روعة الوحي

لقد كان للوحي روعته وأثره في نفوس أدنى الناس إلى محمد ولا سيما أهل بيته وأقرب أقربائه، ولا سيما أسرته الكريمة التي عاشرته وعرفت أخلاقه وعركت طباعه وعلمت منه الصدق والوفاء وحب الحق وألوانًا من الفضائل لم تكن في أعيان قريش وسادتهم، وقد رأينا السيدة خديجة وقد وصفت بحق أنها أم المؤمنين وهي أُولاهن وأَوْلاهن بهذا اللقب المنيف؛ لأنها كانت عظيمة في قريش، وكانت أعظم من ذلك في الإسلام، وقد كانت تصحب الرسول إلى غار حراء أحيانًا؛ لتؤنسه وتعينه وتخدمه، وقد غاب في أحد الأيام عن موعد عودته إلى الغار فأرسلت رسلًا للبحث عنه حتى بلغوا مكة وعادوا ولم يجدوه، فقلقت عليه قلقًا شديدًا، ولما جاءه الوحي وأخبرها أظهرت نشاطًا عجيبًا وبادرت إلى السؤال والاستعلام ممن ظنت أنهم يفيدونها في معرفة حقيقة الحال التي صار إليها بعلها العظيم، ولم تطمئن حتى بشرها ابن عمها ورقة بن نوفل، فلا عجب ولا غرابة إذا كانت خديجة أول من آمن برسالة محمد واستجابت دعوته وصدقت نبوته فكانت المسلمة الأولى، فلم تكن حليلته الفاضلة الكاملة الجميلة الولود المدبِّرة التي أعانته وخففت عنه أعباءَ الحياة فحسب، بل كانت مؤازرة له على حوادث الدهر، وخبث الطباع، ولؤم الناس، فكان لا يسمع شيئًا يكرهه من قومه إلا رجع إليها وأخبرها به، ففرَّجت عنه بأدبها ولطفها واستبصارها.

ولما كان إسلام خديجة من أهم الحوادث في تاريخ الدعوة الجديدة فقد حققه المؤرخون؛ فقال ابن الأثير: «خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة.» وقال ابن إسحاق: «إن خديجة كانت أول من آمن بالله ورسوله.»

وشاد لها المقريزي صرحًا من المجد والثناء في كتاب «الإمتاع بما لزوجات النبي من المتاع.» وهو مخطوط ومنه صورة فوتوغرافية في دار الكتب المصرية، وقارن بينها وبين أمهات المؤمنين فرجح كفتها عليهن جميعًا حتى على السيدة عائشة التي كانت — عليها رضوان الله — تحفظ نصف الدين، وأُمِرَ المسلمون بتلقيه عنها كما هو نص الحديث الشريف، وكان من أوجه التفضيل — على ما أذكر — كون السيدة خديجة أول من أسلم، وأنها ولدت لرسول الله، والسيدة عائشة لم تلد، وهكذا من الأسباب التي يعتبرها مؤرخو العرب مرجحة بين النساء.

وبعد إسلام خديجة أسلم علي بن أبي طالب، وكان حدثًا، ونشأ في بيت محمد قبل الوحي، يتولى أمره وينفق عليه كولده؛ لأن أبا طالب الذي كفل النبي صغيرًا كان كثير الذرية رقيق الحال، فأخذ محمد عليًّا وضمه إليه، وأخذ العباسُ من أخيه أبي طالب ولده جعفرًا وضمه إليه؛ ليقوم بنفقته، وتركا له ولديه الأصغرين: طالبًا الذي كُنِّيَ باسمه، وعقيلًا، فعليٌّ لم يكن ابن عم محمد ليس غير؛ بل كان أيضًا ربيبه.

وسبب إسلام عليٍّ أنه فاجأ النبي والسيدة خديجة يصليان سرًّا فقال: ما هذا؟

قال الرسول: هذا دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وإلى الكفر باللات والعزى.

عليٌّ: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاضٍ أمرًا حتى أُحَدِّثَ أبا طالب.

