الكتاب السابع: المُثُل

خلاصته

يتخطَّى سقراط إلى تبيان ما للتهذيب الحقيقي من الشأو الخطير الذي سبق وصفه، فلنتصور طائفة من الناس مكبلين بالسلاسل منذ ولادتهم، يقيمون في كهف تقابل ظهورهم مدخله، وراءهم نار مشتعلة ذات لهب، بينها وبينهم طريق يمرُّ عليه أُناس، أمامهم جدار إلى مستوى رءوسهم فيخفيها، ويأذن برؤية ما حملوه فوقها، فتلقي ظلالها بسبب اللهب التي وراءها على جدران باطن الكهف أمام عيون السجناء، فتظهر تلك الظلال لهم أنها هي اليقينيات الوحيدة. فافرض أن أحد السجناء حُلَّ من أغلاله وصعد إلى ضوء النهار، وألف بالتدريج رؤية ما حوله، فتسنَّى له إدراك حقيقتها، فنسبة شخص كهذا إلى السجناء السفليِّين كنسبة الفيلسوف إلى العامة المهذبين تهذيبًا ناقصًا، فإذا عاد هذا إلى الكهف واستأنف مركزه وعمله السالفَين كان في أول الأمر موضوع هزء الرفاق، كما أن الفيلسوف الحقيقي موضوع هزء الناس، على أنه متى استرد أُلْفَتَهُ للسجن كانت معرفته فائقة معرفة رفقائه السجناء باعتبار الظلال والحقائق التي وراءها. هكذا الفيلسوف إذا هو اشتغل بالمصالح البشرية تفوَّق على مناوئيه بسلاحهم، وذلك ما يجب أن يكونه حكامنا. ولنوسع المشابهة إلى أبعد حدودها، فنقول: كما أن جسم السجين الذي فُكَّتْ أغلاله التفت إلى الوراء ليرى الجهة الآتي منها النور، هكذا غرض التهذيب، لفت النفس لترى ببصيرتها أو ذهنها وجهة الصواب. فالتهذيب لا يخلق ولا يلقن مبدأً جديدًا، إنما يرشد ويوقد إلى مبدأ موجود. وكيف تحصل هذه النهضة في النفس؟ الجواب أنها تحصل بالدرس الذي يرمي إلى اجتذاب العقل من الحسيَّات إلى اليقينيَّات، من المنظورات إلى غير المنظورات والأبديَّات. وكل ما يثير العقل إلى التفكُّر في طبيعة الأشياء الجوهرية يؤدي إلى إحراز النتيجة نفسها.

وتشتمل سلسلة الدروس اللازمة لذلك على الحلقات التالية:
  • (١)

    الحساب.

  • (٢)

    الهندسة السطحية.

  • (٣)

    الهندسة المجسَّمة.

  • (٤)

    الفلك باعتبار حركات أجرامه المجرَّدة.

  • (٥)

    علم التوازن.

  • (٦)

    المنطق البرهاني. أو علم الوجود الحقيقي.

ولمَّا فرغ سقراط من البحث في طبيعة التهذيب الحقيقي تقدَّم إلى وضع قواعد عامة لانتقاء الأشخاص الذين تسبَغ عليهم نعمة التهذيب، والمدة التي يشغلها كل فرع من فروعه، وفوق الكل المدة اللازمة لدرس المنطق، فلا يجوز التبكير فيه لئلَّا يُفسده سوء الاستعمال. وهنا ينتهي البحث في الدولة الكاملة وفي الإنسان الكامل.

