ملكة الجمال

من عادة قصور الملوك أن تكون دائمًا مزدانة بالغيد الحسان اللواتي يسطعن فيها بنور جمال يخلب الأذهان ويكل عن وصفه اللسان، ولكن لم يكن بينهن من بلغت في بشارتها الشائقة وقسامتها الرائقة شأو فرجيني كونتس كستليون، التي طلعت شمس بهائها في أواسط القرن الماضي فبهرت محاسنها العيون، وأسرت ملامحها القلوب.

وُلدت فرجيني في أحد قصور فلورنس، وكان أبوها المركيز أولدويني من كبار رجال السياسة في إيطاليا، وكانت والدتها المركيزة من أجمل نساء عصرها، فترعرعت ابنتها في مهد الجمال ورفعة المقام، وشبَّت وقد زكا فيها غرس الشرف المكتسَب والحُسن الموروث، فكانت في كليهما غصنًا نضيرًا مورقًا وبدرًا منيرًا مشرقًا.

ولما كانت ابنة اثنتي عشرة سنة صار حُسنها مضرب الأمثال بين سكان فلورنس، فإذا صحبت والدتها إلى المسرح اشرأبت إليها الأعناق وحامت حولها الأحداق، وأصبح كل من هناك مدهوشًا مسحورًا برؤية قامة لم ينسج على منوالها في جمال طولها وحسن اعتدالها، وعينين كان البهاء كل البهاء وقفًا عليهما، ووجه لم يقع النظر على أبهج منه صورةً وأروع شارةً. وفي هذه السن كانت معدودة أجمل فتاة في إيطاليا.

رُوِيَ عن الكونت كستليون أنه ذهب إلى لندن سنة ١٨٥٤ وكان في فجر صباه، فحضر اجتماعًا في قصر الدوقة إنفرنس، وبعدما أجال طرفه في السيدات الحسان اللواتي كنَّ هناك التفت إلى صديقه الكونت والسكا الجالس بجانبه، وقال له: «أظنك تجهل سبب مجيئي إلى لندن؟ إني قادم للبحث عن زوجة.» فأجابه الكونت: «إذا كان هذا مرادك فقد ارتكبت خطأً فاحشًا بمغادرة إيطاليا. عُد على الفور من حيث أتيت، واسعَ في التعرف للمركيزة أولدويني واخطب ابنتها، فتفُز بأجمل زوجة في أوروبا.» فعمل الكونت كستليون بموجب نصيحة صديقه ورأى فرجيني أبهى مما وصفها له الكونت والسكا، وراعه حُسنها المنقطع النظير. فخطبها وأفلح سعيه في اتخاذها زوجة له، ولكن هذه الفتاة عندما مدَّت يدها إلى الكونت مشيرة إلى رضاها أن تصير قرينته لم تمد إليه قلبها مع يدها بل أبقته بعيدًا منه. وقالت له بصراحة لا مزيد عليها: «سأقترن بك لأن والدتي تروم ذلك. ولكن تذكَّر ولا تنسَ أني لا أحبكَ، ولن أحبكَ، وسأظل دائمًا غير مكترثة لكَ ولا مبالية بكَ.»

وعلى هذا الوجه تم الاحتفال بزفاف فرجيني على غير رضاها واختيارها إلى الكونت كستليون؛ الشاب الجميل الغني، ولكنه لسوء الحظ كان خائر العزم ضعيف الإرادة وفاسد الأخلاق. ومعلوم أن شابًّا كهذا لا يسعه أن يظفر بالمحبة والاحترام من لدن فتاة مطبوعة على عزة النفس وقوة الإرادة وبراعة الجمال. وقبل انقضاء شهر العسل عصفت بينهما رياح النزاع والشقاق، فقد سألها غير مرة بملء الخشوع والضراعة أن تصحبه في زيارة والدته حسب العادة المرعية، لكنها أبت ذلك إباءً مطلقًا. ولما خابت مساعي الرجاء والاستعطاف عمد إلى الحيلة. فدعاها ذات يوم أن تخرج للتنزه معه في المركبة، وأمر السائق سرًّا أن يذهب بهما إلى بيت والدته، فأجابته إلى ذلك ولم يخامرها ريب، حتى بلغت بهما المركبة جسر النهر في الطريق المؤدِّي إلى منزل حماتها، فما كذبت أن خلعت حذاءها وألقت به في الماء، ثم التفتت إلى زوجها وقالت له بلهجة الفوز والانتصار: «عُدْ بي إلى القصر لأني لا أستطيع أن أزور والدتك حافية!» فعاد بها يجر ذيل الخيبة والإخفاق.