وخشي الرسول أن يفشي عليٌّ سره قبل أن يعلن دعوته فقال له: يا عليُّ، إذا لم تسلم فاكتم هذا.

فمكث عليٌّ ليلة ثم أصبح فأسلم.

وهذا الحوار يدل على أن عليًّا لم يكن ابن ثماني سنين كما زعموا، فلا يصدر قول بهذه الحرية عن طفل، ولا بد أنه كان في الثانية عشرة، وعلى كل حال فهو دليل الذكاء ودليل على التربية الاستقلالية التي نشأ عليها الصبي في بيت محمد، كما أن النبي لم يسلك معه إلا سبيل الحلم والاحترام والحرية وأوصاه بالكتمان، وهذا أقل ما يجب على عليٍّ في حق ابن عمه وولي أمره.

وعلم أبو طالب بدعوة النبي وإسلام ولده عليٍّ ودعاه محمد إلى الدين الجديد وقال له: يا عماه، أنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إلى الله وأعانني.

ولكن أبا طالب لم يكن لهذه الدعوة الحارة المخلصة فقال: يا ولدي، يا محمد، ما بالذي تقول به من بأس، ولكنني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولا أحب الصورة التي تكون عليها أعجازكم عند السجود!

ونحن نعتبر هذا الإباء من أبي طالب نوعًا من البساطة البدوية والتمسك بالمبدأ الذي فُطر عليه العرب، وربما كان يخالطه شيء من الكبرياء الذي يدخل نفوس الآباء إذا رأوا أولادهم كبارًا يتقدمون إليهم بآراء جديدة تبزُّ آراءهم، فأبو طالب لم يكذب النبي ولم ينهه عن دعوته ولم ينتقده ولم ينهر ولده عليًّا، ولكنه خشي أن يكون إسلامه خروجًا على تقاليد قومه ومبادئه!

وكان أبو طالب جاهلًا، ولو كان عنده شيء من العلم الذي عند ورقة لعرف قدر الدعوة وبادر إليها، وما يضره أن الداعي إلى الخير محمد أو أكبر منه أو أصغر، فليست العبرة بالسن، غير أن رجلًا وصل إلى العقد السابع كما كان أبو طالب يصعب تحويله عن رأيه إلا الندرى، كان أبو طالب يثق بابن أخيه ويعرفه المعرفة الحقة ويعرف صدقه وأمانته وشرفه ويحبه بعد ذلك حبًّا جمًّا، ولذا أبى وعلل رفضه بسببين رآهما وجيهين ولم يقل شيئًا يعطل الدعوة أو يحبطها أو يقلل من همة القائم بها، بل أعطاه ولده عليًّا؛ وهو أنجب أولاده وأنجحهم، وجعل الرفض أمرًا خاصًّا بشخصه ولم يتعرض لشخص النبي كما تعرض عمه الآخر أبو لهب، ولا ننسى أن الدعوة كانت في فجرها ولم يجئ من القرآن إلا سورة واحدة، وكانت الدعوة سرية ومكتومة عن القرباء والغرباء، ولم يظهر من آيات النصر والنجاح ما ظهر بعد ذلك، ولم يكن مكتوبًا لأبي طالب أن يراه، وعلى كل حال فإننا لا نذكر أبا طالب إلا بالخير والثناء؛ فإنه شجع محمدًا، وحماه وحمى الإسلام وبذل في سبيله ماله وحريته وخاطر بحياته؛ وإن لم يكن مسلمًا، ففضله أعظم؛ لأن المسلم قد يبذل ويضحي بسبب إيمانه وبسبب الثواب الذي ينتظره في الآخرة والخير الذي يناله في الدنيا … ولكن أبا طالب ضرب صفحًا عن كل هذا وتمسك بمبدئه، وهو مع هذا ضحى وبذل واستهدف وقدم للإسلام أحد أبطاله العظماء.