متن الكتاب

سقراط : فمن ثمَّ نقابل حالنا الطبيعية باعتبار الجهل والتهذيب بالمثل التالي: تصوَّر طائفة من الناس تعيش في كهف سفلي مستطيل، يدخله النور من باب في طوله، وقد سجن فيه أولئك الأقوام منذ نعومة أظفارهم، والسلاسل في أعناقهم وأرجلهم، فاضطرتهم إلى الجمود والنظر إلى الأمام فقط لحيلولة الأغلال دون التفاتهم. ثم تصوَّر أن وراءهم نارًا مُلتهبة في مواضع أعلى من موقفهم، وأن بينهم وبينها دكَّة عليها جدار منخفض كسياج المشعوذين الذي يُنصِّبونه تجاه مشاهديهم، وعليه: يُجرون ألعابهم المدهشة.
غلوكون : إني أتصور ذلك.
س : وتصوَّر أُناسًا يمشون وراء ذلك الجدار، حاملين تماثيل بشرية وحيوانية، مصنوعة من حجارة وأخشاب ضخمة من كل أنواع الأواني مرفوعة فوق الجدار. وافرض أن بعض أولئك المارَّة يتكلم كما هو المنتظر وبعضهم صامت.
غ : إنك تُصوِّر مشهدًا غريبًا وسُجناء مستغربين.
س : ولكنهم يمثِّلوننا. وأولًا أسألك: هل تظن أن أولئك السجناء يقدرون أن يروا بعضهم بعضًا، أو يرون شيئًا سوى الظلال التي أحدثها اللهيب وراءهم؟
غ : مؤكد أنهم لا يرون سواها؛ لأنهم أُرغموا ألَّا يلتفتوا مدى الحياة.
س : أوَليست معرفتهم بما يمرُّ أمامهم من الأشياء محدودة على القياس نفسه؟
غ : من كل بُد.
س : ولو أنهم تمكَّنوا من المحادثة، أفلا تظن أنهم كانوا يُسمون الأشياء التي يرونها تمرُّ أمامهم؟
غ : يسمُّونها بلا شك.
س : ولو ردَّ الجدار تجاههم الصدى كلما فتح أحد المارَّة فاهُ، أفتظن أن السجناء يحسبون المتكلم إلَّا تلك الظلال التي يرونها على الجدار؟
غ : من كل بد إنهم يعزون الكلام إليها.
س : فاليقينيَّات الوحدة عندهم هي ظلال الأدوات المصنوعة.
غ : لا شك في أن أشخاصًا كهؤلاء يحسبونها كذلك.
س : فتأمل في ما يحدث لهم إذا أفضى مجرى الأمور الطبيعي إلى تحريرهم من القيود، وشفائهم من جنونهم على ما يأتي: لنفرض أن أحدهم حُلَّتْ أغلاله ونهض واقفًا على قدميه، فتمكَّن من الالتفات إلى الوراء، والسير بعينين مفتوحتين في جهة النور. ولنفرض أن عينيه تتألَّمان لأن النور بهرهما، فعجزتا عن رؤية الأشياء التي كان يرى ظلالها فيما سلف، فما ظنك في ما لو أخبره أحد أن ما كان يراه سابقًا ليس إلَّا أشباحًا، وأنه الآن يرى حقائقها وأصولها، فهو الآن أدنى إلى الحقيقة منه قبلًا؛ لأنه اتجه نحو ما هو أكثر يقينيَّة ووضوحًا، وعلاوة على ذلك أنه يرى ما يمر أمامه من الأمور المنوعة، فيسأله عنها، ويحمله على الإجابة عمَّا رآه؟ أفلا تظن أنه يتحيَّر في أمره، ويحسب الأشباح التي كان يراها فيما مضى حقائق أكثر من الحقائق التي يراها الآن؟
غ : بلى، بأكثر تدقيق.
س : وإذا أُجبر على النظر إلى النور، أفلا تتألم عيناه فيتحاشاه، ويحول النظر إلى الأشباح لأنه يستطيع التحديق بها، فيزعم أنها أكثر وضوحًا من تلك؟
غ : تمامًا هكذا.
س : وإذا جذبه أحد بعنفٍ إلى فوق في المرتقى الصعب، ولم يتركه حتى أوصله إلى نور الشمس، أفلا يستاء ويتألَّم من جراء عنفٍ كهذا؟ ومتى وصل إلى فوق ألا يجد أن عينيه قد بُهرتا، حتى تعذَّر رؤية شيء من الأشياء التي تُدعى حقيقية؟
غ : نعم، هذا هو حاله في البداءة.
س : ولذا أرى من الضرورة أن يأتلف أشياء العالم الأعلى ليفهمها، فيصيب أولًا أعظم قسط من النجاح في تمييز الظلال، ثم يميز صور الناس وصور غيرهم منعكسة عن الماء، وبعدها يرى اليقينيَّات بعينها، ثم يرفع عينيه إلى القمر والنجوم في الليل، فيجد درس الأجرام السموية والسماء معًا أسهل عليه ليلًا من درس الشمس ونورها نهارًا.
غ : بلا شك.
س : ويُخيَّل إليَّ أنه يتمكن أخيرًا من رؤية الشمس ذاتها والتفكُّر بها، لا معكوسة عن سطح الماء أو ممثَّلة بأشباح، بل يراها ذاتها في منطقتها.
غ : معلوم.
س : والخطوة الثانية هي أنه يستنتج أن الشمس علة توالي الفصول والسنين، وأنها الحاكم الأعلى على العالم المنظور، وأنها علة كل ما كان يراه ورفاقه من الأشياء.
غ : واضح أن هذه ثاني خطواته.
س : وحين يذكر مسكنه الأول وما فيه من حكمة وأصحابه في الأغلال، أفلا تظن أنه يحسب نفسه سعيدًا، فيغتبط بنفسه ويشفق عليهم؟
غ : ذلك أكيد.
س : وإذا كان من عادتهم أن ينال الشرف والمكافأة من كان أكثرهم تدقيقًا في ما يمرُّ أمام عيونهم من الصور، ويمتلك ذاكرة أحفظ في معرفة السابق واللاحق، وما رافق الصور، حتى صار قادرًا أن يُنبئ بما بعدها. أفتظن أن صاحبنا يطمع في تلك الجعالات، وتحسد من أحرز مجدًا ونفوذًا بينهم؟ أوَلا تظن أنه يؤثر بالأحرى أن يتحمل ما قاله هوميروس:
فأرى استعباد نفسي
لفقيرٍ في الأنام
هو خير من عروشٍ
في أعاميق الظلام
مؤثرًا احتمال كل شيء على الاستسلام للتصوُّرات الوهمية، والمعيشة على ذلك النحو.
غ : أما أنا فإني من هذا الرأي. وأظن أنه يؤثر احتمال أي شيءٍ كان على تلك المعيشة.
س : فتصور ما يحدث إذا هبط ذلك الإنسان ثانيةً إلى الكهف، واستعاد مقرَّه السابق، أفلا يغشى الظلام عينيه لانتقاله فجأة من نور الشمس الساطع إلى ظلمات ذلك المكان؟
غ : مؤكد أنه يغشاها.
س : وإذا اضطر إلى إبداء رأيه في تلك الظلال ومجادلة الراسفين في القيود كل الدهر بخصوصها، حال كون عينيه حسيرتين. وإذا ظل على تلك الحال زمنًا طويلًا، أفلا يصير موضوع هزءٍ؟ أوَلا يقولون: إنه صعد سليم النظر وعاد عليله، فليس من الصواب برح هذا الكهف. وإذا حاول أحد فك أغلالهم وإصعادهم إلى النور، أفلا يستاءون منه إلى حد أنهم يغتالونه، إذا كان في طاقة يدهم الإيقاع به؟
غ : بلى إنهم يغتالونه.
س : فيلزم تطبيق هذا المثل الخيالي بأجمعه يا صديقي غلوكون على حالنا السالفة، مقابلين مدى النظر بالسجن، واللهب التي فيه بنور الشمس الساطع، وإذا قابلت الصعود إلى سطح الأرض ورؤية ما عليها من الأشياء بارتقاء النفس من سجن جهلها إلى العالم العقلي الأعلى، فإنك حينذاك تلمس ظنوني ما دمت ترغب في معرفتها، والله وحده يعلم أصحيحة هي أم لا. وعلى كلٍّ فإن الرأي الذي اخترته بهذا الشأن يتمشَّى على ما يأتي: أن «صورة الخير» الجوهرية في عالم المعرفة هي حد أبحاثنا، وآخر ما يمكن فهمه، ولكن متى أدركناها لا يمكننا إلا أن نستنتج أنها في كل حال أصل كل ما هو جميل وباهٍ، ففي العالم المنظور تلد النور وربَّه، وفي العالم العقلي تمنح بمطلق سلطانها الحق والعقل. وكل من رام أن يتصرف بحكمة فردًا كان أو مجموعًا، يجب أن يضع نصب عينيه «صورة الخير» الجوهرية.
غ : أوافقك في ذلك جهد الطاقة.
س : وإذ الحالة هذه فوافقني أيضًا في نقطة ثانية دون ما تعجُّب، وهي: أن من حلَّقوا في أعالي السمو يترفَّعُون عن الاشتباك بالمصالح البشرية؛ لأن نفوسهم تأبى أن تهجر العالم الأعلى. وكيف يمكن أن يكون الحال خلاف ذلك إذا كانت المشابهة السالفة تمثل حالهم تمثيلًا صحيحًا؟
غ : بالحقيقة إنه يندُر أن يكون الحال خلاف ذلك.
س : حسنًا، أفتظنه أمرًا عجيبًا أن من عرج عن التفكُّر في الإلهيات إلى درس النقائص البشرية يُبدي الارتباك ويصير أُضحوكة؛ لأنه وهو مُشيح عنه ببصره ولم يأتلف الظلمة التي تكتنفه، مُلزم أن يجاهد في قاعات القضاء وفي غيرها في ما يختص بظلال العدالة، أو الأشباح التي أحدثت هذه الظلال، وأن يدخل معمعان النضال المفعم بالفروض التي يقبلها الذين لم يدركوا قبسًا من مطالع العدالة الجوهرية؟
غ : ليس عجيبًا.
س : لأن الرجل العاقل يعلم أن العيون تتشوَّش بأمرين متمايزَين، أو سببين متباينَين، هما: الانتقال فجأة من النور إلى الظلام، أو من الظلام إلى النور، وإذ يعلم أن ذلك ينطبق كل الانطباق على حال النفس لا يهزأ هزءًا سفيهًا بمن يراه حائر العقل، قلق الأفكار، غير قادر أن يميز بين الأشياء، بل يُنعم النظر ليرى أمن حال أكثر بهاء قدمت تلك النفس فغشيَها الظلام؟ أم من دياجير الظلام إلى حالٍ أبهى فبهرها النور؟ وحينذاك، وليس إلَّا، يهنئ الواحدة على حظها السعيد وحياتها الحرة، ويشفق على الأخرى لمصابها الثقيل. ولو جاز له أن يهزأ فهزؤه بالنفس الصاعدة من الظلام إلى النور هو أقل سماجة من الهزء بالنفس الهابطة من النور إلى الظلام.
غ : بتعقُّلٍ تام تتكلم.
س : فإذا صحتْ هذه الأحكام فلا مندوحة لنا عن التسليم بأن طبيعة التهذيب الحقيقية تخالف ما يزعمه بعض أساتذته، الذين يدَّعون أنهم يبُثُّونه في العقل معرفة كان خلوًّا منها، بثَّ البصر في الأعيُن العمياء.
