مدام «لي شفاليه»

تارةً كان يبدو جنديًّا باسلًا يُذيب قلوب أعدائه فَرَقًا وذُعرًا حين يحمل عليهم مستلًّا حسامًا يفري حدُّه الحديد، ويجرع من يصيبه بضربة غصَّة الردي. وطورًا كان يلوح غادة حسناء ذات جبين كالبدر حُسنًا وأناقةً وقامةً، كالغصن لينًا ورشاقةً، تخلب قلوب الرجال بنظرة ساحرة، وتُسكِر قلوبهم بابتسامة فاتنة آسرة. وطورًا آخرَ سفيرًا مجربًا خبيرًا بأساليب المكر والدهاء، ومتضلِّعًا من معرفة شئون السياسة غير خافٍ عليه شيءٌ من مداخلها ومخارجها. وتارةً أخرى يتحوَّل إلى سيدة ليس كمثلها في الحذاقة واللباقة وحُسن التناول تُبهر العيون بما عليها من الجواهر المتألِّقة، وتُدهش الخواطر بما تُبديه من آداب الاجتماع وحُسن السلوك. هكذا كان الشفاليه ديون عجيبةَ القرن الثامن عشر، التي قصرت العقول عن إدراك كنهها ولغزه الذي لم يظفر أحدٌ بحلِّه. فكان يتصرَّف في تغيير جنسه من رجل إلى امرأة ومن امرأة إلى رجل، بخفَّة ومهارة تدهشان العقول وتُحيِّران الألباب. فإذا رآه الناس اليوم ولم يداخلهم أقل شك في كونه رجلًا، رأوه في اليوم التالي موقنين كل الإيقان أنه فريدة في عقد النساء الحسان.

وهذا السر الخفي ظلَّ أكثر من نصف قرن لغزًا أعجز حلُّه أهلَ أوروبا، وكان موضوع أحاديث سيدات الطبقة الأولى في الهيئة الاجتماعية، ومحور مباحثات عظماء الرجال في الأندية ومحاورات العامة في الحانات. وجرت عليه مراهنات كثيرة بمبالغ باهظة كانت سببًا لحدوث منازعات ومشاغبات ذات شأن. هذا كله جرى والشفاليه يرمقه بعين الرزانة وثبات الجأش، هاشًّا باشًّا ومواظبًا على التحول والتغيُّر والظهور بمظهر امرأة أو رجل على حسب ما يخطر بباله وتُمليه عليه مشيئته، غير مكترث لحيرة الناس ودهشتهم.

وكانت ولادة هذا الشخص العجيب الغريب في يوم من شهر أكتوبر سنة ١٧١٨ في بلدة تونير. وهو من أسرة اشتهر رجالها بالبسالة والإقدام والحصافة والذكاء، وكان أبوه أحد رجال المحاماة في باريس، وقد تقلَّد عدة مناصب عالية كان فيها عنوان الاستقامة والأمانة. ومن المحقَّق أن هذا الطفل عُرِفَ عند ولادته بأنه صبيٌّ، ولما صعدوا به إلى كنيسة نوتردام للاحتفال بتعميده أطلق عليه أسقف تونير هذه الأسماء: شارل جنفيف لويس أغسطس أندريا تيموثاوس، وكتبه في سجل المعمودية «ابن لويس ديون دي بومو من زوجته فرنسوى.»

وفي أربع السنين الأولى من حياته كان صبيًّا لا ريب فيه، وعليه علامات الصحة والقوة والنشاط. وأول فصل مثَّله كبنتٍ كان يوم ارتدى حُلَّة أخوات العذراء، واحتفل بانتظامه في هذا السلك في كنيسة نوتردام. وظل ثلاث سنوات معدودًا «بنت العذراء».