ولم يكن أبو طالب العم الوحيد للرسول الذي لم يقبل الدعوة؛ تمسكًا بمبدئه، أو خوفًا من انتقاد نساء قريش؛ فإن النساء بلاء في كل زمان ومكان، وقد كن في قريش حديدات اللسان، متمتعات بأوفر نصيب من الحرية، ولعبن في الإسلام دورًا مدهشًا سواء أكان له أم عليه، وكن ذوات سلطان على أزواجهن وأولادهن وآبائهن، وفي أخبار هند وزوجة أبي لهب ما يدل على ذلك.

فإن العباس عم النبي لم يسلم هو الآخر إلا في فتح مكة في وقت إسلام أبي سفيان، وإليك صورة جميلة رسمها بفصاحته عفيف الكندي ترينا مظهرًا من مظاهر الإسلام في أيامه الأولى قال: كنت تاجرًا قدمت الحج وزرت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان صديقي عرفته يختلف إلى اليمن (وطن عفيف) يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم، فبينا أنا عند العباس بمكة في المسجد إذا رجل بلغ أشده خرج من خباء قريب فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ، ثم قام يصلي إلى الكعبة، ثم خرج غلام مراهق فتوضأ، ثم قام إلى جنبه يصلي، ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما، ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة، ثم خر الرجل ساجدًا وخر الغلام وخرت المرأة، فقلت: ويحك يا عباس! ما هذا الدين؟!

عباس: هذا دين محمد بن عبد الله أخي، يزعم أن الله بعثه رسولًا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه امرأته خديجة، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه، والله ما على الأرض كلها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (ص٤١٥، ج٣، أسد الغابة، في ذكر عفيف بن قيس بن معدي كرب).

وعبارة عباس بن عبد المطلب التي وردت على صورة مختلفة في كتب الحديث والسير تدل على شكه وارتيابه وتعجبه وعدم اكتراثه؛ فقد نسب إليه أنه قال: «إن ابن أخي هذا (يقصد محمدًا) أخبرني أن ربه رب السماء والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه.»

وقد شاءت الأقدار أن ينحدر من ظهر هذا الرجل نسل يؤسس دولة من أقوى دول الإسلام؛ وهي الدولة العباسية، ولم يكن هذا إلا بفضل الانتساب إلى هذا الذي كان يزعم أن ربه رب السماء والأرض …

والعجيب أن عفيفًا الكندي اليماني الغريب أسلم وآمن باختياره، قبل أن يسلم هذا العم الذي لم يسلم إلا وجيش محمد يفتح معقل قريش ويدخل مكة ظافرًا.

وأسلم بعد علي فتًى آخر؛ هو زيد بن حارثة بن شرحبيل، كان مولى خديجة فوهبته لمحمد فأعتقه وتبناه وجاء أهله ليدفعوا ثمنه للرسول ويأخذوه فقال لهم: ادعوه فخيروه؛ فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء.

فقالوا: زدتَ على النَّصَفِ وأحسنتَ.

فدعاه وقال له: هل تعرف هؤلاء؟

زيد : أبي وعمي.
محمد : أنا من علمت وقد رأيت صحبتي لك؛ فاخترني أو اخترهما
زيد : ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا؛ أنت مني مكان الأب والعم.

قالا: ويحك يا زيد! تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟!

قال: نعم ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا.

فلما رأى محمد من وفاء زيد وحبه ما رأى أخرجه إلى الحجر؛ وهو محل جلوس قريش، وأعلن «أن زيدًا ابني أرثه ويرثني.»١ فطابت نفس الوالد والعم وانصرفا.

وصار زيد يعرف بانتسابه إلى النبي فيقال له زيد بن محمد، وكان زيد وقت إسلامه رجلًا رشيدًا بالغًا، ولم يذكر في القرآن أحد من الصحابة باسمه غير زيد.

وهذه الحادثة البريئة تدلنا على ناحية من أخلاق النبي؛ فإنه رأى زيدًا وهو مملوك فأعتقه وتبناه وأحبه وأشعره بالعطف حتى فضَّله الولد على أهله وأسرته، أما قول والده: أتفضل العبودية على الحرية؟! فلا يعول عليه؛ لأنه كان عتيقًا، ولأن محمدًا لم يشعر أحدًا من معاشريه مهما كانت صلته به بأي نوع من الذل والعبودية.