غ : حقًّا إن هذا هو ادِّعاؤهم.
س : على أن بحثنا أرانا أن في كلٍّ مِنَّا آلة تساعدنا في تحصيل العلم، كما أنه لا يمكن تحويل العين من النور إلى الظلام بدون أن يتحول الجسم كله، هكذا أمر هذه القوة مع النفس، فيلزم تحوُّل النفس كلها عن العالم الفاني، ليمكنها التفكُّر في عالم الحقيقة وفي أبهى قسمٍ منه، وهو ما ندعوه: «صورة الخير». ألستُ مُصيبًا؟
غ : مُصيب.
س : فيستلزم هذا التحوُّل فنًّا يعلمنا كيف نُحوِّل الجسم بأسهل الطرق وأعظمها تأثيرًا، وليس عمله أن يخلق في الشخص قوة البصر، بل أن يُسلِّم بوجودها فيه، ولكنها ذاهبة في وجهةٍ خاطئة، فلا تتجه إلى حيث يلزم، فغرض ذلك الفن هو إصلاح هذا الخطأ.
غ : هكذا يظهر.
س : ولذلك فمع أن فضائل النفس تحكي فضائل الجسد باعتبار أنها لم تكن أصلًا في النفس، وإنما نشأت فيها بمرور الزمان بالعادة والمرانة، فمن الجهة الأخرى تنتمي فضيلة الحكمة إلى أقدس عُنصر، وهي لا تفقد قوتها بتغيير المكان، وإنما تُصبح نافعة ومريحة، وإلا ظلَّتْ عقيمة وضارة؛ لأنك ولا بد قد لاحظت ما أحدُّ نظر النفوس الصغيرة في من اشتهروا بالذكاء وهم أشرار، وما أكثر تدقيقهم في ما اتجهت إليه أنظارهم. فيدلنا ذلك على أن قوة البصر فيهم غير ضعيفة، مع أنهم بكليتهم عبيد الشر والفساد، وأن شرورهم مقيسة بحدة نظرهم.
غ : نعم، هذا هو الواقع.
س : على أنه لو تحررت هذه المزايا منذ طفولة الإنسان من الأثقال الناجمة عن اللذَّات والشهوات الجسدية المرتبطة بها، كالولائم والنهم وأمثالهما التي تستميل البصيرة إلى أسفل الأمور، فإذا تحررت النفس من هذه الآفات إلى الحقائق، ووجَّهَتْ بصيرتها نحو الأشياء الحقيقية، لكان لنفوس أولئك الأشخاص نظر ثاقب في أعمالٍ كهذه، كما في الأعمال التي يُزاولونها.
غ : ذلك مُرَجَّح.
س : أوَليس مُرجَّحًا أيضًا، بل بالحري: أليس نتيجة لازمة لأبحاثنا السالفة أنه لا يستطيع عديمو التهذيب والاطِّلاع ولا جاهلو الحقيقة ولا الذين يتسكَّعون الحياة بطولها في الطلب، أن يكونوا نُظَّار الدولة؟ أما الأولون فلأنه ليس في حياتهم غرض خاص اتَّخذوه هدفًا لتصرُّفاتهم الفردية والاجتماعية، وأما الآخرون فلأنهم لا يعملون إلا مُرغمين، ظانين أنهم وهم أحياء قد انتقلوا إلى جُزُر الأبرار.
غ : هذا حقيق.
س : فعملنا الخاص إذًا أن نحشد في مستعمرتنا أشرف الصفات، توصُّلًا إلى العلم الذي قلنا الساعة أنه «الأسمى»، وأن نثبت النظر على «الخير»، مع تسلُّق ذلك المرتقى الذي ذكرناه. ومتى صعدوا إلى فوق واتَّسع نطاق نظرهم، فلن نُبيح لهم من الحرية ما يُباح الآن.
غ : فما هو المباح الآن؟
س : هو المكث حيث هم، كارهين الانحدار ثانيةً إلى السجناء ليشاركوهم في جهودهم وفي ما يحسب عندهم شرفًا، حقيرًا كان أو جليلًا.
غ : أفنظلمهم بزجهم في حياة هي دون حياتهم الحالية؟
س : لقد نسيت يا صديقي أنه لا يهم الشريعة أن تعيش طائفة خاصة في الدولة عيشة ممتازة، بل هي ترمي إلى حصول الدولة جمعاء على تلك النتيجة التي لأجلها صار ضم الناس معًا، بالإقناع أو بالإرغام، وحملوا على اقتسام المغانم التي بها يتمكَّنون من نفع المجموع، وهي تخلق رجالًا يمتلكون هذه السجية السامية، لا لإطلاق أيديهم كلٌّ حسب هواه، بل لاستخدامهم في تعزيز بناء الدولة.
غ : حقًّا إني قد نسيت.
س : فحذارِ يا غلوكون أن نفسد فلاسفة المستقبل، بل لنعاملهم بعدالة تامَّة بإلزامهم أن يراقبوا إخوانهم المدنيِّين ويعتنوا بهم. وسنقول لهم: هنالك سبب لاعتزال زملائكم في الدول الأخرى المدنية؛ لأنهم قطنوا المدن باختيارهم رغم القانون النافذ فيها، وهو حق أن من نشأ لنفسه بنفسه، غير مدين لأحد بمساعدة، أن يكون حُرًّا من أداء ما يتوجَّب على المرء للآخرين. أما أنتم فقد ولدناكم للدولة، كما لأنفسكم؛ لتكونوا قُوَّادًا وملوكًا في القفير، وقد هُذبتم تهذيبًا أفضل وأتم من تهذيب الآخرين، فكنتم أكثر استعدادًا منهم لتمثيل الأسلوب الأفضل، فعلى كل منكم في دوره أن ينحدر إلى عند الجماعة (في الكهف) ويختلط بها، فتتعوَّدوا البحث في غوامض المواضيع، ومتى ألِفتموها فهمتم أكثر من أفراد الجماعة ألف ضعف، وعرفتم ماهية كل ظلٍّ وأصله، وباطِّلاعكم على الحقيقة التي علَّمناكم إيَّاها بخصوص الأشياء الجميلة والعادلة والصالحة، والأصل الذي عنه نُسخَتْ، وبهذه الوسيلة ترون ونرى أن حياة هذه الدولة أمر واقع، وليست شبحًا وهميًّا، كحياة الأمم الحاضرة المؤلفة من أقوام يتحارب أفرادها على الظلال، ويثيرون النضال على مناصب الحكم كأنها شيءٌ عظيم. والحقيقة التي أراها هي: أن المدينة التي يحكمها أقل الناس رغبةً في السلطة هي أسعد حالًا، وأكملها انتظامًا، وأقلها نزاعًا. والدولة التي يحكمها خلاف من ذكرنا هي ضدها حالًا ومآلًا.
غ : غاية في الإصابة.
س : أفتظن أن تلامذتنا يعصوننا إذا خاطبناهم بهذه الصورة، فيرفضون مناوبتنا العمل في خدمة الدولة، بينما يقضون أكثر أوقاتهم في المنطقة البهيَّة؟
غ : مستحيل؛ لأننا أعطيناهم وصية عادلة، ومن يُطِعها هو عادل، فسيدخل كلٌّ منهم إدارته كأمرٍ لا مندوحةَ عنه، ويتقلَّد منصبه كواجب لازب، ويحكم خلاف حكم القائمين بالأمر في كل دولة.
س : حقًّا يا صديقي، إن الأمر يجري هكذا إذا كان في إمكانك أن تجد للحكام العتيدين حياة خيرًا من حياة الحكم، فإنما يكون ذلك في تحقيق إنشاء دولة حسنة الإدارة؛ لأن فيها وحدها يحكم الأغنياء الحقيقيُّون، الأغنياء لا بالفضة والذهب، بل بثروة الإنسان السعيد، أي: حياة البر والحكمة. وإذا تسلَّط في الدولة الفقراء المعدمون المتهافتون على المنافع الذاتية، فقبضوا على أزِمَّة الأحكام بأجمعها، عازمين على استغلال هذه السلطة لذواتهم، فسدت الأحكام بأجمعها؛ لأنه بذلك يُصبح منصب الحكم موضوع النزاع في ما بينهم، فتشتعل نيران الحرب الأهلية، ولا تقف عند حد التهام الفئات المتنازعة، بل تلتهم الدولة بأجمعها.
غ : غاية في الصواب.
س : أفتقدر أن تذكر حياة لا تأبه للمناصب إلَّا حياة الفلسفة الصحيحة؟
غ : حقًّا أني لا أقدر.
س : ويجب أن يتقلَّد الأحكام غير الراغبين فيها، وإلَّا نشبَتِ الحرب بين المتزاحمين عليها.
غ : دون شك.
س : فمن هم الذين تلزمهم بالحكم إذا كنت ترفض أوفرهم خبرة في الأمور التي بها تتوافر الوسائل الضامنة أسمى إدارة في البلاد، والذين يمتلكون شرفًا أبقى وحياةً أرقى؟
غ : لن أرفض هؤلاء، بل أخُصهم بالحكم.
س : أفتريد أن نبحث في هذه المسألة: بأيَّة واسطة ينشأ رجال كهؤلاء في الدولة؟ وكيف يبرزون إلى النور، كالأبطال الذين قيل فيهم إنهم صعدوا من العالم السفلي إلى السماء؟
غ : حقًّا إني أريد أن تفعل ذلك.
س : وهي مسألة لا تنحصر في تقليب الأصداف١ (تغيير الظاهر)، بل في تحويل النفس، أي انتقالها من ليل ظلام دامس إلى نهار الوجود الحقيقي، وهذه هي الطريق التي بحق ندعوها الفلسفة الحقيقية.
غ : تمامًا هكذا في رأيي.
س : أفلا يلزم النظر في أي فرعٍ من فروع العلم أن تستقر القوة المطلوبة؟
غ : يقينًا إن ذلك واجب.
س : أفتقدر يا غلوكون أن تخبرني عن علم ينقل النفس من الفاني إلى الحقيقي (الباقي)؟ فإني فيما أنا أتكلم تذكرت أننا قُلنا: يجب أن يروَّضوا بفنون الحرب منذ حداثتهم. ألم نقُل؟
غ : بلى قُلنا.
س : فيجب أن يتَصف العلم المطلوب بهذه الطريقة وبالتي قبلها.
غ : وأيَّة صفة؟
س : الصفة التي يمكن المحاربون أن يستعملوها.
غ : ذلك مُستحسن إذا أمكن.
س : وقد عوَّلنا في بحثنا السالف على تهذيب تلامذتنا بالموسيقى والجمناستك.
غ : يقينًا.
س : فالجمناستك يتعلَّق بما هو متغيِّر وفانٍ؛ لأنه يتناول نمو الجسد وانحلاله.
غ : ذلك واضح.
س : فلا يمكن أن يكون الجمناستك الفرع الذي ننشده.
غ : كلَّا، لا يمكن.
س : وما قولك في الموسيقى، إذا نظرنا إليها كما تعلمنا في بحثنا الآنف؟
غ : ولا هذه لأنها قسيمة الجمناستك إذا كنت تذكر؛ لأنها تهذب حُكامنا بتأثير العادة، وتبلغ قلوبهم لا كعلم بل كنوع من الاتِّزان بواسطة الاتِّساق، ونوع خاص من الوزن، والمواضيع التي تعالجها وهمية كانت أو حقيقية. وتمثل سلسة أخرى من الصفات شقيقاتها، ولكنها لا تحتوي على فرعٍ من الدرس يأتي بنفعٍ كالذي أنت في صدده.
س : ذاكرتك حافظة، فإن الموسيقى لا تمتلك شيئًا من هذا النوع. ولكن يا صديقي الفاضل غلوكون، أين نجد هذا الشيء الذي نحتاج إليه؟ فقد حسبنا كل الفنون تسفل بصاحبها.
