الفصل الثالث

أوروبة وأمريكة وإسرائيل

الاستشراق السياحي١

الاستشراق هو دراسة الغرب لغيره من الحضارات. الغرب ذات، والحضارات الأخرى موضوع. الغرب مُلاحِظ، والحضارات الأخرى مُلاحَظ. الغرب دارس، والحضارات الأخرى مدروس. واكَب في نشأته صعود الغرب الحديث واحتلاله مكان الصدارة في العالم بعد سقوط غرناطة، آخر مدن الأندلس، وطرد المسلمين واليهود من إسبانية إلى المغرب العربي من حيث أتَوا. تمثل فيه منذ البداية روح العنصرية والعداء والاسترداد؛ أي العودة إلى احتلال أراضي الغير بحرًا، التفافًا حول القارات، فيما سُمِّي بالكشوف الجغرافية، بعد أن فشل برًّا عن طريق التوجُّه إلى القلب في فلسطين، والحضارة الإسلامية في آخر مرحلتها الأولى في القرن السادس الهجري. فظهرت فيه منذ البداية أهداف الاستعمار ورؤيته للعالم. بدأه المُبشرون والقُواد والحكام والمُغامرون والمسحورون بالشرق من الغرب حتى الصين، وأنشئوا مجالات للدراسات الحضارية للصين والهند وفارس ومصر والمسلمين، وأخيرًا العرب والشرق الأوسط.

وقد تطوَّر الاستشراق في الغرب الحديث. تنوَّعت أهدافه، وتعدَّدت مناهجه وأساليبه طبقًا لتطوُّر مناهج البحث العلمي ومدارس العلوم الإنسانية في الغرب.

بدأ بالاستشراق الديني الذي صاغه بعض المُبشرين بعد أن زاروا الشرق أثناء الحروب الصليبية، وتعرَّفوا على لغات الشرق وثقافاته وعادات شعوبه، وظهر فيهم العداء لهذه الثقافات والشعوب التي أتاها مُصاحبًا للغزوات العسكرية أو لحملات التبشير.

ولما كان الإسلام هو السائد في الشرق فلم يُعترَف بالوحي الإسلامي كاستمرار للوحي منذ إبراهيم حتى عيسى، واعتُبر هرطقةً يهودية مسيحية ظهرت في بلاد العرب، تقوم على الحس والجنس والتعصب والعنف والانغلاق والعبودية والحريم.

ثم تحوَّل إلى الاستشراق التاريخي عندما سادت مناهج البحث التاريخي، وانتشرت المدرسة التاريخية، وسادت النزعة التاريخية في الغرب. كان الهدف هو جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشعوب والثقافات غير الأوروبية؛ لجمع المعلومات واستخدامها من أجل إحكام السيطرة عليها بعد الغزو العسكري المباشر، وخلق طبقات جديدة مُتعاونة معه باسم التحضُّر والتمدُّن والحداثة والتثقيف، اعتناق المسيحية أولًا، ثم الثقافة الغربية ثانيًا، حتى ينسلخ المُواطن عن دينه وثقافته وشعبه، ويصبح مُواليًا للغرب ومُمثلًا لثقافة الرجل الأبيض داخل الشعوب السوداء في أفريقية، والسمراء في العالم الإسلامي، الشرق الأدنى، والصفراء في الصين واليابان وكوريا والهند الصينية والفلبين، الشرق الأقصى، بالنسبة لمدى قربها أو بعدها عن القوى الاستعمارية في الغرب الحديث، إنكلترة وفرنسة وإسبانية والبرتغال وبلجيكا وهولندا وأخيرًا إيطاليا.

ثم تحوَّل الاستشراق التاريخي إلى استشراقٍ لُغوي بالتركيز على اللغة لمعرفة التراث المدوَّن، ولحسن المخاطبة مع الشعوب شفاهًا، ثم قادت اللغة إلى الأدب، والأدب إلى الثقافة، والثقافة إلى الحضارة بوجهٍ عام. ووُضعت القواميس والمعاجم وكتب قواعد اللغة للحضارات الأفريقية والآسيوية؛ فانتشرت ثقافاتها داخل المركز الأوروبي، وأثَّرت في أدبه وثقافته كما يظهر ذلك في الحركة الرومانسية الألمانية، وتأثرها بسعديا وحافظ والرومي.

ثم تحوَّل الاستشراق اللغوي إلى الاستشراق الأنثروبولوجي والاجتماعي بالتركيز على الإنسان الأفريقي الآسيوي؛ عاداته وسلوكياته ومنظومات قيمه وذاكرته ورؤيته للعالم؛ حتى يمكن الاستيلاء عليه إلى الأبد بعد حركات الاستقلال الوطني، والتحوُّل من الاستعمار العسكري والاقتصادي المباشر الوقتي إلى الاستعمار الثقافي والحضاري الأبدي عن طريق الفرانكفونية والأنجلوفونية والهسبانوفية والبرتغافونية. حدث في كندا والمكسيك ودول أمريكة اللاتينية والهند والفلبين ومعظم دول أفريقية.

ثم تحوَّل الاستشراق الأنثروبولوجي الاجتماعي إلى الاستشراق السياسي بعد الصحوة الإسلامية والثورة الإسلامية في إيران، وانتشار الإسلام في أوروبة، وظهور دول إسلامية مثل ألبانيا والبوسنة والهرسك في شرق أوروبة؛ فبدأ التعامل مع الظاهرة الإسلامية والحركات الإسلامية المُمثلة لها، ومستقبل الإسلام السياسي. وانضمَّ الجيل الجديد إلى المُستشرقين التقليديين علماء السياسة، وتم التحوُّل من دراسة الماضي إلى الحاضر من أجل التنبُّؤ بمستقبل هذه المنطقة، وإعداد سيناريوهات المستقبل للسيطرة عليها حتى لا يؤخذ الغرب على غِرَّة كما حدث في الثورة الإسلامية في إيران. وانتشرت المؤلَّفات عن الإسلام السياسي، وعُقدت مئات المؤتمرات الدولية والندوات المحلية والإقليمية في الموضوع لمعرفة ماذا يجري في العالم الإسلامي الآن. وهل هي صحوةٌ تُريد العودة إلى الخلف؟ وكيف يمكن إجهاضها وهي في بدايتها حتى لا تكوِّن قطبًا ثانيًا في مواجهة القطب الأوحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية باسم العولمة، والقضاء على المصالح الغربية على حدوده الجنوبية والشرقية؛ النفط وعوائده، والمواد الأولية والأسواق، والموقع الاستراتيجي، وإسرائيل إذا ما عادت الحرب الباردة، وعاد الاستقطاب؟

ثم تحوَّل الاستشراق السياسي إلى الاستشراق الصحفي عندما تحوَّل الإسلام إلى بضاعةٍ رائجة، وأصبح على كل لسان. حدث ذلك بعد الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١م لإشباع نهم الغرب لمعرفة ما هذا الإسلام الذي استطاعت إحدى تنظيماته، القاعدة، تدبير مثل هذا الهجوم المُباغت على أهم مدينتَين، نيويورك وواشنطن، في أقوى دولة في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية، وتدمير رموزها، مركز التجارة العالمي، ووزارة الدفاع؛ أي المجتمع الاقتصادي والعسكري. واختلط الاستشراق بالإعلام، وأصبح الإعلاميون كبار المُستشرقين يملئون الصحف والعواميد الخاصة، وافتتاحيات رؤساء التحرير بمقالات وأحاديث، ومقابلات عن الإسلام والمسلمين، وعلاقة الإسلام بالغرب وخطر الإسلام، والعنف والجهاد في الإسلام. وتحوَّل الاستشراق من قراءة النص إلى تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي للمسلمين، من وصف التاريخ إلى وصف منظومة القيم الإسلامية ورؤية الإسلام للعالم، وإصدار الأحكام المُطلَقة على جوهره وحقيقته. وانتشرت مناهج الملاحظة والمقابلة بدعوى الرغبة في معرفة «الإسلام الحي» الذي يعيشه الناس، يُحدد تصوُّرهم للعالم، ويُعطيهم قواعد للسلوك.

والأخطر من ذلك كلِّه تحوُّل الاستشراق الصحفي إلى الاستشراق السياحي؛ فقد انضمَّ إلى جُوقة الصحفيين جُوقةٌ أخرى من الأساتذة الشُّبان، بل وطُلاب الدراسات العليا، للحضور إلى العالم الإسلامي، وملاحظة ما يدور فيه، والحديث مع بعض علمائه ومثقَّفيه وقادته وسياسييه، ولو أمكن بعض أمراء الجماعات الإسلامية وأعضائها لحكاية تجاربهم وقص حياتهم. هي دراساتٌ حيَّةٌ أكثر تشويقًا من الاستشراق التاريخي اللغوي القديم، بل تحوَّلت معظم أقسام الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الغربية إلى أمثال هذه الدراسات المعاصرة، وتم الانتقال من المتنبي إلى سيد قطب، ومن ابن سينا إلى محمد عبد السلام فرج، ومن ابن رشد إلى أربكان، ومن المعتزلة إلى القاعدة، ومن الأشعرية إلى جماعات الجهاد. وانضمَّت دور النشر إلى المهرجان، تدعم الباحثين الشُّبان بالمال، وتُحدد لهم موعد إنهاء الدراسة بستة شهور أو سنة على أكثر تقدير لإعداد أنجح كتاب عن الإسلام والمسلمين وأوسعها انتشارًا؛ فتربح الملايين. لا فرق بين المنطق الإسلامي والبساط السحري، بين مؤلَّفات الفارابي وعالم الحريم، بين رسائل إخوان الصفا وألف ليلة وليلة. وهرع الأساتذة الشُّبان من جميع التخصُّصات من العلوم السياسية والاجتماعية والأدبية واللغوية والدينية وتاريخ الأديان لملء فراغ السوق بعد أن راج الكتاب الإسلامي، وصدرت عشرات الطبعات له، وكسب المؤلِّف والدار، وعمَّت الأفكار المُسبقة، وأُطلقت الأحكام النمطية. وضمَّ إلى الكتاب بعض الصور المُثيرة عن عصر الحريم وبذخ الأغنياء؛ الخيمة والقصر، الجمل والمرسيدس. هجر معظم الباحثين الشُّبان العلم، تركوا الجامعات، وعملوا في دور النشر وبعض مؤسَّسات الرأي العام، يتطلعون للشهرة والكسب بعيدًا عن الكتب العلمية غير الرائجة، وبطالة العلماء وأساتذة الجامعات.

العصر عصر الإعلام، والاتصالات، والثقافة الاستهلاكية، والوجبات السريعة. وتدخَّلت رءوس الأموال الأمريكية والصهيونية والمُحافظين الجُدد لنشر مِثل هذه الكتب تحقيقًا لمقولة صِدام الحضارات، وإخراجها من عمل الخاصة إلى شغل العامة. وتم الترويج لبعض الصور النمطية عن الإسلام والعنف والإرهاب والتخلُّف وتهميش المرأة وانتهاك حقوق الإنسان والتسلط والقهر. فيزداد العداء للإسلام والمسلمين، ويُسخَر من رموزه وشعائره كل يوم في أجهزة الإعلام، ويُثار غضب المسلمين ويتظاهرون ويحتجُّون.

ويكسب الغرب من جديد، وينصِّب نفسه حاميًا لحرية التعبير والرأي أمام فتاوى قتل الرِّوائيين والسينمائيين والإعلاميين التي يُصدرها علماء المسلمين تأكيدًا لسلطتهم الدينية والسياسية، والقدس لا تجد من يُدافع عنها أو يُفتي بعدم جواز الصلاة في الدار المغصوبة كما أفتى القدماء؛ فيبتعد المسلمون عن قضاياهم الوطنية، ويصبح الإسلام مُحاصَرًا بين أعدائه وجهل علمائه وعجز أبنائه.