ولما صار ابن سبع سنوات خلع هذا الثوب وظهر بملابس الصبيان، ثم أرسل إلى باريس حيث دخل إحدى المدارس، وكان يتقدَّم رفقاءه الصبيان في الاستحمام بنهر السين، ويجلي عليهم حائزًا قصب السبق في الدروس والألعاب. فلم يكن حينئذٍ عند أحد أقل ارتياب في كونه ولدًا ذكرًا. وظلَّ هذا الاعتقاد شائعًا مدة السنين الأربع التي قضاها في كلية مازارين حيث فاق أقرانه في كل شيء. ولكنه عند تثبيته والاحتفال ببلوغه سن الرشاد أضاف اسم «ماري» إلى أسمائه في المعمودية. ثم أكمل دروسه ونال لقب دكتور بالحقوق، وأصبح في عِداد المحامين المشهورين، وكان شديد الولع بالألعاب الرياضية، ومع أنه كان ذا قوام قصير نحيل كقوام الفتاة فقد برز في هذا الميدان على كثيرين من الأقران، ولا سيما في اللعب بالسيف، ولعلَّه كان من أبرع اللاعبين به في أوروبا.

على هذا المنوال عاش شارل ديون في العشرين سنة الأولى من حياته، رجلًا ممتازًا باستكماله جميع صفات الرجولية، ولكنَّه لمَّا ذهب ليرى أباه وهو على فراش النزع سنة ١٧٤٩ ودَّعه أبوه بقوله: «خفِّفي عنكِ يا ابنتي، فالموت أمر طبيعي كالحياة، وكما أني عنيت بتعليمك كيف تعيشين، هكذا ينبغي لي أن أعلِّمك كيف تموتين.»

وبعدما تقلَّب في عدة مناصب اتفق له أن اتصل بمن عرَّفه للبرنس دي كوني رئيس جواسيس الملك لويس الخامس عشر، فأُعجب بمظاهره الأنثوية، ورأى أن ينتفع بها في خدمة جلالة الملك. ومع أنه كان في السادسة والعشرين من سنِّه، ظلَّ يلوح لعيون الناظرين إليه بوجه فتاة في الثامنة عشرة، رشيقة القوام أنيقة الطلعة. ولشدة براعته في التنكر بزي فتاة، وفرط ذكائه ومهارته في معالجة الشئون السياسية على الوجه الأتم الأكمل، كان من السهل الانتفاع باستخدامه جاسوسًا في إحدى عواصم أوروبا، حيث يستعين بجنسه الزائف المصنوع كفتاة على الوصول إلى ما يعجز عن بلوغه كرجل.

وكان لويس الخامس عشر مهتمًّا أشد الاهتمام في إحكام صلات المودَّة والصداقة مع إليصابات إمبراطورة روسيا لإحباط مساعي فردريك الكبير وحطِّ منزلته عندها، فلم يجد أجدر بهذه السفارة المهمة من شارل ديون المحامي، الذي في استطاعته أن يتذرَّع بمحاسن أجمل فتاة، وكياسة أحذق الرجال، إلى نَيْل أرفع مكانة عند الإمبراطورة وحملها على مواصلة المفاوضات السرية مع ملك فرنسا بواسطة الملحنة.١

فاستدعاه الملك إليه وأبلغه أنه عيَّنه سفيرًا في روسيا، وبعد أيام فرغ من اتخاذ الأهبة وخرج لطيته البعيدة؛ غادة بارعة الحسن والجمال، يصحبها الشفاليه دغلاس، وهو أفَّاق سكوتلندي كان قد لجأ إلى باريس هاربًا من الحكم عليه بالموت. وقد وصفها بعضهم يوم برحت باريس إلى بطرسبرغ فقال: «صغيرة الجسم رشيقة القوام وردية الخدين زرقاء العينين كبيرتهما، حلوة المبسم حافلة بكل ما يمهِّد أمامها سبيل الفوز برضا الإمبراطورة والاستيلاء على قلوب عظماء الرجال في البلاط الروسي.» وقد حملت معها رسالة من لويس الخامس عشر بخطِّ يده إلى إليصابات، وخبَّأت في طي أحد كتب الحقوق الملحنة السرية لإجراء المفاوضات بها بين الإمبراطورة والملك.