غ : لا شك في أننا قد حسبناها كذلك، فأيُّ درس بقي غير الجمناستك والموسيقى والفنون المفيدة؟
س : إذا لم نجد شيئًا وراء هذه مستقلًّا عنها، فلنأخذ أحد الدروس العامة التطبيق.
غ : وما هو هذا الدرس؟
س : هو العلم العام الذي منه تستمد كل الفنون والعلوم وجودها وارتباط الأفكار (في ميدانها)، وهو أول ما يجب على المرء إحرازه من العلوم.
غ : أخبرني ما هي طبيعته؟
س : إني أشير به إلى طريقة تمييز الأعداد، واحد، اثنان، ثلاثة، وأدعوه اختصارًا: علم العد والحساب. ألا ترى أن كل علم وكل فن مُفتقر إلى الاشتراك فيه؟
غ : بالضرورة إنها تشترك فيه.
س : أوَليس فن الحرب أحد هذه الفنون؟
غ : إنه أحدها بلا شك.
س : وإليك مثلًا من المأساة: أن بالاميدس في كل حادث يجعل أغممنون قائدًا مُحتقرًا جدًّا، وقد ذكرت أنه ادَّعى ترتيب صفوفه في طروادة بواسطة استنباط الأعداد، وأنه أحصى السفن وكل قواته، كأنَّ ذلك أمر جديد لم يكن قبل عصره، وكأن أغممنون نفسه كان يجهل — على ما يظهر — عدد مُشاته، وذلك ناتج عن جهله كيف يعدُّهم. فما رأيك في أغممنون كقائد؟
غ : إذا صدقت الحكاية فأرى أنه كان قائدًا غريبًا.
س : فهل هنالك مندوحة عن الاستنتاج أن علم العد والحساب فرع لا غنى عنه للجندي؟
غ : كلَّا، بل هو لازم جدًّا ليعرف القائد كيف يرتب جنوده، وبالأحرى ليكون رجلًا.
س : أفتتَّفق فكرتك في هذا الأمر مع فكرتي؟
غ : وما هي؟
س : إنه أحد العلوم التي نبحث عنه، والتي تقود طبعًا إلى التفكُّر. ويظهر أن لا أحد يستعمله استعمالًا صحيحًا كأداة تقودنا إلى الوجود الحقيقي.
غ : أوضح معناك.
س : سأجتهد في إيضاح رأيي الخاص لك. وأنت في دورك يجب أن تشاركني في درس الأشياء التي تبيَّنتها في عقلي، كمؤدِّية إلى الغاية المطلوبة أو غير مؤدية، وأن تبيَّن مصادقتك أو مخالفتك، لكي نرى في الدرجة الثانية على وجهٍ أوضح أمُصيب أنا أم مُخطئ في تبيان ماهية هذا العلم.
غ : أرجوك أن تبدأ تبيانك.
س : سأبدأ. إذا لاحظت فإنك ترى أن بعض المحسوسات لا تنبِّه فينا عمل التفكُّر؛ لأنها كلها ضمن دائرة الحس، وأن عوامل أخرى تنبه فينا فعل التفكُّر لتفحُّصها؛ لأن الاقتصار فيها على شهادة الحواس يؤدي إلى نتائج غير صحيحة.
غ : واضح أنك تشير إلى الأشياء التي نراها مُجسَّمة بسبب بعدها عنَّا.
س : إنك لم تفهم قصدي.
غ : فأي نوع من الأشياء تعني؟
س : أحسب كل الأشياء التي تؤثر فينا تأثيرَين متناقضَين معًا غير منبَّهة، أما الأشياء التي تفضي إلى ذلك فأدعوها منبهة، أعني بها الأشياء التي فيها الشعور عن قُرب وعن بُعد، يقرن تأثيرين متساويين في وضوحهما ولكنهما متناقضَان، ويمكنك أن تتبيَّن معناي على وجهٍ أوضح هكذا: هنا ثلاث أصابع، ندعوها: الخنصر، والبنصر، والوسطى.
غ : جدًّا.
س : فافرض أني أتكلم فيها كما تظهر عن كثب، وهنا النقطة التي أُريد أنك تفحصها باعتبار الأصابع.
غ : وما هي؟
س : واضح أن كلها أصابع على السواء، فلا خلاف بينها بهذا الاعتبار في الوسط كانت أو في الطرف، بيضاء أو سوداء، غليظة أو دقيقة، وهكذا. فما دُمنا نتقيَّد بهذه النقاط يندر أن يشعر الذهن بأنه مُلزم أن يسأل الفكر: ما هي الأصبع؟ لأن النظر لا يخبر العقل بحالٍ من الأحوال، أنها أصبع وغير أصبع معًا.
غ : كلَّا، لا يخبره.
س : فشعورنا هذا: طبعًا لا يُنبه الفكر أو يثيره.
غ : يقينًا لا.
س : وما هي الحال بالنظر إلى حجم الأصابع النسبي؟ هل يميز النظر بينها تمييزًا تامًّا؟ أو لا يهمه هل هي في الوسط أو في الطرف؟ وكذلك اللمس، هل يقدر غلظها ودقَّتها وخشونتها ونعومتها قدرًا كافيًا؟ أوَليس هنالك من نقص رسائل بقية الحواس في مثل هذه الأحكام؟ وبالأحرى: ألا تبتدئ كلها هكذا؟
ولنبدأ بالحس الذي يتناول معرفة الأشياء القاسية: ألا يتناول الحس أيضًا الأشياء اللينة، أوَلا ينبئ العقل أنه أحسَّ بأن الشيء الواحد خشن وناعم معًا؟
غ : إنه هكذا.
س : أوَلا يقع العقل في حيرة في معرفة ما يعنيه هذا الحس «بالقاسي» أو «بالخشن»، وهو ينبئ أن الشيء نفسه «ناعم» أيضًا؟ وماذا يعني الحس بالثقيل والخفيف في أمر الوزن، حين يخبر العقل أن الثقيل خفيف والخفيف ثقيل؟
غ : بلى، إن هذه الأحكام تبدو للعقل غريبة ويلزم فحصها.
س : فطبيعي أن العقل في أحوالٍ كهذه يستعين بالتفكُّر ليكتشف النبأ الوارد إليه بطريق الحس، أمفرد هو أم مزدوج؟
غ : بلا شك.
س : فإذا مال إلى الرأي الثاني، أفليس واضحًا أن كل نبأ في كل قسم له وحدة خاصة وأوصاف خاصة؟
غ : واضح.
س : وإذا كان كلٌّ منها واحدًا، وكلاهما اثنين، استنتج العقل أن الاثنين متمايزان، وإذا لم يتمايزا تعذَّر الازدواج، وحكم الذهن أنهما واحد لا اثنان.
غ : حقًّا.
س : فنقول إن حاسة البصر نقلت إلينا الشعور بالكبير والشعور بالصغير متحدين لا متمايزين. ألستُ مُصيبًا؟
غ : مُصيب.
س : ومن الجهة الأخرى متى عكس التفكُّر فعل البصر اضطر لأجل التأثير الحسي أن يعتبر الأشياء الكبيرة والصغيرة متمايزة لا مُتَّحدة.
غ : حقًّا.
س : ألَّا تولد فينا مناقضة من هذا النوع ميلًا إلى السؤال: ما هو الكبر، وما الصغر؟
غ : تُوَلِّد دون شك.
س : وعلى هذا النمط نُقاد إلى التمييز بين مواضيع التفكُّر ومواضيع النظر.
غ : غاية في الصواب.
س : ذلك هو المعنى الذي حاولت تبيانه لمَّا قلت إن بعض الموضوعات من شأنه إيقاظ الفكر وبعضها لا يوقظه، ففي النوع الأول كل ما يقرع أبواب الحواس بعلاقته بما يُضاده، وفي النوع الآخر ما ليس كذلك.
غ : فهمتك، وإني أوافقك.
س : فتحتَ أيِّ القسمين ترى العدد والوحدة ينطويان؟
غ : لا أقدر أن أجزم.
س : حقيق! فاتخذ ملاحظاتنا السابقة تساعدك لبلوغ نتيجة، فإذا كانت الوحدة بذاتها لذاتها مُدركة إدراكًا تامًّا بالبصر أو بغيره من الحواس، كالأصبع في مثلنا السابق، فليس لها صفة استمالة العقل إلى الوجود الحقيقي. ولكن إذا صحبها مناقضة في كل ظاهراتها فأظهرتها وحدة وغير وحدة معًا، فحينذاك تدعو الحاجة إلى حكم، فيحار العقل في هذه المُعضلة، فيوقظ قوَّة الفكر الداخلية للفحص، ويعرض عليها هذه المسألة: «ما هي الوحدة بذاتها بعد كل حساب؟» وبهذا الاعتبار يقودنا درس الوحدة إلى التفكُّر في الوجود الحقيقي.
غ : أنت مُصيب، فإن ملاحظة الوحدة تمتلك هذه الصفة إلى درجة عالية؛ لأن الشيء الواحد يمثل في الوقت الواحد شيئًا واحدًا، وما لا يُحصى من الأشياء.
س : وإذا كان هذا حالنا مع الوحدة، أفلا يكون كذلك في كل الأعداد بلا استثناء؟
غ : بلا شك.
س : ولكن العد والحساب يتناولان العدد لا غير.
غ : يقينًا يتناولانه.
س : فيظهر أنهما يقوداننا إلى الحقيقة.
غ : نعم، وبطريقة غير عادية.
س : فيظهر أن علم الأعداد هو أحد الدروس التي ننشدها، فلا غنى للقائد عنه لترتيب جيوشه، ويلزم الفيلسوف في درسه؛ لأنه مُلزم بأن يسمو فوق التغيير ويلوذ بالثابت، وإلَّا فلا يكون مُفَكِّرًا ذكيًّا.
غ : حقيق.
س : ولكن حاكمنا كما تقدَّم جندي وفيلسوف.
غ : لا شك في أنه كذلك.
س : ولذلك يا غلوكون يجدر بنا إيجاب هذا الدرس بمادة شرعية، ولأجل إقناع العتيدين أن يشتركوا في أهم مصالح الدولة بأن يدرسوا العد، ويقفوا حياتهم على درسه، لا كهواة، بل درسًا متواصلًا، حتى يبلغوا بمساعدة الذهن النقي درجة التفكُّر في طبيعة الأعداد، لا كعمل يختارونه لأجل البيع والشراء تُجَّارًا وباعةً، أو لأغراض حربية، بل لسهولة انتقال النفس من المتغير إلى الحقيقي الثابت.
غ : حبَذا ما تقول.
س : وفيما أنا أتكلم في هذا العلم الذي يبحث في العد، تجلَّتْ لي طرافته وقيمته بطرقٍ شتَّى لإنفاذ رغباتنا، بشرط أن يطلب حبًّا بالمعرفة لا لأغراض تجارية.
غ : وكيف ذلك؟
س : لأنه كما قلنا الساعة: قد يرفع النفس إلى فوق، ويحملها على البحث في الأعداد المجردة، مُعرضًا عن ذلك البحث متى كان للأعداد مسميات محسوسة تُرى وتُلمس، لأني أعتقد أنك عالمٌ أن حُصفاء الرياضيِّين يهزءون بقسمة الواحدة في مجرى المحاورة، ويُنكرونها إنكارًا تامًّا. وإذا قسمتها أنت إلى أقسام كتصريف النقود، عادوا فجمعوها معًا، وحرصوا على وحدتها حرصًا شديدًا لئلَّا تتفكَّك عُرى وحدتها وتبدو متعدِّدة.
غ : حقيق تمامًا.
س : فإذا سألهم سائل يا غلوكون قائلًا: يا أصحابي الأفاضل، في أي الأعداد تبحثون؟ وأين الأعداد التي بها تتحقق الوحدة وصفكم إيَّاها، وهو أن كل وحدة تساوي أختها دون أدنى اختلاف، وليس فيها أقسام؟ فماذا تظن أن سيكون جوابهم؟