هل تعود أوروبة لاستقلالها؟٢

بدأ تصدُّع الجبهة المُعادية للحكومة الفلسطينية، وبدأ الحِلف الأوروبي الأمريكي الصهيوني في التفكُّك بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وتعيين وزراء الخارجية والداخلية والمالية من المستقلِّين لإزاحة ذريعة مقاطعة حماس، وأصبح موقف الرباعية أكثر تفهمًا لحاجات الشعب الفلسطيني وتطلُّعاته لحياةٍ كريمة، وبدأت البلاد الشمالية وفي مقدمتها النرويج بكسر هذا الحصار بالتعامل مع حكومة الوحدة الوطنية؛ فالسلطة الوطنية وليدة أوسلو. وكانت روسية من قبلُ قد كسرت الحصار بالتعامل مع حماس، وهي الصديق التقليدي لحركات التحرُّر الوطني في العالم الثالث.

فكيف تستردُّ أوروبة استقلالها عن الولايات المتحدة الأمريكية، وتستعيد ثقتها بنفسها، وتستردُّ قيادتها التقليدية للعالم قبل بزوغ نجم الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ووراثة أوروبة في السيطرة على مُستعمَراتها، بل واحتلال أوروبة نفسها بزرع القواعد العسكرية في رُبوعها خاصةً في ألمانية؟ كيف يعود إلى أوروبة وعيُها المفقود باستقلالها الذي طالما دافعت عنه في فلسفاتها منذ ديكارت وكانط وفشته وباور وهوسرل وبرجسون، خاصةً في ألمانية، وهي التي تتبع في سياستها الخارجية الانحياز إلى الولايات المتحدة؟

لقد سبَّبت سياسة انحياز أوروبة إلى الولايات المتحدة خسارةً كبيرة لأوروبة وأمريكة ولباقي شعوب العالم؛ فقد زادت كراهية العالم الثالث لأوروبة بعد انضمام بعض دولها، خاصةً بريطانية، إلى قوات الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، وبعد أن ظنَّت أن حركات التحرر الوطني قد نجحت في الحصول على الاستقلال، وتأسيس الدول الوطنية المستقلة.

عادت أوروبة إلى إرثها الاستعماري بتحالفها مع الولايات المتحدة، بعد أن ظنَّت الشعوب المُستعمَرة أنها تخلَّت عنه بعد هزيمة فرنسة في فيتنام والجزائر، وانسحاب باقي القوات البريطانية والبرتغالية والإسبانية والهولندية والإيطالية من المُستعمَرات خارج حدودها. كما جعلت شعوب العالم الثالث تكره الغرب، ثقافةً وحضارةً ومدنيةً ومُثلًا وقِيمًا وتراثًا. ووحَّدت بين أوروبة الحضارية وأوروبة الاستعمارية الجديدة. وعادت التنوير الأوروبي، ومبادئ الثورة الفرنسية؛ الحرية والإخاء والمساواة، والذي طالما كان نموذجًا لفجر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، سواء في الإصلاح الديني عند الأفغاني، أو في الفكر الليبرالي عند الطهطاوي، أو في التيَّار العلمي العلماني عند شبلي شميل. ووقفت أوروبة عاجزةً عن الدفاع عن إرثها التقليدي ومناطق نفوذها في أفريقية وآسيا وأمريكة اللاتينية. وتنازلت عنه طواعيةً للقوة الأمريكية الجديدة الصاعدة. وهي بتحالفها معها الآن تريد أن تستردَّ بعضًا من عُنفوانها الإمبراطوري التقليدي منذ غزوها للهند والقضاء على إمبراطورية المغول. تلحق بذيل الولايات المتحدة بعد أن كانت في مقدمتها.

لم تستطع أوروبة كبح جِماح المُحافظين الجُدد الطامحين لإنشاء الإمبراطورية الأمريكية الجديدة كوعدٍ إلهي بإعطائها العالم كله، تجاوزًا للوعد الإلهي الذي يُعطي إسرائيل ليس فقط فلسطين بل أيضًا إسرائيل الكبرى، من النيل إلى الفرات. لم تستطع أوروبة ممثَّلةً في أنظمتها السياسية، وليست في شعوبها، تحسين صورة الغرب الأمريكي، وهي تُشارك معه جغرافيًّا في اسم الغرب، وأمريكة تُحارب الحركات الدينية في كل مكان بدعوى الإرهاب والعنف وكراهية الولايات المتحدة.

متى تستردُّ أوروبة استقلالها الدفاعي، وتُطالب بتفكيك القواعد العسكرية الأمريكية من على أراضيها وسجونها السِّرية للمخطوفين السياسيين بدعوى القضاء على الإرهاب ومحاكمة الإرهابيين، كما هو الحال في سجون غوانتامو وأبي غريب؟ لقد انتهى الخطر الأحمر وراء الستار الحديدي الذي من أجله أُقيمت هذه القواعد وحِلف شمال الأطلنطي بانتهاء الحرب الباردة، وسقوط الأنظمة الاشتراكية، واستتباب الأمر لعالمٍ ذي قطبٍ واحد، وعولمةٍ جعلت العالم كله سوقًا لمجموعة الدول الثمانية التي لا يستطيع أن يُنافسها أحد؛ ممَّا أدَّى إلى احتكار معظم الإنتاج الصناعي الثقيل في العالم.

إن أوروبة جغرافيًّا وسط العالم القديم، تقع في منطقةٍ متوسطة بين أفريقية جنوبًا والبلاد الإسكندنافية شمالًا، وروسية شرقًا. وبين هذه الجهات الثلاث هناك اتصالٌ أرضي بين أوروبة والشمال، وبين أوروبة والشرق، واتصالٌ بحري عبر البحر الأبيض المتوسط جنوبًا، والذي لا يبعد شاطئه الشمالي في إسبانية مثلًا عن شاطئه الجنوبي في المغرب أكثر من عشرين كيلومترًا في مضيق جبل طارق، أو مائتَي كيلومتر بين جزيرة جربة في تونس، وجزيرة صقلية في جنوب إيطاليا. أما في الغرب فيفصل أوروبة عن الولايات المتحدة الأمريكية أكثرُ من خمسة آلاف كيلومتر، يفصلها المحيط الأطلنطي بأكمله. أوروبة وآسيا وأفريقية في نصف الكرة الشرقي، وأمريكة في نصف الكرة الغربي. فالأقرب إلى أوروبة جغرافيًّا الضفَّة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط وشرق الأورال في آسيا ابتداءً من أوروبة الشرقية. أفريقية وآسيا خاصرتان لأوروبة في الجنوب والشرق. ربط أوروبة بآسيا طريقُ الحرير، من الصين حتى البندقية. وربطت أوروبة بشمال أفريقية فرنسة فيما وراء البحار، وبأفريقية تجارة العبيد.

وأوروبة تاريخيًّا وحضاريًّا على علاقة بمحيطها الإقليمي منذ آلاف السنين قبل الهجرات الأوروبية إلى العالم الجديد بعد كولومبوس منذ ما يزد قليلًا على خمسة قرون. كانت اليونان القديمة على صلةٍ دائمة بمصر كعبة العلم، وبالشام أرض كنعان، وببابل وآشور وحضارات ما بين النهرَين، كما عرض مارتن رينال أخيرًا في «أثينا السوداء». والعلاقات بين فارس والهند وأوروبة منذ قديم الزمان، حتى إن اللغات الأوروبية تُسمى اللغات الهندية الأوروبية في مقابل اللغات السامية.

كانت أوروبة في النهضة الحديثة في أفريقية وآسيا نموذجًا للتحديث، في تركية ألمانية، وفي الهند وفي السودان واليمن والخليج بريطانية، وفي المغرب العربية وسورية ولبنان فرنسة. ولم تظهر أمريكة في المنطقة العربية إلا بعد الثورات العربية الأخيرة في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وفرض سياسة الأحلاف على القُوى السياسية الجديدة التي مثَّلها الضباط الأحرار؛ حِلف بغداد، الحِلف الإسلامي، وسياسة المحاور؛ محور الرياض — طهران — كراتشي.

بدأت أمريكة بإدانة العُدوان الثلاثي على مصر، وإنذار أيزنهاور الشهير المُتزامن مع الإنذار الروسي، ثم عادت الولايات المتحدة حركة التحرر العربي الممثَّلة في القومية العربية، وأيَّدت تأييدًا مطلقًا إسرائيل وحروبها التوسعية حتى الآن.

كانت لأوروبة رسالةٌ حضارية في عصورها الحديثة، القضاء على الإقطاع والملكية والكنيسة ومحاكم التفتيش وكل رموز القهر والتسلط، واعتمدت على العقل لفهم قوانين الطبيعة التي يُمثلها نيوتن، وفي قوانين المجتمع ونظرية العقد الاجتماعي التي يمثلها روسو، ودافعت عن قيم الحرية والديمقراطية. وفيها تم الإعلان الأول والثاني لحقوق الإنسان والمُواطن. وقد جسَّدتها أيضًا مُثُل التنوير؛ العقل والحرية والطبيعة والمساواة والتقدم والتحديث. وقد قامت الثورة الأمريكية على هذه المُثل كما عبَّر عنها الدستور الأمريكي ووثيقة الاستقلال. أما أمريكة فلم تكن لها منذ نشأتها رسالة، إنما قامت منذ البداية على الغزو والنهب والسلب واستئصال الشعوب الأصلية والعبودية والبحث عن الذهب. وما زالت صورة الأمريكي في أذهان الناس صورةَ راعي البقر والمسدسات وسرقة الأبقار واغتيال أصحابها. قارَّةٌ زرع فيها الرجل الأبيض حضارته، وشعب بلا وعيٍ تاريخي، لا يدرك إلا الآني، عُقْدته الشعوب ذات الحضارات العريقة مثل مصر والعراق والصين.

أوروبة هي التي اكتشفت أمريكة بدايةً من إسبانية بعد أن غادَرها المسلمون وسقطت غرناطة، بفضل خرائط العرب ونظرياتهم في كُروية الأرض. والأوروبيون هم الذين عمَّروها وصنعوها وجعلوا منها القوة الأولى في العالم. فكيف يكون الأصل تابعًا للفرع، والأب تابعًا للابن؟ أمريكة من صُنْع المُهاجرين والمُغامرين الأوروبيين، فكيف يكون الأوروبيون عبيدًا لما صنعوه بأيديهم؛ عبَدة للأصنام؟

إن أمريكة الأسطورة التي بنتها نفسها كما فعلت إسرائيل غير أمريكة الواقع والحقيقة. أمريكة القوية ينخر فيها الضعف؛ ضعف المبادئ والسياق اللاأخلاقي الذي يتم فيه استعمال القوة. أمريكة بوتقة الانصهار تُمارس أبشع أنواع التمييز العنصري طبقًا للون بين السُّود والملونين والبِيض، وتقتل أنصار الحقوق المدنية والمساواة بين الأعراق مثل مارتن لوثر كينج، ويمارس أنصار كلوكس كلان أبشع أنواع الاضطهاد العنصري باسم الدين وحمايةً له. تُدافع عن الحرية وتقضي على الحريات العامة كما حدث في عصر مكارثي. تؤسِّس الديمقراطية وتتجسَّس على أحزاب المعارضة كما هو الحال في حادثة «ووترجيت» الشهيرة. تُدافع عن قيم العالم الحر وتغزو أفغانستان والعراق. تُهدد إيران وسورية وتعبث بمصالح لبنان والسودان. تحكمها المصالح ورجال الأعمال والشركات الكبرى، والمجمع الصناعي العسكري، والهوس الإمبراطوري، وجماعات الضغط، والمنظَّمات الصهيونية.

