سيدة فرسايل المجهولة

في يوم من شهر مايو سنة ١٨٥٨ احتشد جمهور غفير أمام منزل عليه رقم ١١ من شارع مارشه الجديد في حي سنت لويس من فرسايل يتلُون بمزيد الدهشة والاستغراب ورقةً كبيرةً مكتوبًا عليها بيان تركة رجل معدَّة للبيع، وهذا الرجل كان في حياته كلها معروفًا باسم الآنسة هنريت جني سافليت دي لانج. وقد أمعنوا في القهقهة والضجيج ساخرين من الأشياء المعروضة للبيع، «بينها أدوات زينة امرأة وثلاثين حلة معظمها من الحرير وغيرها.»

ولو أن صاعقة انقضت على فرسايل لكان ذعر سكانها أقل جدًّا من ذعرهم حين علموا أن الآنسة دي لنج كانت رجلًا! ولم يكن في فرسايل من يجهل هذه الآنسة العجوز الهرمة الطويلة القامة الضاوية العجفاء، التي كانت في أواخر أيامها كالخيال من شدة النحول والهزال، وكانوا يرونها كل يوم في الأسواق والشوارع إما لشراء ما تروم ابتياعه وإما للتطوف والتجوال، ووراءها زرافات من الصبيان يزعجونها بصخبهم وضوضائهم.

فمَن كانت هذه المرأة المجهولة التي جالت بينهم كل يوم غير ملتفتة إلى أحد ولا حافلة بأحد؟ هذا سؤال ظلَّ سنين طويلة ملء الأفواه تردده الألسنة والشفاه، ولم يستطِع أحد أن يجيب عنه، وكانوا يعلمون أن لها أصدقاء كثيرين من ذوي المقامات الرفيعة والمناصب السامية.

والآن قد تُوفيت وزاد سر حياتها غموضًا وخفاءً. كانت الآنسة دي لانج رجلًا قضى هذه السنين كلها متنكرًا في زي امرأة، وتمكَّن من حفظ سرِّ التنكر مكتومًا. ولما ذاع بعد وفاته اتسع للناس مجال التكهن والتقوُّل والبحث عن حقيقة الرجل وأسباب تنكُّره، فزعم بعضهم أن هذه السيدة المجهولة لم تكن سوى دوفين (لقب ولي العهد في فرنسا سابقًا) الذي كان منذ سنين بعيدة قد فرَّ من سجنه، وذهب إلى حيث لا يعلم أحد عنه شيئًا، فلا يبعد والحالة هذه أن تكون الآنسة دي لانج لويس السابع عشر صاحب الحق الشرعي في عرش فرنسا؛ لأنها بالغة السن التي كان يجب أن يبلغها هو لو بقي حيًّا. وعلاوةً على هذا كله تذكروا المشابهة التي كانت بينها وبين والد دوفين أي لويس السادس عشر — الملك المقتول. وهذا الزعم تناقلته الألسنة، وسمع به سكان فرسايل فرَسَخَ في أذهانهم كلهم أن السيدة الخفية هي دوفين الضائع، الذي عاش بينهم عيشة الذل والشقاء وغيره — الذي اغتصبه عرشه — تمتع بما شاء من العظمة والمجد والرغد والصفاء.

ولكن هذا يخالف ما روته الآنسة عن نفسها؛ فإنها منذ خمسين سنة جاءت إلى باريس مدعية بأنها ابنة م. سافلت دي لانج الذي كان أمين الخزانة الملكية في عهد لويس الخامس عشر. وقالت إن أباها جرَّ الخراب على نفسه بأن أقرض الكونت دارتوي خمسة ملايين فرنك ومات فقيرًا متربًا، وغادرها بائسة تعيش على أبواب أهل النجدة والمرحمة. وبعد زوال عهد الذعر والإرهاب جعلت لها الحكومة راتبًا سنويًّا جزاء إخلاص أبيها وأمانته. وأعدَّت لها مسكنًا في قصر فرسايل. وهذا وذاك تعويض حقير عن ملايين الفرنكات، ولكن إذا كان الكثير خيرًا من القليل، فالقليل خير من العدم.

