حالة عرب الجاهلية بين البداوة والأمية

وردت في القرآن الشريف آيات كثيرة تصف أحوال العرب قبل الإسلام وتدل على أخلاقهم ونفسيتهم؛ كقوله — سبحانه وتعالى — في محكم كتابه المنزل على نبيه المرسل، وفيها الأدلة الحاسمة على ما نقول:
  • أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ (سورة الأحزاب).
  • وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (سورة البقرة).
  • وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ (سورة المنافقون).
  • وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (سورة إبراهيم).
  • وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (سورة الزخرف).
  • أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا ۚ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (سورة الطور).

ومما لا شك فيه أن الحجازيين من العرب عانَوْا في وطنهم ما صبغ حياتهم الاجتماعية بصبغةٍ تخالف صبغة أهل اليمن والحيرة والشام؛ لأن الحجاز إقليم طبيعته تخالف طبيعة تلك البلاد؛ فلم تقم فيه حياة اجتماعية متحضرة كالتي قامت في اليمن والعراق، بل غلبت على أهله البداوة وما يتصل بها من أخلاقٍ وعادات، وقد قعدت طبيعة الحجاز بأهله عن مجاراة غيرهم في الحياة الاجتماعية، وصرفتهم إلى مقتضيات الحياة المادية؛ فكانوا بدوًا معاندين أميين، ألفوا الظعن والارتحال، جفاةً لا ينقادون إلى الحق من قريب. وهذه الفوضى الاجتماعية هي التي نعاها عليهم القرآن الكريم وعابهم بها في بعض آياته؛ لأنه لم يؤثر لهم التاريخ خطبًا في الجاهلية ولا كتبًا يدرسونها.

وقد جاءوا إلى الإسلام بكمًا خرسًا فأنطقهم بهذه البلاغة الساحرة والبراعة الفائقة.

ولو أن ما رواه أبو الحسين أحمد بن فارس أستاذ الصاحب بن عباد في «فقه اللغة وسنن العرب في كلامها» من أنهم كانوا في الأزمنة الغابرة على علمٍ وفن، فإن هذا العلم وذلك الفن قد درسا قبل الإسلام، ولم يكونا في الحجاز ولا في قريش، وربما كانا في الدول البائدة كعادٍ وثمود وسبأ وتُبَّع. يقول ابن خلدون في مقدمته: «فاليمن قرارهم قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع.»

فالإجماع على أن العرب قبل الإسلام كانوا في حياة أولية ساذجة، لا أثر للعلم ولا للتفكير الصحيح فيها.

كانت العرب قبل الإسلام أُمة بدوية متوغلة في الجهالة والوحشية؛ يئدون البنات، وينتهكون الحرمات، ويقتتلون، ويتناهبون منذ أقدم عصورهم. لا يتغلبون إلا على البسائط؛ لأنهم للتوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب! والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام التوحش وأسبابه فيهم. وكانوا أبعد الأمم عن سياسة الملك، والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالًا في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش؛ فاستغنَوْا عن غيرهم فصعب قيادهم بعضهم لبعض؛ لإيلافهم ذلك وللتوحش. فلما أراد الله بالعالمين خيرًا جاءت الرسالة المحمدية فأخرجت العرب من الظلمات إلى النور، وأوجدت فيهم وحدة اجتماعية ما كانوا يعرفونها، وبثت فيهم من الأخلاق والآداب ما كانوا في أشد الحاجة إليه، وآتتهم دستورًا أفضى بهم السير عليه إلى تبوُّؤ خلافة الله في العالم قرونًا كثيرة، غيَّروا فيها وجه الأرض ونشروا علمًا وحرية ومدنية قضت على كل ما كان متحجرًا أو غير صالح للحياة في العالم كله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