فما لأوروبة وهذا كله؟ ألا تستطيع أوروبة أن تفكَّ الارتباط مع هذه القوة الغاشمة الجديدة، وتعود إلى أصولها التاريخية والثقافية، وتستردَّ موقفها السياسي باعتبارها ميزان الثقل في العالم، وسطًا بين الشرق والغرب مثل الوطن العربي، لا يميل شرقًا أو غربًا؟ عندئذٍ يعود لعالم اتزانه، وللعقل حركته، وللحقيقة نبضها.

هل تستطيع أوروبة أن تُحاور غيرها؟٣

في زيارة على مدى عشرة أيام لبعض المعاهد الأوروبية لدراسات الشرق الأوسط والجامعات المُنتمية لأكبر المؤسَّسات الدينية لتعزيز الحوار بين الضفة الشمالية للمتوسط والضفة الجنوبية، وبناءً على التجارب الحية، وليس تحليل الوثائق والبيانات والإحصائيات والمصادر والمراجع، يمكن القول بأن نفس المشكلة ما زالت باقيةً لم تتغير، مشكلة الحوار العربي الأوروبي، أو بين الشمال والجنوب، أو بين الإسلام والغرب كما جرت العادة في التسمية الجديدة. ويُقصَد بالإسلام المسلمون، وبالغرب الدول الغربية على اختلاف نُظُمها السياسية ومواقفها من الهجرة من المغرب العربي، خاصةً المغرب الأقصى.

ليست القضية هي الخلاف حول جدول الأعمال؛ الاقتصاد في الجانب الغربي، فتح الأسواق وتنظيم العمالة المُهاجرة، وإسقاط الحواجز الجمركية طبقًا لقوانين السوق والمنافسة الحرة كما تفرض ذلك الآن العولمة. والسياسة في الجانب العربي، وفي مقدمتها فلسطين، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وانسحاب إسرائيل إلى حدود ١٩٦٧م، بما في ذلك القدس.

وليست القضية تعارُض المصالح بين الشمال والجنوب، الشمال يريد السيطرة كشرط للتنمية، والجنوب يريد التنمية دون شروط مع المحافظة على الاستقلال.

ليست القضية الحوار على الأمد القصير والمصالح العاجلة كما يريد الغرب، أو الحوار الاستراتيجي على الأمد الطويل في شراكةٍ تقوم على الجوار والتعاون الإقليمي كما يريد العرب، وليست القضية هي الخلاف الثقافي والحضاري في رؤية العالم والإدراك المتبادل بين الطرفَين القائم على صراعٍ تاريخي ما زال يؤثِّر في اللاشعور منذ الحرب الصليبية حتى الاستعمار الحديث، بل القضية هي اعتراف أوروبة بالآخر، والتسليم بوجود طرف مُحاور مُتكافئ؛ فأوروبة لا تعترف إلا بنفسها، ولا تُحاور إلا ذاتها. هي الطرف والطرف الآخر في نرجسيةٍ حضارية تاريخية شديدة. الآخر هو مجالها الحيوي، والمُحقق لحاجاتها، وامتداد لنشاطها. أوروبة هي الأنا والآخر، الذات والغير، الشمال والجنوب، المُوافق والمُعارض، المُماثل والمُختلف.

ويقبع ذلك في اللاوعي الأوروبي المُتراكم عبر التاريخ منذ أن أصبحت أوروبة مركزًا للعالم بعد سقوط غرناطة في ١٤٥٤م، والذهاب إلى ما وراء الأطلنطي إلى نصف الكرة الغربي، وإلى جزر الهند الشرقية عبر جنوب أفريقية إلى نصف الكرة الشرقي. وامتدَّت جنوبًا إلى أفريقية بدعوى اكتشافها. أصبحت أوروبة مركزًا جغرافيًّا للعالم، وتراكمًا حضاريًّا في التاريخ، وإبداعًا علميًّا بعد ترجمة العلوم العربية والإسلامية قُبَيل عصر النهضة. واستند ذلك كله إلى عنصريةٍ بيضاء تقوم على التفرقة بين البشر طبقًا للون البشرة، الأبيض والأسود والأسمر والأصفر. وصاغت النظريات العنصرية في طبيعة الأجناس البشرية وخصائصها النفسية والثقافية في علم نفس الشعوب، والتي بلغت أوجها في القرن التاسع عشر؛ ذروة الاستعمار الأوروبي.

فالجنس الأبيض الآري هو الذي له حق السيادة على باقي الأجناس السامية الأخرى. ولا يختلف الاختيار العِرقي والتفوق في الأجناس عن الاختيار الإلهي الذي غذَّته اليهودية في صياغتها الصهيونية بعقائد شعب الله المُختار، وأرض الميعاد، والمدينة المقدَّسة، والمعبد والهيكل. وما زال هذا الدافع وراء الغزو المستمر لأوروبة لغيرها، والانتشار خارج حدودها؛ فالعالم كله مجالها الحيوي، وإسرائيل مركزها. والعالم الجديد، أمريكة، خير وريثٍ لها، بلا تاريخ ولا جغرافية. ووقع التنافس بين العالم القديم والعالم الجديد، كلٌّ منهما لا يعترف بالآخر في اللاوعي الشعوري، بالرغم من التعاون الخارجي والأحلاف والحروب المشتركة. أوروبة هي التاريخ، والولايات المتحدة هي الجغرافية في نظر الأوروبيين. وأمريكة هي القوة والمركز الجديد لإمبراطوريةٍ مُمتدة إلى كل أرجاء المعمورة بما في ذلك أوروبة القديمة. أمريكة هي الفتى الشابُّ الذي يرث أوروبة العجوز، وإسرائيل في قلب الاثنين، والقرابة المشتركة بينهما.

في طريقة الاستقبال والتوديع، ما زال العربي الوافد، الطرف الثاني للحوار، هو الغريب القادم. على وجهه ينعكس العنف والإرهاب والهجرة والبحث عن العمل والرزق والكسب.

وجوده خطر، وحضوره يقضي على الهُوية الأوروبية وتماثل أوروبة مع نفسها. حضر كي يُتمَّ الحوار، ولكنه حضورٌ مهمَّش، زائد، لإكمال الشكل، واستيفاء العدد. لا يسمع الأوروبي ولا يريد أن يعرف أو يعيَ أن العالم يتغير، وأن ميزان القوى يتبدل. لم يعُد لديه شيءٌ يقوله. نسي تاريخه، وفقد ذاكرته. يقرأ من ورق، ولا ينظر إلى الآخرين لأنه لا يرى إلا نفسه، ولا يتحدث إلا إلى ذاته. لم تعُد له قضية إلا الاستمرار في الصدارة بخلق أساطير جديدة مثل ما بعد الحداثة، والعولمة، وثورة الاتصالات، والعالم قريةٌ واحدة، وصِدام الحضارات، ونهاية التاريخ. ومهما حاوَل الطرف الآخر التوضيح والكشف عن البديل، وفتح آفاق جديدة للتفكير، فإن الرسالة لا تصل. وإن وصلت اندهش الأوروبي من هذا الذي يُعيد للأوروبي ذاكرته وهو في بداية عصوره الحديثة، النهضة والتنوير، وكأنه يسمع جديدًا، ويُعجَب بهذا الصوت الحالم البعيد الذي ما زال في بداية الطريق، وما زال أمامه شوطٌ بعيد كي يقطعه. ولا يُمثل خطرًا مباشرًا عليه إلا في الخيال ومعارك الصور الذهنية والبدائل الحضارية.

إن معركة التحرُّر لم تنتهِ بعد؛ فليس الاستعمار فقط هو الاحتلال العسكري والاستغلال الاقتصادي والتبعية السياسية، بل أيضًا الهيمنة الثقافية والسيادة الحضارية؛ فإذا كان المغلوب ما زال مُولَعًا بتقليد الغالب كما لاحَظ ابن خلدون، وكما هو مُشاهَد أحيانًا في المغرب العربي، فإن الغالب أيضًا لم يتخلَّ عن تصوُّره للمغلوب؛ أنه كان سيدًا عليه في الماضي بالاحتلال العسكري، وما زال سيدًا عليه في الحاضر في التنمية والمساعدة الخارجية، وسيظل سيدًا عليه في المستقبل نظرًا لأبدية العلاقة النفسية والذهنية بين السيد والعبد.

لم تتغير صورة الغالب عن نفسه حتى بعد مرحلة التحرُّر الوطني واستقلال الشعوب، وصورة المغلوب الذي أصبح غالبًا في ذهنه لم تتغير. استبدل بالسيد الغربي السيد الوطني، وبالنهب الخارجي الفساد المحلِّي، وبالسيادة بالقوة الجبرية السيادة الاختيارية بطلب الحماية، وإقامة القواعد الأجنبية، والمشاركة في التمرينات العسكرية.

ومهما حاوَل الجنوب التحرُّر من جديد من هذا الأسْر التاريخي، ومهما حاوَل العربي إثبات وجوده كطرفٍ مُحاور، إلا أنه سيظلُّ يتحرك في المكان. لقد أخذت أوروبة في بداية عصر نهضتها العلم والحضارة منه وأنكرته، بل وأعطته الهيمنة والاستعمار بكل أشكاله القديمة والجديدة، جزاء سنمَّار.

ومهما حاوَل العربي أن يُسمع صوته ويُبين رؤية الجنوب إلى الشمال في مُقابل رؤية الشمال للجنوب، فإن الشمال لا يسمع؛ لأنه لم يتعود على أن يكون موضوعًا للرؤية. أوروبة هي التي ترى وتُلاحِظ وتُحلِّل، وغيرها هو الموضوع. هو الذي أنشأ المتاحف ووضع حضارات الآخر فيه. هو الذي أنشأ الدراسات الصينية والهندية والفارسية والبابلية والآشورية والمصرية القديمة والعربية والإسلامية، أما هو فليس موضوعًا للدراسة. لا يوجد متحف لأوروبة؛ فأوروبة ذاتٌ وليست موضوعًا. ما زالت حية، وباقية إلى الأبد، لا تموت حتى تصبح موضوعًا للمتاحف والأثريات.

تحتاج أوروبة إلى يقظةٍ جديدة بدلًا من العدم التي وضعت نفسها فيه، والثبات على المركزية، ونِسيان ذاكرتها التاريخية. تحتاج إلى وعي بمكوِّناتها الخارجية من العرب والمسلمين والشرق القديم الذي صبَّ في اليونان. تحتاج إلى العودة إلى نهضتها الأولى وتنويرها وهي في ذروتها، مع التخلِّي عن ازدواجية المعايير. التنوير والعقلانية والعلم والتقدم والحرية والديمقراطية داخلها، ونقيضها من جهل وخرافة وأسطورة وتخلُّف وقهر وتسلُّط خارجها؛ فأوروبة التي بلغت ذروة التقدم في القرن التاسع عشر في داخلها، بلغت ذروة استعمار غيرها خارجها منذ قضاء إنكلترة على إمبراطورية المغول في الهند، واحتلال فرنسة الجزائر، واحتلال إنكلترة وفرنسة باقي الوطن العربي والعالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين، مع احتلال إسبانية والبرتغال أراضي الأندلس القديمة، وهولندا وبلجيكا وإيطاليا العالم القديم في أفريقية وآسيا.