ثم أسلم أول صديق لمحمد وهو أبو بكر الصديق، وكان من سنه، ويتميز بثروته الطائلة التي بذلها في نصرة الإسلام، وكان أبو بكر وقت إسلامه كهلًا نحيفًا أبيضَ اللون حسنَ الوجه، وعلى سعة من المال وكرم الأخلاق ومن رؤساء قريش ومحط مشورتهم وكان أعف الناس لسانًا ويدًا وأطهرهم عرضًا وأعطرهم سيرةً وذكرًا وأشرفهم ماضيًا، وكان مضيافًا سخيًّا حسن الحديث محببًا في قومه (سمباتيك) ومن أعلم الناس بأنساب العرب، وكانت له ميول روحانية؛ فقد اشتهر بتفسير الرؤى، ومن أسباب محبة الناس له أنه كان يعرف أنساب قريش وما فيها من خير وشر، ولكنه لا يذكر المساوئ.

وكان أبو بكر صاحب مروءة يستعين الناس به في الكروب والملمات، وله ضيافات بمكة لا يبذل مثلها أحد؛ فهو رجل نال الحظوة في قومه بخلقه وكرمه وعلمه ونسبه، أما أخلاقه الشخصية من حيث الوفاء والصدق والإخلاص فإن تاريخ الإسلام يدل على مبلغ ذلك الرجل العظيم والخليفة الرشيد من تلك الفضائل، وأبو بكر كنيته، واسمه عتيق، وكانت أمه تدﻟﻠﻪ بقولها: «عتيق وما عتيق ذو المنظر الأنيق.»

والنبي هو الذي وصفه بالصدِّيق صبيحة الإسراء لما صدقه وكذبته قريش، فهو عتيق أبو بكر الصديق بن أبي قحافة.

وكان إسلامه بعد أن قص عليه الرسول قصة الوحي فقال له أبو بكر: صدقت بأبي أنت وأمي، وأهل الصدق أنت.

ولذا قال النبي: ما كلمت أحدًا في الإسلام إلا أبى عليَّ وراجعني في الكلام إلا ابن أبي قحافة؛ فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه.

وقد صار أبو بكر بمكان الوزير من الرسول؛ فكان يشاوره في أموره كلها.

وإننا نعد إسلام أبي بكر أول ربح صحيح للإسلام؛ لأنه لم يكن من أسرة النبي ولم يكن من عشيرته، ولم يكن سوى صديق توثقت بينهما روابط الألفة قبل الدعوة بعام واحد؛ فقد تعرف النبي عليه وهو في التاسعة والثلاثين، وكان أبو بكر في السابعة والثلاثين، ولما كان أبو قحافة كفيف البصر فقد كان أبو بكر رئيس الأسرة، وقد تمكن بحذقه ومهارته في تجارة الأقمشة من جمع ثروة طائلة، كما تمكن بلباقته وذلاقة لسانه وحلاوة حديثه من اجتذاب القلوب إليه بين الخاصة والعامة، فكان رجلًا مرغوبًا فيه من رجال الأشراف ونسائهم؛ فقد روى الأزرقي أنه كان يألف مجلس السمر في بيوت الأعيان، وقد كان مفطورًا على الإخلاص والصدق، وقد عرف محمدًا واطمأن إليه وأحبه، وكان من حظ الإسلام اتصاله بالأوساط الراقية، فيسهل عليه دعوتهم إلى الدين الجديد، وإقبال أبي بكر على الإسلام دليل جديد على صدق الدعوة؛ لأن الرجل كان من أهل الصراحة والجد، ويأبى بطبعه أن يناصر من يخدع الناس أو يغرر بهم، فكان أبو بكر خليل النبي وموضع سره، فلم يطلع إلا على الصدق والشرف والأمانة.

وغني عن البيان أن من يقوم بدعوة ويكون كاذبًا يحتاج إلى التواطؤ، ويقنع شركاءه بنصيب في الغنيمة المنتظرة.

