وحيد يسري

أمسك المفتش «سامي» بسماعة التليفون، وأصدر أمرًا بالقبض على الممثل «وحيد يسري» حيث يكون، ومنعه من مغادرة البلاد بأي طريقةٍ … ثم التفت إلى «تختخ» قائلًا: أرجو أن تعود الآن إلى منزلك … إنَّ الوقت متأخرٌ، وقد فعلت ما بوسعك، وأعدك ألا يهرب الزعيم الزئبقي مرةً أخرى.

كان «تختخ» مُتعبًا، فلم يَتردَّد في الموافَقة … وودَّع المفتش الذي أخذ هو ورجاله في تفتيش الشقتين … وخرج «تختخ» فوقف يَنتظر المصعد … وسمع صوت باب يفتح، ثم شاهد الطفل الباسم يُطلُّ من الباب، فتقدم «تختخ» منه ليَشكرَه، ولكن «عصام» أسرع إليه قائلًا: تعال معي!

تختخ: إلى أين؟

عصام: تعال ولا تقل لرجال الشرطة، إنني عندما تحدَّثتُ مع المفتش أخبرني أنك تقوم بمغامراتٍ كثيرة، وأنا أريد أن أشترِكَ معك في مغامرة!

تختخ: لقد اشتركت في المغامرة، وقمتَ بواجبك. وبالمناسبة كيف عرفت مكان المفتش «سامي»؟!

عصام: لقد قرأتُ اسمه في الجرائد كثيرًا … وعندما قلت لي اسمه ووظيفته تذكرته، فطلبت شرطة النجدة وأوصلوني به …

تختخ: أنت مُغامرٌ ممتازٌ!

ومدَّ «عصام» يده ﻟ «تختخ» فوضع يده فيها، ثم قاده إلى السلالم، صاعدًا معه إلى الطابق الحادي عشر … فقال «تختخ»: إلى أين تذهب بي؟

عصام: لقد كنت أتلصص من الباب منذ تحدثت معي، وشاهدت الرجلين وهما يمسكان بك … ثم شاهدتهم وهم يرحلون!

تختخ: من هم؟

عصام: ثلاثة رجال … العملاق … وذو النظارات، ورجل ثالث أشيب الشعر!

قال «تختخ» مُندهشًا: ظننتكَ ستقول «وحيد يسري»!

عصام: لا … برغم أنه في طوله وفي مثل قامته!

كانا يصعدان السلالم وهما يتحدثان … وقال «تختخ» وإلى أين نحن ذاهبان الآن؟

عصام: إلى السطح!

تختخ: لماذا؟

عصام: لقد قالت لي «حسنة» الشغالة إنها شاهدَت رجلًا أشيب الشعر في المصعد وكان مضطربًا جدًّا … وقد رأتْه وهو يضغط زرَّ المصعد إلى الطابق الأخير … ولعله الرجل الثالث الذي خرج من الشقة …

وصلا إلى سطح العمارة الضخمة الغارق في الظلام … وبرغم نبض الحياة في الشوارع في مثل هذه الساعة … فقد كان السطح يبدو كأنه عالمٌ آخر مهجور لا حياة فيه …

تختخ: ماذا نفعل هنا؟ إنَّ الظلام كثيف ولن نرى شيئًا!

وقفا معًا صامتين … وكانت أضواء الإعلانات البعيدة تلقي ضوءًا خفيفًا ملونًا على السطح فبدآ يُشاهدان بعض معالم السطح … قباب المصاعد الضخمة … ساريات التليفزيون … بعض الصناديق الضخمة القديمة … وكان الصمت مخيمًا لا يقطعه إلا أصوات أبواق السيارات البعيدة … وفجأة أحسَّ «تختخ» بأعصابه تتوتَّر … وتنسَّم رائحة الخطر … شيء ما في نفسه حدَّثه بخطرٍ وشيك … كانا يقفان قرب بعض الصناديق الكبيرة … وخيِّل ﻟ «تختخ» أنه سمع صوتًا خفيفًا يصدر منها، هل كان صوت الريح؟!