غ : أظن أنهم يُجيبونه هكذا: أن الأعداد التي يتحدثون فيها إنما تُدرَك بالفكر، ولا يمكن تداولها بطريقةٍ أخرى.
س : فيا صديقي، أترى أن هذا العلم ضروري لنا جدًّا في كل حال؛ لأنه يُجبر العقل على استخدام الفهم الخالص في طُلَّاب الحقيقة الخالصة.
غ : حقًّا إن له هذه الخاصة بدرجةٍ عالية.
س : ثم هل لاحظت أن المنصبِّين على الحساب إلَّا النادر منهم سريعو الخاطر في كل العلوم؟ وأن البطيئي الأفهام إذا تثقَّفوا وتمرَّنوا بهذا الدرس، ولو لم يحصلوا منه على فائدة أخرى، يصيرون أسرع فهمًا مما كانوا؟
غ : هذا حقيق.
س : وأؤكد أنك قلَّما تجد علمًا يكلف طالبه مشقة وعناء كالحساب.
غ : كلَّا، لا أجد.
س : فلأجل كل هذه الدواعي لا نحذف هذا العلم، بل بالحري نستخدمه في تهذيب أسمى السجايا.
غ : أوافقك في ذلك.
س : فلنحسب هذه النقطة مفروغًا منها. ولنسأل بعدها: هل نهتم بالعلم المجاور للحساب؟
غ : وما هو؟ أتعني به الهندسة؟
س : نعم أعنيها.
غ : واضح أن القسم المختص منها بالحيلة الحربية يهمنا؛ لأن هنالك فرقًا عظيمًا في كون الجندي يعرف الهندسة أو يجهلها، وذلك في ما يتعلق بمواقع الجنود وتوزيعهم، وفي ضمهم وامتداد صفوفهم، وفي كل المناورات، في الميدان، وفي الزحف.
س : ولكن الزهيد من المعرفة الحسابية والهندسية كافٍ لهذه الأغراض، فالمسألة التي أمامنا هي: هل يُفضي بنا أهم أقسامها وأسماها إلى سهولة التفكُّر «بصورة الخير» الجوهرية؟ ففي مذهبنا هذه خاصة كل ما يحمل النفس على الانصراف إلى المنطقة المحتوية على أسعد قسم من الوجود الحقيقي، الذي رؤيته أهم أغراض النفس.
غ : أنت مُصيب.
س : فتهمُّنا الهندسة، إذا كانت تصرف النفس إلى التفكُّر بالوجود الحقيقي، ولكنها إذا اقتصرت على التفكُّر بالعرض الفاني فلا تهمنا.
غ : لقد جزمنا بذلك.
س : فلا يُنازعنا حتى ولا صغار المهندسين في النقطة التالية، وهي: أن هذا العلم يُناقض صيغ الكلام التي يستعملها أربابه مناقضة تامة.
غ : وكيف ذلك؟
س : إنهم يتكلمون بأسلوب هو غاية في السخافة والوهن، ذاكرين على الدوام سحب الخطوط والتربيع وضم الأشكال، ونحو ذلك، كأنهم يتعاطون عملًا اقتصاديًّا، أو كأن لكل قضايا هذا الفن غاية عملية. على أن هذا الفن إنما يُراد لأجل المعرفة.
غ : أكيد إنه كذلك.
س : بقيَتْ نقطة يجب أن نتفق عليها، أليس كذلك؟
غ : وما هي؟
س : أن هذا العلم يُراد لأجل معرفة الدائم الوجود، لا لأجل ما يوجد حينًا ثم يزول.
غ : سنتفق على ذلك حالًا؛ فإن الهندسة بالحقيقة هي على علم الدائم الوجود.
س : فإذا كان ذلك كذلك يا صديقي الفاضل، وجب أن تجتذب الهندسة النفس نحو الحقيقة، وتضرب الضربة الحاسمة في ميدان الروح الفلسفية، فترفع ما خفضناه خطأ في وقتنا الحاضر.
غ : نعم، ستفعل ذلك بأعظم قوة.
س : فعليك أن تستعمل ما لك من نفوذ في إقناع أهالي مدينتك الجميلة، ألَّا يتأخروا عن الإكباب على درس الهندسة؛ لأنه حتى فوائدها الثانوية ليست بزهيدة.
غ : وما تلك الفوائد؟
س : إذا أعرضنا عما ذكرته مما يختص بفن الحرب، فإني ما زلت أؤكد الحقيقة التي أوضحناها بنوعٍ خاص: أن الفرق عظيم جدًّا بين كون الطالب يعرف الهندسة، وكونه يجهلها، ولو فهم أي نوعٍ كان من أنواع العلوم.
غ : بلا شك.
س : أفنوجب ذلك على شبابنا كدرس؟
غ : نعم نوجبه.
س : أفنجعل الفلك درسًا ثالثًا؟ أو أنك لا تستحسن ذلك؟
غ : بل إني أستحسنه؛ لأن معرفة الفصول والشهور والسنين معرفة تامة لا تنحصر في الزُّرَّاع والمُلَّاح، بل يشاركهما فيها القائد الحربي إلى حد المساواة.
س : يسرُّني خوفك من الظهور أمام الجمهور بمظهر من يوجب علومًا عقيمة. على أنه لا يهون، بل هو من الصعوبة بمكان، الاعتقاد أن هذه الدروس تشفي عضو النفس من التعامي، وتبعث من موت أدبي أدَّى إليه غير ما نذكر من الأعمال، عضوًا سلامته أفضل من ألف عين؛ لأن به وحده يمكننا إدراك الحقيقة. والنتيجة أن الذين يشاركوننا بالفكر يستحسنون الدروس التي وصفتها، أما الذين لا علاقة لهم بها فيرون ذلك عبثًا، وعندهم أن لا فائدة تُجنى منه دون تطبيقها بالفعل. وإذا واصلت البحث حاملًا عبء المسئوليَّة وحدك دون إشارة إلى إحدى الفئتين، فلست تأتي بأدنى فائدة بذلك الحديث لكائنٍ من الناس.
غ : إني أؤثر المسلك الأخير، أي: أن أقدم سؤالاتي وأجوبتها معتمدًا على نفسي بنوعٍ خاص.
س : فلنرجع خطوة إلى الوراء، فقد أخطأنا منذ برهة بما اتخذناه من العلوم تاليًا للهندسة.
غ : فأيُّ علم نتخذ؟
س : كان الصواب أن ننتقل من البحث في الهندسة الثنائية الأبعاد (المسطحة أو البسيطة)، إلى الثلاثية الأبعاد (الهندسة المجسمة)، وذلك يؤدي بنا إلى المكعَّبات ذوات الكثافة.
غ : حقيق يا سقراط. ولكن هذه الموضوعات لم تُكشف بعد على ما أعلم.
س : إنها لم تكشف بعد، وذلك لسببين؛ أولهما: أنها قضايا صعبة، وكان فحصها ضعيفًا، إذ لا دولة تقدرها قدرها. وثانيًا: أن الباحثين فيها يفتقرون إلى ناظر يحل مُعضلاتها التي لا يفهمونها بدونه، والحصول على هذا الناظر صعب، وإذا حصل كما هو الحال اليوم، فإن كبرياء الباحثين تحول دون اعتبارهم آراءه. ولو أن الدولة بمجموع عقلها أعطت هذا الدرس حقه من الاعتبار وأقامت نفسها رقيبًا على درسه، لخضع لها الطلاب وتجلَّتْ طبيعة الموضوع الحقيقية، بعد فحصها على هذه الصورة فحصًا مستمرًّا مُدقَّقًا؛ لأن درسها ما زال ضعيفًا وغامضًا، ليس عند العامة فقط، بل عند الخاصة القلائل، الذين يدرسونها وهم عاجزون عن تبيان منافعها، ومع ذلك فإن هذا الدرس ناجح بالرغم من كل هذه العقبات، بفضل ما فيه من الجمال الذاتي. ولست أستغرب زوال كل تلك العقبات.
غ : هنالك هيام به، ولكن أرجوك أن توضح ما قلته الساعة، فقد حددت الهندسة على ما أظن بأنها علم يبحث في السطوح.
س : هكذا حددتها.
س : ثم أتبعت الفلك بها. على أنك عُدت فسحبت كلامك.
س : نعم، فإني كلما أسرعت ساء مسيري، فإن البحث في الفضاء الثلاثي الأبعاد يلي الهندسة (المسطحة)، ولكن لمَّا كانت تُدرس باستهتار أهملت الكلام فيها، وجعلت الفلك يتلو الهندسة البسيطة، وهو عبارة عن حركات الأجرام في الفضاء.
غ : أنت مُصيب.
س : فلنجعل علم الفلك درسًا رابعًا، حاسبين العلم الذي حذفناه الآن موجودًا، وإنما يتوقع الفرصة السانحة لالتفات الدولة إليه.
غ : إنه رأي معقول يا سقراط، وإذا ذكرت الملام الذي وجَّهته إليَّ منذ برهة لأني مدحت الفلك مدحًا بسيطًا، فإني أستحسن الخطة التي جريت عليها؛ لأني أظن أنه واضح لكل أحد أن الفلك في كل حال يحمل النفس على النظر إلى ما فوق، ويجتذبها من هذا العالم إلى العالم الآخر، قد يكون واضحًا لكل أحد سواي؛ لأنه ليس هذا رأيي.
غ : فما هو رأيك؟
س : رأيي هو أن الفلك على ما يتناوله طلاب الفلسفة اليوم يحوِّل نظر النفس إلى أسفل.
غ : وكيف ذلك؟
س : أظن أن الشجاعة لم تفتك في تصوير ما فهمته من طبيعة الدرس الذي يتناول الأمور العليا، والأرجح أن الإنسان إذا رفع نظره وتعلَّم شيئًا عن سقف منقوش فإنك تزعم أنه يدرسه بذهنه لا بعينيه، فقد يكون رأيك صوابًا ورأيي خطأ، أما أنا فلا أرى علمًا يرفع نظر النفس إلى ما فوق إلَّا إذا تناول الأمور الحقيقية غير المنظورة. ولا فرق بين أن يكون الإنسان مُحدِّقًا في الجلد، أو في الأرض، ما دام يحاول درس موضوع محسوس. فإني أُنكر عليه القول إنه تعلَّم شيئًا؛ إذ لا شيء من المحسوسات يُعالج معالجة علمية؛ ولذاك أصرَّ أن نفسه ناظرة إلى أسفل، لا إلى فوق. ولو استلقى على ظهره وعيناه إلى السماء في البر كان أو في البحر.
غ : قد حلَّ بي من العقاب ما أستحق، ولكني أرجوك أن توضح معنى قولك: أن الفلك يجب درسه بأسلوبٍ يختلف عن الأسلوب الحالي كل الاختلاف، إذا أُريد أن يدرَس درسًا مُفيدًا، طبقًا للمقاصد التي أمامنا.
س : لك ذلك. ما دام الجلد المُرقَّط قسمًا من العالم المنظور فإنَّا ملزمون أن نعتبره دون الدوران الحقيقي، وأن يكن أجمل الأشياء المنظورة وأكملها؛ لأن الدوران الحقيقي الذي تجري سرعته الحقيقية أو بطؤه الحقيقي على مقادير معينة وفي صيغ حقيقية، إنما يتم دوراته إتمامًا نسبيًّا بعضها إلى بعض، حاملة أجرامه كل ما عليها. وهو إنما يُدرك بالفكر، لا بالنظر. فهل لك رأي آخر؟
غ : كلَّا.