ولم يكن أبو بكر من هذا النوع من الرجال، ولو أنه اشتم رائحة الكذاب أو الخداع ما كان يسلم قياده لمحمد؛ لأنه كان رجلًا ذكيًّا وكان رجلًا اجتماعيًّا، ومثل هذا الرجل لا تنطلي عليه الحيل، وصداقة عام لا تكفي لتدبير مؤامرة عظيمة تنطوي على دين جديد وثورة اجتماعية كبرى كالتي حدثت في بلاد العرب.

وها هو مرغليوث يؤيدنا وينفي فكرة التواطؤ عن أبي بكر فيقول: «كان أبو بكر صديقًا ومعينًا لا تقدَّر معونته، ولكنه لم يكن شريكًا في خداع، ولم ينسَ طول حياته مكانته من أستاذه وصديقه، فلا يمكننا أن نفترض التواطؤ بينه وبين محمد، ولم يكن أبو بكر ينتظر من وراء الإسلام ومناصرة الرسول نفعًا (ص٨٤، مرغليوث: حياة محمد).»

ونحن نقول: لو أن محمدًا كان مخادعًا، كان هو بنفسه يتقي أبا بكر ولا يتقدم إليه بالدعوة؛ لأنه يعلم أن نفس أبي بكر لا تقبل دعوة قائمة على الغش والمخاتلة، فإن أبا بكر لم يكن أقل ذكاءً من أشراف قريش ولا أقصر منهم لسانًا ولا أضعف استمساكًا بعقيدته ومبادئ قومه وما كان عليه آباؤه وأجداده.

وكان أعيان قريش يقدرون أبا بكر ويحسبون لصداقته لمحمد حسابها، ولهذا عندما اشتموا رائحة الدين الجديد جاء صناديدهم أمثال عقبة بن أبي معيط وشيبة وربيعة وأبي جهل وأبي البحتري وقالوا له: «يا أبا بكر، يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا انتظارك ما انتظرنا به، فإذ جئت فأنت الغاية وفيك الكفاية.»

فصرفهم أبو بكر على أحسن حال.

وهذه النادرة تدل على أسلوب أعيان قريش في فض النزاع قبل استفحاله على يد أبي بكر، ولكنها تدل أيضًا على مكانة أبي بكر منهم ومكانته من رسول الله.

ولما كان حظ الإسلام بأبي بكر عظيمًا كما كان حظ أبي بكر بالإسلام؛ فقد اخترع الرواة أسطورة تدل على أنه هو أيضًا كان موضع عناية المنجمين والمبشرين، وأنه كان يحمل علامة في بطنه وأخرى في فخذه، فلقيه شيخ عالم من الأزد وبشَّره بأنه يعاون نبيًّا يظهر في الحرم … إلخ (ص٣٠٠، السيرة الحلبية، ج١)، ونحن نميل إلى تكذيب أمثال هذه الأسطورة وإن كنا لا نستبعد أن يكون في كل زمان ومكان رجال يتكهنون للعظماء، كما أن العظماء فُطروا على حب استطلاع الغيب، وفي عصرنا الحاضر؛ وهو عصر حضارة وعلوم عقلية، ألَّف رجل إنجليزي مشهور بقراءة خطوط الكف اسمه شيرو كتبًا كثيرة؛ منها: «أسرار الكف» ذكر فيه نبوءاته للملوك والعظماء والقواد، وذكر وقائع معينة عن ملوك إنجلترا وملكاتها وعن رجال مشاهير أمثال غلادستون وكتشنر، ونشر صورة أكفِّهم، فلا ريب في أنهم استشاروه وسمعوا له، ولعل بعضهم صدقه! وقد صارت لهذا الرجل شهرة عالمية! فإن كان هذا في عصر النور فلا يبعد أن يكون مثله في الجاهلية، وفي آسيا لا في أوروبا وأمريكا!