وضغط يد «عصام»، فوجَدَه يضغط يده هو الآخر … لقد سمع نفس الصوت … ومال على أذنه قائلًا: انزل أنت يا «عصام» … إني أحسُّ بخطرٍ قادمٍ …

قال «عصام»: لن أتركك … إنني أريد الاشتراك في المغامرة إلى نهايتها …

تختخ: إذن قف مكانك … وإذا سمعت صوت «بومة» فانزل فورًا إلى الطابق العاشر واستدع المفتش «سامي» إذا كان ما زال موجودًا!

وتقدم «تختخ» من الصناديق القديمة، وأخرج بطاريته الصغيرة … وأرسل خيطًا من الضوء ودخل الصندوق الأول … ثم الثاني … ثم الثالث … وفجأة وجد أمامه مُسدسًا مصوبًا إليه وصوتًا خافتًا: تقدَّم ولا تحدث صوتًا!

جمد «تختخ» في مكانه … ودارت في رأسه عشرات الصور من المغامرات الثلاث التي حاول فيها الوصول إلى الزعيم الغامض … والآن ها هو ذا في الأغلب أمامه … على بُعدِ خطواتٍ منه. ولكن في يده مسدَّس …

كان خيط الضوء قد وقع على وجه الرجل وبدت عيناه القاسيتان تلمعان في الضوء … وأدرك «تختخ» أنه الزعيم … نفس النظرة التي لم تتغيَّر بعد ثلاثين عامًا … وكان واضحًا أنه مُتنكِّر في شكل رجل عجوز … إذن فقد أوقع به طفل صغير هو «عصام»، وشغَّالة قوية الملاحظة … وابتسم «تختخ» بالرغم عنه … وأخرجه من تأمُّله صوت الرجل يقول: قلتُ تقدم، ولا تحدث صوتًا …

كان الرجل جالسًا في الصندوق الضخم وبجواره حقيبة صغيرة. وفي يده المسدس … وتقدم «تختخ» وفي سرعة البرق طوَّح بقدمه مصيبًا المسدس بضربةٍ قوية قذفت بالمسدس داخل الصندوق محدثًا صوتًا كالفرقعة … وانحرف «تختخ» بجوار الصندوق، وقفز الرجل خارجًا … وانحنى «تختخ» على الأرض وسار في هدوءٍ مُبتعدًا … كان يريد الوصول إلى السلالم بسرعةٍ … ولكن الرجل كان ذكيًّا … ورآه «تختخ» يتجه هو الآخر إلى السلم … فوقف في مكانه جامدًا … وأطلق صيحة البومة … ثم تحرك من مكانه سريعًا، واختفى خلف أحد الصناديق التي كان الرجل في أحدها … كان يريد أن يحصل على المسدس بسرعة قبل أن يصل الآخر إليه … واقترب من الصندوق … وانحنى ليدخل … وفي اللحظة نفسها … شاهد الرجل يَنحني معه … كانت مُفاجأةً لكليهما … فتوقف لحظات ثم انقض الرجل على «تختخ»، فألقى «تختخ» نفسه داخل الصندوق محاولًا الوصول إلى المسدس. ودخل الرجل خلفه زاحفًا … وبدآ صراعًا عنيفًا … كان الرجل قويًّا، وكان «تختخ» يُدرك أنها معركة حياة أو موت … فلن يتردَّد الرجل في الفتك به … وفجأةً سمع «تختخ» صوت ضربةٍ قويةٍ خارج الصندوق … ثم صاح الرجل صيحة ألمٍ وتراخَت يداه … ثم سمع ضربة أخرى، وصاح الرجل … وانتهز «تختخ» الفرصة، وأسرع خارجًا من الصندوق … وعلى الضوء البعيد الخفيف شاهد «عصام» يقف وفي يده قطعة خشب … وقال «عصام»: لقد شاهدت كل شيءٍ … ووقفتُ قريبًا منكما … حتى رأيت ساق الرجل تخرج من الصندوق في أثناء الصراع فضربته ضربتين!

