سجين السرداب

كان تحرك الحجر والسؤال كافيَيْن لإصابة «محب» بذهولٍ تام … فكيف تحرَّك الحجر؟ … ومن المتحدث؟ إن هذا ليس صوت «الطيب» كما يذكره … فمن هو المتحدث؟ … وهل هو شخص مدسوس عليه حتى يعرف حقيقته، وما يبحث عنه؟! ظل «محب» مترددًا فترة ثم سمع الصوت يسأل من جديد: من أنت؟

رد «محب» بصعوبة: إنني «محب».

الصوت: إن هذا ليس صوت رجل كبير.

محب: إنني صبي في الرابعة عشرة من عمري.

الصوت: وماذا تفعل هنا؟

محب: إنني سجين … لقد قبض عليَّ أحد رجال «سيف» وأنا في الحديقة ثم سجنني هنا.

الصوت: «سيف»؟! … هل تعرفه؟

محب: لا … هذه أول مرة أراه فيها عن قرب!

الصوت: إنه ليس «سيف» أو هو «سيف» مزيف … إنني أنا «سيف» صاحب هذا القصر والوريث الحقيقي لأسرة «سيف» …

محب: شيء مذهل! … ولماذا أنت هنا؟

الصوت: إنها قصة طويلة … المهم ماذا تعرف عن هذا القصر؟ ولماذا دخلته؟

محب: إنها قصة طويلة أيضًا … ولكني سأشرح لك المسألة بإيجاز … إنني عضو في مجموعة من المغامرين الصغار نسمي أنفسنا «المغامرون الخمسة» وقد سافر ثلاثةٌ منا إلى الإسكندرية … وبقيت أنا وشقيقتي «نوسة» وهي عضو في المجموعة … بقينا في المعادي لأننا انتقلنا مؤخرًا إلى فيلا مقابل القصر.

سيف: هل انتهت هذه الفيلا؟ لقد سمعت عنها وهي تُبنى!

محب: نعم انتهت … وسكنا فيها … وذات يوم تعرفت بجنايني يدعى «الطيب» يعمل في هذا القصر … وفي اليوم التالي اختفى، وعلمت أن أصحاب القصر اتهموه بسرقة مجموعةٍ نادرةٍ من طوابع البريد … وقد حزنت عليه جدًّا فلم أكن أتصور أنه لص.

سيف: معك حق … إن «الطيب» رجل أمين ولا يمكن أن يسرق … ولكن هل ظهر بعد ذلك؟

محب: لا، لم يظهر … رغم أن رجال الشرطة يبحثون عنه في كل مكان.

سيف: إنهم لن يعثروا عليه مطلقًا … فمن المؤكد أنه سجين في أحد السراديب مثلي ومثلك!

محب: ولكن لماذا اتهموه بالسرقة، ولماذا سجنوه؟

سيف: لأنه كاد يكشف سرهم … إن «الطيب» هو الرجل الوحيد الباقي من الذين كانوا يعملون معي قبل سفري إلى الخارج … وقد تركت القصر في رعايته لحين عودتي … وعندما استولوا على القصر في غيبتي لا بد أنه شك فيهم … ولما كاد الشك يتحول إلى يقين اتهموه بالسرقة وبالهرب من وجه العدالة ثم سجنوه في السراديب الكثيرة التي تحت القصر حتى يجدوا فرصة للتخلص منه.

محب: وهل يعرفون أسرار هذه السراديب؟ … لقد لاحظت أنهم يبحثون في أرض الصبار عن فتحة سرداب!

سيف: إنهم لا يعرفون سر كل السراديب … وقد حاولوا أن يجعلوني أبوح بالسر ولكني رفضت؛ لأن هذه السراديب بها تحف كثيرة تساوي مئات الألوف من الجنيهات وهدفهم أن يسرقوها ثم يتركوا القصر ويهربوا.

محب: ولكني شاهدت سيارة نقل أثاث تأتي إلى القصر بين ليلة وأخرى … تأتي فارغة وتخرج محملة … ولا بد أنهم عثروا على السراديب!