ولقد تفنَّن كثيرون في وصف جمال فرجيني، وكان كلٌّ منهم بعدما يسهب ما شاء في وصف محاسنها من قمة رأسها إلى أخمص قدمها يختم كلامه بقوله: «إن وصف جمالها النادر المثال معجزة الكتَّاب والشعراء.» ولم تكن منقطعة النظير في إيطاليا فقط، بل في أوروبا كلها، وكانت جواذب الملاحة والاستحسان في نباهة شأنها وشدة توقُّد ذهنها وسرعة خاطرها ورشاقة حركاتها لا تقل عن جواذب الروعة والبهجة في جمالها الطبيعي. ومع أنها زوجة ربة بعل كانت على الدوام محاطة بالعشاق الهائمين برؤية وجهها القسيم الوسيم، وفي مقدمتهم الملك فكتور عمانوئيل الذي كان أشدهم انشغافًا بها وانجذابًا إليها. وكأني بها مولودة ملكة وعرشها القلوب، وفيها جميع المعدات التي تؤهلها للجلوس على هذا العرش الساخر بأشرف العروش.

وكان كافور وزير فكتور عمانوئيل أول من رأى في هذه الكونتس مواهب أخرى فائقة غير موهبة الحُسن والجمال، فإنه بشدة فِراسته تبيَّن فيها قوة ذكاء خارقة على استئسار القلوب واستعباد النفوس. فهي والحالة هذه خير من يصلح لمعالجة الشئون السياسية. فاقترح أن تذهب إلى باريس وتستخدم قوتها هذه في استمالة نبوليون، وإحراز معونته على تحرير إيطاليا، وصادف هذا الاقتراح هوًى في نفس الكونتس الطامحة إلى الشهرة. وعلى الفور قبلته وبرحت إيطاليا إلى فرنسا حيث يتسع لها مجال الفوز والانتصار.

وفي باريس استُقبلت استقبال ملكة، ولقيت من مظاهر التجلَّة والتكريم ما هو جدير بأجمل امرأة في أوروبا. وكان نبوليون نفسه في طليعة المرحِّبين بها والمُكرِمين وفادتها. وكان ظهورها أول مرة في البلاط الفرنسوي يوم أقيمت حفلة الرقص الفخمة في قصر التويلري، حيث خفَّ الكبراء والعظماء للاحتفاء بها على وجه يدهش العقول ويحير الأفكار.

وعند دخولها بلغ من شدة دهشة المعجبين بحسنها الرائع وجمالها البارع أن انقطعت على الفور حركة الرقص وأصوات آلات الموسيقى، كأن روعة بهائها شلَّت أيدي الضاربين بالآلات وغلَّت أرجل الراقصين والراقصات، وصوَّب جميع من في ردهة الرقص أبصارهم إليها، وهم حابسو الأنفاس مشردو الحواس. وتقدَّم الإمبراطور لملاقاتها، فانحنى لها انحناءً تحسدها عليه أعظم ملكة وقبَّل يدها وطوَّق خصرها بيده، ودار يرقص بها على نغمات الموسيقى بين جماهير الراقصين والراقصات.

وبهتت باريس كلها من جمال الكونتس الإيطالية التي جرَّت محاسنها الفائقة الوصف ذيول النسيان على جميع الباريسيات الحسان. وكاد الرجال يقتتلون في سبيل الفوز ببسمة أو بكلمة من شفتيها، وكانت ربات الحسن والجمال في البلاط في عِداد اللاهجين بحسنها الساحر وبهائها الباهر. وحيثما ذهبت كان الناس يزحمون بعضهم بعضًا في الشوارع لينعموا بنظرة من محياها البديع. ولعلها هي نفسها كانت أدرى الناس بما أوتيته من جمال صار قِبلة الأنظار وكعبة الأفكار. فالطبيعة جعلتها ملكة والعالم بأسره رعيتها.