تحتاج أوروبة إلى استرداد وعيها التاريخي، وليس اعتبار التاريخ مجرد ذاكرة فردية في الرواية، بل هي ذاكرةٌ جماعية في الوعي التاريخي الحضاري كي تُعيد تحمُّل مسئوليتها في فترةٍ ثانية من مسارها تتجاوز به العدمية الحالية؛ ما بعد الحداثة، والتفكيك، والكتابة في درجة الصفر، وموت المؤلِّف.

إن مسار التاريخ يتغير بين المركز والأطراف، وميزان القوى يتبدل بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب. الآن تنهض آسيا ممثَّلةً في اليابان وكوريا وماليزيا وإيران وتركية، وتنهض أمريكة اللاتينية ممثَّلةً في فنزويلا والبرازيل وشيلي. والعدوى قادمة إلى الوطن العربي بدايةً بتخلِّي الحكم العسكري في موريتانيا عن سلطته إلى انتخاباتٍ حُرة من الشعب لاختيار مُمثِّليه. تعود حركات التحرر الوطني من جديد في مرحلةٍ ثانية لاستعادة سلطة الدولة الوطنية المستقلَّة اعتمادًا على حركة الشعوب، وتكوين نظام عالمي جديد مُتعدد الأقطاب، والتحرُّر من النظام الأحادي القطب. ما زال التحول في البداية وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (الإسراء: ٥١).

السحر والإعلام في الوعي الغربي٤

يشمل الوعي الغربي الأوروبي والأمريكي معًا مع اختلاف في الدرجة وليس في النوع، في درجة انتشار السحر، في أمريكة أكثر منه في أوروبة، درجة أثر الإعلام الذي يخلق حقائق وهمية كبديل عن الواقع أكثر مما يكشف عن الواقع نفسه. وهو أكثر منه أيضًا في أمريكة عنه في أوروبة؛ فأمريكة بلد العجائب أكثر منها بلد الحقائق، وأوروبة بلد الوقائع أكثر منها بلد الخيال.

ومعرفة الوعي الغربي جزء من معرفة الآخَر الذي تعيش الذات في حوار وتفاعل معه، أو في صراع وجدل منذ حوالَي ثلاثة قرون، بل إنه أصبح جزءًا من الذات عند العلمانيين، نموذجًا للتحديث لكل الشعوب.

الغرب هو حصيلة الإنسانية كلها، ويستعملونه في مواجهة الحركات «الأصولية» المُدافعة عن الخصوصية، والتي تريد العودة بالتاريخ إلى الوراء.

والمناسبة هي «هاري بوتر»؛ هذه الرواية الخيالية التي وصلت إلى الجزء السابع لكاتبةٍ بريطانية. بدأت مغمورةً، وعرضت الجزء الأول على الناشرين بأجرٍ زهيد، ثم سرعان ما ذاعت الرواية وانتشرت، وأصبحت سباعيةً. تُوزَّع مئات الملايين من النُّسخ في شتَّى أرجاء العالم، ويقف القُراء بالطوابير عدة أيام للحصول على إيصال دفع ثمن نسخة يتم الحصول عليها فيما بعدُ، مثل طوابير الماء والخبز في العالم الثالث بما في ذلك مصر للحصول على الحاجات الأساسية لحياة البشر. فأصبحت ظاهرةً إعلامية فريدة تجاوزت شهرة سمبسون القاتل، والطالب الكوري في كلية الهندسة في فرجينيا الذي قتل ما يقرُب من ثلاثين طالبًا وطالبة في الولايات المتحدة الأمريكية، وسلمان رشدي الذي كان كاتبًا مغمورًا ثم أصبح ظاهرةً إعلامية بعد رواية «آيات شيطانية»، عندما أصبح أشهر روائي في بريطانية بعد فتوى قتله من إيران لنيله من الرسول، والانتفاضة الفلسطينية الأولى في أوجها، والعالم ينظر إليها بإعجاب ودهشة، وعودة الصورة النمطية للوطن العربي والعالم الإسلامي؛ القهر والكبت والقتل للمُفكرين والكُتاب، في مُقابل ما تنعم به أوروبة من حرية الفكر والتعبير.

حدث ذلك في بريطانية؛ هذا البلد العريق في العلم والحقائق الموضوعية؛ ففيه نشأ إسحاق نيوتن وفرانسيس بيكون وجون استيوارت مل، وواضِعُو المنهج التجريبي العلمي الحديث. وفيه أيضًا استند القانون إلى الحالات السابقة والوقائع، وكان انتشارها عبر الأسطول والتوسُّع البحري عبر المحيطات للالتفاف حول العالم القديم، وتأمين خطوط المواصلات البحرية في جبل طارق وقناة السويس وعدن والرجاء الصالح طريقًا إلى الهند، واقعًا عسكريًّا وليس خيالًا علميًّا وانتشارًا إعلاميًّا. وعُرِف إعلامها بالدقة والموضوعية، وأصبح رمزها BBC، ثم تصبح اليوم مهدًا للسحر والإعلام على الطريقة الأمريكية؛ فقد تجاوز التبعية البريطانية للولايات المتحدة الخيارات السياسية إلى أيضًا وسائل الإعلام الأمريكية، وما يسود المجتمع الأمريكي من سِحر وخرافة وأساطير تبثُّها الجماعات الدينية المُغلَقة واليمين المُتطرف والمُحافظون الجُدد.

بدأت الكاتبة بتدوين قصصها التي كانت ترويها لأطفالها. البعض من قراءاتها، والبعض الآخر من خيالها، ثم فكَّرت في التدوين كتابةً لما ترويه شفاهًا، وأدب الأطفال رائجٌ بطبيعته في الغرب؛ فهو تأليف من القلب والخبرة الذاتية والواقع، وليس من مصادر ومراجع، ومعاجم وقواميس، وتجارب وقياسات علمية. والكتابة من القلب أفضل من الكتابة الموثَّقة. الأولى للعامة، والثانية للخاصة. الأولى علمية، والثانية أدبية. والخيال الإنساني في أدب الطفل يفوق الخيال العلمي في أدب الشباب. والكاتبة امرأة، وهو في حد ذاته يفتح لها الأبواب؛ لما للحركة النسائية في الغرب من حظوة، ولما للأدب النسائي من أنصار. وهي شقراء بها مسحة من جمالٍ قديم؛ نموذج المرأة الأوروبية.

واستحوذ الكتاب المطبوع على لُبِّ القُراء بطبعته المجلَّدة الفاخرة مع صورة الغلاف التي تشدُّ الانتباه؛ صورة البطل التلميذ البريء الهُمام، القادر على الاستحواذ على العالم بالسحر، وشد انتباه مُعلِّميه ومجتمعه، وإشباع حس المُغامَرة فيهم، والبحث عن المستقبل، والسيطرة على مساره.

وكان الوعي الأوروبي في بداية العصور الحديثة قد نفر من الكتاب ورموزه؛ منطق أرسطو، فلك بطليموس، الكتاب المقدَّس، أقوال آباء الكنيسة؛ لأنه يُمثل سلطة القدماء على إبداع المُحدَثين. توجَّه العقل مباشرةً نحو الطبيعة لتأسيس العلم الطبيعي، ونحو المجتمع لتأسيس العلم الإنساني، دون وساطة النص. ونشأ علم نقد النصوص بوجهٍ عام، خاصةً النقد التاريخي للتحرُّر من سلطته.

وفي نهاية العصور الحديثة الآن يعود النص ليصبح مركزًا للوعي الأوروبي، النص الديني الآسيوي أو الأفريقي، أو النص الشعري أو الروائي، أو النص الإسلامي، القرآن والحديث. فازدهرت علوم التأويل، وقراءة النصوص، وعلم النصوص Textology. وأصبحت الرواية أكثر الكتب مبيعًا بعد الإنجيل، كما أصبح القرآن بعد حوادث سبتمبر ٢٠٠١م أكثر الكتب مبيعًا على الإطلاق، وذاع انتشار الكتب عن الإسلام، عقيدةً وشريعة، دينًا وثقافة، علمًا وحضارةً، فنًّا ورؤية، مثل «إحياء علوم الدين» في أندونيسية بعد البخاري.

وجد الوعي الأوروبي في الكتاب المدوَّن نصرًا جديدًا أو تكئةً قوية لاستنهاض ذاته، والعثور على بؤرةٍ جديدة له بعد أن قضت ما بعد الحداثة والتفكيكية على البؤرة القديمة في بدايات عصر النهضة؛ العقل والطبيعة.

ثم تلقَّفه الإعلام الذي يصنع الحقائق بطريقة روايتها وتوجيه الخبر والتعامل معه. والإعلام هو صانع الرأي العام، والمؤثِّر في انتخابات الجماهير، والموجِّه لسلوكهم في الحياة الخاصة والعامة؛ فالحقيقة هي كيفية روايتها، وكيفية الرواية قائمة على الأهداف غير المُعلَنة، والتي قد تُغطي على الحقيقة ذاتها لدرجة تزييف الحقائق، وتغييب الوعي؛ تهميش المركز ومركزة الهامش كما يحدث في الإعلانات التجارية عندهم، والفيديو كليب عندنا.

وقد كشف عن ذلك من قبلُ هربرت مركوزه في «الإنسان ذو البعد الواحد» في المجتمعات الصناعية المُتقدمة. وملأت أخبار الرواية وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وتصدَّرت عناوين الصحف الرئيسية، وغطَّت على مآسي العالم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وجرائم الغرب، مع إبراز جرائم العرب في دارفور والصومال؛ فما زال المركز الأوروبي هو الموجِّه للإعلام العالمي بالعولمة وأشكال الهيمنة الجديدة، أو بالغزو العسكري المباشر؛ الشكل القديم.

والموضوع هو السحر. وهاري بوتر ساحرٌ قادر على فعل الأعاجيب؛ فقد تشبَّع الوعي الأوروبي بالعلم والعقل والواقع والمحسوس، وبه الآن شغفٌ شديد للخيال والمعجزة والأسطورة والغيب والخرافة؛ فقد قضى الغرب بنفسه على مُثُل التنوير، وقطع أنفه بيدَيه. هدم العقل والعلم والإنسان والمساواة والحرية والتقدم لصالح اللاعقل والخبل والخرافة والآلة والنخبة وسيطرة الأنظمة وشبكات المعلومات. ويبحث عن بطلٍ جديد يحلُّ محل طرازان القديم، ورامبو الأمريكي الأول والثاني والثالث. تعلَّم البطل السحر في المدارس وليس في العلم، وأظهر براعته في السحر وليس في العلم، ومهَّد الخيال العلمي السحري للخيال السياسي؛ للاستيلاء على العالم والهيمنة عليه كما تفعل أنظمة المعلومات والقوى الكبرى الآن. فالوعي الأوروبي ما زال قادرًا على عمل المعجزات للسيطرة على العالم بعد أن رفض من قبلُ معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وأعاجيب القديسين، وتنازل عن دفاعه المُستميت القديم عن حتمية قوانين الطبيعة. وانتقل من العلم إلى السحر، ومن العقل إلى الأسطورة، ومن النهاية إلى البداية من جديد.

هل هذه نهاية حضارة وبداية أخرى؟ هل تمَّت دورة العود الأبدي في مسار الحضارات؟ ما يسعى إليه الغرب من سحر وخرافة وأسطورة وإعلام وتغييب للوعي، هو ما نسعى نحن الآن في التخلص منه لصالح العلم والعقل والواقع والتقدم والتاريخ. وما ينقده الغرب من مُثُل التنوير في القرن الثامن عشر هو ما نستدعيه نحن منذ الطهطاوي، مركبًا إياها على التراث الاعتزالي ووضعية الشريعة الإسلامية كما حدَّدها الشاطبي.

