قمة اﻟ «١٧»١

في انتصارات سريعة كاسحة، تمكنت أسراب الجيوش العربية من احتلال العراق وفلسطين والشام، استخدم فيها الغزاة القوة والقسوة المفرطة، وهو تعبير حديث مخفف عن المجازر والمحارق الهائلة التي نفذها الغزاة بحق شعوب البلاد الموطوءة، مع عمليات نهب يندر في التاريخ الإنساني مثلها، إضافة لنموذج تلك الجيوش الفريد في استباحة الأعراض وسبي الذراري والنساء في مواقع كثيرة حاول فيها أهالي البلاد المفتوحة الدفاع عن ممتلكاتهم أو أعراضهم.

وفي يوم تاريخي استتب فيه الشأن ليثرب، لتتحول من موطن لتجمعات قبلية إلى عاصمة لإمبراطورية في زمن قياسي، أعلن الخليفة عمر بن الخطاب عقد قمة للنصر، دُعي إليها كلٌّ من عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة، وبلال بن رباح ومعاذ وعلي بن أبي طالب وابن عمر، والسبعة كلهم من قريش، إضافة إلى خمسة من الأوس، ومثلهم من الخزرج، ممثلين للأنصار، لتنعقد في جبين التاريخ القمة الإسلامية الثانية بعد قمة السقيفة … يمكن أن نطلق عليها قمة اﻟ «١٧».

إن اجتماعًا بمثل هذا المستوى الرفيع، وبمثل القدسية المشتمَلة تحت أسماء حضور القمة ومكانتهم في الدعوة ومكانهم بين العرب، لا شك كان لبحث مسئولياتٍ جِسامٍ بعد تلك الفتوحات الميمونة المباركة. وأيضًا لا شك أنه كان بغرض هدف عظيم من أهداف الدعوة والأمة والدين. وأيضًا لا شك بالفرض الحتمي أن اجتماعًا بهذا المستوى كان سيضع نصب عينيه تداول ما تم إنجازه من أعمال الجهاد، وتقييم تلك الأعمال، لدرس ما أمكن تحقيقه من أهداف سامية مقدسة. وأيضًا لا شك بالفرض أنه كان على جدول الأعمال النظر في مختلف الطرق لإبلاغ العالم كله بالدين العالمي الجديد، وتبليغ البشرية في كل المعمورة بأهدافه السامية ومقاصده الشريفة وتفاصيله النبيلة؛ ترغيبًا لسكان العالم للمسارعة في اللحوق به.

بالفرض أيضًا لا بد أن تكون القمة قد أدرجت على بنودها مناقشة إمكانية تشكيل لجان متفرغة من كبار الصحابة الأجلاء، لكتابة المصاحف التي ستحتاجها البلاد المفتوحة ليعرف أهلها تفاصيل دينهم الجديد، مع لجان أخرى تكون من مهامها القيام بوضع الشروح والتبيان والترغيب. بالفرض كذلك ربما لا يفوت هذه القمة مدارسة إمكان افتتاح كتاتيب في البلاد المفتوحة، وتزويدها بالفقهاء والمعلمين المتخصصين من صحابة رسول الله، كرامة لهم وكسبًا للثواب. وربما أمكن التفكير في تشكيل لجان تقوم بنسخ المقدس الإسلامي وترجمته، مع تكليف فريق آخر للقيام بمهمة الوعظ والإرشاد في البلاد الموطوءة، وأن يعملوا بقوت يومهم فقط، رغبة في الثواب الأعظم عند الله تعالى.

ربما أيضًا لو اتسع الوقت في هذا الاجتماع التاريخي — وما أوسع الوقت أيامهم — أن يتم وضع الخطط لإقامة المعاهد الإسلامية في مكة والمدينة لاستقبال البعثات الوافدة من البلاد الموطوءة، طلبًا للتفقه في الدين ودرس اللغة العربية وأصولها، وهو ما يستتبع التفكير في توفير سبل الإقامة لهم بإنشاء مدينة للبعوث القادمة من بلاد الكفر إلى الأرض المقدسة، حتى يعودوا إلى بلادهم مسلمين صالحين عارفين مجتهدين، مع إمكانية فتح فروع لمعاهد الجزيرة في العواصم المفتوحة، للقيام بذات المهمة السامية الشريفة.