فَسُرَّت إليصابات بهذه السفيرة البارعة الحسن والفائقة الذكاء، وبالغت في الاحتفاء بها والالتفات إليها، وبوَّأتها من فؤادها أرفع منزلة، وجعلتها موضوع أُنسها ولهوها في عزلتها وخلوتها، ولما أفضت الآنسة ليا (وهو الاسم الذي أطلقه ليون على نفسه) إلى الإمبراطورة بسرِّ تنكُّرها متكلِّفةً الخجل والارتباك، وإيجاس خوف اغتياظها من هذه المخادعة، لم تقتصر الإمبراطورة على تسكين اضطرابها وتبديد مخاوفها، بل أسرفت في إكرامها وتقريبها إليها؛ لأنها كانت مشهورة بشدة ميلها إلى محاسن الرجال. وقيل إنها جعلت هذه الآنسة المحتالة قارئتها المخصوصة، فكانت تقضي كل يوم بضع ساعات خالية بها وناعمة بقربها، وأذِنت لها أن تقيم في الغُرف المعدَّة في القصر للكونتس كاترين ورنزوف ابنة أخت وزيرها الخاص. وهذا الامتياز النادر المثال — أي شدة الاتصال بالإمبراطورة — أثار الريب والظنون وأطلق الألسنة بالتُّهم. على أن ديون لم يغفل عن استخدام هذه الفرص السانحة ذريعةً للوصول إلى الغرض الذي جاء لأجله، فتمكَّن من استمالة الإمبراطورة وحملها على عَقْد محالَفة مع فرنسا والنمسا، وهذه المحالفة أفضت إلى نشوب الحرب المعروفة بحرب السبع سنين. ودليلًا على رضا إليصابات عن قارئتها ومحبَّتها لها عهدت إليها القيام بعمل لا يُعهد به إلى غير السفير، وهو حمل معاهدة المحالفة إلى ملك فرنسا.

ومما يُذكر تأييدًا لهذه القصة (المعدودة عند بعض الكتَّاب أسطورةً ملفَّقة لا صحة لها) وجود صورة لديون في نحو هذا الوقت، تمثِّله فتاة بارعة الجمال ذات صدر رحب كبير. فإذا كانت هذه الصورة مأخوذة عن رسمها الحقيقي كما نعتقد لم يبقَ أقل شك في صحة أنثويتها واستحالة كونها رجلًا.

وفي السنة التالية عاد ديون إلى روسيا شاغلًا لمنصب كاتم أسرار السفارة وفي ملابس رجل، فلقي عند العظماء والكبراء حفاوةً وإكرامًا لا مزيد عليهما. كان موضوع إعجاب الرجال بما أظهره من البراعة في الألعاب الرياضية، ولا سيما اللعب بالسيف. وكان عند السيدات الشريفات موضوع الحيرة والدهشة وآية التعجُّب والاستغراب، وشدة الرغبة في حلِّ لغز جنسه والوقوف على كُنه سرِّه.

وفي هذا الوقت شاعت مسألة جنسه وذاعت، وأصبح التحدث بها ملء الشفاه والألسنة في عواصم أوروبا وأمهات مدنها، وصار للكلام عليها صدًى تُردِّده أندية الرجال ومجالس السيدات. ولما رجع إلى باريس تسابق الناس رجالًا ونساءً إلى استقباله والاحتفاء به، وكان له عند السيدات على الخصوص شأن عظيم. وسأله واحد أن يُميط لثام الغموض والخفاء عن حقيقة نفسه، فكان يتخلَّص من الجواب ببراعة محامٍ وخفَّة لاعب بالسيف.

ولما طال تغزُّل الرجال به وإعجاب النساء ببارع حُسنه ورائع جماله، سئمت نفسه هذه التملقات، وصحَّت عزيمته على أن يبرهن للناس أنه وإن كان امرأةً لا يعجز عن إتيان ما يفتخر بعمله أشد الرجال ساعدًا وأذكاهم عقلًا. فاستأذن في الانضمام إلى الجيش ليخوض المعارك الناشبة بين فرنسا وممالك إنكلترة وبروسيا وهنوفر، فأُذِن له، وظلَّ أشهرًا يبدي من البسالة والإقدام في ساحات الصدام ما أدهش الأبطال. وقد تولَّى قيادة الدراغون وكاد يذهب بعقول الذين كانوا يعدُّونه امرأةً ويقسمون على صحة ذلك أغلظ الأيمان، ويؤيدونها بألف دليل وبرهان. وفي ذات يوم حمل برجاله الدراغون على كتيبة بروسية فمزَّق شملها كل ممزَّق، وغادرها كلها قتلى وأسرى وجرحى.