وستُسرع دور النشر العربية في ترجمة سباعية هاري بوتر؛ ليس بدافع مضمونها، بل من أجل التوزيع والكسب السريع. وتبقى عشرات الكتب العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تجد لها ناشرًا إلا إذا دفع المؤلِّف كليًّا أو جزئيًّا مصاريف الطباعة. الكتابة والقراءة ظاهرتان اجتماعيتان تعبِّران عن ظروف كل حضارة ومسارها في التاريخ. ومن يدري؟ فربما يُخلَق «هاري بوتر» عربي، «هاني جوهر»!

هل تحرَّر الوعي الأوروبي من الاستعمار؟

أثارت زيارة ملك إسبانية للمدينتَين المغربيتين المحتلتين سبتة ومليلية مشاعر العرب والمسلمين، وذكَّرتهم بماضي أوروبة الاستعماري الذي لم يتوقف حتى الآن.

فالاستعمار دفين في الوعي الأوروبي. يكمن أحيانًا، ويتفجر أحيانًا أخرى. لم يتخلص الوعي الأوروبي في رؤيته للعالم وللآخرين من الاستعمار؛ فالآخر والعالم لا وجود لهما في ذاتهما إلا من خلال تأكيد أوروبة لذاتها كقوةٍ وحيدة في العالم، ووجودٍ وحيد للذات؛ فلا وجود لغير المركز، والباقي أطراف. ولا وجود لأوروبة غير الحقوق، وعلى الآخرين الواجبات.

لقد صدَّرت الحضارة الأوروبية نفسها، وأوهمت العالم من خلال تدوين التاريخ أنها حضارة الحرية والديمقراطية والعلم والتقدم والإنسان. وهي مُثُل التنوير التي جسَّدتها مبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة، الحرية والإخاء والمساواة، كما جسَّدت حركة التحرُّر العربي في مصر وسورية مبادئها في شعار «الحرية والاشتراكية والوحدة»، بصرف النظر عن الترتيب والأولوية للحرية في مصر، وللوحدة في سورية.

قدَّمت الحضارة الأوروبية في عصورها الحديثة نفسها بأنها ثورةٌ ضد التسلط، وتحرُّر من القهر ورموزه؛ الكنيسة، والإقطاع في الحاضر في الدين والسياسة، وأرسطو وبطليموس والشروح العربية الوافدة في الثقافة والعلم. واستمرَّت الثورة في بداية العصور الحديثة ضد الملكية والرأسمالية حتى قامت الثورات الجمهورية والاشتراكية.

ويبدو أن المعيار المزدوج كان مُصاحبًا منذ البداية للوعي الأوروبي الحديث، مبادئ التحرُّر من التسلُّط، والحرية ضد القهر فقط لأوروبة، والهيمنة والاستعمار والسيطرة على غيرها. فمنذ أن أصبحت أوروبة هي مركز العالم الجديد بعد سقوط غرناطة وطرد المسلمين من الأندلس، انتشرت خارج حدودها الجغرافية إلى ما وراء البحار، اعتمادًا على خرائط المسلمين ونظرياتهم في كروية الأرض، حتى وصلوا إلى النصف الكرة الغربي عبر الأطلنطي واحتلال القارَّتَين القديمتين شمالًا وجنوبًا باسم الكشوف أو الاستكشافات الجغرافية، وكأنَّ نِصف الكرة الغربي لم يكن موجودًا قبل قدوم الرجل الأبيض إليه، وكأنَّ السكان الأصليين لا وجود لهم. وإن وُجدوا يُستأصلوا عن بكرة أبيهم حتى تخلوَ الأرض للمُستعمِر الجديد، وإحلال سكان آخرين محلَّهم؛ رقيق أفريقية الذين تم اصطيادهم كالحيوانات بالملايين. منهم من غرق في المحيط، ومنهم من وصل إلى الأرض عبيدًا أرقَّاء لتعمير الأرض.

حدث ذلك في عصر الإصلاح الديني عند لوثر وكالفن. في الوقت الذي كانت فيه أوروبة تحرِّر نفسها من تسلُّط الكنيسة والإقطاع على يد لوثر ومونزر، كانت تستعبد غيرها وتلفُّ حول البحار، وتعبُر المحيطات غربًا للوصول إلى جزر الهند الشرقية، أو شرقًا عبر جنوب أفريقية والمحيط الهندي وبحر العرب من أجل الالتفاف حول العالم القديم كله. وفي عصر النهضة الذي تلا الإصلاح الديني احتلَّت القوى الأوروبية الجديدة السواحل، إنكلترة وفرنسة وإسبانية والبرتغال، نِصف الكرة الغربي، وإنكلترة جنوب أفريقية. وقضت على إمبراطورية المغول الإسلامية في الهند. وانضمَّت هولندا إلى الركب فاحتلَّت جنوب شرق آسيا، أندونيسية، أكبر أرخبيل في العالم، واحتلَّت إسبانية الفلبين، وفيما بعدُ احتلَّت إنكلترة ماليزيا وإيران وأفغانستان. وفي عصر الثورة الفرنسية المجيدة احتلَّ نابليون مصر. وبلغ الاستعمار الذروة في القرن التاسع عشر في وقتٍ بلغت الرومانسية في أوروبة أوجها والدفاع عن قيم الحرية، وما سمَّاه لسنج «العاصفة والاندفاع» باحتلال فرنسة وإنكلترة وبلجيكا أواسط أفريقية، وفرنسة الجزائر. وبعد خسارة تركية الحرب العالمية الأولى في القرن العشرين، وفي وقتٍ بدأت أوروبة تُكمل عصر العلم والصناعة، احتلَّت فرنسة وإنكلترة الوطن العربي في المشرق والمغرب، وروسية والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا.

لم تختلف إذن العصور الحديثة رمز الحرية والتحرر والثورة ضد السلطة والتسلط عن الوعي الاستعماري الأوروبي القديم منذ اليونان والرومان، الذين استعمروا الشرق حول البحر الأبيض المتوسط، واندفع الإسكندر نحو مصر والهند وأواسط آسيا والشرق لتكوين إمبراطورية يونانية تُفتَّت بعد موته بين قُواده. كما اندفع قياصرة الرومان حول سواحل البحر الأبيض المتوسط لجعله بُحيرةً رومانية، وحرَّرها العرب بعد ظهور الإسلام. واستأنف الصليبيون نفس الاندفاع الاستعماري بدعوى تخليص المدينة المقدَّسة من أيدي المسلمين، وانتصر عليهم صلاح الدين، واستعاد أراضي المسلمين في الشام، ثم استؤنفت الحروب الصليبية في المغرب بعد فشلها في المشرق، وأُخرجَ المسلمون من إسبانية، واحتلَّت مدن الساحل الشمالي الأفريقي سبتة ومليلية، وفي الساحل الجنوبي في الصحراء. وأثناء حركة التحرُّر الوطني قايَض الإسبان الصحراء الجنوبية بالمدن الشمالية. وفضَّل المغرب الانسحاب من الجنوب، وتأجيل الانسحاب من مدن الشمال. واحتلَّت إنكلترة طنجة وجبل طارق، كما احتلَّت مالطة وقبرص وقناة السويس والمنافذ البحرية خارج البحر الأبيض المتوسط في عدن ورأس الرجاء الصالح وسنغافورة؛ حتى تُسيطر سيدة البحار على العالم من خلال السيطرة على طُرُق المواصلات البحرية.

وقد دافعت الإمبراطورية العثمانية عن سواحل المغرب العربي حتى الجزائر، وحرَّرت ثماني مدن وهي في أوج انقضاض الغرب على «الرجل المريض» وتقطيع أوصاله. وبعد حركات التحرر بقِي الوعي الأوروبي وعيًا استعماريًّا يُعاود هيمنته كلما ضعف الآخر، لا فرق في ذلك بين إسبانية مُمثل الاستعمار القديم، وأمريكة مُمثل الاستعمار الحديث.

في هذا الإطار التاريخي يمكن قراءة زيارة ملك إسبانية للمدينتَين المغربيتين المحتلتين، سبتة ومليلية، بعيدًا عن تراثها الجمهوري الحديث أثناء الحرب الأهلية، وتراثها الأندلسي القديم أثناء حكم العرب والمسلمين، والذي ما زالت تفخر به أمام العالم في غرناطة وقرطبة وأشبيلية وطليطلة. وماذا عن إعلان برشلونة الذي أصبح نموذجًا للتعاون بين دول البحر الأبيض المتوسط؟ وماذا عن عودة الروح إلى إسبانية عن طريق الأندلس الجديدة، واعتزازها بثمانية قرون من التراث العربي الإسلامي؟

إن الوعي الأوروبي الاستعماري يتفجَّر من جديدٍ بعد نُكوص الحركات الوطنية والتفريط في مُكتسَباتها، وتحوُّلها إلى نُظمٍ سياسية قاهرة للداخل، وتابعة للخارج. وقد بدأ ذلك بالاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، واحتلال إسرائيل لكل فلسطين، وتهديد إيران وسورية وحزب الله، محور الشر، والعمل على تفتيت السودان والصومال، وتحويل الوطن العربي والعالم الإسلامي إلى دُوَيلاتٍ طائفية وعِرقية ومذهبية، تُصبح إسرائيل بينها دولةً يهودية، كما صرَّح بذلك رئيس وزرائها، وليست مجرد دولة علمانية حديثة، تقوم بدور مصر في تحديث الوطن العربي، وتأخذ شرعيةً جديدة من طبيعة الجغرافية السياسية المحلية للمنطقة، وليست من أساطير الميعاد القديمة، شعب الله المختار وأرض الميعاد.

إن زيارة ملك إسبانية للمدينتَين المغربيتين المحتلتين رمزٌ وإشارة. رمز على أن الوعي الأوروبي الاستعماري لم ينتهِ بعد، وإشارة على أن استمرار الهجرات المغربية إلى إسبانية، والعربية إلى أوروبة، هو احتلالٌ غير مباشر، وفتوحاتٌ جديدة من الجنوب في الشمال عن طريق العمالة المهاجرة، في حاجة إلى حركة «استرداد» جديدة، ومد من الشمال إلى الجنوب. وإذا كان «الإرهاب» الإسلامي قادمًا من الجنوب إلى الشمال، فإن «الاستعمار» الغربي قادم من الشمال إلى الجنوب. وقد تكون عودة أوروبة إلى وعيها الاستعماري القديم أحد الحلو لحلِّ أزمات أوروبة الداخلية؛ فقدِ الروح وخواء النفس، وما سمَّاه بعض الفلاسفة «أُفول الغرب»، أو «أزمة الوعي»، أو «قلب القِيم».

فإذا كان المشروع الأوروبي القديم لا يستهوي الأجيال الجديدة، أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك لأكبر قدر ممكن من السعادة، فلعلَّ الوعي الاستعماري القديم للمُحافظين الجُدد والباحثين عن الذهب من الذين عبَروا المحيطات إلى نصف الكرة الغربي، يُعطي دفعةً جديدة لأوروبة. وقد تُوقفه حركة تحرُّر عربي وطني ثانية لردِّ الهجمة الاستعمارية الجديدة. إنما تستطيع الأجيال الجديدة أن تبدأ عصورًا حديثة أوروبية جديدة، خالية من المِعيار المزدوج؛ الحرية والتحرُّر لأوروبة، والهيمنة والتسلط على غيرها، وتعمل لأجل إنسانية واحدة، دون مركز ومحيط، وشمال وجنوب، وغرب وشرق.

