تهوُّر وصيفة

وصف أحد شعراء الإنكليز جمال فرانسز جننس الساحر وحسنها الفتَّان، فقال ما ترجمته: «سبكَتْها الطبيعةُ في قالب محاسن لا يمكن التعبير عنها بالكلام، وصقلَتْها بمصقل مِلاحة خالبة العقول وسالبة القلوب. فإشراق محيَّاها يمثِّل لعين الناظر إليه لمعان جبين الفجر وسناء وجنَّة الربيع.» هذا وصف وجيز للجمال الرائع الذي ازدانت به هذه الفتاة، وقد مثلت أهم فصل على مسرح العالم في أيام هنري الثامن ملك إنكلترة الملقَّب بالملك الطروب.

وُلدت فرانسز جننس سنة ١٦٤٨ في سندرج قرب سنت ألبان في إنكلترة، ولم يدُر قط في خلد إنسان أنها ستنال شيئًا مما أحرزته فيما بعد من علو المكانة عند الأمراء والعظماء، بل كان حينئذٍ ما بينها وبين ما صارت إليه أبعد مما بين الأرض والسماء. وكان أبوها رتشرد جننس من عامة رجال الأرياف. فلم يكن يتوقَّع لبناته سوى أن يجدن أكفاءً لهنَّ يقترنَّ بهم ويقضين معهم أيامهنَّ في تربية أولاد أصحاء أقوياء، ويعشن عيشة الزوجات الصالحات المشهورات بحسن تدبير البيوت، ولم يخطر بباله ارتقاء إحداهن إلى مصاف الأميرات ودخولها في قصر الملوك.

على أنهنَّ نشأن في أسرة توارثت الحسن والجمال من عهدٍ بعيدٍ، وكان هذا الجمال الأصيل التليد يزداد على توالى الأجيال صفاءً ونقاءً ورونقًا وبهاءً، حتى بلغ في بنات رتشرد منتهاه، وأصبح جمالهنَّ المنقطع النظير موضوع حديث أهل البلد، مع أنهنَّ كنَّ بعدُ طفلات. ولما فتَّحت أزرار حسنهن، ولاحت لعيون الناظرين أزهار محاسنهنَّ، وهي في طور البلوغ فاح أريجها وذاع صيتها في إنكلترة، وبلغ قصر الملك. ولما عزمت دوقة أوف يورك (زوجة أخي ولي العهد) أن تكون وصيفاتها أجمل الوصيفات في قصور الملوك، لم يعجب الناس حين سمعوا بأنها دعت فرانسز أجمل بنات رتشرد جننس إلى قصرها لتكون فريدة في عقد نسائه الحسان. وعلى الفور نظرت فرانسز إلى نفسها، فإذا بها وهي بعدُ في السادسة عشرة من عمرها قد انتقلت من عيشة الخشونة في الريف؛ حيث هلَّ هلال حسنها وفتَّحت زهرة جمالها، إلى عيشة الترف والرخاء والرغد والهناء في أعظم القصور. وهذا الانتقال الفجائي أدهشها إلى الغاية. وعند وصولها استُقبلت كواحدة من أعضاء الأسرة المالكة. ولم تبطئ شهرة جمالها أن شاعت وذاعت، وأخذ الناس يتحدثون عنها، ويتسابقون إلى مشاهدتها عند مسيرها في الشوارع أو تمشِّيها في المتنزهات. ولما رآها دوق أوف يورك وأخوه الملك أُعجِبا بها كل الإعجاب، وكانا في مقدمة العانين لسلطان حسنها عليهم.

وكان الدوق على الخصوص أكبر مشغوف بحب وصيفة زوجته، فأخذ يتعرَّض لها في دخولها وخروجها، ويضايقها بالمداعبة والمغازلة ومطارحة أحاديث الوجد والغرام، وهي تنفر منه ولا تعيره أقل التفات. ولما خابت مساعيه بالكلام وعلى لسان الوسطاء، عمد إلى توسيط القلم واستخدام الرسائل؛ فكان كل يوم يلقي بطاقات شكوى الشوق ووصف تباريح الهيام في جيوبها أو فروة يديها. ولكنها كانت في كل مرة تبذل جهدها في أن تجعل الذين يشاهدون وضع هذه البطاقات يرون طرحها لها كما هي غير مفتوحة ولا مقروءة؛ إذ كانت بعدما يضع البطاقات في جيوبها أو في فروة يديها تنفض الفروة أو تفتح منديلها وتلقي البطاقات، فتسقط على الأرض على مرأى المارَّة ويلتقطها من يشاء.

وكثيرًا ما شاهدت الدوقة هذه الحوادث، ولم تجد في نفسها ما يوجب توبيخها لوصيفتها على إعراضها عن زوجها وعدم احترامها له. وعلى هذا المنوال كان حديث جمال فرانسز وتمنُّعها ملء الألسنة والمسامع بين الكبراء والعظماء.