ومهما يكن من شدة روعة الناس بجمالها، فإن دهشتهم من إقدامها على استخدامه في سبيل إدراك مقاصدها كانت أشد وأعظم. وقد رُوِيَ عنها أنها كانت تظهر في المراقص الكبرى في ملابس مختلفة الأزياء والأشكال، ولكنها كلها كانت رقيقة شفافة تبهر عيون الناظرين وتسحر عقولهم بما يشاهدونه من الجمال الفائق الوصف المزدان به كل عضو من أعضائها. ومعلوم أن نبوليون كان مشهورًا بشدة ولوعه بالنساء الحسان، فليس عجيبًا أن نراه الآن مفتونًا بملكتهن وفريدة عقدهن. ولم يكن كافور مبالِغًا فيما توقَّعه من الفوز والنجاح لسفيرته الحسناء، فقد استخدمت قوة جمالها ودهائها أحسن استخدام في استعباد نبوليون ووضعه عند موطئ قدميها صاغرًا خاشعًا ومستعدًّا لعمل ما يُكسِبه رضاها عنه وميلها إليه. وقد أشارت الكونتس فيما بعد إلى هذا النصر المبين الذي أحرزته في بلاط فرنسا فقالت: «لو سبقت فذهبت إلى باريس قبل ذلك الحين لكانت شريكة نبوليون في عرشه إيطالية لا إسبانية.» لأن الإمبراطورة أوجيني المشهورة بالحسن والجمال كانت بالنسبة إليها كالماء إلى الراح أو كالقمر إلى شمس الصباح.

ولشدة شغف نبوليون بها أصبح لا يعرف معنى المسرَّة والهناء إلا إذا جالس الكونتس ومتَّع عينيه برؤية وجهها الأنيق الوسيم وأذنيه بسماع كلامها العذب الرخيم، ولإدراك هذه الأمنية كان يتعرَّض لخطر المغامرة حتى بصيته وحياته، ويختلس زيارتها في شارع دي لا بومب، ويقضي معها ساعات، ثم يتوقع بذاهب الصبر سنوح فرصة أخرى لتكرار الزيارة. وحدث مرة أنه بعد خروجه من عندها قبيل الفجر نجا بأعجوبة من خنجر رجلٍ كامن له، ولولا يقظة الحوذي وإعمال سوطه في أظهر الخيل حثًّا على شدة الإسراع في الجري لذهب الإمبراطور ضحية طيشه ومغامرته.

وعرضت له حادثة أخرى أخطر شأنًا من هذه، خلاصتها أنه خرج ذات ليلة قاصدًا فندق بوفر حيث كانت الكونتس تنتظره، ومعه رئيس أركان حربه الجنرال فليري وغريسلي أحد رجال الشرطة السريين، وكانت إحدى الجواري واقفة أمام غرفة الكونتس فأدخلت الإمبراطور ورئيس أركان حربه إليها، وتغفل الشرطي الجارية وانسلَّ إلى خلوة مظلمة مقابل باب الغرفة. وبعدما أغلق الباب صفقت الجارية يديها وعلى الفور خرج رجل من غرفة مجاورة وسار يسترق الخطى نحو الغرفة التي فيها الإمبراطور والكونتس. وفيما هو يدير مقبض الباب بيده فاجأه غريسلي بضربة من الوراء طرحته خامد الأنفاس فاقد الحواس، وحاولت الجارية الغادرة الفرار فانقضَّ عليها وشدَّ وثاقها وأقفل عليها باب إحدى الغرف، وعاد بالإمبراطور من حيث أتى على رغم تنصل الكونتس من الجريمة وما ذرفته من الدموع توسلًا إلى حمله على البقاء عندها. ولولا شدة يقظة غريسلي ومتانة ذراعه لبات سيده في عداد الموتى.

أفكانت الكونتس كما ادَّعت بريئة لا يد لها في هذه المكيدة المعدَّة لاغتيال عاشقها؟ (وقد وجدوا مع الرجل الذي قتله غريسلي طبنجة وخنجرًا). وإن لم تكن بريئة فماذا أرادت بإقدامها على اقتراف هذا الإثم العظيم؟ هذان السؤالان لم يستطِع أحد الإجابة عنهما. وفي صباح اليوم التالي سير بالكونتس مخفورة إلى تخوم إيطاليا، فقضت بضعة أشهر معتزلة في أحد قصور تورين تندب سوء الحظ الذي عرقل مساعيها وختمها بهذه العاقبة الوخيمة.