وكثيرون من عظماء رجال فرنسا وشريفات نسائها عطفوا على الآنسة دي لانج المنكودة الحظ، ومدوا إليها أيدي المساعدة ورحَّبوا بها في قصورهم وأنديتهم. وكان صوانها مفعمًا بالهدايا النفيسة الفاخرة من الأمراء والأميرات، وشملتها الملكة إميليا والأمير لويس نبوليون برعايتهما وجعلاها تحت حمايتهما.

ومع هذا كله لم يلُح على وجهها أقل شيء من علامات طيب النفس ونعيم البال، بل كانت على الدوام عرضة للقلق والانزعاج مذعورة مروَّعة ومسلوبة الراحة والطمأنينة، ولا تستطيع القرار في مكان واحد، بل كانت تنتقل من محل إلى آخر في باريس وفرسايل كالحركة الدائمة التي لا تعرف السكون حتى أحصي عدد عنواناتها المتغيرة بالمئات، وفيها كلها ظلت محاطة من كل جانب بحُجب الغموض والخفاء بين الذين تساكنهم وتجاورهم، فلا يستطيعون أن يعرفوا عنها شيئًا على الإطلاق. ولا بد أنها كانت على شيء من المحاسن الشائقة الجذابة، فقد عرض لها في حياتها حادِثتَا عشق وغرام كانتا كلتاهما موضوع حديث الخاص والعام، وفي إحداهما استعدَّت للزواج حتى باتت منه قاب قوسين أو أدنى. وكان أحد الخطيبين كاتبًا في الحكومة والآخر ضابطًا في الجيش. وهذا الأخير ظلَّ ست عشرة سنة مقيمًا على ولائه لها وغرامه بها، ويقال إنه مات متجرعًا غصة تركها له وفصمها لعقد خطبته.

ومن رسائل هذا الضابط يُستدل على أن حبيبته نغَّصت عيشه وكدَّرت صفاء هنائه بنشوزها وغرابة أطوارها. وقد كتب إليها سنة ١٨٣١ يقول: «لم يستطِع مرور الزمن أن يغير شيئًا من شعوري نحوك. وهذا الشعور أنتِ التي أنشأتِه فيَّ منذ سنين عديدة. ومع ذلك أراكِ لا تزالين تُسَرِّين بعذابي، تروِّعيني كل يوم بالتهديد والتعنيف والازدراء. وعلى رغم هذا كله لا أنفكُّ مستعدًا لعمل ما تأمرينني به.» ولكنه بعد ثماني سنوات يحطِّم نير استعبادها، ويكتب إليها قائلًا: «يخيل إليَّ أنه لا سبيل إلى ترضِّيكِ. ففي كل يوم أذرف دموع الأسف والندامة على معرفتي لكِ، وألعن اليوم الذي لقيتك فيه.»

ومما يدل على شدة تمكُّنها من استمالة العشَّاق إليها وإغرائهم بها ما كتبه إليها خاطب آخر، قال: «لم أجسر على أن أرجع إليكِ نقابك بنفسي. وإني لآسَف على تحميلك مئونة انتظاره، فأردُّه إليكِ الآن مصحوبًا بألوف من القُبلات.» ثم كتب إليها بعد ذلك يقول: «كم يمكنني أن أمتع نفسي بمشاهدتك هذه الليلة؟ ولكِ أن تكتبي إليَّ بأن تربطي حجرًا صغيرًا بالرسالة وترميها من النافذة، فإذا كنتِ في منزلك حين رجوعي الساعة التاسعة، فإني أقف في النافذة وأشير لكِ بعزمي على الخروج فتخرجين أنتِ أيضًا، وستكون الإشارة ما تسمعينه من إيقاعي على كمنجتي.»