ولما عاد إلى باريس مكلَّلًا بغار النصر والظفر كان الدوق دي نافرناي على أُهبة السفر إلى إنكلترة لعقد الصلح، فتعيَّن قائد الدراغون كاتمًا لأسراره، وذهب معه إلى إنكلترة حيث قضى عدة سنوات في المغامرة واقتحام ما لا يُحصى من المخاطر، وكانت شهرته قد سبقته وأعدَّ له في بلاط الإنكليز ما شاء من ضروب الحفاوة والتكريم بين رجال العظمة ونساء الشرف. وكان على الخصوص موضوع اهتمام الملكة صوفيا شارلوت قرينة الملك جورج الثالث، التي كثيرًا ما خلت به ساعات طوالًا متملية لذة محادثته والكلام معه. وأصبح الناس في إنكلترة يلغطون في سرِّ ديون الخفي، ويذهبون في حلِّ لغزه مذاهب مختلفة.

وكثيرات من السيدات دعوْنَهُ إلى منازلهن في لندن وخارجها، فخرج من لدن كلٍّ منهن خروج يوسف من لدن امرأة فوطيفار، وكان هذا مؤيدًا لحجة القائلين إنه امرأة.

أما سفير فرنسا في لندن، فصرَّح غير مرة أمام كثيرين من الأعيان والعظماء بأن ديون امرأة. ولشدة اختلاف الآراء في هذا الموضوع راجت سوق المراهنات على مبالغ باهظة بلغت عشرات الألوف من الجنيهات، وكثيرًا ما كانت تؤدِّي إلى مشاغبات ورفع الدعاوي إلى المحاكم.

وزعم بعضهم أنه لم يكن امرأة فقط، بل كان ذا لحية طويلة، وقد مثَّله أحد المصورين في هذا الوقت بملامح أنثى نحيلة القد زرقاء العينين صغيرة الجسم صفراء اللون طويلة اللحية، وطول قامتها خمس أقدام وسبع بوصات.

وكان ديون يغضب أشد الغضب عند سماعه هذه الأحاديث والمراهنات والتقوُّلات عليه، وكثيرًا ما كان حموُّ غيظه يدفعه إلى الهجوم على بعض المتعرضين له بهذه المواضيع وإصابتهم بضربات أليمة وجراح بالغة. وعلى إثر ذلك برح لندن ولم يعلم أحد إلى أين ذهب، وفي أثناء غيابه اتسع مجال التخرُّص والتكهُّن، ولمَّا عاد اشتدَّ الحجَاج واللجَاج وحمي وطيس الصخب والشغب، وكان ذلك بين النساء أجلى وأظهر؛ فإن كثيرات منهن بذلن كل ما يستطاع من الجهد في انتزاع سرِّه من صدره، ثم عُدْن خائبات غير ظافرات بشيء. وبلغ من شدة اهتمام إحدى الفتيات، وهي الآنسة ولكس، أن كتبت إليه رسالةً هذه ترجمتها:

الآنسة ولكس تهدي تحيتها إلى الشفاليه ديون وترجو أن يخبرها صريحًا أرجل هو أم امرأة كما يعتقد كل واحد؟

ولكنه أعرض عن هذه الرسالة ولم يُعِرها أقل التفات.

وبعدما أُمضيت معاهدة الصلح رجع بها إلى فرنسا، فأنعم عليه الملك بوسام سنت لويس الملكي ولقب فارس، وعاد إلى إنكلترة سفيرًا مؤقتًا. ولكن أعداءه كانوا يكيدون له المكايد وينصبون المصايد للإيقاع به والإجهاز عليه، وكانوا يتهمونه بأنه يُفشي أسرارهم ويُسرف في تنقُّصهم والوقيعة بهم. وممن تصدَّى لشارل ديون وتعمَّد مناوأته الكونت دي غرشي الذي خلفه سفيرًا لفرنسا في البلاط الإنكليزي.