وكان مما صحَّت عزيمة فرانسز عليه أن تتخذ جمالها ذريعةً لنيل ما طمحت نفسها إليه من الغنى ورفعة الشأن، ولكنها في الوقت نفسه ما كانت قط لتسمح بهذا الجمال النادر المثال لمن لا يدعوها زوجته. وبناءً عليه أعرضت بوجه باسر عن جميع الأمراء الذين حاولوا التزلف إليها وردَّتهم واحدًا بعد الآخر يتعثرون بأذيال اليأس والخيبة.

ولمَّا تخلَّصت من إزعاج رجال القصر لها، وخلا لها جو الاختيار كما تشاء، وقع اختيارها على المركيز دي برني ابن أحد كبار الوزراء عند لويس الخامس عشر. وكان هذا الشاب ملحَقًا بسفارة فرنسا في لندن. فرأى فرانسز وأحبَّها وخطبها، وكتب إذ ذاك سفير فرنسا في لندن إلى الوزير أبي الخطيب في باريس يقول له: «إن الآنسة فرانسز جننس التي خطبها ابنك من أجمل فتيات إنكلترة، وهي، مع أنها ليست بطويلة القامة، ذات قدٍّ رشيقٍ شائقٍ، يزيِّن محيَّاها لونٌ رائع رائق، ولها شعر طويل جميل شبيه بشعر مدام دي لانجفيل، وذات عينَيْن هما غاية في الحسن والجمال. وقد خُصَّت ببياض بشرة ونعومة جلد لم أرَ لهما قط مشبهًا.» ولكن أحلام المركيز بالسعادة والهناء لم تصحَّ؛ فإن والده كان ينوي أن يخطب له غيرها من بنات الأعيان في باريس فدعاه إليه، وبسفره من لندن انتهى الفصل الأول من فصول الرواية المتضمنة حوادث غرام فرانسز.

وفيما هي تتجرَّع غصص الأسف على خيبة أملها عَرَضَ لها خطيب أجمل طلعةً وأرفع شأنًا من خطيبها الأول؛ ألا وهو دك تالبوت زهرة فتيان إرلندة، وفريدة عقد شبَّانها في الحسن والغنى والجاه والبسالة والإقدام. وكان فوق هذا كله ممتازًا بشدة ذكائه وسرعة خاطره وخفة روحه وحسن أخلاقه. فلم يسعَ فرانسز أن ترفض طلبه عندما تقدَّم إليها خاطبًا. وعلى الفور شاع خبر خطبته لأجمل فتاة في إنكلترة بموافقة دوقة أوف يورك. ولكن تالبوت كخطيب لم يتمكَّن من إرضاء فرانسز واكتساب محبَّتها. وبينما هو يعلِّل نفسه بتحقيق الأماني، أوعزت إليه أن يبحث عن فتاة غيرها؛ لأنه من طبقة تسمو جدًّا على طبقتها، وليس بينهما أقل تناسب يضمن لهما سعادة الحياة الزوجية.

ولم يطُل انتظارها حتى أسعدها الحظ بالعثور على محبٍّ آخر كان مستطير الشهرة بجماله وشدة شغفه بمغازلة النساء والهيام بهنَّ، حتى عُدَّ زيرَ عصره وهو هنري جرمن. وكان ذا ثروة كبيرة يبلغ دخله في السنة عشرين ألف جنيه. وكان من أعظم مشتهيات قلبه أن ينال رِضى فرانسز وينعم بقربها، لو لم يجد من غرابة أطوارها وإيغالها في المزح والمهازلة ما اضطره إلى التحول عنها.

فقد كانت أشد وصائف القصر الملكي استرسالًا في العبث والمجون. ونقل الرواة قصصًا كثيرة عن اشتغالها باللهو والمداعبة. فمن ذلك أنها تنكَّرت يومًا في زي بائعة البرتقال، وأخذت تطوف في الشوارع ذهابًا وإيابًا وهي تنادي: «يا شاري البرتقال»، وظلَّت ممعنة في السير والنداء حتى زلَّت رِجلُها فسقطت وعرف الناس مَن هي. على أن هذه الحادثة مع شدة غرابتها ليست شيئًا يستحق الذكر بالنسبة إلى الحادثة التالية، التي كانت من أكبر الأسباب الباعثة على انصراف قلب هنري جرمن عنها، وهاك تفصيلها:

كان تشارلس الثاني قد أقصى عن بلاطه لورد روتشستر لِمَا اشتُهِرَ عنه من الانغماس في حمأة الإثم والدعارة. لكن هذا اللورد عاد إلى لندن متنكِّرًا بزيِّ طبيب ألماني بارع في معالجة الأمراض والعرافة (معرفة البخت)، وأخذ الناس يتوافدون إليه من كل فجٍّ للتطبُّب والوقوف على ما خبَّأه لهم القدر. وسمعت بصيته الآنسة جننس، وعزمت أن تزوره وتستنطق القَدَر على يده، فذهبت إليه مصحوبة بوصيفة أخرى اسمها بريس.