س : لذلك وجب اتخاذ الجلد المرقط رسمًا ونموذجًا للتقدم في الدرس الذي يرمي إلى أغراض عُليا، على النحو الذي به اتخذ الأشكال الهندسية المرسومة بإتقانٍ وضبطٍ، بقلم المهندس ددلوس أو بأقلام غيره من المصورين؛ لأني أرى أن الشخص المثقف الذي تعلَّم الهندسة حالما يرى رسمًا، يُدرك حالًا درجة إتقانه، لكنه يزدري اتخاذه غرضًا مقصودًا من الدرس، إنما يستخرج منه حقائق المعادلة أو التضاعف، وغيرهما من النسب.
غ : لا شك في أنه مُزدرًى جدًّا.
س : ألا تظن أن الفلكي الحقيقي ينظر إلى حركات النجوم بهذا الاعتبار نفسه؟ أعني: ألا يحسب السماء نفسها وما فيها من الأجرام قد نظمها المهندس السموي في أحسن تكوين يمكن إبداعه؟ أما نسبة الليل إلى النهار ونسبة كليهما إلى الشهر، ونسبة الشهر إلى السنة، ونسبة النجوم إلى الشمس والقمر، ونسب بعضها إلى بعض، ألا تظن أن رجلًا يزعم أن أشياء مادية كهذه ثابتة لا تتغير رجل مُحتَقَر؟ زاعمًا أنها مُستثناة من كل اضطراب، وأن الجهود المبذولة في استكناه شأوها هي من ضروب العبث؟
غ : بلى، هكذا ظننت فيما أنت تتكلم.
س : فندرس الفلك كما درسنا الهندسة مُستعينين بالأشكال، وإذا رُمنا أن نفهم كنه الفلك فهمًا حقيقيًّا، فلنصرف نظرنا عن الأجرام السماوية، أعني بذلك أن نُصَرِّف ملكة الفهم تصريفًا مفيدًا، مُعرضين عمَّا لا يُفيد.
غ : أتيقن أن الخطة التي تصفها هي عملية أضعافًا مُضاعفة أكثر من أسلوب درس الفلك الحالي.
س : نعم. وأرى أن نصف كل شيء على هذا القياس نفسه، إذا رُمنا أن نكون نافعين كشارعين. ولنستأنف الآن سيرنا: فما هو الأمر الذي تقترحه في هذه النقطة؟
غ : لا أقدر أن أخترع شيئًا في فترةٍ قصيرة كهذه.
س : إذا لم أكن مُخطِئًا فإن الحركة تمدُّنا بأنواعٍ عديدة من العلوم، وقد يوفَّق الفيلسوف إلى إيرادها كلها معًا. أما ما يتجلَّى لأناس نظيرنا فاثنان منها.
غ : وما هما؟
س : قد أبنَّا منها واحدًا، والثاني شقيقه.
غ : وما هو؟
س : يظهر أنه قصد بآذاننا أن تضبط الحركة المُتَّسقة، كما قصد بعيوننا أن تتناول حركات الأجرام. وأن هذين يؤلفان علمين شقيقين، كما يقول الفيثاغوريُّون، وكما نحن مستعدون أن نُسلم بما قالوا يا غلوكون. وإلَّا فأي مسلك تختار؟
غ : أختار المسلك الذي ذكرته آنفًا، أي إننا نُسلم بالقضية.
س : فما دام العمل ينذر بالإطالة فنستشير الفيثاغوريِّين في هذه المسألة، وربما في غيرها من المسائل، ونظل في الوقت نفسه مُحتفظين بمبدئنا الخاص.
غ : وأيُّ مبدأ تعني؟
س : أن لا ندع تلاميذنا يتعلمون فرعًا غير كامل من هذه العلوم حينًا من الأحيان، أو أن يتعلموا أي شيء يقصر عن بلوغ النقطة التي إليها تتجه كل الدروس، كما قلنا الآن في الفلك. ولست تجهل أن اللحن الموسيقي يعامل معاملة الفلك في ما يأتي: أن أساتذته كالفلكيِّين، يكتفون بقياس اللحن والإيقاع الذي تُدركه الآذان الواحد ضد الآخر؛ ولذلك يتعبون لغير جدوى.
غ : يقينًا، بل يجعلون أنفسهم سخرة، فيكررون ويتنصَّتون كأنهم يتلقَّفون الصوت عن جارهم. ويقول فريق منهم إنهم يسمعون صوتًا متوسطًا، أو أن الفرق بينه وبين بقية الأصوات زهيد، وأنه أخفض من بقية الأصوات، بينما فريق آخر يزعم أن كل الأصوات متماثلة، وأن الفريقين يخضع العقل للآذان.
س : أرى أنك تشير إلى البارعين الذين يشدُّون الأوتار ويلفُّونها على الأشظة، ولئلَّا يكون التشبيه مُملًّا بإطالة ضربة الريشة على الأوتار وعدم مرونتها؛ لذلك أعدل عن وصف الأسلوب، وأقول إني لا أعني هؤلاء الرجال، بل الذين اخترناهم، والآن نستشيرهم في أمر الأنغام؛ لأن نوع عملهم كعمل الفلكيِّين تمامًا، أعني أنهم يبحثون في النسب العددية الكائنة بين الألحان المسموعة، لكنهم لا يحملون أنفسهم على فحص الأعداد، لحنيَّة وغير لحنيَّة، وعن سبب الاختلاف بينها.
غ : إن ما تذكره يستلزم قوة تفوق حدود العقل البشري.
س : فادعُ السعي وراء الصالح والجميل عملًا مفيدًا، وإلَّا كان غير مفيد.
غ : نعم، إن ذلك غير بعيد عن الصواب.
س : أضف إلى ذلك أنه إذا أدَّى بنا درس هذه العلوم التي ذكرناها إلى الائتلاف والعلاقات المتبادلة، وعرفنا شأن الربط التي تجمعها معًا، فإني واثق أن الاجتهاد في معالجتها يفضي بنا إلى تقدم الموضوعات التي نبحث فيها، وأن العمل الذي هو عقيم بدونها يصير بها من كبار النعم.
غ : وأنا أشعر شعورك يا سقراط، لكنك تتكلم في عملٍ عظيم جدًّا.
س : أإلى المقدمة تشير أم إلى ماذا؟ فلسنا في حاجة إلى التذكير أن كل ذلك لم يكن سوى مقدمة للنشيد العملي الذي يجب أن نتعلمه، ولست أظن أنك تنظر إلى البارعين في هذه الدروس نظرك إلى المناطقة.
غ : كلَّا البتَّة. إلا أفراد استثنائيِّين عرضوا لي في الطريق.
س : ومن المعلوم أنك لا تظن أن الأشخاص العاجزين عن الاشتراك في بحثنا في المبادئ الأولى، يمكنهم أن يعرفوا مثقال ذرة من الأشياء التي أوجبنا عليهم معرفتها.
غ : لا يقدرون أن يفعلوا ذلك أبدًا.
س : أفليس لنا يا غلوكون نشيد عملي غايته التعقُّل المنطقي؟ هذا النشيد يقع في منطقة السلطة العقلية، وهو يجاهد كما أسلفنا لينظر نظرًا قويمًا أولًا في الحيوانات، ثم في النجوم، وأخيرًا في الشمس ذاتها. وهكذا يشرع المرء يبحث بمساعدة المنطق، ناشدًا كل أنواع اليقين بفعل الذهن البسيط، مُستقلًّا عن كل معونة حِسِّيَّة، ولا يكفَّ حتى يدرك بفعل الذهن النقي طبيعة «الخير» الحقيقية، فحينذاك يبلغ آخر مدى العالم العقلي، كما بلغ الشخص المذكور آنفًا آخر مدى العالم المنظور.
غ : من كل بُد.
س : أفلا تدعو هذا المنهج منطقًا؟
غ : مؤكد أني أدعوه.
س : ومن الجهة الأخرى فك أغلال السجناء وانتقالهم من ظلال الأشباح إلى الأشباح نفسها، وصعودهم من أسفل الكهف إلى نور الشمس، يمكنهم وهم هناك من النظر إلى الصور المنعكسة عن سطح الماء، لا إلى الحيوانات والنباتات ونور الشمس مباشرةً التي عنها انعكست تلك الصور، وهي إلهية وظلال الأشياء الحقيقية، عوض كونها ظلال الأشباح التي يلقيها النور، وهي نفسها قد تدعى صورة إذا قوبلت بالشمس: فلهذه النقاط ما يقابلها في ما ذكرناه من الفنون التي تُرقِّي أشرف أقسام النفس، وترفعها إلى التأمُّل في أسمى الموجودات، كما يتمكن كل عضو في الجسد من التمتُّع بأبهى ما في العالم المادي المنظور.
غ : أما أنا فإني أسلم بهذا البيان، ومع ذلك فقد وجدت قبوله صعبًا.
س : وفي الوقت نفسه، إذا نظرنا إليها من ناحيةٍ أخرى، رأينا إنكارها صعبًا. وعلى كلٍّ فلما كان البحث فيها غير محصور في الوقت الحاضر، بل قد يتكرر في المستقبل، فلنفرض صحة رأيك الحالي، وعلى هذا الأساس نتقدَّم إلى النشيد نفسه، ونفحصه كما فحصنا المقدمة. فأخبرنا ما هي صفة المنطق العامة؟ وما هي أقسامه العلمية؟ وأخيرًا: ما هي أساليبه؟ فالمرجح أن تلك الأساليب ستكون السبيل المؤدي إلى البقعة التي عندها ينتهي مسيرنا، فنستريح من سياحتنا.
س : إنك غير قادر أن تواصل متابعتي يا عزيزي غلوكون، مع أن رغبتي لم تفتر، فلن تستمر مقتصرًا على رؤية المشابهة التي أتينا على وصفها، بل سترى الحقيقة نفسها، وفي الشكل الذي به تجلَّتْ لي. وسواء أكنت مُصيبًا أم لا فإني لا أجرؤ على تخطِّي موقفي إلى التأكيد، لكنني أظن أني عالم أننا لسنا بعيدين عن مواطن الصواب.
غ : لا شك في أنك عالم.
س : أوَلا يجوز لي أن أجزم أن المنطق وحده يقدر أن يعلن الحقيقة لمن قبض على أزمة العلوم التي ذكرناها الساعة؟ وأن المعرفة غير ممكنة في ما سوى ذلك؟
غ : بلى، ولك ما يسوِّغ الجزم في هذه النقطة.
س : فلا أحد يضادنا إذا ادَّعينا أن لا أسلوب آخر جُرب تجربة منتظمة يصوغ صورة ذهنية لطبيعة كل شيء الحقيقية، بل بالضد من ذلك، كل الفنون إلا القليل منها تتَّجه كل الاتجاه، إمَّا نحو آراء الناس وحاجاتهم، أو نحو تركيب الأجسام ونتاجها، أو معالجة الأشياء التي تنمو وهي مركبة، وعند القليلين من الناس المستثنين من الحكم العام، أن علومًا كالهندسة ورفيقاتها التي ارتأينا أنها تتناول ما هو يقيني نوعًا، نرى أنها مع كونها قد تحلم بالوجود الحقيقي لا تقدر أن تراه في حال يقظتها، ما دامت تعتمد الفروض التي لم تمتحن، ولا يمكنهم أن يعطوا بيانًا عنها. وحين يحسب المرء ما لا يعرفه مبدأ أوَّليًّا، ويُشيِّد عليه الفروض الثانوية والنتائج النهائية، فكيف يمكن أن تؤلف قضايا كهذه علمًا؟
غ : حقًّا، إن ذلك غير ممكن.