وكان دي غرشي من كبار أعيان فرنسا وأصحاب الحَوْل والطَّوْل فيها، ومن أنصار المعارضين للملك والناقمين عليه. وأهم ما وَجَّهوا التفاتهم إليه القضاء على إدارة الجواسيس التي كان ديون من أكبر عمَّالها، ولما اطَّلع الملك لويس على مقاصدهم بعث إلى الشفاليه ديون برسالة ينذره فيها بالأخطار المحدقة به، وينصح له بارتداء ملابس سيدة والاختباء في أحد أحياء لندن؛ لأن إقامته في منزله غير سليمة العواقب، ولكن ديون لم يكن ممن يسهل ترويعه. وكان ذا قلب لا يرهب الخطر. فازدرى أعداءه ولم يحفل بوعيدهم وتهديدهم. على أنه لم يُهمِل الحذر والتوقِّي، فاحتاط لنفسه بأن حصَّن منزله ودعا إليه بعض الأصدقاء المخلصين للاستعانة بهم عند الحاجة.

وممَّا اتخذه من الاحتياطات استعدادًا للطوارئ أنه علَّق مصباحًا ينير الليل كله، واحتفظ بمحضأٍ٢ حامٍ يظل بجانبه نهارًا وليلًا. وكان عنده من الأسلحة ثماني طبنجات وبندقيتان وبعض الخناجر. أما الحامية فكانت عبارة عن بعض جنود الدراغون الذين كانوا مدة خدمتهم في الجيش تحت لوائه، وبينهم بعض شُذَّاذ الآفاق الذين التقطهم ديون من شوارع لندن. هؤلاء أقاموا في أقباء المنزل (أي الطبقة السفلى أو «البدرون»)، وكان عليهم ألَّا يمنعوا ضباط الشرط الفرنسويين من دخول المنزل إذا حاولوا ذلك في أية ساعة كانت. وبعدما يدخلون يلتفتون حولهم ويسدُّون عليهم طرق النجاة، وكان عليه هو أن يراقب الحصون. ومما اتفقوا عليه أنه إذا ظفر الأعداء به يشير إلى رجاله بعلامة مخصوصة لكي يهربوا وينجوا بأنفسهم عندما يشعل الألغام المخبوءة تحت الغرف الكبرى والدرج.

وكان في بعض الأحيان إذا أقدم على مزايلة حصنه يخرج كميًّا مدججًا بالأسلحة، ومنذِرًا كل من تحدِّثه نفسه بمحاولة القبض عليه بأنه على الفور يرميه فيصميه، أو يرمي نفسه ويوردها رمسه. وقال أحد المؤرخين بعدما ذكر إنذاره هذا: «ولا ريب في أنه كان قادرًا على إخراجه من القوة إلى الفعل.»

وقد وقف دي غرشي على هذا الإنذار، وكان قد جاءه بلاغ من الحكومة البريطانية تنذره فيه بأنه بموجب شريعتها لا يمكنها أن توافق على اعتقال الشفاليه ديون ولا على ضبط أوراقه. وبناءً عليه عدل السفير عن المكيدة التي كان يدبِّرها لاختطاف ديون وأخذه إلى فرنسا، وعزم على السعي بالفتك به سرًّا؛ فتصنَّع المسالمة والمصافاة ودعا الشفاليه إلى وليمة عشاء احتفالًا بالمصالحة، فقبل ديون الدعوة، ولكنه ارتاب بها فذهب متحرِّزًا متيقِّظًا وعيناه مفتوحتان لرؤية كل شيء. وبينما كان آخذًا بأطراف الحديث مع السفير رأى حاجب غرشي يدسُّ سمًّا في خمره، فكتم ذلك وتجاهله ولم يشرب الخمر. وبعد أيام استدعت محكمة لندن السفير متَّهَمًا بمحاولة سَمِّ غيره، واعترف الحاجب بجريمته، لكن غرشي احتمى بامتياز كونه سفيرًا، وأبى أن يُحاكَم.