وبعد إنعام النظر في طرق التخفي، أجمعتا على التنكُّر في زي بائعات البرتقال في المسارح والشوارع — كما فعلت فرانسز في المرة الأولى. وما أبطأتا أن بدتا كلتاهما في زي واحد ولباس واحد، فخرجتا وفي يد كلٍّ منهما سَلٌّ فيه برتقال، واستقلَّتا إحدى المركبات فسارت بهما إلى حيث تسوقها يد القدر وهما مستسلمتان فيها إلى عامل الطيش والغرور. ولما اجتازت بهما المركبة أمام مسرح الدوق، حيث كانت الدوقة والملكة جالستَيْن تشاهدان التمثيل، دارَ في خلد الوصيفتين أن تدخلا المسرح وتعرضا بضاعتهما على مَن فيه غير مكترثتين لوجود الدوقة والملكة اللتين تعرفانهما جيدًا.

هذا ما خطر لهما، ومن فورهما عملتا بموجبه، ولكنهما إذ دخلتا لم تجدا من الشجاعة ما يكفي لمواصلة هذا الاقتحام، وانبرى لهما أحد المشهورين بالوقاحة وقلة الحياء، فأخذ الآنسة جننس من ذقنها بإحدى يديه وطوَّق خصرها بيده الأخرى، فذعرت من هذه المفاجأة ذعرًا لا يوصف، وانفلتت منه بعنف وبأسرع من وميض البرق، وفرَّت راجعة إلى المركبة ورفيقتها جارية في أثرها.

وقد تعرَّضتا لحادث أجلَّ وأخطرَ شأنًا من هذا قُبيل وصولهما إلى بيت العرَّاف الألماني؛ فإنهما عندما خرجتا من المركبة وتركتا سَلَّي البرتقال فيها، لقيتا أمامهما الرجل المسمَّى برونكر، وكان أشد أهل زمانه خلاعةً وتهتكًا. فلما أبصرتاه أوشكتا أن تذوبا خوفًا وهلعًا؛ لأنهما علمتا أنه عرفهما. ولكنه لحسن حظهما وعلى خلاف ما يُنتظَر منه سلكَ سلوكًا لا بأس به؛ إذ إنه اقتصر على شيءٍ من المداعبة المألوفة وانصرف بعدما عنَّف الآنسة بريس (رفيقة فرانسز) ولامها؛ لأنها أبت أن تصحبه، وأنها لن تحصل في السنة كلها على ما تناله معه في اليوم.

وهذه الحادثة الثانية أيقظتهما من غفلتهما، وأكرهتهما على العدول عن مواصلة أعمال الطيش والاستهداف للمخاطر، فعادتا بما يستطاع من السرعة إلى القصر. وبعد أيامٍ أذاع برونكر خبر تنكُّرهما في المدينة كلها، وبلغ مسمع هنري جرمن فزاده اقتناعًا بصحة ما عزم عليه، ومن ذلك الحين قطع كل علاقة له بفرانسز جننس.

ولكن تقهقر هذا الفتى من الميدان لم يهمها على الإطلاق؛ لأن المعجبين بحسنها وجمالها، والمتسابقين لخطبة مودتها كانوا أكثر من أن يحيط بهم عدد. وممَّن تقدَّم إليها خاطبًا في هذا الوقت جورج هملتون حفيد لورد إبركورن. وكان شابًّا وسيم المحيَّا نبيه الشأن، فسمحت له فرانسز بيدها، ولكنها على ما يُقال لم تعطِه قلبها مع يدها. وكثيرًا ما تساءل الناس لماذا اختارته زوجًا لها، وهو على رفعة شأنه وجلال قدره فقير وقير لا يملك شَروى نقير؟ لماذا رضيت الاقتران به وهي لم تحبه، ولا شعرت بأقل ميل إليه؟ ولعل اقترانها به كان من الأسرار التي هي نفسها لم تستطِع استجلاء غوامضها. وقد احتفل بزفافها إليه وهي في السابعة عشرة، وأنعم عليه الملك تشارلس بلقب كونت. وما عتَّمت أن صحبته إلى فرنسا حيث تطوَّع للمحاربة في جيش لويس الرابع عشر، ولقي حتفه في معركة فلندرس تاركًا لقرينته ثلاثة أولاد صغار، ليس لهم ما يعيشون عليه سوى معاشٍ زهيدٍ من حكومة فرنسا.