سيف: لقد عرفوا أماكن السراديب التي لها أبواب من داخل القصر … وهذه بها بعض التحف والأثاث الثمين … ولكن أهم التحف موجودة في سراديب خفية لا يعرفها أحد إلا أنا.

وسمع «محب» صوت أقدام فوق السرداب فقال بسرعة: إنني أسمع أقدامًا، فأعد الحجر إلى مكانه، ولا تفتح إلا عندما أدق لك على الحائط.

وبسرعة عاد الحجر إلى مكانه … وابتعد «محب» عن مكانه مسافة كافية وبعد لحظات فتح الباب ودخل مدرب الكلاب وقال: إننا نُعطيك مهلةً حتى المساء لتفكر وتقول لنا لماذا جئت إلى هنا، وكل المعلومات التي تعرفها عنا … فإذا لم تفعل فسوف تختفي إلى الأبد ولن يعرف أحدٌ مكانك لا فوق الأرض ولا تحتها … ففكِّر جيدًا!

ثم خطا المدرب إلى الخارج فقال «محب»: إنني جائع وعطشان!

قال المدرب وهو يضحك في قسوة: لا أكل ولا شرب إلا إذا قلت كل شيء!

ثم خرج وأغلق الباب خلفه وهو ما زال مستمرًّا في الضحك … وانتظر «محب» فترةً حتى تأكَّد من انصرافه تمامًا ثم ذهب إلى قرب فتحة التهوية حيث كان يجلس، واستند إلى الجدار، ودق بكعب البطارية، وسرعان ما بدأ الحجر يتحرك، وسمع صوت «سيف» يقول: هل انصرف؟

رد «محب»: نعم، بعد أن هددني بأنني إذا لم أتحدث حتى مساء اليوم فسوف ينتقمون مني.

سيف: هل تتوقَّع أن يبحث عنك أحدٌ هنا؟

محب: إن الشخص الذي يمكن أن يبحث عني موجودٌ بالإسكندرية وهو زميلي «توفيق»، ولا أدري ماذا يفعل الآن … وقد كنا نتبادل الخطابات وانقطعت عن الكتابة إليه منذ ثلاثة أيام، فلم يكن عندي معلومات جديدة أرسلها إليه … كذلك أسرتي تبحث عني وإن كانوا قد اعتادوا على غيابي بين فترةٍ وأخرى.

سيف: هل زميلك هذا من المغامرين الخمسة الذين حدثتني عنهم؟

محب: نعم، إنه زعيم المجموعة.

سيف: إذا كان زعيمًا حقًّا فسوف يحضر للبحث عنك، فهل عنده معلوماتٌ كافية عن القصر وما فيه؟

محب: عنده معلومات لا بأس بها … وبعض الشكوك عن سكان القصر.

سيف: علينا أن نحاول الهرب قبل مساء اليوم، فإنني أخشى عليك من انتقامهم … إنهم مجموعةٌ من المجرمين المجردين من الضمير والرحمة.

محب: ولكن ما هي حكايتهم بالضبط؟ وما الذي أتى بهم إلى هنا؟ وكيف استولوا على القصر بهذه الصورة؟

سيف: إنها كما قلت لك قصة طويلة … ونحن الآن قرب الفجر كما أتوقع … ألا تنام؟

محب: وكيف أنام في هذه الظروف … وهذه الأرض الرطبة وأنا جائع؟!

سيف: جائع! إن عندي بعض بقية طعام العشاء الذي أحضروه لي … هل تأكله؟

محب: إذا سمحت … فإنني جائع جدًّا.

وشاهد «محب» يد «سيف» وهي تمتد من الفتحة تحمل إليه قطعةً من الجبن ونصف رغيف، أخذ يلتهمها بلذةٍ وهو يستمع إلى قصة «سيف» العجيبة.