العنف الأمريكي في الداخل أيضًا

العنف الأمريكي ليس في الخارج وحده، العُدوان على العراق وأفغانستان، والسودان وليبيا من قبلُ، وتهديد لبنان وسورية وإيران والصومال بالتدخل؛ فهي شُرطي العالم الذي يفرض قانونه بالعصا على كل من يشقُّ عصا الطاعة على «فتوَّة» الحي. وما يحدث في الخارج من عُدوان على الشعوب، يحدث في الداخل أيضًا بالعُدوان عليه من مُواطنيه؛ فالمجتمع مُفرَّغ من الداخل. وبقدر ما تستعمل الولايات المتحدة الأمريكية القوة ضد الخارج، القوة المنظَّمة بالجيوش وأسلحة الدمار الشامل، تُستعمل القوة ضدها في الداخل بنفس العُدوانية وقتل الأبرياء. الجريمة المنظَّمة في الخارج تقوم بها الدولة، والجريمة المنظَّمة في الداخل يقوم بها الأفراد.

هذا ما حدث منذ شهر تقريبًا في ولاية فرجينيا في كلية الهندسة بمدينة بروزبرج، عندما أطلق مُهاجرٌ أمريكي من أصلٍ كوري جنوبي النارَ على الطلاب والأساتذة، فقتل اثنين وثلاثين من الأمريكيين والأجانب بدمٍ بارد مع سبق الإصرار والترصُّد، وتسجيل العملية منذ بدايتها بالصوت والصورة في مجتمعٍ يعشق الإعلام ويقدِّسه.

اندماج المُهاجرين حتى من الجيل الثاني لم يتحقق، وبوتقة الانصهار التي أرادتها أمريكة مجرد أسطورة.

فالمجتمع ما زال فُسيفساء من المُهاجرين طبقًا للَّون والأصل العِرقي، وعلى مراتب كما هو الحال في نظام الطبقات في الهند. أعلاها الأنجلوسكسونيون البِيض البروتستانت الذين هاجروا أول مرة من بريطانية، واستقرُّوا على الساحل الشرقي حيث السلطة والمال، ثم تتراتب الطبقات من الأعلى إلى الأدنى؛ الألمان، والإيطاليون طبقًا لطبقاتهم الأصلية في أوروبة، ثم يأتي في ذيل القائمة الإسبان ثم السُّود.

مع أن الإسبان هم الذين اكتشفوها، والسُّود هم الذين بنَوها بعد أن تم اصطيادهم من أفريقية عبيدًا ليحلُّوا محل الملايين من السكان الأصليين الذين تم استئصالهم. ومن تبقَّى منهم وُضعوا في محميَّات للسياحة ولاستديوهات هوليود. لم يندمج القاتل من أصلٍ آسيوي في المجتمع الأمريكي. وشتَّان ما بين أمريكة وآسيا، بين العالم الجديد والعالم القديم، بين قارَّة الذهب والمال، وقارَّة الديانات والحضارات.

والطالب في كلية الهندسة؛ أي في كلية عملية تقوم على العقل والعلم. عاش الطالب القاتل وحيدًا نفسيًّا لا يُشارك المجتمع قيمه. عاش مُتوحدًا مع نفسه، ومُتغربًا مع غيره؛ ممَّا أدَّى إلى الانفصال الكامل بين الفرد والمجتمع، بين المُواطن والدولة. ويبدو أن العلوم الطبيعية والرياضية لا تملأ الفراغ الروحي لدارسيها كما تفعل العلوم الإنسانية، ولا تُشبع فيهم البحث عن معاني الحياة والوجود والمصير. إنما يظهر التنظيم الهندسي في الجريمة المنظَّمة التي تقوم بها أمريكة في الخارج عن طريق أجهزة الاستخبارات والجيوش النظامية، ويقوم بها الأفراد في الداخل عن طريق الإعلام وأجهزة التسجيل الصوتي والمرئي. وهي ليست حادثةً فردية معزولة، بل نمطٌ سلوكي أمريكي في رفض المجتمع وقيمه، والدولة ونظامها كما حدث من قبلُ في تفجير المبنى الفيدرالي الأمريكي في أوكلاهوما من أمريكي أبيض تيموتي ماكفاي، لا يعترف إلا بالقوة الفردية واستقلال الولاية. والقاتل الانتحاري الجديد يستأنف عملية القتل التي تمَّت في جامعة كولومبيا. دبَّرها أيضًا أمريكيان أبيضان، ديلان كليبولد وأريك هاريس. ولن تكون الأخيرة طالما العنف هو نموذج السلوك الأمريكي؛ العنف في الخارج على الآخرين، والعنف في الداخل على النفس.

وفي تسجيله الصوتي المرئي على مدى عشر دقائق، وألف وثمانمائة كلمة، وثلاث وأربعين صورة، وسبع وعشرين لقطة فيديو، عبَّر الطالب عن رفضه لقيم المجتمع الأمريكي، وأسلوب الحياة الأمريكي، والحُلم الأمريكي، وأسطورة التفوق الأمريكي، والغرور الأمريكي، والرموز الأمريكية، المرسيدس وثقافة العربات والطُّرق السريعة وصناعة السيارات في دترويت وغيرها. والقلادة الذهبية التي تزيِّن بها النساء جِيدها مظهر من مظاهر الغنى. وقد كان البحث عن الذهب أحد أسباب الاندفاع نحو الغرب الأمريكي في الهجرات الأولى. وحسابات البنوك والودائع والمدخرات حياة الأمريكي، خاصةً بعد التقاعد؛ لينعم بالحياة بعد أن شقِي في الإنتاج الذي قضى فيه شبابه. والوفرة الأمريكية تؤدي إلى الإشباع الكامل لحاجات البدن، ولكنها لا تؤدي إلى سعادة الروح. الوفرة الزائدة عن الحاجات تُصيب الإنسان بالغثيان. والفودكا والكونياك رمز السُّكْر والعربدة، والانغماس في ملذَّات الدنيا. ويُضاف إليها اللبان والآيس كريم والكوكاكولا، وهو ما لا يستطيع الأمريكي الاستغناء عنه وهو في قلب المعارك وفي أتُّون الحروب. الأمريكيون هم أسباب الشقاء في العالم، أطفال السوء، والرجال الأشقياء، ورسل الخطيئة، وغواية الشيطان.

قتل الطالب منذ السابعة صباحًا طالبَين لإبعاد الانتباه عمَّا تبقَّى من الجريمة، وانخدعت الشرطة، وحاصرت المبنى الأول الذي قُتل فيه الطالبان، وزادت في العدد، وأحضرت الأسلحة، وحشدت القوات. وباقي الجريمة تتم بعد ذلك بثلاث ساعات في قاعة الدرس، حيث اجتمع عشرات الطلاب في الصباح للاستماع إلى الأستاذ الذي أغلق الباب وحصَّنه حتى لا يهرب أحد. والشرطة ما زالت في المحل الأول، واقعةً تحت الخداع ضد أسطورة الشرطة الفائقة العدة والعتاد، والتي قتلت من قبلُ عشرات المُعارضين السياسيين وقادة المظاهرات والاحتجاجات السوداء. وتم قتل ثلاثين طالبًا من مسدَّسَين آليَّين كما يفعل رامبو في العراق؛ من قتلِ الآمنين، ودكِّ المَنازل بمن فيها على من فيها بالطائرات. فاستعراض القوة يُشبع غرور النفس، وقتل الأبرياء وتعذيبهم يُشبع عقدة الصادية عند الأمريكي، وتلذُّذه بإيلام الآخرين.

وقبل تنفيذه العملية الانتحارية التي طالما أدانتها أمريكة في العراق، بالرغم من الفرق بين العُدوان على الأبرياء في الداخل، ومقاومة العدو المُحتل في الخارج، قام القاتل بالتدرب عليها، وسجَّلها بالصوت والصورة في مجتمعٍ الإعلامُ حياته، وارتدى لباس رُعاة البقر؛ النموذج الأمريكي في استعمال القوة، وإظهار الشجاعة والبطولة الفردية. واعترف أمام أجهزة الإعلام الخاصة به بالجريمة والدافع عليها، مثل أبطال جان بول سارتر وهم يُسجلون حياتهم وأفعالهم قبل الانتحار.

هو قدر لا فِكاك منه، واختيارٌ أوحد لا بديل عنه. والسبب هو المجتمع الأمريكي الذي لم يترك له خيارًا آخر. كانت هناك مائة بليون فرصة لمنع هذه الجريمة وتفادي الحادثة، ولكنه دفع هذا المُواطن البريء إلى أقصى مدًى، وجهه إلى الحائط. كان يمكن للمجتمع الأمريكي الذي قام على مبادئ الثورة الفرنسية، الحرية والإخاء والمساواة، أن يتمسك بإعلان الاستقلال، ومبادئ الدستور، وبمُثُل الآباء المؤسِّسين الأوائل.

كان يمكن للمجتمع الأمريكي أن يُدافع عن الحرية في العالم؛ حرية الأفراد وحرية الشعوب، بدلًا من الاكتفاء بتمثال الحرية في ميناء نيويورك، وتشدُّق الإدارة الأمريكية بأنها بغزوها العراق وأفغانستان إنما تُدافع عن العالم الحر وقيم الحرية والديمقراطية. كان يمكن أن يُشارك باقي الشعوب في ثرواته بدلًا من أن يمتلك أقلُّ من ٥٪ من سكان العالم نسبة ٩٠٪ من ثروات العالم. كان يمكن أن يُساهم في مشاريع تنمية قدرات العالم الثالث، ويقضي على التصحر في أفريقية الذي سبَّبه الرجل الأبيض عندما أخذ من أفريقية أكثر مما أعطاها؛ لأنه يعلم أنه راحل. ويقضي على الجفاف والجوع والأمراض التي تحصد الملايين سنويًّا في تشاد ومالي وجنوب السودان والصومال وإريتريا وبنجلادش. كان يُمكنه أن يُقيم السدود، ويبنيَ الجسور، ويشقَّ القنوات لزيادة مساحة الأراضي المزروعة، بدلًا من تدميرها كما يفعل في العراق وأفغانستان.

إنها مسئولية المجتمع الأمريكي إذن. هو السبب غير المُباشر في اقتراف الجرائم وتلويث دم الشباب بالدماء؛ لأنه تعوَّد على سفك دماء الأبرياء؛ لذلك قرَّر هذا الطالب الشابُّ المواجهة وعدم الهروب والفرار، وقرَّر تخليص المجتمع الأمريكي من مآسيه وشروره وآثامه، كما قرَّر تخليص أسرته، أبنائه وإخوته، وتحمُّل أخطاء البشر جميعًا كما فعل السيد المسيح؛ فالمسيح يُصلَب من جديد لأنه يُصلَب كل يوم في العراق وأفغانستان وفلسطين والشيشان وكشمير وسورية وإيران والسودان، يُصلب في الداخل وفي الخارج. وكما تتحمل أمريكة أوزار العالم، فإن هذا الشاب يتحمل أوزار أمريكة في العالم؛ فهو الضحية، وأمريكة الجلَّاد، وليست أمريكة هي الضحية وهو الجلَّاد. أمريكة تُواجه قدرها في الداخل، كما أن الشعوب تُواجه قدرها بالعُدوان الأمريكي عليها. وتنتهي الحرية إلى قدرية، وينتهي الاختيار إلى حتمية.