وبالفرض أيضًا كان لا بد أن يُدرج على جدول أعمال هذه القمة، بحث تأهيل العاصمة لاستقبال أبناء الطبقات الأرستقراطية في البلاد الموطوءة، لتثقيفهم بالإضافة إلى الدين بأصول البروتوكول العربي والإتيكيت والأدب الإسلامي ليتأدبوا بأدبه، ليكونوا عند عودتهم إلى بلادهم سفراء للعرب وللإسلام. كما كان يفعل الفراعنة عندما كانوا يأخذون أبناء الملوك والأرستقراطية إلى مصر، ليثقفوهم بثقافتها، فيربونهم بالقصر الملكي مع الحاشية الملكية، لإحداث تقارب ثقافي يضمن ولاء الأجيال التالية لمصر عندما يعودوا حكامًا على بلادهم، مما ينتهي إلى تعايشهم معها في سلام. وقد كان العرب على اتصال بتلك الحضارات المحيطة ببلادهم، وكانوا يرسلون أبناءهم قبل الإسلام لتلقي المعارف في بلاد تلك الحضارات، فعلموا سيرتها ومناهجها، فكانوا يذهبون للدراسات الأولية في مدرسة جُندَيسابور الشهيرة؛ ليلتحقوا من بعدُ بالتعليم العالي في جامعة الإسكندرية المصرية الأشهر. وقد وصلَنا من كتب السير والأخبار أسماءٌ لعربٍ أثرياء درسوا في تلك المعاهد والجامعات، مثل: النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط اللذَين تم قتلهما أسرى في وقعة بدر الكبرى، وهو ما يفيد بمعرفة العرب بشأن المدارس ومعاهد العلم ولم تكن شأنًا مجهولًا لديهم.

على جدول الأعمال لا بد أن نفترض بنودًا وضعت نصب أعينها أهداف هذا الدين القيم لِجَلْوها نبيلةً مضيئة خلابة، كاتخاذ الإجراءات السريعة الكفيلة برفع الجور والظلم عن كاهل الشعوب المفتوحة، التي عانت، كما تقول كتب التاريخ العربي، من ظلم حكام الطاغوت فُرسًا ورُومًا، بإقرار العدالة في تلك البلاد وترسيخ المساواة والإخاء بين شعوب الإمبراطورية، تحقيقًا لمبدأ «كأسنان المشط» وإعمالًا لقول النبي: «كلكم لآدم، وآدم من تراب»، بدءًا بتخفيض الجباية عما كانت عليه زمن الطواغيت لرفع المعاناة عن المُعْوِزين والضعفاء. ثم تأسيس المساواة بتحرير عبيد البلاد المفتوحة المستذَلين، مما يُكسب الفاتحين صيتًا يليق بدين الحرية والإخاء والمساواة والعدل بين الناس، لتحقيق مبدأ «لا فضل لعربي على أعجمي»، وهو أمر يسير لن يخسر العرب معه شيئًا.

كان محتمًا أيضًا أن يتذكر حضورُ القمة، خاصة الأعضاء القرشيين السبعة، معاناة مهجرهم من مكة إلى المدينة، ومؤاخاتهم مع الأنصار باقتسام الطعام والمسكن والزوجات، فيَرفُقوا بأبناء الشعوب المفتوحة لتجنبيها مرارة التجرِبة التي خاضها الصحابة الكرام البررة، إحقاقًا للعدل، بإعادة توزيع الثروات بين الناس في تلك البلاد وَفق المبدأ الإسلامي الرفيع في المؤاخاة، دون أن يخسر الفاتحون شيئًا، بل إن كسبهم لدينهم ومبادئهم هو النتيجة المحتومة، وحتى تكتسي الدعوة الإسلامية النزعة الإنسانية التي تبين فضل الإسلام على غيره من الأديان، مع تبيان فضل الاستعمار العربي على غيره من ألوان الاستعمار الشركي الطاغوتي، تحفيزًا لهذه الأمم للدخول في دين الله أفواجًا.