هذا ما فعلته في أيام صباها؛ إذ كانت قادرة — مع أنها رجل — على اجتذاب قلوب الشبان واصطيادهم بحبل المغازلة والمراودة. وظلَّت نصف قرن تمثِّل هذا الفصل؛ فصل ادِّعاء كونها فتاة بما لا مزيد عليه من النجاح، حتى إنه لم يخامر أحدًا قط أقلُّ شك في جنسها. واستمرت تقبض الراتب من الحكومة بادعاء كاذب وباسم مزوَّر، وتنعم بمجالسة ومعاشرة أشرف الأسر في فرنسا. ولما أصابها المرض الأخير الذي ذهب بحياتها في شارع مارشه الجديد عنيت اثنتان من جاراتها بتمريضها والسهر عليها. وفي صباح أحد الأيام دخلتا غرفتها فوجدتاها ميتة على فراشها، وجيء بطبيب يكتب شهادة الوفاة والإذن في الدفن. وفيما كان الاستعداد جاريًا في تكفينها ووضعها في التابوت اهتز المكان بضجيج الدهشة والاستغراب، وتناقلت الألسنة بسرعة البرق خبر كشف السر المكتوم؛ أي كون الآنسة المتوفاة رجلًا. وبعد يومين صدر أمر الحكومة بدفن «الآنسة» في مقبرة سنت لويس بنفقة فرنكين وخمسين سنتيمًا!

ولما فتحوا المنزل الحقير الذي كان سفليت مقيمًا فيه في شارع مارشه الجديد وجدوا فيه من الأمتعة والأعلاق والعروض التي لن يخطر على بال إنسان الاهتمام بجمعها، فمن كراسي متباينة الحجم متغايرة الطرز إلى موائد مختلفة الأشكال، وآنية طبخ متنوعة وحلل من حرير مبعثرة، وآنية خزف مكسرة، وزجاجات فارغة وبراميل محطَّمة، وعشرات من النقب (التنانير) المختلفة الألوان، وقبعات ونمارق ووسائد وأُطر صور (براويز) وطاقة زهر في أصيص من خشب ومحقنة زنك. ووجدوا في صوان مقدارًا كبيرًا من المنسوجات الحريرية الفاخرة وأوراق بنك بقيمة ٢١٠٠٠ فرنك. وفي صندوق كبير عدة أردية من المخمل النفيس وتسعة آلاف فرنك ذهبًا. وفي صندوق صغير سندات مالية على الحكومة بقيمة ألوف من الفرنكات، ويقول المسيو لينوتر الذي لخصتُ عن كتابه تفاصيل هذه القصة: «من العجيب أنه لم يرِدْ ذكر المواسي بين المتروكات!»

ولم يعثروا بين هذه المتروكات على أقل شيء يستعان به على معرفة شخصية صاحبها الذي اتخذ كل ما استطاع من الحيطة والحذر لكتمان سره في صدره ودفنه معه في قبره. والقبس الوحيد الذي ألقى بعض الإيضاح على ظلام الإبهام الحالك إنما هو البيان الآتي، وقد وجدوه مكتوبًا على قصاصة ورق بحروف غامضة مطموسة:

لقد جاء اليوم الذي فيه أهتك سرَّ الخفاء عن خطاياك الفظيعة. أفلا ترى أن جميع الذين حولك أخذوا يستشِفُّون سرَّ ريائك ونفاقك؟ فعليك الإسراع في تطهير نفسك من أرجاس الشر وأدناس الإثم … الوداع أيها الوحش الضاري الذي تقيَّأتْه الأبالسة. عُدْ إلى أورليان لبيع الجبن والتوابل. الوداع يا ميشيل!