انهيارٌ أمريكي من الداخل هو الذي سيؤدِّي إلى انهيارها في الخارج. وفاقد الشيء لا يُعطيه. العُدوان الأمريكي في الخارج يُحدِث رد فِعل بعُدوان الأمريكي على مجتمعه في الداخل؛ حتى تذُوق أمريكة على يد أبنائها من المرارة التي تسقيها هي للآخرين. إن المجتمع المفرَّغ من الداخل لا يستطيع أن يكون مُصمَتًا في الخارج، والمجتمع الخاوي من الداخل لا يستطيع أن يكون صامدًا في الخارج. وبالرغم من استعمال أمريكة القوة المُفرِطة في الخارج، وجميع أنواع أسلحة الدمار الشامل، فإن العدم ينخر فيها من الداخل. وقد تقضي النملة في أذن الفيل عليه بإثارته وإثبات عجزه مهما الْتَوى خرطومه وطالت أنيابه.

إن شو، وهو اسم الطالب الضحية، هو نموذجٌ مصغَّر للمجتمع الأمريكي المدجَّج بالسلاح لقتل الأبرياء، ولكنه في النهاية يقتل نفسه؛ فيتحوَّل الجلَّاد إلى ضحية. وكما يقول الإنجيل: «تُقتَلون بنفس السيف الذي به تَقتلون.»

الصهيونية والمحافظة الجديدة

أيديولوجيتان للهيمنة سادتَا العصر الحديث؛ الصهيونية للهيمنة على الوطن العربي، بل والعالم الإسلامي في أفريقية وآسيا، وعلى العالم الغربي، أوروبة والولايات المتحدة الأمريكية؛ أي على العالمين القديم والجديد معًا. والمحافظة الجديدة للهيمنة على العالم كله، خاصةً في أفريقية وآسيا وأمريكة اللاتينية، مصادر الطاقة والثروة الطبيعية والعمالة الرخيصة والاستهلاك. وقد عانى العرب والمسلمون منهما معًا. احتلَّت أوطانهم، واستعبدت شعوبهم، وتابعت نُظُمهم السياسية، تجد فيهما التأييد الخارجي بعد فقدانها الشرعية الداخلية.

وهناك اتفاق في النشأة والبنية والهدف بين الأيديولوجيتين والدولتين اللتين تبنَّتهما إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد نشأت كلتا الدولتين على أنقاض شعب آخر؛ الشعب الفلسطيني، وسكان أمريكة الأصليين. تحوَّل الشعب الفلسطيني إلى مجموعة من اللاجئين خارج فلسطين، في المخيَّمات وفي أوروبة وأمريكة وفي باقي بقاع العالم. وحلَّت محلَّهم هِجراتٌ يهودية من كل بقاع العالم تحت شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».

وكما عاش ما تبقَّى من سكان أمريكة الأصليين (الهنود الحُمر) في محميَّاتٍ داخل وطنهم، كذلك يعيش عرب ١٩٤٨م في قُرًى داخل وطنهم المُغتصَب.

وكما فشلت أمريكة في جعل نفسها «بوتقة انصهار» للشعوب المُهاجرة، وظلَّت القضية العنصرية أحد قضاياها الرئيسية بين البِيض والسُّود، والإسبان والآسيويين، والعرب والمسلمين، كذلك ظلَّت المسألة العِرقية مسألةً رئيسية في إسرائيل بين اليهود الشرقيين (السفرديم) واليهود الغربيين (الأشكناز)، بين الدينيين والعلمانيين، بين الأغنياء والفقراء، بين أنصار الحرب وأنصار السلام.

كلاهما دولتان حديثتان، نتاج العصر الحديث؛ فقد وصل كولومبوس أمريكة عام ١٤٩٤م، بعد سقوط غرناطة ١٤٩٢م آخر معاقل المسلمين بالأندلس، وبنفس الخرائط العربية التي تتحدث عن كروية الأرض؛ فعُمْر الولايات المتحدة حوالَي خمسة قرون مقارنةً بالشعوب العربية، وعمرها آلاف السنين، مصر القديمة والعراق وحضارات ما بين النهرَين وفلسطين أرض كنعان وشِبه الجزيرة العربية وحضارة اليمن السعيد.

وقد تحوَّلت الأيديولوجيتان من نزعتَين دينيتين إلى أيديولوجيتَين سياسيتين؛ فقد نشأت الصهيونية نزعةً روحية في القرن التاسع عشر من أجل المحافظة على التراث الروحي اليهودي عند الكالي بعد أن فشل التنوير العقلاني عند اسبينوزا ومندلسون، ثم تحوَّلت إلى أيديولوجيةٍ سياسية في القرن العشرين إثر اضطهاد اليهود في مجموع أوروبة شرقًا وغربًا بعد حادثة درايفوس الشهيرة في فرنسة، وبداية الاضطهاد النازي للمِلل والأعراق غير الجرمانية مثل اليهود، والتي رفضت الانتماء الوطني واستثمار رءوس أموالها في مشاريع التنمية الوطنية، وآثرت العزلة والخصوصية وحياة الجيتو. وحدث نفس التحوُّل في النزعة المحافظة الجديدة التي نشأت نزعةً دينية للمحافظة على التراث المسيحي ضد النزعة المادية الدنيوية الأمريكية، وقبل أن تتحول إلى أيديولوجيةٍ سياسية عند المُحافظين الجُدد في الإدارة الأمريكية الحالية.

وتقوم الأيديولوجيتان على الاختيار الإلهي؛ فقد اختار الله أمريكة لإنقاذ العالم وقيادته، وكما هو مدوَّن على الدولار «نثق بالله»، بل إن بعض الفِرق المسيحية الأمريكية تدَّعي بأن المسيح قد ظهر لها، وأن نبوةً جديدة قد أُعطيت لأحد أنبيائها للتأكيد على إنقاذ الرجل الأبيض للعالم؛ فهي أيديولوجية من السماء، ودُعاتها رسل وأنبياء، ومُحققوها قِديسون وأولياء. لا يُخطئون، ولا تُوجههم مصالح. أطهار أتقياء أصفياء.

وكلاهما يقوم على وعدٍ إلهي بالنصر حتى لو تكرَّرت الهزائم، هزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، وأمام حزب الله في حرب لبنان في يوليو ٢٠٠٦م؛ فجيش الرب في إسرائيل لا يُقهَر، والقوة الأمريكية قادرة على غزو العالم كله، حتى ولو لم تصمد أمام المقاومة العراقية والأفغانية.

وكلاهما لا يعترف بالآخر؛ ففي إسرائيل لا يوجد إلا شعب الله المختار، وغيرهم «جونيم»؛ أي أغيار، قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ (آل عمران: ٧٥). يجوز لهم الذبح والقتل والتدمير وتجريف الأراضي والقضاء على الزرع والحرب والبشر، نساءً وأطفالًا وشيوخًا. وفي أمريكة لا توجد إلا الحرية والديمقراطية، نموذج العالم الحر، والنموذج الأمريكي هو النموذج الذي يقتدي العالم كله به.

كلاهما يستعمل القوة والعنف وكافة أساليب الحرب والدمار لتحقيق أغراضه، ويُذاع أن أقوى جيشَين في العالم هما الجيش الأمريكي والجيش الإسرائيلي؛ فأمريكة بلا حدود، وتستطيع أساطيلها وصواريخها وطيرانها من خلال قواعدها المنتشرة في كل أنحاء العالم الوصول إلى كل قارَّات العالم الخمس. وإسرائيل أيضًا بلا حدود، حدودها هي ما يستطيع جيش الدفاع الإسرائيلي الوصول إليه إلى أواسط آسيا وأفريقية وأوروبة. كلاهما إمبراطورية للتوسُّع والانتشار، من النيل إلى الفرات في إسرائيل، وكل العالم الحر في أمريكة.

كلاهما يعبد القوة والمال والثروة والسيطرة على المقدَّرات الاقتصادية والمالية للعالم، والبنوك والشركات والاستثمارات والصناعات الكبرى والشركات المُتعددة الجنسيات، العابرة للقارَّات. ومن خلال الاقتصاد تُسيطر على السياسة.

كلاهما ذو مصالح مشتركة؛ السيطرة على النفط العربي الإسلامي وعوائده واستثماراته، والسيطرة على الأسواق العربية وكل مصادر الثروة الطبيعية في العالم. كلاهما تتحكم فيه القيم المادية وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ (الجاثية: ٢٤). دينية في الظاهر، ومادية في الباطن.

كلاهما يُشيعان ثقافة الاستهلاك بدعوى الرفاهية والوفرة. كلاهما يبغي القضاء على استقلال الشعوب، ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا؛ حتى تتم لهما السيطرة على العالم.

وبالرغم من الخلاف في الظاهر، إسرائيل دولةٌ صغيرة، وأمريكة قارَّةٌ كبرى، إلا أن الدولة الصغرى تقوم بدور الدولة الكبرى من خلال النفوذ في العالم، والدولة الكبرى تقوم بدور دولة صغرى قصيرة النظر دون وعي تاريخي ورؤيةٍ بعيدة لمصالحها ومستقبلها. وبالرغم من أن إسرائيل تعتمد في وجودها على العون الخارجي في المال والسلاح، وإحساس الغرب بالذنب تجاهها لما اقترفته النازية وكافة أشكال الاضطهاد لليهود في العالم، إلا أنها تقوم بلعبتها الخاصة، وترسم سياسات الدول الكبرى لما اكتسبته من خبرات مختلف الشعوب وتراثها التاريخي الطويل. وكذلك أمريكة بالرغم من أنها تملك كل المُقومات الداخلية الاقتصادية، إلا أنها خاضعة لجماعات الضغط المختلفة، ومنها اللوبي الصهيوني لتوجيه سياسات الولايات المتحدة لصالحها.

هذا الاتفاق في النشأة والبنية والأهداف هو الذي يوحِّد بين الصهيونية والمحافظة الجديدة، بين السياسة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية إلى حد التطابق الأعمى؛ فغزوُ العراق لصالح إسرائيل أولًا، وتهديد إيران لحماية إسرائيل أولًا، والسلام والتطبيع لصالح إسرائيل أولًا، ومناهضة العنف لصالح الاعتدال لمصلحة إسرائيل أولًا، بل لقد وحَّدت الصهيونية المسيحية أو المسيحية الصهيونية بينهما في أيديولوجيةٍ واحدة تُحقق الأهداف المشتركة.

ولقد خلقت الأيديولوجيتان والسياستان الصهيونية والأمريكية موجة عداء لهما في كل أنحاء العالم، حتى في قلب العالم الحر، باعتبارهما عنصريةً وهيمنة وتوسعًا. تبشِّر بعالمٍ جديدٍ يقوم على العدل وليس على القوة، على المساواة بين الشعوب وليس على الاستعلاء العنصري. وقد دفع ذلك بعض فلاسفة التاريخ والحركات المناهضة إلى التنبؤ بسرعة انهيار الأسطورتَين؛ التفوق الإسرائيلي والتفوق الأمريكي، بل وبنهاية إسرائيل والإمبراطورية الأمريكية في المستقبل، طال الأمد أم قصر، أُسوةً بقوم عاد وثمود، وفرعون وهامان.

الدولة اليهودية

عاشت إسرائيل منذ نشأتها على أسطورة أنها دولةٌ ديمقراطية، بل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط وسط ديكتاتوريات عربية، ملكية أو عسكريات انقلابية. وهي دولةٌ تعدُّدية بها شرقيون سفارديم، وغربيون أشكناز. تأتيها الهجرات اليهودية من كل الأجناس، بيضاء وسوداء وصفراء، من الدياسبورا إلى العاليا. والقدس مفتوحة لكل الأديان، والمقدسات الإسلامية والمسيحية في حماية الدولة العلمانية التي ترعى حرية العبادة. ولو امتلك المسلمون الأقصى من فوق الأرض، فإن إسرائيل تملكه تحت سطح الأرض حتى قواعد هيكل سليمان.