كل هذه الفروض البسيطة التي تؤكد الدين وتنشر قيمه لم يكن أيٌّ منها على جدول أعمال هذه القمة القدسية المشرفة! فلم ينشغل الأعضاء بإرسال القرآن، ولا الشراح، ولا الدعاة، ولم يخطر لأحدهم استجلاب البعوث لمكة والمدينة لتلقي العلم؛ لأنه وحتى بعد انجلاء هذا الاجتماع التاريخي، وإلى زمن طويل بعده، لم يرد من البلاد المفتوحة إلى الحجاز سوى الذراري والسبايا الحسان، لركوبهن … وليس لتفقيههن في الدين. بينما ذهب ملوك العرب وأمراؤهم في زماننا هذا ليتلقوا العلم في بلاد الغرب، وتخرَّج أكابرهم في أكاديميات كبرى مثل سانت هيرست في بريطانيا، ولم يركبهم أحد هناك، على الأقل فيما هو معلوم ومعلن!

هنا فجوة كبرى هائلة بين تصوراتنا اليوم وبين تصورات ذلك الزمان البعيد ومفاهيمه؛ لأن كل الافتراضات المبنية على مفاهيم اليوم حول ما كان واجبًا أن تهتم به قمة اﻟ «١٧»، لم تكن في مخزون العربي الثقافي في تلك الأزمان. ويزداد ابتعاد المفاهيم الإسلامية عن تلك الفروض عندما نتذكر أن ذلك الذي حدث كان في القرن السابع الميلادي، قد حدث في مكان من نوع خاص، وأنه لم يحدث في روما وقوانينها، ولا في أثينا وديمقراطيتها، ولا في الإسكندرية وعلومها، ولا في بيروت وأبجديتها، ولا في جُندَيسابور ولا في نِينَوى، وإنما كان في بلادٍ كان أهلها يأكلون بعضهم ويغزون بعضهم ويركبون بعضهم، حتى جمعهم الإسلام محولًا طاقاتهم العنيفة نحو خارج الحجاز، ليأكل بهم كنوز كسرى وقيصر حسبما أكد الحديث النبوي التنبؤي.

لقد كانت قمة اﻟ «١٧» قمة هامة بلا شك، بل هي القمة الثانية في تاريخ الصحابة بعد قمة السقيفة، كانت قمة مصيرية تأتي بعد الفتوح والانتصارات لتتوجها، وهي بمعنًى من المعاني تعادل في ظرفها الموضوعي، قمة الحلفاء بعد انتصاراتهم في الحرب العالمية الثانية، ولكن في زمن مختلف وثقافة مختلفة، بل إن العرب كانوا في زمانهم يتخلفون درجات عظمى عن ثقافة ناس زمانهم في محيط الجزيرة الحضاري الذي احتلوه.

فقد أثمرت قمة الحلفاء المنتصرين في ١٢ أغسطس عام ١٩٤٩ ميلاديًّا عن اتفاقيات ومواثيق لحماية الإنسانية من حروب أخرى، وعن الأمم المتحدة، وعن مواد في مواثيق جنيف، ومنها المادة «١٤» التي تؤكد أنه: «لأسرى الحرب حق احترام أشخاصهم وشرفهم في جميع الأحوال ويجب معاملة النساء الأسيرات بكل الاعتبار»، والمادة «٣٤» التي نصت على أن: «يُترك لأسرى الحرب حرية كاملة في ممارسة شعائرهم الدينية الخاصة بعقائدهم، كما تُعَد لهم أماكن مناسبة لإقامة شعائرهم الدينية». وهو ما يضمن للمهزوم الحفاظ على دينه وشرفه وعِرضه، وأن من قرر ذلك هم المنتصرون الذين أتبعوا ذلك بمشروع مارشال لدعم المهزومين على كل المستويات، لإعادة تعمير ما دمرته الحرب في البلاد المهزومة.

إذن ومع مراعاة فروق الزمن وفروق الثقافات يمكن مراجعة ما دار في هذه القمة التي حضرها أشخاصٌ مقدسون في تاريخ الإسلام، خاصة التيار السني الذي يرى نفسه نهاية واكتمال كل حضارة سامية ونبيلة ممكنة.