أفكان اسمه سابقًا ميشيل وكان يتعاطى بيع الجبن والتوابل في أورليان؟ ومن كان هذا الرجل — أو المرأة — الذي ظلَّ سرُّ حقيقته أكثر من أربعين سنة موضوعًا لأحاديث الناس وضَرْبهم في مفاوز الحدس والتخمين؟ ويقال إن بعض معاصريه عاشوا وماتوا وهم يعتقدون أنه لم يكن سوى دوفين فرنسا. ورجَّح غيرهم أنه في أيام صباه قتل ابنة سفليت وادَّعى أنه هو هي رجاءَ تمكُّنه من إثبات حقه في الخمسة ملايين فرنك التي أقرضها أمين الخزانة الملكية للكونت دارتوي. ولم تزل الحقيقة مجهولة حتى كشف عنها المسيو لينوتر حجاب الخفاء بعد وقت طويل قضاه في البحث والتنقيب، وهي لا تقل غرابة عما سبق ذكره من تاريخ سيدة فرسايل المجهولة.

ويؤخذ مما رواه لينوتر أنه كان في باريس في بدء الثورة الفرنسوية رجل يدعى م. سفليت دي لانج أمين الخزانة الملكية الذي عرَّض نفسه للإفلاس يوم أقرض أخا لويس السادس عشر عدة ملايين من الفرنكات، وكان أرملًا وله ابنة وحيدة جميلة تسمَّى جِنِي. ولما بسط حكم الذعر والرعب رواقه كان هذا الرجل في طليعة الذي طلبوا النجاة بالفرار، فهرب بابنته إلى بريتون قاصدًا السفر إلى إنكلترة حيث يقيم حتى تسكن عاصفة المخاوف والاضطرابات. وفي طريقه لقي شابًّا نبيه الطلعة فصيح اللسان عرض عليه أن يكون دليله إلى بريتون؛ لأنه يعرف طريقها جيدًا فقبل منه ذلك بالشكر. ووجده في أثناء الطريق خير رفيق يفيد ويسلِّي.

ولما وصل م. دي لانج إلى سنت مالو وجدها غاصَّة بالغرباء المهاجرين العازمين على اجتياز البحر إلى إنكلترة، وبينهم الآنسة جين فرنسوى ابنة المركيز دي ت. التي كان أبوها قد أرسلها لتلتجئ إلى إنكلترة مصحوبة بخادم طاعن في السن عازمًا على اللحوق بها فيما بعد. وعلى الفور تمكنت عرى المعرفة والصداقة بين الفتاتين — ابنة دي لانج وابنة المركيز دي ت. — وطلبت الأولى منهما إلى أبيها أن يسمح لصديقتها وخادمها بالسفر معهما، فأجاب أبوها طلبها، واستعد المهاجرون الخمسة (دي لانج وابنته ورفيقهما الذي يدعوه ليونتر ب. وابنة المركيز دي ت. وخادمها) للسفر على سفينة من سنت مالو إلى بليموث.

وبعد مسيرة يومين قال لهم ربان السفينة إنه لأسباب مهمة لا يستطيع الذهاب إلى إنكلترة، وإنه ذاهب بهم إلى همبورغ. وعلى رغم ما أبدوه من الاحتجاج والاعتراض ظلَّ مصرًّا على عزمه، وسار بهم إلى همبورغ. وهناك توالت عليهم الكوارث والمصائب، فأُصيب خادم جين دي ت. بداء عضال أماته بعد وصولهم إلى همبورغ بثلاثة أيام. ثم أصيب الباقون بعد بضعة أسابيع بحمى التيفوس، فأودت بحياة م. دي لانج وبابنته جِني من بعده. وفيما كانت جِني على فراش النزع صاحت بأعلى صوتها مخاطبة صديقتها جين فرنسوى: «لا تنسَي أن الكونت دراتوي غادرني أموت فقيرة، وأن عليه لأسرتي دينًا قدره خمسة ملايين فرنك!»

