ لأن كلتيهما تدخل في خانة القصة القصيرة الطويلة، وتمثل خط السير الواحد لنمو التجربة التي تعيشها الشخصية.

إذا رجعنا إلى «اللص والكلاب» بعد هذا التحديد فماذا نجد؟ نجد شخصية رئيسية مأزومة هي شخصية سعيد مهران؛ الأحداث والمواقف كلها تعبر عن أزمته، تعبِّر بحركة الوجود الداخلي وحركة الوجود الخارجي، على مدار التفاعل المشترك بين تأثرية الشعور ومادية السلوك. وعلى امتداد القطاع الطولي الذي يعرض لنا الملامح الوجهية لأزمة البطل، أو المجرى الشعوري والسلوكي لنهر حياته المندفع في صخب الضياع والتمرد، يلوح لنا على جوانب النمو عدد من القطاعات المستعرضة؛ عدد من الروافد المكثفة لأزمة سعيد مهران.

لقد كانت أزمة البطل منذ البداية، نابعة من تنكر الابنة وخيانة الزوجة وغدر الصديق؛ سناء ونبوية وعليش، هم صنَّاع هذه التركيبة النفسية المأزومة لبطل القصة، ومن الممكن لو أردنا لرواية «اللص والكلاب» أن تكون قصة قصيرة، أن نمضي بالأحداث والمواقف في حدود خطٍّ طولي واحد، يسير في اتجاه تلك الشخصيات، ولكن العمل الفني خرج عن هذه الحدود إلى حدودٍ أخرى جانبية، ليصل بنا إلى مرحلةٍ معينة من التكثيف النفسي لأزمة البطل؛ ومن هنا تكتسب «اللص والكلاب» أبعادًا موضوعية جديدة عمادها تلك التعريجات المتنوعة على طول الطريق؛ وبذلك ننتقل معها من المستوى التحديدي للقصة القصيرة، إلى المستوى التحديدي الآخر لفن الرواية.

التعريجات المتنوعة أو القطاعات أو الروافد الجانبية، هي على التوالي: رجل الدين الشيخ علي الجندي، ورجل الصحافة رءوف علوان، وامرأة الليل أو البغي الفاضلة نور. أولئك الذين يلعبون أدوارًا رئيسية على مسرح الأحداث. لقد التمس سعيد مهران حلًّا لأزمته عند رجل الدين — صديق والده — فلم يظفر إلا بمجموعةٍ من التهويمات الصوفية والعبارات المبهمة، والتمس نفس الحل عند رجل الصحافة — رفيق صباه — فلم يظفر بغير النفور والإعراض وتأليب رجال الأمن عليه. وعندما خذله الشرفاء أنصفه غير الشرفاء، أنصفته نور عندما اتخذ من بيتها وقلبها مأوًى له … ومع ذلك، فبقدر ما تذوق في رحابها طعم الوفاء، تذوق مرارة الأزمة: خانته الزوجة ووفَت له البغي؛ أي مفارقة يعدها له القدر؟! وعندما اهتز قلبه لأول مرة بعاطفة حقيقية نحو إنسانة، وكانت هذه الإنسانة هي نور، أدرك أن وجوده قد وصل — في مرحلة صعود لا تتوقف — إلى قمة العبث. إن الكلاب تطارده، وتتربص به، وتسد عليه المسالك؛ لا فائدة إذن من أن يبوح لها بحبه وعرفانه للجميل. إن حياته كلها قد غدت وهي تحمل معنى اللاجدوى، وكل الطرق أمام أحلامه قد أصبحت مغلقة!

«أبي كان يفهمك. كم أعرضت عني حتى خلتك تطردني طردًا، ورجعت بقدمي إلى جو البخور والقلق، هكذا يفعل موحش القلب الذي لا بيت له! وقال سعيد مهران للشيخ علي الجندي: مولاي، قصدتك في ساعة أنكرتني فيها ابنتي!

فقال الشيخ متأوِّهًا: يضع سره في أصغر خلقه!

فقال جادًّا: قلت لنفسي إذا كان الله قد مد له في العمر فسأجد الباب مفتوحًا.

فقال الشيخ بهدوء: وباب السماء كيف وجدته؟

– لكني لا أجد مكانًا في الأرض، وابنتي أنكرتني …

– ما أشبهها بك!

– كيف يا مولاي؟

– أنت طالب بيت لا جواب.

– ليس بيتًا فحسب، أكثر من ذلك، أود أن أقول: اللهم ارضَ عني!