قال «تختخ»: تعالَ نَبتعِد …

وأسرعا يجريان في الظلام … وقال «تختخ»: انزل أنت بسرعةٍ إلى المفتش وسأنتظر هنا بجوار السلم … إنه لن يَستطيع الهرب فقد أصبته إصابةً بالغةً …

وأسرع «عصام» ينزل السلالم … على حين كمَن «تختخ» بجوار السلم، ومضت فترة ثم شاهد شبح الرجل وهو يَعرج سائرًا ناحية السلَّم … وأدرك «تختخ» أنه سيُحاوِل نزول السلَّم ليركب المصعد. وحدَّق البصر في الظلام محاولًا أن يرى المسدس … ولكنه لم يستطع أن يرى شيئًا، وإن كان متأكدًا أن المسدس في يد الرجل …

ظل الرجل يقترب في حذرٍ من السلم وهو يعرج، وأصبح على بُعدِ سنتيمترات قليلةٍ من حيث يقبع «تختخ» ساكنًا في الظلام … ثم وضع قدمه على أول السلم، وفي هذه اللحظة ارتفعت أصوات أقدام تصعد السلم بسرعةٍ وأدرك «تختخ» أن المفتش وصل … واستدار الرجل بسرعةٍ برغم إصابته وأخذ يجري وهو يعرج … وراقبه «تختخ»، ولدهشتِه الشديدة وجده يتجه إلى قبة المصعد … ثم يدخل فيها ماذا يفعل هناك؟

ووصل المفتش، ووقف «تختخ» وقال: أنا توفيق …

وقال المفتش: أين الرجل!

تختخ: إنه في قبة المصعد!

وأسرع المفتش وخلفه رجاله، وهم يُشهرون أسلحتهم إلى حيث أشار «تختخ» وخلفهم «تختخ»، و«عصام» … وأطلق الرجال أضواء بطارياتهم القوية في قبة المصعد. وكم كانت دهشتهم ألا يجدوا أحدًا …

قال المفتش: لا أحد هنا يا «توفيق» … لعلك لم تره جيدًا!

تختخ: أنا متأكدٌ!

وفجأة قال «تختخ»: ولا بد أنه يركب فوق المصعد … إنها حيلةٌ شاهدتها في بعض الأفلام السينمائية.

وأصدر المفتش تعليماتٍ إلى بعض رجاله فأسرعوا بالنزول، ووقف المفتش و«تختخ» و«عصام» وبقية الرجال ينتظرون … ومرت فترة صمتٍ، ثم سمعوا صوت صرير المصعد صاعدًا إلى فوق … وامتدَّت الأيدي بالكشافات القوية إلى قبة المصعد … ومضت لحظاتٌ مثيرة، ثم صعد المصعد وشاهدوا على ضوء المصابيح رجلًا مُنكمشًا فوق المصعد قد لوَّثه الشحم … ووقعت من على رأسه باروكة الشعر البيضاء … وبدت في عينيه نظرة الفأر المذعور!

كان في يده مسدَّسه … ولكن لم يكن هناك أملٌ في الفرار … وعندما امتدت أيدي الرجال إليه استسلم بدون كلمةٍ واحدةٍ …

ومشى بين رجال الشرطة يَعرج … ونزلوا السلام فقال «تختخ»: أريد أن أتحدث في التليفون مع الأصدقاء لأُخبرَهم بما حدث …

عصام: تعالَ تحدَّث من عندنا!

وأمام شقة «عصام» وقفوا جميعًا، ونظر الزعيم الزئبقي الذي طالَما استطاع الهرب من رجال الشرطة … وقف ذليلًا محطمًا وقال له «تختخ»: أنت «شحاتة علي»؟

قال الرجل: نعم!

تختخ: وأنت «وحيد يسري»؟

ردَّ الرجل: نعم …!

قال المفتش: لقد قام المغامرون الخمسة بعملٍ رائع!

قال «تختخ»: الحقيقة أن الفضل في وقوع هذا الزعيم الغامض يعود إلى «عصام»!

وابتسم «عصام» في سعادةٍ عندما مدَّ المفتش له يده مُحيِّيًا … ودخل الصديقان الجديدان شقة «عصام»، وأمسك «تختخ» بسماعة التليفون ليُبلغ المغامرين الخمسة أن الزعيم الزئبقي … (الغامض) … المزيف، الذي كان يَختفي خلف شخصية الممثل … قد وقع …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