س : وعليه: فالأسلوب المنطقي ليس إلَّا هو المعتمد في ما يأتي: لأنه يُرجع بفروضه إلى المبدأ الأول لكل الأشياء ليضمن رسوخها. وإذ يجد البصيرة قد دفنت بكليتها في مغاوص الجهالات البربرية، يُنهضها بلطف ويرفعها، مُستخدمًا الفنون التي محَّصناها، خدمًا وأعوانًا في الدوران، وهي التي يغلب أن ندعوها علومًا؛ لأن تسميتها هكذا أمر مألوف، لكنها تتطلَّب اسمًا آخر يدل على ما هو أوضح من الرأي، وأخفى من العلم، وقد استعملنا لها في بعض أبحاثنا اسم: «معرفة»، إيضاحًا لهذا الفعل العقلي، على أني لا أرى أن من خواصنا المشاحنة في التسمية، وقد آلينا على أنفسنا اعتبار المواضيع المهمة.
غ : أنت مُصيب، فنحتاج إلى اسم إذا أُطلق على حالة عقلية يوضح بجلاء الظاهرات التي يصفها.
س : على أني راضٍ كما سبق القول عن تسمية القسم الأول علمًا، والثاني معرفةً، والثالث اعتقادًا، والرابع ظنًّا. وتسمية القسمين الأولين إدراكًا، والأخيرين تصوُّرًا، وأن التصور يتناول الفاني، والإدراك يتناول الكائن الحقيقي، وأن نسبة الكائن الحقيقي إلى الفاني كنسبة الإدراك إلى التصوُّر، ونسبة الإدراك إلى التصور كنسبة العلم إلى الظن، والأفضل حذف المشابهة بين هذه الأفعال العقلية وبين قسمَي التصور والإدراك، لئلَّا نُثقِّل أنفسنا يا صديقي بمباحثٍ تفوق مباحثنا السابقة عددًا.
غ : حسنًا، إني أوافقك في هذه النقطة على قدر فهمي إيَّاها.
س : أفتدعو كل من يفكر في لُباب الأشياء منطقيًّا؟ أو تُسلم أن فشل المرء في تكوين بيان واضح لنفسه وللآخرين ناشئ عن عجزه عن استعمال الذهن النقي في البحث؟
غ : نعم، لا ريبة عندي في ذلك.
س : أوَتستعمل التعبير نفسه بالنظر إلى الخير؟ فما لم يتمكن المرء من تحديد طبيعته الجوهرية بواسطة فعل التفكير، وما لم يتمكن من اختراق طريقه في وسط الصعوبات، نابذًا ما ناقض فكرته، لا بقواعد التصوُّر، بل بقواعد الوجود الحقيقي، وما لم يتقدم في وسط المشاكل نحو النتيجة النهائية المرغوب فيها دون أن يزلَّ في خطوة واحدة من سلسلة أفكاره، ما لم يعمل كل ذلك، أفلا تقول إنه لم يفهم الخير الجوهري، ولا خيرًا غيره؟ وإن كان شبح اتفق له أن فَهِمَه فإنما هو ثمر التصوُّر لا ثمر العلم؟ وسيقضي حياته الحاضرة نائمًا يضرب في بوادي الأحلام، ولن يستيقظ في هذا الجانب من العالم الآتي، الذي قضى عليه أن ينام فيه نومًا أبديًّا؟
غ : نعم، سأقول ذلك بأعظم حتم.
س : وإذا كنت تهذب أولادك تهذيبًا صحيحًا، مراقبًا تهذيبهم وطبيعتهم، فلا يمكنني أن أتصور أنك تدعهم يصيرون قُضاة شارعين في هذه الدولة، يفوَّض إليهم الفصل في أكثر الأمور خطورة، وهم خالون من العقل خلو جرَّة القلم.
غ : حقًّا إني لا أدعهم.
س : فتسنُّ لهم إذًا قانونًا يوجب عليهم أن يلوذوا بتهذيب يُمكِّنهم من استخدام المنطق على أفضل منهجٍ علمي.
غ : سأسنُّ ذلك القانون بمساعدتك.
س : أفلا يظهر لك أن المنطق رأس زاوية في صرح العلوم؟ وأن من الخطأ وضع أي علم آخر فوقه؛ لأن سلسلة البناء قد خُتمتْ به؟
غ : بلى، أرى أنك مُصيب.
س : بقي عليك تعيين من تخصُّهم بهذه الدروس، وتقرير المبدأ اللازم في توزيعها عليهم.
غ : واضح أن ذلك هو الباقي.
س : أتذكر أي نوع من الرجال اخترنا في بحثنا السابق، لمَّا كُنا ننتقي أفضل القُضاة؟
غ : معلوم أني أذكر.
س : فألفت نظرك إلى ما ذكرناه من الصفات على قدر ما علَّقنا انتخاب أربابها على امتلاكهم إيَّاها، أي إننا مرتبطون بإيثار أوفرهم حزمًا وأكثرهم رجولة، وعلى قدر ما يُتاح لنا أوفرهم لياقة. يُضاف إلى ذلك أنهم يجب أن تكون فيهم طبيعة أدبية شريفة راسخة، ويجب أن يمتلكوا المؤهلات المستحبة الملائمة نظام التهذيب هذا.
غ : وأيَّة صفات توجبها عليهم؟
س : يكون لهم نظر ثاقب في الدروس يا صديقي الفاضل، وأن يتعلموا بسهولة؛ لأن الدرس العنيف يمتحن نشاط العقل أكثر من التمرين الرياضي، ولأن العمل هنا في محله أكثر مما هو هناك، لكونه محصورًا في العقل عوض اشتراك الجسد فيه.
غ : حقيق.
س : فيجب أن ندرج في عداد الأشياء التي نفتش عنها: الذاكرة الحافظة، والسلوك الحسن، ومحبة العمل محبة تامة، وإلا فكيف تتوقع أن تغري المرء بأن يتحمل أعباء العمل الجسدي مع مزاولة الدروس والتمارين؟
غ : كلَّا، لا يمكنا إغراء من لم يحرز مواهب من الطبقة العليا.
س : وعلى كلٍّ يمكن رد الخطأ في شأن الفلسفة الفاشي الآن وسوء السمعة الذي بُليَتْ به كما قلت سابقًا إلى هذه الحقيقة، وهي أن الناس يُقبلون على درس الفلسفة من غير جدارة شخصية فيهم، مع أن درسها مُختصٌّ بأبنائها الحقيقيِّين دون الأبناء غير الشرعيين.
غ : وماذا تعني بالحقيقيين؟
س : أولًا: على من يطلب الفلسفة أن لا يعرج في محبة العمل. أعني لا يكون متراوحًا بين العمل والكسل، شأن من يحب التمرين والمحاضرة (الجري) ويكره الدرس، شاعرًا بالرغبة عن البحث والاستماع، وبُغض كل الأعمال العقلية.
ثانيًا: أن من يكره الأعمال البدنية هو أيضًا أعرج.
غ : قولك غاية في الصواب.
س : أوَلَا نحسبه عرقلة في النفس أنها مع بُغضها بُغضًا شديدًا الكذب الاختياري وإنكارها إيَّاه إنكارًا تامًّا، حتى لَيسوءها جدًّا أن يكذب أحد مختارًا، مع ذلك تتساهل في قبول الكذب الاضطراري بكل ارتياح، وعوض اغتمامها بسبب نقص معارفها تنغمس في حمأة جهلها كخنزيرٍ بري؟
غ : لا شك في أنك مُصيب.
س : وقبل كل شيء يجب التمييز بين الابن الشرعي والابن غير الشرعي باعتبار العفاف، والشجاعة، وسمو العقل، وكل الفضائل واحدة فواحدة؛ لأنه متى أغضت الدول أو الأفراد عن صفات كهذه تورَّطَتْ، جهلًا منها في اختيار العرج قضاة وأصدقاء، وهم نغول باعتبار إحدى هذه الفضائل.
غ : لا شك في ذلك.
س : فعلينا اتخاذ أعظم درجات الحيطة في كل ما هو من هذا النحو. فإذا أمكنا أن نحرز أشخاصًا سليمي الأجساد والعقول، ونشَّأناهم على الدروس العالية والتهذيب الصارم، فلا تجد العدالة فينا لومًا، وبذلك نصون دولتنا ونظامها. أما إذا اخترنا تلامذة من طرازٍ آخر انقلب نجاحنا فشلًا، وجلبنا على الفلسفة أعظم عار.
غ : حقًّا إن ذلك عار.
س : حقًّا إنه عار، على أني جلبت الساعة ذلك العار؟
غ : وبماذا؟
س : بأني نسيت أننا لم نكن مترصنين ولم نتكلم بجد، فإني نظرت إلى الفلسفة وأنا أتكلم، فرأيتها تُهاجَم بهزءٍ لا تستحقه، فاستأتُ وثارت حفيظتي على المسئولين عن ذلك الهزء، وأعتقد أني أبديتُ مزيد الحدَّة.
غ : كلَّا، لم تبدِ شيئًا من ذلك، أو على الأقل أني لا أظن أنك أبديته وأنا أسمعك.
س : بل شعرت أني فعلت ذلك وأنا أتكلم، ولنستأنف البحث: فلا ننسَ أنه في هذا الموقف لا يمكننا اختيار الشيوخ كما فعلنا سابقًا، ولا يغونا صولون فنتوهم أن الإنسان يزداد علمًا ما زاد سنًّا؛ لأن الشيخ أقدر على الركض منه على التعلم، فيجب إلقاء الأحمال على مناكب الفتيان.
غ : من كل بد هكذا يجب.
س : فيجب تلقين تلاميذنا منذ حداثتهم الحساب، والهندسة، وكل فروع العلوم الابتدائية التي تُمهد السبيل لفن المنطق، مع الاعتناء بتلقينهم العلم بطريقة غير إجبارية.
غ : ولماذا؟
س : لأنه لا يجوز أن يُمزج تهذيب الحر بشيء من ملابسات الاستعباد؛ لأن إرغام الجسد على الأعمال الجسدية لا يحدث تأثيرًا في الجسد. أما في أمر العقل فلا يتأصَّل علم في الذاكرة إذا أتاها بطريق الإرغام.
غ : حقًّا.
س : فيجب أيها الصديق الفاضل، إعطاء الدروس للأحداث بأسلوب الألعاب والتسلية دون أدنى ظاهرة إرغام، لكي يتمكَّن كلٌّ منهم من معرفة ميله الخاص.
غ : رأيك سديد.
س : أفتذكر قولنا إنه يجب أن يشهد الأحداث الحرب على متون الخيول، وأن يدخلوا ميدانها وهم في مأمنٍ من الخطر، وأن يتذوقوا الدم ككلاب الصيد؟
غ : أذكر ذلك.
س : وعليه: ننظم لائحة انتخاب، نُدرج فيها من تجلَّى فيه ضبط النفس في وسط كل هذه الأعمال والدروس والمخاطر.
غ : وفي أي سن يجب إنجاز ذلك؟
س : حالما يُنهون تمريناتهم الجسدية الضرورية. ولا يُعمل شيء آخر في أثناء التمرين الذي يشغل زهاء سنتين أو ثلاث؛ لأن التعب والنوم هما ألد أعداء الطلب، عدا ذلك أن تصرُّف كلٍّ من الطلاب في خلال تمرينهم هو امتحان مهم جدًّا من حيث تبيان سجيته.
س : وبعد هذا الفصل يلزم أن نُخَوِّل أرباب السجايا الممتازة، ممَّن بلغوا العشرين ربيعًا، شرفًا أعظم من شرف سواهم. ويجب جمع العلوم المختارة التي حصَّلوها في صباهم في امتحانٍ واحد، ليتبيَّنوا العلاقات المتبادلة بينها، وليعرفوا طبيعة الوجود الحقيقي.