لكنها كانت لا تزال في شرخ صباها وأوج جمالها وعنفوان طموحها إلى الرفعة والشهرة. ومع ترمُّلها وشدة فقرها كانت ترى مجال السعي لبلوغ آمالها واسعًا أمامها وبابه مفتوحًا، ولديها قلوب كثيرة تتهالك على الخضوع لسلطان حسنها وجمالها. وفي أثناء حداثتها علَّلت نفسها بأنها لن تموت إلا وهي حاملة لقب دوقة، وأمامها متسع من الوقت للحصول على هذا اللقب، وبلوغ الغاية التي وضعتها نصب عينَيْها. ولم تخلع ثياب الحداد على قرينها جورج هملتن، إلا كانت مرتدية حلَّة الاقتران بسفير إنكلترة في فرنسا؛ إذ لقيت في أحد أسفارها تالبوت الذي كان منذ خمس عشرة سنة عرض عليها أن يتزوَّجها وردَّته خائبًا.

وكان هذا الشاب الإرلندي الجميل قد تزوَّج بغيرها وفقد زوجته، وظلَّ فؤاده متعلِّقًا بحب فرانسز، فعرض عليها الاقتران بها، ولم تبطئ هذه المرة أن أجابت طلبه بملء الارتياح. ونال الزوجان نصيبًا كبيرًا من المكانة وعلو المنزلة عند دوق يورك وزوجته.

وحدث بعد اقترانهما أن جيمس الثاني جلس على عرش إنكلترة، وكان لتالبوت منزلة رفيعة عنده، فأنعم عليه بلقب كونت، وولَّاه قيادة الجيش في إرلندة. فذهب إليها ومعه الكونتس فرانسز. وبعد بضع سنين صحت أحلامها وبلغت المئتاة١ في مضمار سعيها، وأدركت الغرض الذي كانت تعلِّل نفسها به وصارت دوقة؛ إذ ترقَّى زوجها إلى رتبة نائب في إرلندة.

وحينئذٍ بلغت فرانسز أقصى أمانيها، بل فوق ما كانت تطمح نفسها إليه؛ لأنها لم تنَل لقب دوقة فقط، بل كانت نائبة الملكة. وقلَّما شاهدت إرلندة ملكة ضارعت فرانسز في جمالها وعظمة شأنها ورفعة قدرها. وعلى رغم ما لقيته من الصعاب والمكايد والدسائس، ظلَّت قابضة على ناصية الحوادث والشئون بيد الحزم والعزم، ومحافِظة على ما لها ولزوجها من جلال القدر وكرامة النفس. ولمَّا حدثت معركة بوين وانتهت بانكسار جيش الملك جيمس الثاني، وآذنت شمس عظمتها بالغروب، لم تبرح رافلة بحلَّة الأبهة والعظمة، وواقفة على قدم العزم والثبات غير جاعلة للقنوط واليأس سبيلًا للوصول إليها والاستيلاء عليها.

ثم فوجئت بموت زوجها بعلَّة قلبية، فانهار صرح عزها، وهوى كوكب سعدها، وأناخ عليها الدهر بكلٍّ من البؤس والشقاء، حتى باتت في أواخر أيام حياتها في حاجة إلى ما يدفع عنها غائلة الموت جوعًا، واضطرت أن تتعاطى الخياطة متنكِّرةً. ولله ما كان أعظم الفرق بين تنكُّرها الاختياري في أيام صباها للَّهو والتسلية، وتنكُّرها الاضطراري في بدء الشيخوخة للحصول على القوت اليومي. وبمساعي صهرها دوق مارلبورو تمكَّنت من استرجاع بعض أملاك زوجها المحجوزة في إرلندة، فعاشت على ريعها واستغنت عن مزاولة الخياطة. وقضت الثلاثين سنة الأخيرة من حياتها الطويلة في دبلن بإرلندة، حيث بلغت قبلًا أوج العظمة والكرامة. وفي هذه السنين الأخيرة كان جمالها قد فارقها راكبًا جناحَي نعامة، ونشأت وفاتُها عن سقوطها في إحدى ليالي الشتاء الباردة من سريرها إلى الأرض، ولشدة ضعفها وخور عزمها لم تستطِع النهوض ولا الاستغاثة. وفي الصباح وجدوها في أسوأ حالات الضعف، ولم تلبث أن أسلمت الروح. وهكذا قضت نحبها فرانسز جننس التي رشفت في اثنتين وثمانين سنة أحلى كئوس المسرَّة والهناء، وتجرَّعت أمرَّ غُصص البؤس والشقاء.

١  المئتاة والمئتاء: منتهى جري الخيل في المضمار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