فقال الشيخ كالمترنم: قالت المرأة السماوية: أما تستحي أن تطلب رضا من لست عنه براضٍ!

– مولاي، ماذا كنت تفعل لو ابتليت بمثل زوجي، ولو أنكرتك كما أنكرتني ابنتي؟

فلاحت في العينين الصافيتين نظرة رثاء وقال: العبد لله لا يملكه مع الله سبب!»

•••

«هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب؛ تخلقني ثم ترتد، تغير بكل بساطة فكرك بعد أن تجسد في شخصي، كي أجد نفسي ضائعًا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل؛ ترى أتقر بخيانتك ولو بينك وبين نفسك، أم خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟ ألا يستيقظ ضميرك ولو في الظلام؟ أودُّ أن أنفذ إلى ذاتك كما نفذت إلى بيت التحف والمرايا؛ بيتك، ولكني لن أجد إلا الخيانة. سأجد نبوية في ثياب رءوف، أو رءوف في ثياب نبوية، أو عليش مكانهما، وستعترف لي الخيانة بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض. كذلك أنت يا رءوف، ولكن ذنبك أفظع يا صاحب العقل والتاريخ، أتدفع بي إلى السجن وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا؟ أنسيت أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى!»

•••

«لن يرى نور مرة أخرى، وخنقه اليأس خنقًا؛ ودهمه حزن شديد الضراوة، لا لأنه سيفقد عما قريب مخبأه الآمن؛ ولكن لأنه سيفقد قلبًا وعطفًا وأُنسًا؛ وتمثَّلت لعينيه في الظلمة بابتسامتها ودعابتها وحبها وتعاستها فانعصر قلبه؛ ودلت حاله على أنها كانت أشد تغلغلًا في نفسه مما تصور، وأنها كانت جزءًا من حياته الممزقة المترنحة فوق الهاوية، وأغمض عينيه في الظلام واعترف اعترافًا صامتًا بأنه يحبها!»

الحياة ظلام ووحدة وضياع وعبث؛ ما أكثر هذه الشعارات «الوجودية» التي تصنع الإطار النفسي لأزمة سعيد مهران، وتنتشر كَلَافِتات موجهة في ثنايا الكثير من صفحات «اللص والكلاب»! إننا نستنشق من خلال المضمون — وفي مجال الانعكاس التأثيري لأزمة الوجود — شيئًا من عطر ألبير كامي، ونستنشق من خلال التكنيك السردي — وفي مجال التعبير عن واقعة مجرى الشعور — شيئًا آخر من عطر سارتر؛ ولنستعرض هذين النموذجين من «سن الرشد» ومن «اللص والكلاب»:

ولم يعد ماتيو يصغي، كان خجلًا أمام هذه الصورة للألم، كان يدرك جيدًا أنها لم تكن إلا صورة، ولكن مع ذلك؛ «لست أعرف أن أتألم. إنني لا أتألم أبدًا بما فيه الكفاية.» كان أشق ما في العذاب أنه كان شبحًا، وأن المرء يقضي وقته في الجري خلفه، ويحسب دائمًا أنه سيدركه ويرتمي في داخله، ولكنه ما إن يسقط فيه حتى يفر؛ «إنني أكذب.» كان انهياره وانتحابه أكاذيب وفراغًا، كان قد قذف بنفسه في الفراغ، على سطح نفسه، ليفلت من ضغط عالمه الحقيقي، عالم أسود شديد الحرارة يُنتن الأثير. وكانت مارسيل هي التي ستكون هالكة، إذا لم يجد خمسة آلاف فرنك قبل اليوم التالي، ستكون هالكة حقًّا وبلا جدوى؛ في ذلك العالم لم يكن العذاب حالة نفسية، ولم تكن ثمة حاجة إلى الكلمات للتعبير عنه، وإنما كان مظهرًا للأشياء؛ تزوجها أيها البوهيمي المزيف، تزوجها يا عزيزي، لماذا لا تتزوجها؟ أراهن أنها ستموت من ذلك.

في هذا النموذج من التكنيك السردي لواقعية مجرى الشعور، استخدمت الضمائر الثلاثة في عملية العرض الداخلية لأزمة «ماتيو» بطل سارتر، وسنرى نفس الظاهرة التكنيكية بالنسبة إلى أزمة «سعيد مهران» بطل نجيب محفوظ:

ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويًا على الأسرار اليائسة، هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة والعابرون والجالسون والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة، وهو واحد، خسر الكثير حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرًا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديًا. آن الغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفِّر عن سحنتها الشائهة. نبوية؛ عليش، كيف انقلب الاسمان اسمًا واحدًا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديمًا ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقضُّ في الوقت المناسب كالقدر. استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة، ويطير في الهواء كالصقر، ويتسلق الجدران كالفأر، وينفذ من الأبواب كالرصاص.