•••

فلما أسلم أبو بكر قام بالدعوة بين أهل طبقته فجمع رجالًا على شاكلته من أهل المكانة والفضل والثراء، وكانوا كلهم أصدقاء أبي بكر وموضع ثقته، ومنهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله التيمي، وهم بين بَزَّازٍ وقَصَّابٍ وصانعِ نبالٍ، وتلاهم عبد الله بن مسعود وكان قزمًا خفيف فضحك الصحابة عند رؤيته من دقة رجليه، وأبو ذر الغفاري وخالد بن سعيد بن العاص وأخوه عمرو، وصهيب وهو عبد الله بن جدعان وحصين والد عمران بن حصين وولده عمران.

وقد كان لإسلام خديجة أثر في وسط نساء قريش الشريفات، فأسلمت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، وهي زوجة عم الرسول، وأسماء بنت أبي بكر وأخت عائشة، وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب.

•••

وأنت ترى أن أوائل المقبلين على الإسلام كانوا مزيجًا متباينَ الأقدار؛ ففيهم الصغار، والكبار، والأعيان، والصناع، والتجار الأغنياء، والرعاة، والحرائر، والشريفات، والرجال الناضجون، والأحرار، والعتقاء، مما يدل على أن حركة الدخول في الدين الجديد كانت طبيعية ولم تكن مفتعلة، ولم تكن ترمي إلى غاية معينة كتحرير العبيد أو تفريج الأزمة عن الفقراء فيتبعها الفريق المضغوط عليه أو المضطهد لينجو من العذاب أو الضيق كما حدث في رومة وأثينا وأورشليم.

وإذن لم تكن عامة الذين أجابوا دعوة النبي من الضعفاء ولم تكن من الأقوياء، بل كانوا من كل الأوساط، وهذا دليل على أن من اتبعوه إنما تبعوه بفطرتهم وسليقتهم؛ لأنه جاءهم بدين أقرب إلى الطبيعة الإنسانية.

وقد لقي هؤلاء المسلمون أنواعًا من العذاب والاضطهاد لا تقلُّ عما لقيه ضعفاء النصارى الذين دخلوا في دين المسيح؛ فهذا عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص وأوثقه بالحبال وقال له: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد؟! والله لا أحلك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه! ثم عذبه بالدخان.

وكرهت أم سعد بن أبي وقاص إسلامه، وكان بارًّا بها فاستعملت بره بها وطاعته إياها وسيلة لتعذيبه، فأضربت عن الطعام وقالت: والله لا أكلت طعامًا ولا شربت شرابًا حتى تكفر بما جاء به محمد وتمس إسافًا ونائلة!

فلما امتنعت عن الأكل أطعموها بما يسميه الأطباء الآن بالإطعام الصناعي؛ وهو أن يفتحوا فاها يلقون فيه الطعام والشراب، ثم تركها خوفًا عليها.

وقال لها: تعلمين؛ والله يا أماه؛ لو كان لك مائة نفس تخرج نفسًا نفسًا ما تركت دين هذا النبي، فكلي إن شئت أو لا تأكلي. فلما رأت ذلك أكلت …

ولم تهمد ثائرة تلك العجوز القرشية المتعصبة لأصنامها، فكانت تقف على باب بيتها وتصيح كنساء الشوارع: «ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي أو عشيرته، فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث.» وكانت تلقاه مرة بالبشر ومرة تلقاه بالشر وتعيره بأخيه عامر الذي تأخر في إسلامه، فلما أسلم عامر لقي من أمه ما لم يلقَ أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة دون أن «يدعَ صبْأته» أي يرتدَّ طوعًا لأمر تلك الأم الصاخبة الندابة.

وسيرة هذا القزم المبارك عبد الله بن مسعود سيرة مسلية؛ فقد كان يُعرف بأمه واسمها أم عبد، ولكن ليس هذا معناه طعنًا في نسبه؛ فقد كان أبوه مسعود معروفًا في الجاهلية، وأبوه وأمه من هذيل، وينتهي نسبه لأبيه إلى مضر، ولكن يظهر أن شهرة أمه كانت أعظم من شهرة أبيه.