غ : حقًّا إن هذا هو التهذيب الوحيد الذي سيرسخ في الذين قبلوه.
س : نعم، وهو أعظم وأقوى مقياس للسجية المنطقية؛ لأن المرء يكون منطقيًّا أو غير منطقي، بقياس إدراكه الموضوع إدراكًا إجماليًّا، أو بقياس عدم إدراكه ذلك الإدراك.
غ : أوافقك في ذلك.
س : ولذا يجب أن تلاحظ الذين يبدون أعظم مقدرة وأرسخ ثبات في هذه المسائل، وأثبت عزيمة في الحرب وفي غيرها من فروع التهذيب، وليس في الدروس فقط، ويجب أن نختارهم من بين رُفقائهم الممتازين، ونُخَوِّلهم شرفًا أعظم. يبدأ ذلك من سن الثلاثين فصاعدًا، وتمتحنهم بالقسم الباقي في المنطق، لترى من منهم يستغني عن مساعدة عينيه، ومساعدة غيرها من الحواس، ويتقدم لفهم الوجود الحقيقي بمساعدة الحقيقة. وهنا يلزم يا صديقي أعظم حرص.
غ : ولأيِّ سبب خاص؟
س : ألم تتبيَّن مبلغ الشر الذي يُساور فن المنطق في وقتنا الحاضر؟
غ : وما هو؟
س : التمرُّد الذي قد يألفه المناطقة.
غ : حقًّا إنك مُصيب.
س : أوَتستغرب ذلك؟ أوَلا تتساهل مع الأشخاص المذكورين؟
غ : أوضِح مرادك.
س : تصور ما يُماثل ما نحن فيه، فافرض أن دعيًّا نشأ في وسطٍ غني، ذي علاقات واسعة بأُسر شريفة، يحيط به جمهور من المملقين. وافرض أنه لمَّا بلغ رشده عرف أن اللذين ادَّعياه ليسا والديه، على أنه لا يمكنه اكتشاف والديه الحقيقيين. أفتقدر أن تُنبئني ما يكون تصرفه نحو مملقيه، ونحو المحسوبين والديه؟ أولًا حين كان يجهل حقيقة أمره، وثانيًا بعد ما عرفها؟ أو أنك تريد أن تسمع ذلك مني؟
غ : بل أريد أن أسمع.
س : أظن أنه ما دام يجهل الحقيقة يكرم المحسوبين والديه وأقاربه، ويعتبرهم من المملقين، ولا يهمل أولئك إهماله هؤلاء في حال عوزهم، ويكون عصيانه هؤلاء ومخالفته رغباتهم قولًا وفعلًا في المهم من الأمور أكثر إمكانًا من عصيانه المحسوبين والديه.
غ : ذلك مُرجَّح.
س : ولكنه متى عرف حقيقة حاله فَتَرَ في إكرام ذينك الوالدين واحترامهما، أما المملقون فزاد اعتبارًا لهم وإصغاءً لتمليقهم عن ذي قبل، وشرع يعيش حسب هواهم ويصحبهم دون تستُّر، وإذا لم يكن ذا فطرة صالحة فلا يوجه نحو الذين ادَّعوا أنهم والداه وأقاربه ولا يكترث لهم.
غ : وصفك طبيعي الصبغة، ولكن ما وجه الشبه بينه وبين طلاب المنطق؟
س : هذا هو وجه الشبه: إني أعتقد أن عندنا منذ الصبوة آراء جازمة في ما هو العادل وما هو الجميل، وقد نشأنا على احترام هذه الآراء وطاعتها، كما نشأنا على طاعة الوالدين واحترامهم.
غ : حقيق.
س : ثم إن تلك الآراء قد صدمتها أعمال مُستحبة تملق نفوسنا وتحاول أن تجذبها إليها، ولكنها تعجز عن استمالتنا إذا كنا أفاضل كاملين؛ لأننا حينذاك نحتفظ باحترام تلك الآراء، ونقيم على الإخلاص لها.
غ : يقينًا.
س : ولكن إذا عرضت لأحدنا مسألة: ما هو الجميل، وأجاب عنها كما كان قد تلقَّن من شارعه، وخُطِّئ عملًا بقواعد المنطق، وأثبت له التكرار أن ما كان يحسبه جميلًا فيه من العيب والتشويه قدر ما فيه من الجمال. وكذلك في العدالة والصلاح وسائر الأشياء التي كان لها عنده أسمى درجات الاعتبار، فما ظنك في تصرُّفه نحو الآراء القديمة من حيث طاعتها واعتبارها؟
غ : مؤكد أنه لا يعتبرها ولا يُطيعها كما كان يفعل قبلًا.
س : وما دام لا يعرف الحقيقة ولا يعتبر اعتقاده السابق كما كان يفعل قبلًا، وفي الوقت نفسه يعجز عن اكتشاف الحقيقة، أفلا يُسلِّم نفسه للتمليق كل التسليم؟
غ : يُسلم.
س : وبعبارة أخرى أرى أنه يهجر الولاء ويصير مستبيحًا.
غ : لا شك في ذلك.
س : أفليست هذه طبيعة طلاب المنطق؟ أوَلا يجب أن يُعامَلوا بالرفق كما قلتُ الساعة؟
غ : وبشفقةٍ أيضًا.
س : ولئلَّا تتحمَّل عبء هذه الشفقة على أبناء الثلاثين، ألا يجب اتخاذ كل احتياط في تعليمهم المنطق؟
غ : مؤكد.
س : أوَليس أعظم أنواع الاحتياط منعهم عن تعاطي ذلك الفن في حداثتهم؟ وأظن أنه لا يفوتك أن الأحداث وقد تمنطقوا يتخذون المنطق آلة لهو وتسلية، ويستخدمونه لمجرد المعارضة، ويقلدون في أعمالهم من اتصف بالمغالطة، مسرورين كالأجرية بتخديش كل من داناهم وتمزيقه بواسطة المنطق؟
غ : يفعلون ذلك في دائرةٍ واسعة.
س : وإذا أحرزوا فوزًا كبيرًا أو أصابهم الاندحار هبطوا سريعًا إلى جحد شعورهم السالف، فيُحقِّرون أنفسهم والفلسفة في نظر الآخرين.
غ : من كل بُد.
س : أمَّا من كان أكبر منهم سنًّا فلا يُسلِّم نفسه لهذا الجنون، بل يميل إلى اقتفاء آثار الذين يبحثون عن الحقيقة ويفحصونها لا غير، دون الذين يُعارضون لمجرَّد التسلية. والنتيجة أن حزمه وتبصُّره يزدادان، عوض أن يسبب استهتارًا عامًّا في نفسه في كل المذاهب.
غ : مُصيب.
س : أوَلم نكن ندرس وسائل الاحتياط أيضًا لما قلنا في بعض المرات السالفة: أن السجايا التي يجب أن يدرس أربابها المنطق يجب أن تكون ثابتة منظمة، وذلك ضد النسق المتبع اليوم، الذي يُبيح درس المنطق لأيٍّ كان، ولو عديم الجدارة.
غ : تأكيدًا كنا ندرس رسائل الاحتياط.
س : أفيكفي لدرس المنطق أن يستمر الرجل دارسًا برغبةٍ واجتهاد، تاركًا لأجله كل ما سواه جانبًا، كأن يترك كل شيء لأجل التمرين الرياضي، مضاعف المدة المخصصة للتمرين الرياضي؟
غ : هل تعني أن تكون المدة أربع سنوات أو ستًّا؟
س : لا بأس في جعلها خمسًا، وبعدها نُرسلهم إلى الكهف الذي وصفناه، ونأمرهم أن يتقلَّدوا القيادة في الحرب، وفي المناصب التي تستلزم شبيبة، ليمكنهم أن يحفظوا مركزهم إزاء جيرانهم. وهنا أيضًا يُمتحنون ثانيةً؛ ليظهر هل يثبتون رغم كل غواية؟ أو يتزعزعون قليلًا عن ثباتهم؟
غ : وكم من الزمان تعيَّن لذلك؟
س : خمس عشرة سنة. ومتى بلغوا الخمسين من العمر يُرفع الذين غلبوا التجارب منهم، وفاقوا الأقران في كل فرع علمًا أو عملًا، إلى المرتبة العُليا، فيوجهون بصائرهم نحو الذي أفاض على الكائنات باهر أنواره، ويثبتونها عليه. ومتى رأوا «جوهر الخير» وجب أن يتخذوه مثلًا ينسجون على منواله في تنظيم بلدهم ومواهبهم وأنفسهم. ويجب أن يشغل كل منهم في دوره باقي الحياة. ومع أنهم يشغلون القسم الأكبر من وقتهم في الأبحاث الفلسفية، فعلى كلٍّ منهم متى حان دوره أن يقف نفسه على مهام الدولة الصعبة، ويشغل المناصب لخير دولته ومصلحتها، لا كشيءٍ مرغوب فيه، بل كواجب لا مندوحة عن القيام به. ومتى علَّموا وأعدوا من الاحتياطي عددًا كافيًا كما استعدُّوا هم ليملئوا مناصبهم كحُكَّام الدولة، انسحبوا هم إلى جزائر الأبرار، فتقيم لهم الدولة الأنصاب على نفقة الجمهور، وتُقدَّم لهم الذبائح كجبابرة (أنصاف آلهة) إذا أذن وحي بيثيا لذلك، وإذا لم يُبح الوحي ذلك اقتُصر على إكرامهم إكرام الأفاضل الأتقياء.
غ : أنت كمثَال يا سقراط، وقد وصفت نموذج حُكَّامنا خاليًا من كل عيب.
س : قل: و«نساؤنا أيضًا» يا غلوكون، ولا تزعمنَّ أن تعاليمي تتطبَّق على الرجال أكثر ممَّا على النساء، بناءً على تمكُّننا من إيجاد نساء ربَّات مواهب تتفق مع المنصب.
غ : أنت مُصيب، إذ يُشاطرن الرجل كل عمل حسب مبدأ المساواة الذي قرَّرناه.
س : أفتوافق أن نظريتنا في الدولة والنظام ممكنة التطبيق وليست مجرد رغبة وإن يكن تحقيقها صعبًا؟ ويقوم إمكان تحقيقها بوسيلة واحدة، وهي أن تُناط السلطة التامة في الدولة بفيلسوفٍ واحد يشعر شعورًا عميقًا بخطورة الحق والشرف الناشئ عنه، ويحتقر الفخفخة احتقارًا شديدًا، ويعتبر العدالة أسمى الواجبات وأحقَّها، فيُجري — كخادم ومحب خاص للعدالة — إصلاحًا تامًّا في دولته.
غ : وكيف ذلك؟
س : يجب فصل كل الذين تجاوزوا العاشرة، وإرسالهم إلى الأرياف، ويجب تربية أولادهم بعيدين عن تأثيرات السجية الشائعة التي يتصف بها آباؤهم وأتراب آبائهم، حسب قوانين الفلاسفة وعاداتهم التي مرَّ وصفها. فقل: أليس هذه أسهل وسيلة وأسرعها لتمكين دولة ودستور كالذين مثَّلناهما، من الوجود والنجاح، فيكونان في الوقت نفسه بركة للأمة التي تأصَّلا في تربتها؟
غ : بكل تأكيد هكذا. وأرى أنك أبَنت يا سقراط الوسائط اللازمة لتحقيق دستور كهذا، إذا كان تحقيقه من الممكنات.
س : أوَليس ما قلناه كافيًا في شأن الدولة وشأن الفرد الذي يمثلها؟ لأني أرى أي نوع من الرجال يجب أن يكون.
غ : واضح، وأرى أن بحثك قد بلغ نهايته.
١  إشارة إلى لعبة يلعبونها بالأصداف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