استخدمت الضمائر الثلاثة هنا وهناك: ضمير الغائب وضمير المتكلم وضمير المخاطب، في شريحةٍ تحليلية واحدة هدفها تعرية الوعي الباطن تعرية كاملة، حتى نستطيع أن ندرك حقيقته من خلال النظرة المصوبة إلى مختلف زواياه. من ضمير الغائب نستطيع أن نستخلص من الكاتب معالم الجو النفسي الذي تعيش فيه الشخصية، ومن ضمير المتكلم نستطيع أن نحصل من الشخصية على نوعٍ من الاعتراف الذاتي المفسِّر لطبيعة وجودها الداخلي، ومن ضمير المخاطب نستطيع أن نترقب خطوات سلوكها الحركي منتظرًا لما يدور بداخلها من طاقة انفعالية.

يتفق النموذجان من ناحية الهدف الفني لاستخدام الضمائر الثلاثة، ثم يختلفان بعد ذلك من ناحية المستوى التلويني في التعبير عن مجرى الشعور عند البطلين، تبعًا لاختلاف المستوى العقلي عند هذا وذاك. لقد كان سارتر يقوم بعملية سياحة داخلية، في نفس مدرِّس للفلسفة واسع الثقافة هو «ماتيو»، بينما كان نجيب محفوظ يقوم بنفس الدور، بالنسبة إلى لصٍّ لم ينل إلا قسطًا ضئيلًا من التعليم وهو سعيد مهران!

ومضمون «اللص والكلاب» مضمون واقعي، وليس مضمونًا رومانسيًّا كما قرر ذلك أحد النقاد،١ واقعي في أحداثه ومواقفه، وإن كانت المواقف لم تخلُ من مذاق «وجودي» في بعض الأحيان. إن سعيد مهران بكل ميوله النفسية الناقمة، لم يكن إلا نمطًا إنسانيًّا صنعته ظروف ضاغطة، ظروف اجتماعية حددت خط سيره في طريق الحياة. وكل واحد منا لو نشأ نفس النشأة وتعرض لنفس الظروف؛ أعني لو نشأ محرومًا من كل الفرص التي تهيئ للفرد كرامة الشعور بأنه إنسان، ثم عرف خيانة الزوجة وتنكُّر الابنة وغدر الصديق وضياع كل وسائل الإنقاذ، لو قدر لكلٍّ منَّا أن يرتطم بكل هذه القوى المحطِّمة، فسيتحول قَطعًا إلى النمط «الواقعي» الذي يمثله سعيد مهران، وأقول «قطعًا» إذا كان هذا النمط شجاعًا لا يعرف الجبن. ومن هذه الزاوية نستطيع أن نتمثل حقيقة الوجود الداخلي لبطل «اللص والكلاب» من وراء هذه الكلمات: «إن من يقتلني إنما يقتل الملايين؛ أنا الحلم والأمل فدية الجبناء؛ أنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه.»

نجيب محفوظ واقعي في روايته القصيرة كما كان واقعيًّا في روايته الطويلة، وأعني بها ثلاثية «بين القصرين»؛ كل ما في الأمر أنهما نمطان من الواقعية: واقعية كلاسيكية تُعنَى بالتفصيلات الكثيرة، وتحاول أن ترصد كل شيء وأن تفسر كل شيء، وتهتم بالترتيب الزمني للأحداث، وواقعية تساير روح العصر فتُحِلُّ التركيزَ محلَ التفصيل، وتستغني بالرمز عن الشرح وبذكاء القارئ عن مهمة التفسير، وهي في النهاية تستبدل بالترتيب الزمني للأحداث لونًا من الترتيب الشعوري، الخاص بنظرة البطل إلى خريطة التضاريس النفسية لحياته.