وكان إسلامه حين أسلم سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، وكان راعيًا صالحًا، ورأى النبي وسمع القرآن، فقال له: يا رسول الله، علمني من هذا الكلام. فأخذ عنه سبعين سورة ما نازعه فيها بشر، وهو أول من جهر بالقرآن في مكة عند المقام، فهجم عليه المشركون وجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد تأثر وجهه من ضرب القرشيين وأراد أن يعاود القراءة في الكعبة مع أنه لم تكن له عشيرة تمنعه وكان قزمًا ضعيف البنية، فنهاه المسلمون ضنًّا به.

وكان النبي يحبه لخفة بدنه وخفة روحه، فأخذه في بيته فكان يخدمه، وقال له رسول الله: إذنك عليَّ أن تسمع سوادي ويرفع الحجاب. فكان عبد الله بن أم عبدٍ يلج على الرسول ويلبسه نعليه ويمشي معه وأمامه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام، وكان يعرف في الصحابة بصاحب السواد والسواك كما تقول الترك «شماشرجي» أو فاليه دي شامبر Vallet de chamber ولكنه كان مع ذلك ذا فضل عظيم؛ فهاجر الهجرتين، وصلى القبلتين، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد مع رسول الله، وشهد اليرموك بعد النبي، وهو الذي أجهز على أبي جهل.

وكان الغرباء الوافدون على بيت الرسول يحسبونه من أهل بيت النبي؛ لما يرون من دخوله ودخول أمه على النبي.

وكان أقرب الناس هديًا ودلًّا وسمتًا برسول الله، وما رأى الناس رجلًا أحسن خلقًا ولا أرفق تعليمًا ولا أحسن مجالسةً ولا أشد ورعًا من ابن مسعود.

ولكنه كان كما قدمنا قزمًا، ولكن هذا النقص الطبيعي في قامته لم يؤثر على نفسيته الطيبة، فكان مرحًا، وكان إذا جلس لا يكاد يبين من الأرض؛ لصغر حجمه وضآلة بدنه، وكان عمر يضحك إذا رآه، وهو يضاحك عمرَ ويمازحه، فإذا غاب وتوارى قال عمر: وعاء صغير ملئ علمًا كبيرًا.

وكانت نفسه مرحة ونسب إليه أنه قال: الدنيا كلها هموم فما كان فيها من سرور فهو ربح.

فإذا كان الأمراء والملوك والسراة في الأمم المختلفة قد اتخذوا الأقزام لهوًا ولعبًا وأطلقوا عليهم اسمَ مضحكِ الملكِ وعلموهم الشعر والغناء والنوادر؛ ليدخلوا عليهم السرور والطرب ويسمعوهم النكات والغرائب، فهذا محمد قد لقي هذا القزم فعلمه وهذبه وفقهه وجعل منه حجة من حجج الإسلام، ونبراسًا يستضاء به، بل جعل منه إمامًا حكيمًا وصحابيًّا ذا رأيٍ جليل وشهرةٍ ذائعة؛ حتى إن عمرَ بعث إلى أهل نينوى وكتب إليهم «بعثت عمار بن ياسر أميرًا وعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله من أهل بدر، فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي.» (ص٢٥٩، ج٣، أسد الغابة).

وهكذا النفوس العظيمة تجعل من صغار الرجال عظماء، وتصلح خطأ الطبيعة فتجعل من القزم جبارًا بإيمانه وعقله وخلقه.

وممن أسلموا قديمًا أي في أول أمر الإسلام أبو ذر الغفاري، وهذا رجل غامض، وخلقه يدل على أنه من نوع الشهداء الزاهدين أصحاب العقول المستقلة والإرادات القوية والخلق المتين، وكان اسمه جندب وكنيته أبو ذر، من قبيلة غفار، فسمع في وطنه أن رجلًا خرج بمكة يزعم أنه نبي، فكلَّف أخًا له اسمه أنيس أن يكشف حقيقة الخبر، فذهب وعاد إليه وقال له: رأيت الرجل وهو يأمر بمكارم الأخلاق، ولكن قومه يقولون: شاعر، كاهن، ساحر.