وكان هذا مدوَّنًا في الميثاق الوطني الفلسطيني منذ إنشاء منظَّمة التحرير الفلسطينية، دولة علمانية تعدُّدية يعيش فيها كل المُواطنين على قدم المساواة، بصرف النظر عن العِرق والدين والطائفة.

ولم تعترف به إسرائيل لأنها كانت تريد في الحقيقة دولةً يهودية خالصة خالية من العرب أو المسلمين أو النصارى. وكانت الدولة التعددية العلمانية مجرد دعاية أمام الغرب؛ لأن أعداءها الذين يريدون إلقاءها في البحر من الإخوان المسلمين وزعيم مقاومتهم الشيخ عز الدين القسَّام، ورئيسهم مُفتي فلسطين. وهو ما ظهر بعد ذلك في حماس والشيخ ياسين والجهاد الإسلامي.

وقبل مؤتمر أنابوليس وضعت إسرائيل شرطًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية التي ما زالت في الأذهان وفي الأقوال، دون الأرض والأفعال، وهو أنها دولةٌ يهودية. وفي خطاب الرئيس الأمريكي الافتتاحي قال إن إسرائيل دولةٌ قومية لليهود، وهو ما يتَّفق مع قرار التقسيم في ١٩٤٨م، دولتان؛ واحدة للعرب والثانية لليهود. والغاية من ذلك الدفاع عن الكيان الصهيوني على الأمد الطويل، والنظر إلى الآجل دون العاجل.

ما دامت إسرائيل لم تستطع الحفاظ على توسُّعها واحتلالها لأراضي دول الجوار إلى ما لا نهاية بعد ازدياد المقاومة، والإصرار العربي على أنه لا سلام ولا اعتراف إلا بعد الانسحاب من الأراضي المحتلة منذ ١٩٦٧م، وكما قرَّرت بذلك المؤتمرات السابقة في مدريد وأوسلو، وكما عبَّرت عن ذلك بوضوحٍ مبادرة السلام العربية؛ الأرض في مقابل السلام، الانسحاب الكامل في مقابل التطبيع الكامل؛ فالانتصار العسكري والتوسُّع الاستيطاني لهما حدود. لا تستطيع إسرائيل قَضْم ما لا تستطيع أن تهضم. المقاومة تشتد، والمقاطعة مستمرَّة، والرفض ما زال هو الغالب على الوجدان العربي بصرف النظر عما تفعله أو تريده الحكومات.

وبهذا المَطلب الجديد، الدولة اليهودية، تريد إسرائيل تحقيق أربعة أهداف:
  • الأول: إخراج عرب ١٩٤٨م من إسرائيل بعد أن أصبح التزايد السكاني لأكثر من مليون عربي منذ الاحتلال همًّا ثقيلًا على إسرائيل. والتقارير تُفيد أنه حتى عام ٢٠٥٠م يتجاوز العرب في إسرائيل عدد الإسرائيليين مهما ازدادت الهجرات، «تناسلوا تكاثروا فإني مُباهٍ بكم الأمم يوم القيامة.»

    والغربيون أنانيُّون لا يُحبُّون التكاثر خوفًا من انخفاض مستوى المعيشة. وإذا ما انضمَّ على الأمد الطويل اليهود العرب إلى إخوانهم، فإن العرب يكونون الأغلبية في إسرائيل، وتضيع هُوية الدولة وشرعيتها، ويتحول عرب إسرائيل إلى مُواطنين من الدرجة الأولى لما كانت لهم الأغلبية، وليسوا مُواطنين من الدرجة الثانية كما هو الحال الآن. وفي أحسن الأحوال يتم تبادلهم مع المُستوطنين الإسرائيليين بعد ١٩٦٧م الذين قارَبوا ثلاثة أرباع المليون، عرب في إسرائيل في مُقابل إسرائيليين في الدولة الفلسطينية إن قامت.

  • الثاني: حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين منذ ١٩٤٨م، بالإضافة إلى لاجئي ١٩٦٧م المُقيمين في المخيَّمات في لبنان وسورية والأردن ومصر، والمُنتشرين في كافة الوطن العربي، بل وفي الخارج في أوروبة وأمريكة، وفي الشتات في كل بقاع العالم؛ ومن ثَم يمكن التخلُّص من تجمُّعاتٍ سكانية يسهُل فيها تجنيد شبابها في المقاومة، وممارسة العنف وتفريخ «الإرهاب» بلغة أمريكية وإسرائيل. وحماس في غزة شاهدٌ على ذلك، وحزب الله في جنوب لبنان شاهدٌ آخر. ولا يحقُّ لهم العودة إلى دولةٍ يهودية وهم غير يهود، مسلمين ونصارى. وينتهي الوطن لصالح الدين، وهُوية المُواطن لصالح الطائفة.
  • الثالث: شرعية هجرة يهود العالم إلى إسرائيل، الدولة اليهودية، استمرارًا من الشتات إلى العليا، بحيث يمكنها استيعاب ثمانية مليون يهودي خارج إسرائيل إلى الداخل؛ وبالتالي تصبح إسرائيل أربعة عشر مليونًا، وهم عدد اليهود في العالم، بما فيهم يهود أمريكة عامةً، ونيويورك خاصةً. وهو نوع من الأمن الكمِّي السكاني وسط المحيط العربي، ثلاثمائة وخمسون مليون عربي وسط مليار وربع من المسلمين. فبعد حرب أكتوبر (تشرين) ١٩٧٣م، وحرب لبنان وفي مقدمته المقاومة اللبنانية، وحزب الله في قلبها عام ٢٠٠٦م، أحسن العرب الكيف، وإدارة الحرب، واستعمال الصواريخ. وإيران تقوى يومًا بعد يوم، والحمية الإسلامية هي المُسيطرة على الشوارع، ومُسلمو أندونيسية وبنجلاديش والملايو وأواسط آسيا والصين يتُوقون إلى الاستشهاد في القدس؛ فالدولة اليهودية تُقابل كمًّا بكمٍّ حتى ولو كان في صالح العرب والمسلمين. يكفيها نصرة الغرب وأمريكة لها، وعداؤها للعرب والمسلمين.
  • الرابع: إعطاء شرعية جديدة للكيان الصهيوني، لا تقوم على أساطير أرض الميعاد وشعب الله المختار المستمدة من قراءةٍ خاصة للتوراة، بل على طبيعة الجغرافية السياسية في المنطقة بعد تجزئتها إلى دُوَيلاتٍ طائفية سُنية وشيعية، إسلامية وقبطية، أو عِرقية، تركمانية وكردية، عربية وبربرية وزنجية؛ وبالتالي تكون إسرائيل دولةً يهودية تجمع بين العِرق والدين مثل باقي شعوب المنطقة.
والعجيب أن تعلن ذلك أمريكة نفسها، وهي التي تضرب بنفسها المثل في النظام الديمقراطي التعددي، بوتقة الانصهار التي يتساوى فيها الجميع. وهي دعايةٌ أخرى نظرًا لاضطهاد الأقليات «السوداء» و«السمراء»، وتصدِّي «الواسب» WASP، وهي اختصار للبرتستانت البِيض الأنجلوساكسون. ولو أن فلسطين المُقاومة أعلنت أنها ستكون دولةً إسلامية لقامت الدنيا ولم تقعد، وتم اتهامها بالأصولية والعنف والإرهاب. وماذا عن نصارى الشام وهم عرب، هل ينضمُّون للدولة القومية العربية أم يكوِّنون دولةً نصرانية كما فعل غساسنة الشام قبل الإسلام؟ وماذا عن لبنان، هل يُعلن نفسه دولةً عربية أم مارونية أم سُنية أم شيعية؟ وماذا عن الخليج، هل يُعلن نفسه دولةً سُنية أم شيعية؟ وماذا عن اليمن، هل يُعلن نفسه دولةً زيدية أم دولةً شافعية؟ وماذا عن السودان، هل يُعلن نفسه دولةً عربية أم زنجية، إسلامية أو مسيحية أو وثنية؟ وماذا عن دول المغرب العربي، هل تُعلن عن نفسها دولةً عربية أم دولةً بربرية (أمازيغية)؟

كانت حجة أمريكة لغزو أفغانستان أنها دولةٌ أصولية إرهابية يحكمها الطالبان وأسامة بن لادن. وإرهاب إسرائيل الدولة اليهودية لا يقلُّ عن إرهاب أفغانستان الدولة الإسلامية. وتُعادي أمريكة كل الحركات الإسلامية التي تُعلن عن حقها في إنشاء دولة إسلامية. وتُعادي أمريكة الحكم الإسلامي في إيران وتتَّهمه بالإرهاب، والحكم الإسلامي في السودان وتُحاول فصل الجنوب وكردفان عنه، وتُعارض وصول المحاكم الشرعية إلى الحكم في الصومال، وتُساعد أثيوبية على غزوه، أو تأييد الحكم العسكري الديكتاتوري في باكستان، وهي ترفع شعار الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير أو الجديد خوفًا من وصول المعارضة الإسلامية فيه إلى الحكم، بل إنها لا تُرحب بوصول الإسلاميين المُعتدلين أو الإسلام المُستنير إلى الحكم في تركية والمغرب، ممثَّلًا في حزبَي العدالة والتنمية. وترفض دخول تركية الاتحاد الأوروبي لأنها ذاتُ ثقافة مُغايرة ودينٍ مختلف، في حين تقبل انضمام الدولة اليهودية. وتعتبر الإسلام تهديدًا لأمريكة والغرب، خاصةً بعد أحداث سبتمبر في واشنطن ونيويورك.

لا فرق بين المُحافظين الجُدد والصهيونيين الجُدد؛ فكلٌّ من الفريقَين نزعتان أصوليتان يحكمون باسم الاختيار الإلهي، في حين أن حماس والجهاد منظَّمتان إرهابيتان.

والحقيقة أن «الدولة اليهودية» ستذهب مِثل باقي الدول الثيوقراطية؛ لأنه لا توجد يهوديةٌ واحدة، بل عدة مذاهب يهودية، أرثوذكسية وليبرالية وإصلاحية، شرقية وغربية، عربية وغربية، سلفية وعقلانية. فأي يهودية ستقوم عليها الشرعية الجديدة للكيان الصهيوني؟ ستذهب كما ذهبت أساطير الميعاد وشعب الله المختار، وستنتهي الدولة العنصرية كما انتهى النظام العنصري في جنوب أفريقية بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ (الحشر: ١٤).

١  الاتحاد، ١ ديسمبر ٢٠٠٧م؛ الدستور، ٢٩ نوفمبر ٢٠٠٧م.
٢  الاتحاد، ٣ مارس ٢٠٠٧م؛ الزمان، ١٠ مارس ٢٠٠٧م؛ العربي الناصري، ١١ مارس ٢٠٠٧م.
٣  الاتحاد، ٢٤ مارس ٢٠٠٧م؛ الدستور، ٢٢ مارس ٢٠٠٧م؛ العربي الناصري، ١ أبريل ٢٠٠٧م.
٤  الاتحاد، ٣١ مارس ٢٠٠٧م؛ الدستور، ٢ أبريل ٢٠٠٧م؛ الزمان، ٢ أبريل ٢٠٠٧م؛ العربي الناصري، ٨ أبريل ٢٠٠٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