واقعية الأمس وواقعية اليوم عند نجيب محفوظ، أشبه بمن يصحبك إلى بيتٍ كبير ليطوف معك بكل حجرة من حجراته؛ وفي كل حجرة يقف بك وقفة طويلة ليصف لك كل ما بها من محتويات. جهد عظيم بلا شك؛ جهد الخبرة والمعرفة والصبر الطويل، ونقل هذه الخبرة إليك بصورةٍ أمينة وكاملة. ولكن عيب هذه الطريقة أن الكاتب لا يُشركنا معه، لا يترك لنا فرصة التأمل الذاتي في أن نكتشف بأنفسنا ما وراء كلماته أو ما بداخل حجراته، إنه يقول لنا كل شيء، ومن الأفضل ألا يقدم لنا الكاتب كل ما عنده، وأنا أقصد الكاتب الروائي بالذات؛ ذلك لأن الرؤية الموحية في رأيي أكثر تجسيدًا للمشكلة المعروضة من الرؤية المباشرة، ومن هنا كانت الواقعية الرمزية أعمق إثارة للوجود الذهني عند القارئ من الواقعية التصويرية. إن الإيحاء — وبخاصة عن طريق الرمز — أشبه بباب نصف مفتوح، باب يغرينا بأن نحاول فتحه على مصراعيه، لنكتشف ما وراءه من ممرات تقودنا إلى الحقيقة، ثم هو بعد ذلك يدفعنا بحماسة إلى أن نلتمس للرمز أكثر من تفسير، وقد نصل إلى تفسيرٍ معين لم يخطر للكاتب الروائي في بال، وقد يتفوق تفسيرنا على المعنى الذي استقر عليه هو من وراء رمزيته، وبذلك يكتسب العمل الفني الناضج مزيدًا من الأبعاد.

وهكذا فعل نجيب محفوظ في «اللص والكلاب»؛ فقدم إلينا اللون الواقعي الملائم لروح العصر، ترك لنا حرية التفسير والتبرير لسلوك شخصياته، وحرية الحكم عليها كأنماط بشرية تعيش في مجتمعنا، أو كرموز إيحائية لمشكلات يعرفها نفس المجتمع. إن شخصيات الشيخ علي الجندي ورءوف علوان ونور ونبوية وعليش، يصلح بعضها أن يكون نمطًا، ويصلح بعضها الآخر أن يدخل في نطاق الرمز؛ الرمز إلى كيان موضوعي لمشكلة معينة. نبوية مثلًا نمط، نمط من النساء تندرج تحته كل امرأة فارغة العين، لا تستقر نظرتها إلا على كل رجلٍ يملأ عينيها ببريق الغواية. وعليش هو الآخر نمط، نمط من الناس يندرج تحته كل رجل فارغ المروءة، لا يستعذب العدوان إلا على من أحسن إليه. ونور في رأيي رمز؛ لا للوفاء كما هو ظاهر من دلالة السلوك، ولكنها رمز لمفارقات الحياة الضخمة، حين تتحول المفارقة في حياتنا إلى مشكلة؛ وجوهر المفارقة أننا نلجأ أحيانًا إلى الشرفاء والمثاليين، نلتمس عندهم الإنقاذ والخلاص، فلا ينقذنا — أو يتعاطف معنا على الأقل — غير الضائعين أو الذين هم في رأينا لا شرف لهم. ورءوف علوان مثلًا هو الرمز الكبير لكل هؤلاء الذين يتظاهرون بالمثالية والتمسك بالقيم، حتى إذا ما حققوا مآربهم من وراء هذا التظاهر، بدت وجوههم على حقيقتها وهي خالية من زيف المساحيق. ويبقى الشيخ علي الجندي كرمز أخير لمشكلة؛ مشكلة التدين. يتحول مفهوم الدين عند بعض الناس إلى نوعٍ من الغيبوبة العقلية، التي تواجه واقع الحياة ومشكلات الأحياء بالمنطق المترنح والفكر النائم. إن الدين في تعامله مع الحياة — وبخاصة حياتنا المتطورة المعقدة — يجب أن يكون صحوة عقل … صحوة مرنة واعية تفتح الباب أمام اجتهاد المسارية لروح العصر، بغير إحراج للدين وبغير إحراج للحياة، وهذا — في اعتقادي — هو ما يريد أن يقوله لنا نجيب محفوظ.