وفي ذات ليلة كان ديون راجعًا إلى منزله، فحملت عليه عصابةٌ من السفلة المأجورين، ولكنه استلَّ حسامه وأعمله في أقفيتهم فجندل ثلاثة منهم ونكص الباقون على أعقابهم هاربين، وبذل أعداؤه كثيرًا من المساعي لإغرائه بالرجوع إلى فرنسا فلم يُفلحوا.

وكان غرضهم من حمله على العودة إلى فرنسا أن يستردُّوا منه أوراقًا تتضمَّن رسم خطة مدبَّرة من قبل لويس الخامس عشر نفسه لمهاجمة إنكلترة بعد إمضاء معاهدة باريس بشهرين. وكان أعداء الملك مستعدين لبذل كل غالٍ نفيس في سبيل الحصول على هذه الأوراق، ومما يصحُّ اتخاذه أوضَحَ دليلٍ على تفاني ديون في الأمانة والإخلاص لمليكه وشدة حرصه على كرامة نفسه وعزَّتها، استعداده لبذل نفسه في سبيل الاحتفاظ بهذه الوثائق وعدم التفريط فيها. وقد عرض عليه زعماء الحزب المعارض في مجلس النواب البريطاني عشرين ألف جنيه ثمن هذه الأوراق، وكان حينئذٍ صفر اليدين وفي أشد حالات الفقر المالي، فرفض قبول هذا المبلغ الباهظ بشمم وإباء لا مزيد عليهما. فأُعجب لويس بشدةِ ولائِهِ، وجعل له راتبًا سنويًّا قدره نحو عشرة آلاف جنيه.

وبعد وفاة لويس الخامس عشر ساءت حالة ديون واضطر أن يسعى بواسطة بومارشيه في تملُّق الملك الجديد والتزلُّف إليه، ولكنه في هذه الأثناء ارتكب غلطة فظيعة؛ إذ اعترف بأنه امرأة. وهذه الغلطة اضطرته على رغمه أن يظلَّ منتحلًا هذه الجنسية إلى يوم وفاته. ويظهر أنه أفضى بهذا الاعتراف نفسه إلى المسيو غودن الذي صحب المسيو بومارشيه إلى لندن؛ فقد قال: «لقيتُ الآنسة ديون في وليمة العشاء التي أولمها اللورد ولكس حاكم لندن، فباحت لي وعيناها مغرورقتان بالدموع بأنها أنثى، وأرتني آثار الجروح التي أصابتها عندما قُتل جوادها تحتها وداستها حوافر الخيل وغادرها أعداؤها مطروحةً في ساحة القتال ظانِّين أنها ماتت.»

وهذا الاعتراف عاد على ديون بأوخم العواقب، وحال دون إجابة طلبه لأنْ يُعاد تعيينه سفيرًا لفرنسا في لندن. وألحَّت عليه حكومة فرنسا في وجوب ارتداء الملابس المخصَّصة بالجنس الذي اعترف بالانتماء إليه.

ومن أدلة تماديه في الخُرْق والغباوة أنه كتب عن نفسه في حاشية صك الاتفاق الذي عقده مع المسيو بومارشيه لاستمرار حصوله على الراتب السنوي، الذي سبقت الإشارة إليه ما ترجمته: «وقد تحقَّق كون الآنسة ديون أنثى بشهادة كثيرين من الأطباء والجرَّاحين والقوابل والوثائق الرسمية.» وعلاوة على ذلك عاهدت (نشير إليها بصيغة المؤنث حسب إقرارها) أن ترتدي ملابس امرأة. وبناءً عليه وخوفًا من خسارة الراتب، عزمت ديون على العمل بموجب الاتفاق. وفي اليوم السادس من شهر أغسطس سنة ١٧٧٧، ظهرت في لندن أول مرة تميس بحلَّة فاخرة ومزدانة بأغلى الحِلى والجواهر. وفي اليوم التالي أولمت وليمة كبيرة دعت إليها كثيرين من الصديقات والأصدقاء، وبرزت أمامهم بحلَّتها الشائقة وحِلاها النفيسة.