فلم يبقَ من خمسة المهاجرين سوى جين فرنسوى ابنة المركيز دي ت. والمسيو ب. هذان وجدا الفقر ينيخ بكلاكله عليهما وينشب أظفاره فيهما، فاضطرا أن يسكنا في قبو ويناما على أكداس الخرق والشعب اليابس. وكتبت جين غير مرة إلى والديها مستغيثة مستجيرة فلم تظفر بجواب، ولمَّا اشتدت عليها حلقات الضنك والضيق وخيِّل إليها أن والديها تخليا عنها ولم يهتمَّا بإنقاذها من مخالب الجوع، اضطرت على رغمها أن تجيب طلب رفيقها — الصديق الوحيد الباقي لها في العالم — وتعيش معه سريَّة له.

واتضح فيما بعد أن هذا الرجل ب. كان من شر الأوغاد الأنذال المطبوعين على الخيانة والغدر والخداع والاحتيال، وبعدما أوقع هذه الفتاة في شَرَك الاقتناص والاغتصاب، حدَّثته نفسه الأثيمة أن يسعى في استرداد جانب من ملايين دي لانج، فكتب عدة كتب إلى الكونت دراتوي بإمضاء جِني دي لانج المتوفاة كابنة دائن الكونت، ولكنه لم يفُز بطائل إما لعدم وصول كتبه إلى الكونت وإما لعدم اكتراثه لها.

وقضت جين فرنسوى عدة سنوات تعاني مرارة الفقر والعار والأَسْر عند هذا الطاغية، حتى انتهت الثورة وجاد عليها الزمان بالعتق والإطلاق. ولكن هذا الإطلاق خافته عندما سنحت فرصته خوفًا لا يقل عن شدة تمنِّيها له قبل حصولها عليه. وراعها جدًّا إمكان اطِّلاع أهلها على السلوك الذي أكرهتها الأحوال القاهرة عليه. وبعدما قضى والداها وقتًا طويلًا في البحث عنها عرفوا مقرَّها، وبعثوا رسولًا يجيء بها إلى بريتاني. وكان الخبيث ب. قد بلغه أن الرسول قادم، فاختفى عن الأنظار قبل وصوله.

وظلت جين فرنسوى مدة طويلة بعد رجوعها إلى بيت أبيها تقاسي آلام الذكرى لعارها الغابر، وخوف افتضاح السر المدفون في أعماق صدرها. ولكن على توالي السنين ضعفت الذكرى وقل الخوف. ولما جاءها الكونت دي س. ر. خاطبًا سَرَّها أن تصير زوجة له؛ لظنها أنها أصبحت في مأمن من اتضاح أمرها وافتضاح سرها. وبعد اقترانها بهذا الكونت بدت في مقدمة كواكب الحسن والجمال التي أشرقت في ذلك الحين في سماء بلاط البوربون، وذاعت شهرة جمالها كما انتشر صيت برِّها وتقواها.

وفي ذات يوم من سنة ١٨١٥ وقفت امرأة غريبة على بوابة قصرها، وطلبت أن ترى الكونتس التي أمرت على الفور بإدخالها إليها. وبعد خروج الخادم رفعت نقابها وسألت الكونتس: «هل عرفتِني؟»

فارتعدت فرائص الكونتس من شدة الذعر؛ لأنها من فورها عرفت الرجل ب. الذي أذلها، وهو المشارك لها في هذا السر المخيف الذي تُفضِّل الموت على انكشاف ستره. أما هو فصاح بلهجة الظافر المنتصر: «أراكِ عرفتِ صديقتك القديمة جِني سفليت دي لانج. حسن. فلنبحث في الأمر بملء الصراحة.» ثم شرع يعلن خطته والكونتس مسلوبة الرشد مشرَّدة الأفكار، وخلاصة ذلك أنه عزم أن يمثِّل شخصية جِني دي لانج المتوفاة، وباسم ابنة الرجل الذي أقرض الكونت دارتوي خمسة ملايين فرنك، يطالب برد هذا المبلغ إليه. ولكي يتمكن من السير في هذه الدعوى يحتاج إلى مَن يشهد له بصحة دعواه، ويؤيده بماله من سمو المنزلة ورفعة المقام في البلاط. والكونتس وحدها قادرة على قضاء هذه الحاجة. فإن أجابت اقتراحه ظلَّ سِرُّ حياتها في همبورغ مكتومًا، وإلا فهي أدرى بالنتيجة.