ولا أعتقد أن نور، من حيث التسمية وكما قال بعض النقاد٢ كانت رمزًا لجانب النور في حياة سعيد مهران؛ لأن نجيب محفوظ لو كان قد عني برمزية الأسماء، ما اكتفى بشخصية واحدة دون بقية الشخصيات؛ أعني أنه كان يختار أيضًا الاسم الرمزي المناسب لبطل القصة، وللشيخ علي الجندي ونبوية وعليش ورءوف علوان، تبعًا لدلالة التسمية على المضمون الوجودي للشخصية. وما أعتقده عن رمزية الأسماء ينطبق على رمزية الأماكن؛ إن القرافة التي يطل عليها بيت نور، ليست رمزًا للدنيا يلتقي فيها الموت بالحياة،٣ وليست رمزًا للتيه والضياع،٤ وما أظن أنها كانت عند نجيب محفوظ رمزًا لأي شيء؛ ولم لا نقول — كتفسير للموقف — إن طبيعة الحياة التي كانت تحياها نور كامرأة رقيقة الحال محدودة الدخل، هي التي فرضت عليها أن تسكن في ذلك المكان المتواضع الذي يتناسب ودخلها المحدود؟ لقد عادت يومًا إلى سعيد مهران وهي باكية وبغير طعام لها وله؛ كانت عند بعض الطلبة الذين ضربوها وهي تطالبهم بالحساب. وإذا كان سعيد مهران قد عاش لحظات، وهو يفكر في الحياة والموت، كلما نظر من النافذة المطلة على القرافة، فهي خواطر طبيعية جدًّا تراودنا جميعًا، كلما وقعت أبصارنا على مشهد القبور؛ إن الرمزية في «اللص والكلاب» رمزية شخصيات ومواقف، وليست رمزية أسماء وأماكن.

وننتقل بعد ذلك إلى لغة الحوار؛ من المعروف عن نجيب محفوظ، أنه يحرص على وضع حواره في قالب الفصحى المبسطة، بل ويحرص في الوقت نفسه على التقريب بين هذه الفصحى وبين لغة الحياة اليومية؛ ليحافظ — بقدر الإمكان — على واقعية اللغة المنطوقة من جهة، وليطمئن — من جهةٍ أخرى — على أنه قد تخطى العقبات التي تحول بينه وبين القراء العرب في مختلف الأقطار، وهي العقبات الناتجة من اختلاف اللهجات المحلية هنا وهناك. موقف له مطلق الحرية في أن يتمسك به كوجهة نظر خاصة، تمثل علاقته العاطفية باللغة، وتمثل في الوقت نفسه علاقته الجماهيرية بالقارئ؛ وأعني به القارئ العربي في كل مكان.

حين تبصر نور سعيد مهران مثلًا واقفًا ينتظر فتقول له: «أنت؛ يا كسوفي؛ انتظرت قليلًا؟» نواجه الجملة الحوارية التي قلنا عنها أنها تحافظ على واقعية اللغة المنطوقة، على الرغم من أنها مكتوبة بالفصحى المبسطة. وكثير جدًّا من جمل نجيب محفوظ يتميز فيها بالقدرة الفائقة على صبِّها في مثل هذا القالب، ولكنه — في أحيانٍ قليلة — تخونه هذه القدرة؛ تخونه مثلًا عندما يقول الشيخ علي الجندي، وقد صمت مليًّا ثم مسح على لحيته: أنت تعس جدًّا يا بني.

فيتساءل سعيد مهران في قلق: لِمَه؟

ترى أيمكن أن تكون هذه هي واقعية اللغة المنطوقة، بالنسبة إلى رجلٍ من طراز سعيد مهران؟

إن اللغة الأصيلة للشخصية في الحوار القصصي، تحمل في ثناياها أكثر من دلالة؛ تحمل دلالة المستوى النفسي ودلالة المستوى العقلي ودلالة المستوى الاجتماعي لهذه الشخصيات، بالإضافة إلى وجوب التزامنا للواقع التعبيري بالنسبة إلى لغة الحديث؛ ذلك لأن التركيبة النفسية لأي نموذج إنساني، من شأنها أن تطبع سلوكه الحركي والكلامي بالطابع الملائم لاتجاهها الداخلي. وكذلك الأمر فيما يختص بالتكوين العقلي لهذا النموذج، حين نلاحظ التلوين بين المنابع الذهبية وخطوط الاتجاه اللفظي كانعكاس مباشر، وما نقوله هنا نقوله مرة أخرى عندما نتحدث عن ظاهرة التفاعل، بين الوسط الاجتماعي للشخصية وبين منطق التعبير.

لقد قدم نجيب محفوظ في «اللص والكلاب» تجربة مفيدة، وأهم ما فيها من جديدٍ هو التكنيك … ومعنى هذا أن نجيب محفوظ يتطور، ويساير روح العصر، ويثبت أنه موفور الرصيد من تجارب الفن وتجارب الحياة.

١  لويس عوض في الأهرام.
٢  يوسف الشاروني في «الآداب».
٣  لويس عوض في «الأهرام».
٤  شكري عياد في «المساء».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