فقال أبو ذر: لا بد لي أن أنظره. فحذره أخوه من أهل مكة، فحمل جرابه وعصاه وسار حتى بلغ مكة فكره أن يسأل عن محمد وانتظره في المسجد، فلما أقبل النبي عرفه أبو ذر بفراسته وحيَّاه وبايعه، وأوصاه النبي أن يكتم إسلامه خوفًا عليه، فقال له: والذي بعثك بالحق لأصرخن بهذا بين ظهرانيهم.

فلما اجتمعت قريش بالمسجد نادى أبو ذر بأعلى صوته بالشهادتين فقاموا عليه وضربوه إلى الموت، ومالوا عليه بكل مدرة وعظم حتى خرَّ مغشيًّا عليه، فأكب عليه العباس وقال لهم: ويلكم! ألستم تعرفون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم عليهم؟!

وهكذا كان العباس يخيف المشركين على تجارتهم وطريق قوافلهم فينال أغراضه منهم، ولذا لقد خلوا عن أبي ذر؛ لا شفقة ولا رحمةً، ولكن خوفًا من انتقام قبيلته.

وأعادها أبو ذر مرة أخرى وضربوه ثانيةً، ثم عاد إلى قبيلته فدعا أخاه وأمه فأجابا، ثم دعا قبيلته فأسلم نصفها في أول الأمر وأسلمت البقية بعد ذلك.

وكان أبو ذر شاذًّا في بعض أموره؛ فإنه كان يحب الوحدة، وكان يصارح الناس ولا يعرف المداراة، وقد أقام في المدينة إلى أن مات أبو بكر، فهاجر إلى الشام واستمر بها إلى أن جاء عهد معاوية، فقعد له بالمرصاد ينتقده ويُغلظ له القول ويكلمه بالكلام الخشن؛ لأن أبا ذر كان اشتراكيًّا ومعاوية أرستقراطيًّا بيروقراطيًّا مطلقًا، ومعاوية يجامله ولا يجبهه؛ لمكانته في الإسلام، ولاشتهار محبته عند رسول الله، فصبر عليه إلى عهد عثمان فشكاه إليه، فنفاه عثمان إلى الربذة وتخلص منه معاوية، وما زال أبو ذر في منفاه إلى أن مات.

ولما أسلم خالد بن سعيد أرسل أبوه في طلبه فانتهره وضربه بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه وقال له: اتبعت محمدًا وأنت ترى خلافه لقومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من أمهاتهم! اذهب يا لُكَع أنى شئت، والله لأمنعنك القوت. فطرده وقاطعه وأمر إخوته بمقاطعته وما زال غاضبًا عليه، فأواه رسول الله حتى هاجر إلى الحبشة، وكان القرشيون يسلكون مع كل واحد منهم إذا أسلم الخطة التي يظنونها أنفعَ في رده والتنكيل به، فإذا كان كبيرًا قاطعوه واحتقروه، وإن كان صغيرًا ضيقوا عليه الخناق واضطهدوه، وإن كان من عامة الشعب عذبوه وسجنوه.

فقد كان الحصين والد عمران شيخًا محترمًا في قريش فأرسلوه إلى محمد وقالوا له: كلم لنا هذا الرجل؛ فإنه يذكر آلهتنا ويسبها. وجاءوا معه حتى جلسوا قريبًا من باب النبي، ودخل حصين فلما رآه محمد قال: أوسعوا للشيخ. ثم دار بينهما حوار قصير أعقبه إسلام الحصين.

ولما أراد الخروج أمر الرسول أصحابه أن يشيعوه إلى منزله، فلما خرج من سدة الباب رأته قريش فقالوا: لقد صبأ الشيخ.

وتفرقوا عنه؛ تحقيرًا له، وإغاظة فيه.

١  كان التبني يتم في الجاهلية بعقد كعقد الحلفاء، ونصيب المتبنَّى السدس من ميراث متبنيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