قال «سيف»: ورثت هذا القصر عن أبي أنا وشقيقة لي تعيش في الخارج وقد نلت درجة علمية كبيرة في العلوم، كنت من هواة الأبحاث الكيميائية، فأعددت معملًا لي في القصر وأخذت أجري تجاربي … حتى جاء يوم مشئوم انفجرت فيه إحدى الأنابيب في وجهي وأصابت عيني وذهبت ببصري … وبدأت أتردد على الأطباء أُجري مختلف العمليات دون جدوى حتى سمعت منذ أربع سنوات عن طبيب عالمي في إسبانيا يجري عمليات ناجحة فذهبت إليه وظللت أعالج فترة طويلة، وبدأت أسترد بعض بصري … وهناك تعرفت بشاب وثقت به جدًّا، وعرف قصة حياتي كلها والقصر الذي أملكه والكنوز به … ووعدته أن أعينه عند عودتي سكرتيرًا لي يرعى شئوني ووعدته بمرتب كبير … وعندما تقرَّر خروجي من المستشفى عرض عليَّ هذا الشاب واسمه «خيري»، أن يسبقني إلى القصر لإعداده لحضوري، فلم أتردد في إعطائه كافة المفاتيح الخاصة بغرف القصر وكنت أحملها معي … وسبقني إلى هنا … وأمضيت شهرًا عند أختي قبل عودتي … وكان الطبيب قد نصحني بعدم السفر بالطائرة حتى لا تتأثر عيني … وهكذا ركبت السفينة إلى الإسكندرية بعد أن أبرقت إلى «خيري» لانتظاري وقد انتظرني فعلًا، ولكن أي انتظار!

وسكت صوت «سيف» لحظات ثم عاد يقول: انتظرني على محطة الركاب في الإسكندرية، ودعاني إلى البقاء هناك يومين في منزله كما ادعى، وكنت أتعاطى بعض الأدوية عن طريق الحقن … وطلبت منه إحضار ممرض لإعطائي الحقن … وفعلًا في الليل أحضر ممرضًا أعطاني حقنة … بعدها لم أعرف أين أنا … فقد كانت حقنة مخدرة … ولا أدري كيف نقلني إلى هنا، ولكني عندما أفقت من تأثير المخدر وجدت نفسي في هذا السرداب. وقد حرمني «خيري» من تعاطي الدواء مما أدَّى إلى انتكاس العملية وعاودني العمى … وأخبرني «خيري» أنَّه تقمَّص شخصيتي واستولى على أملاكي … وطلب مني أن أخبره عن سر السراديب التي بها تحف أجدادي، وهي كما قلت لك تساوي مئات الألوف من الجنيهات، ولكني رفضت … وقد هددني كثيرًا بالقتل ولكني لم أخف … فليس هناك فارق بين موتي وحياتي بهذه الحالة.

وعاد «سيف» إلى الصمت لحظات ثم قال: إنني أعرف طريقة لإخراجك من السرداب الذي أنت به … ولكن أخشى أن يروك … فماذا ترى؟

محب: إنني على استعداد للمغامرة … وليحدث ما يحدث.

سيف: لقد كان في إمكاني أن أخرج من السرداب … ولكني متأكد أنهم مستيقظون دائمًا … وسوف يصيدونني بالقوة أو يقتلونني فإنني أعمى ولا أرى … وإن كنت أحفظ مداخل السراديب ومخارجها.

محب: إنهم يحاولون معرفة مداخل السراديب ومخارجها … خاصة في المدخل الذي في حديقة الصبار.

سيف: إنهم لن يستطيعوا فتحه من الخارج مطلقًا إلا بطريقةٍ خاصةٍ لا يعرفها أحدٌ سواي … كما أنني الوحيد الذي يعرف كيف يفتحه من الداخل.

محب: لا بد إذن أن نحاول!

سيف: قد نحاول ليلًا … ولكن النهار الآن طلع، وهم جميعًا مستيقظون وسوف يروننا حتمًا.

محب: وماذا نفعل؟ هل نبقى هنا حتى نُقتل؟

سيف: دعني أفكر قليلًا، وسوف أغلق الحجر مؤقتًا فقد يأتي أحدهم للتفتيش علينا كما يفعلون عادة … فإلى اللقاء.

محب: إلى اللقاء.

وسمع «محب» صوت الحجر وهو يعود إلى مكانه وعاد الصمت من جديدٍ يلفُّ المكان …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