وبعد أيام برحت لندن إلى فرنسا بعد غياب طويل وهي في بذلة قائد دراغون وصدرها محلًّى بالوسامات التي عندها، فاستاء رجال الحكومة من عملها هذا، وهدَّدوها بقطع الراتب إن لم تبادر إلى الظهور بملابس امرأة، فاعتذرت بأنه ليس عندها الآن من الملابس ما يليق بها الظهور فيه. وعلى الفور أهابت الملكة ماري أنطوانِت بخيَّاطتها الخاصة وأمرتها أن تخيط لديون كل ما هي في حاجة إليه.

وبعد بضعة أسابيع ذهبت لتزور والدتها العجوز بعد غيابها عنها ثماني عشرة سنة، فاستقبلت ولدها الضال، وخاطبتها بصيغة المؤنث مع كونها مَثَلت أمامها في ثياب رجل. ثم رجعت إلى قصر فرسايل وارتدَتِ الحلَّة الجديدة التي أمرت الملكة بخياطتها لها، وحضرت الاحتفال بعيد سنت أرسولي في حلَّة زاهرة باهرة وهي معطَّرة بالأطياب ومحلَّاة بالأساور والقلائد والشنوف والخواتم.

وبعد بضع سنوات قضتها معتزلة في بلدة تونير مسقط رأسها غادرت فرنسا عائدة إلى إنكلترة حيث عزمت أن تقضي بقية أيامها، وكانت أعظم تسلية لها الارتياض بما كانت تزاوله في أيام صباها وهو اللعب بالسيف. وقد أظهرت فيه براعة أدهشت حتى أبطال هذا الفن المعدودين في بلاد الإنكليز.

وكانت في هذا الوقت قد أصبحت في أول العقد السادس من عمرها، ومع ذلك أقدمت على منازلة سنت جورج في اللعب بالسيف، وهو أشهر لاعب به في أوروبا، وقد حدث نزالها في كرلتون هوس بحضور ولي العهد، وكان لها الكفَّة الراجحة على خصمها.

وفي أواخر حياتها عضَّها الفقر بنابه ووطئها بمنسمه، فاضطرت لشدة حاجتها أن تبيع كل ما عندها من الحِلى والجواهر والأعلاق النفيسة. ولما أنفقت ثمنها على معيشتها وإيفاء ديونها صارت تعيش من صدقات بعض الأصدقاء الأخصاء، من ذلك خمسون جنيهًا في السنة من الدوق كوينسبري.

وفي سنيها الأخيرة عاشت مع امرأة اسمها مسز كول، وكان لكرور السنين أثر ظاهر في وجهها المغشَّى بالغضون والتجاعيد. ومما قالته عن نفسها: «إن حياتي في هذا الوقت انقضت بالأكل والشرب والنوم والصلاة والكتابة ومساعَدتي لصديقتي مسز كول على قضاء الأعمال المنزلية.»

ثم تملَّكها الضعف والهرم وأفنى قواها مرور السنين والأيام، فقضت نحبها في صباح اليوم الحادي والثلاثين من شهر مايو سنة ١٨١٠. واللغز الذي ظل حلُّه أكثر من خمسين سنة مستعصيًا على أهل أوروبا كلها هان صعبه وسهل الوقوف على حقيقته. فبموتها اتضح أن ديون كان رجلًا، والطبيب الذي شرَّح الجثة شهد أمام اللورد ياربورو والسر سدني سمث وغيرهما من كبار الأعيان بأن ديون لم يكن سوى رجل.

وكانت مسز كول أشد الناس دهشةً وتعجُّبًا من إعلان هذه الحقيقة؛ لأنها قضت هذه السنين الطويلة في معاشرة ديون وهي موقنة أنه امرأة. ولمَّا وقفت على شهادة الطبيب أغمي عليها وظلَّت ساعات غائبة عن الرشاد.

١  الآلة المستعمَلة للبنايات السرية المعروفة باسم «شيفر».
٢  المحضأ: آلة من حديد لتحريك النار وتذكية اشتعالها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