ولكنها لم تكن من النساء اللواتي يستسلمن إلى صروف الدهر ونوائب الأيام، ففي أثناء إقامتها في باريس تمكَّنت من الوقوف على شيء كثير عن نبوليون وكانت مستودعًا لأسراره، فلم يصعب عليها أن تحمله على استدعائها. ولم تلبث أن عادت إلى باريس واستردَّت مقامها كسلطانة الجمال وملكة قلب الإمبراطور. وكانت سيادتها هذه المرة أوسع نطاقًا وأشد توطيدًا، فأرت سكان باريس من باهر حسنها وجمالها ما خطف أبصارهم وسحر أفكارهم.

ففي كل يوم كانوا يتناقلون الأحاديث عن قصة جديدة تتسلَّق بشدة جسارتها وغرابة أطوارها، ولا سيما فيما يختص بتبرجها وعرض محاسنها الفاتنة للأنظار على وجوه متنوعة وأساليب مختلفة لا محل لذكرها بالتفصيل. وكان لها بهذا الغرض ولعٌ يفوق الوصف، ولم تنقطع عنه حتى في أيام مرضها؛ إذ كان الطبيب يأتي لمعالجتها فيجدها مضطجعة في سريرها وغارقة بين أنفس النمارق وأفخر الوسائد وأنوار الحِلى والجواهر تتألَّق من شعرها المسترسل، وجيدها وذراعها ويديها في غرفة مملوءة بالأزهار والرياحين. وكان إعجابها بجمالها كثيرًا ما تعدى حد الصراحة الداعية إليه فيحمل على محمل الغرابة والاستنكار. مثال ذلك أنها كانت تقول لزائرها: «أتود أن ترى ذراعي؟» وقبل أن يجيبها بالقبول تحسر كمها عن ساعد منقطع النظير في حسن خلقه وجمال تكوينه. وهكذا كانت تفعل في عرض ساقها التي لم تقل عن ساعدها دقةً وأناقةً. ومما يدلك على شدة إسرافها في الإعجاب بجمالها أنها دعت إليها أحد كبار المصورين في فرنسا ليصورها على مثال الزهرة (إلهة الحب والجمال)، ففعل حسب طلبها، وجاءت الصورة آية في الإتقان. ولما رأتها الكونتس هاجت فيها الغيرة وصاحت: «إنها أجمل مني!» ثم تناولت سكينًا وشرطت الصورة وجعلتها طعامًا للنار.

ومع شدة اهتمامها بشئون الهيئة الاجتماعية وأحوال العشق والغرام، لم تغفل طرفة عين عن المهمة الأساسية التي لأجلها جاءت إلى باريس. وفي سبيل قضائها استخدمت ما أوتيته من حسن وجمال ونبوغ وعبقرية، فتملَّقت نبوليون وتزلَّفت إلى السفراء والوزراء، ورقت بسحر سنائها وبهائها كل ذي شأن في سياسة أوروبا، فنالت بثقافتها وكياستها أكثر جدًّا مما غالى كافور في توقعه. فقد قالت في كتاب بعثت به إلى صديقها الجنرال إستنسلين: «حملت فكتور عمانوئيل إلى رومية، وقلبت عروش سبع أسر نبوليونية وبوربونية وبابوية، فأنشأت إيطاليا وأنقذت البابوية.» ومهما يكن من تباهيها وافتخارها، ففي كلامها جانب كبير من الصحة.

وبسقوط الإمبراطورية في فرنسا زال عهد عظمة الكونتس، وأخذت منزلتها الرفيعة في السقوط والهبوط. على أنها تحمَّلت هذا الانقلاب بالصبر والتسليم قانعة أن تعيش بذكرى أيام عزها وانتصارها. أما الشيء الوحيد الذي لم يسعها الصبر عليه فهو فقد جمالها، وكان جمالها في هذا الوقت قد مالت شمسه إلى الغياب، وشرع ظله يزول ولونه يحول. وراعها جدًّا أن ترى نفسها مهددة يومًا بعد يوم بفقد شعرها الجميل وأسنانها الدرية ونضارة محياها البهيج، وأخذت قامتها التي كانت مثال الهيف والرشاقة والاعتدال تعوجُّ وتذبل وتتقلَّص. وطفقت كثيرات من حواسدها يشتفين ولو سرًّا بما فعلته يد الأيام «بملكة الجمال».