فوقعت في حيرة وارتباك لا مزيد عليهما؛ لأنها كانت من جهة مهدَّدة بإفشاء سرٍّ لو ذاع لقضى عليها وعلى زوجها بعارٍ وشقاءٍ مدة حياتها. وكانت من جهة أخرى مضطرة أن تصير آلة في يد شر إنسان تحت السماء. وبعد التأمل اختارت الأمر الثاني، وفازت الآنسة «جِني دي لانج» بالحصول على مساعدة صديقة تمهِّد لها سبيل الوصول إلى ما علَّلت نفسها بإحرازه.

ولم تقصِّر الكونتس في شيء من المساعدة التي وعدت بها. فعرَّفت «الآنسة دي لانج» لجميع صديقاتها وأصدقائها حتى للأسرة المالكة، وأطنبت في إطرائها ووصف فضائلها، وأذكت في القلوب نار الرأفة بها والشفقة عليها، وتمكنت من حمل الحكومة على منحها راتبًا سنويًّا ومسكنًا في قصر فرسايل، وغيرهما من المنح والامتيازات، ولكنها لم تستطِع أن تساعدها على تحصيل شيء من ملايين دي لانج؟ أما المخاوف التي كابدتها الكونتس في هذه الأثناء من احتمال إفشاء عشيقها السابق لسر عارها مدفوعًا إليه بعامل اليأس من نيل ما كان يرجوه — هذه المخاوف التي كانت تتجرَّع غصَّة عذابها كل ساعة — فإني أتركها لتصور القارئ. ولم تكن أهوال معيشتها في همبورغ شيئًا مذكورًا في جنب عذاب الفكر الذي قاسته في هذا الوقت العصيب الرهيب.

على أن «الآنسة جِني» وفت بوعدها لكتمان السر، ولم تقتصر على الاحتفاظ به، بل أعانت الكونتس على التمكن من مساعدتها بتكلف الظهور فيما وصفتها به من الصفات الحميدة، فمثَّلت فصل امرأة مظلومة مقهورة أحسن تمثيل، وحذقت كثيرًا من الأعمال الخاصة بالنساء كالطبخ والخياطة والتطريز وغيرها، وأتقنت صناعة مغازلة الرجال ومراودتهم. واستمالت إليها قلوب كثيرات من السيدات الشريفات بما كانت تبديه أمامهن من سعة الصدر وحسن الصبر على تحمُّل مصاب فقرها بالشكر.

ولكن من المحال أن تدوم الحال على هذا المنوال؛ لأن الكونتس سئمت الإقامة على هذا الذل الشائن، فأطلعت زوجها على سر حياتها الماضية واستودعت نفسها صفحَهُ ورحمتهُ، وتمكنت من تحطيم قيود الاستكانة والانقياد إلى مشيئة ذلك الوغد الزنيم، وأغلقت دونه أبواب قصرها وأبواب قصور أصدقائها الواحد بعد الآخر.

فلما رأى ما حدث وتحقَّق إفلات فريسته من يده اضطر إلى التسليم بالواقع، ولم يبقَ له أقل حول أو طول على أن ينال الكونتس بالأذى، وشعر بخطر القبض عليه ووقوعه في يد الحكومة. ومن ذلك الحين تملكه القلق والاضطراب وعدم القرار في محل واحد، فأخذ يجول من مكان إلى آخر، والتزم العزلة والانفراد واجتناب معاشرة الناس، وكانت خاتمة حياته وغرابة أطواره على الوجه الذي سبق بيانه حين عرف الناس أن الآنسة جِني سفليت دي لانج المقيمة في شارع مارشه الجديد إنما هي رجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