وكان أمرُّ غصة تجرَّعتها في كأس إذلالها وتحقيرها عجزها عن غَلِّ يد الزمان، ومنعها عن هدم صرح جمالها. وأقل ما استطاعته في هذا السبيل أن تحول دون إطلاع الناس على ذبول غصن حُسنها وأفول بدر بهائها. فصارت تمتنع شيئًا فشيئًا من حضور الاحتفالات والاجتماعات، ومالت إلى الانفراد والاعتزال. وطالت الفترات بين زياراتها حتى لأعز أصدقائها وصديقاتها. ويُروَى عن عقيلة والسكا أن جاريتها جاءت إليها قائلة إن في الباب سيدة تروم مقابلتها، وقد أبت أن تبوح باسمها، فهرعت لاستقبالها ودعتها إلى الدخول، وكانت محجَّبة وفي يدها طاقة أزهار، فلم تتمكَّن من معرفتها، فقالت لها السيدة: «علمت أن اليوم عيد ميلادك فجئتك مهنِّئة ومهدية إليكِ هذه الأزهار.» قالت هذا وهمَّت بالانطلاق، فعرفتها عقيلة والسكا من صوتها، وقالت لها: «تمهلي قليلًا ولا تعجلي في الذهاب. أزيحي نقابكِ ودعيني أرى وجهك.» فتردَّدت الكونتس غير جاسرة على السفور تفاديًا من اطلاع صديقتها القديمة على التغيير الملم بوجهها الشاحب، ولكنها تغلَّبت على ضعفها وسفرت. فلما رأتها عقيلة والسكا صاحت: «إنكِ لا تزالين مزدانة بجمالك الباهر الفتَّان! فادخلي ودَعِي جميع الذين عندي يتملَّوْن مشاهدة هذه المحاسن الساحرة.» فانقادت الكونتس آخر مرة إلى سلطان التملق والغرور ودخلت إلى البهو الخاص بالزائرين والزائرات، وهؤلاء جميعهم شنَّفوا أذنيها بما شاءت من التغزل بحسنها وجمالها.

ولكنها في صباح اليوم التالي نظرت في مرآتها الصادقة التي لا تعرف الملث والنفاق، فأرتها حقيقة نفسها ونبَّأتها أن جمالها استقل جناحَي نعامة، وطار ولم يبقَ لعينه إلا شيء قليل من الرسوم والآثار. وحينئذٍ ربعت على ظلعها وعزمت على القبوع في منزلها وعدم الخروج منه، وأبت أن تستقبل أحدًا ما عدا بعض الأصدقاء الأخصاء، وفي مقدِّمتهم الجنرال إستنسلين.

وعلى توالي السنين تقوض صرح جمالها ولم يبقَ له أقل أثر. وكان لها في باريس عدة منازل فخمة لم تطأ رجلها واحدًا منها منذ أكثر من عشرين سنة، وكان عندها مركبات فاخرة وجياد كريمة معدة لها، ولكنها لم تستخدمها قط. وكانت من وقت إلى آخر تخرج متنكرة في ظلام الليل وتنطلق ماشية إلى شارع كستليون وتلبث بضع دقائق شاخصة إلى الجدران التي قضت داخلها سِني عزها ومجدها، ثم تعود أدراجها إلى منزلها في «بلاس فندوم»، حيث قضت أيامها في عزلة وشقاء داخل أبواب مغلقة ونوافذ موصدة على نور مصباح ضئيل لا يقوى على تمزيق حجب الظلام.

ولما شعرت بأن الموت قادم ليريحها من حياة هي شر من الوفاة كتبت إلى صديقها الحميم إستنسلين: «أرجو ألَّا تنسى ما أوصيتك به. أروم جنازة بسيطة خالية من آثار البهارج والزخارف؛ لا أزهار ولا صلاة في كنيسة ولا مشيعين على الإطلاق. وأرجو أن تحول دون كتابة شيء عني، وأن ترد إليَّ صوري.» وهذه الأمور كررت ذكرها في وصيتها. فقد ظلت ثلاثين سنة محجوبة عن العالم، وأرادت أن تبقى كذلك في موتها.

وكانت وفاتها بالسكتة الدماغية في اليوم الحادي والعشرين من شهر نوفمبر سنة ١٨٩٠، ودفنت في مقبرة «بير لاشير». وإلى اليوم يرى زائر هذه المقبرة صفيحة من حجر الغرانيت فوق الرمس الذي توارت فيه أجمل امرأة كانت في عصرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