كان على جدول أعمال قمة اﻟ «١٧» أربعة بنود فقط تلخص موقف العرب الفاتحين ومفاهيمهم وطريقة تدينهم وتقواهم، أربعة بنود كان سببها أربع رسائل وصلت إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب؛ وهي على الترتيب:

البند الأول: كتاب سعد بن أبي وقاص إلى الخليفة ينبئه بأن الناس (أي العرب الفاتحين) قد سألوه أن يقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم. والبند الثاني: كان كالأول، كان مدارسة كتاب أبي عبيدة بعد فتح الشام يخبر الخليفة أن المسلمين الفاتحين قد سألوه أن يقسم بينهم «المدن وأهلها؟!» وكان البند «ثالثًا» مثل أولًا وثانيًا، فكان طلبَ الجند الموفدين من الجيش الفاتح للعراق بنصيبهم. ومثل أولًا وثانيًا وثالثًا كان البند «رابعًا»، كان مدارسة طلب بعض الصحابة أن يقسم الخليفة الأرضين المفتوحة على الصحابة كما كانت تقسم غنيمة العسكر، كما حدث في خيبر.

الملحوظة التي تفرض نفسها هنا أن الرسائل الأربع قد أجمعت على الكلام نفسه، وعلى المطاليب ذاتها. من كان بالشام أرسل يطلب ما طلبه من كان بالعراق، ولم يكن عندهم موبايلات ولا وسائل اتصال بينهم ليتم الاتفاق على هذه المطاليب بهذا التوافق الدقيق، وهو ما يفصح عن كون هذه المطاليب كانت من المسائل المنتهية المتفق عليها سلفًا ومفروغًا منها لأنها قواعد جهادية عسكرية تم تطبيقها من قبل، وأن تقسيم الأرضين هو شرعٌ وسنةٌ عن النبي كما فعل في توحيده بلاد الحجاز، وخاصة ما حدث في خيبر. لكن ذات الصحابة قد خاضوا مع نبيهم فتح مكة، وكان أهلها هم الطلقاء؟ فلماذا لم يتصور أيٌّ من الصحابة في مصادرهم الأربعة إمكان معاملة البلاد المفتوحة بمادة مكة؟ خاصة إذا أخذنا بالحسبان أن شعوب البلاد المفتوحة حتى الفتح كانوا هم الأقرب إلى صحيح الدين بالمفهوم الإسلامي، فقد كان معظمهم على آخر ديانة سماوية رسمية هي المسيحية؛ أي كانوا على الدين الصحيح حتى زمن الفتوح، بينما كانت مكة أكبر معقل في العالم حينذاك للوثنية والجهل والتوحش.

كانت العدالة تفترض معاملة أهل البلاد المفتوحة معاملة مكة مع ما فرضه الله على مسلميه من المودة والرحمة للقسيسين والرهبان، وكان للنبي فيهم، يهودًا ومسيحيين، صهرٌ ونسب. بل ونالت مكة ميزات إضافية؛ فبعد إطلاقهم سالمين بأوامر الأخ الكريم وابن الأخ الكريم ، قام النبي يشتري إيمانهم بالمال تألفًا لقلوبهم. فلماذا اختار الفاتحون لبلادنا القتل والذبح والأسر والسبي والمغانم والفيء بمادة خيبر، ولم يختاروا لنا مادة مكة، ولماذا لم يتألفوا قلوبنا بالمال؟ لماذا لم يشترونا؟ وهي بالإضافة لكونها سنة نبوية ونموذجًا من نماذج الفتح المطروحة، هي أيضًا فرض على المسلمين حسب نص الآيات؟

لقد عامل الفاتحون أهل الكتاب في البلاد المفتوحة معاملة أشد سوءًا وبشاعة وقسوة، كان موقفهم بعيدًا حتى عن قواعد العدل في الحرب حسب الشريعة الإسلامية نفسها، حتى ذلك الوقت كنا أولى بمادة مكة لا بمادة خيبر، حتى لا يحسب الناس الأشرار أو يتصوروا أن إطلاق الوثنيين المكيين وشراء إيمانهم كان لسبب عاطفي أو عنصري لقرابتهم من النبي. كان العدل هو معاملة البلاد المفتوحة بمادة مكة حتى لا تُحسَب عصبية قبلية لا علاقة لها بالدين وكرامته … لقد كانت حكاية إنقاذنا من الظلم على يد العرب هي أكبر كذبة شريرة في التاريخ الإنساني كله.

كان هذا هو جدول أعمال قمة اﻟ «١٧»، ولم يُسجَّل أن أحدًا في هذا الاجتماع قد تقدم بطلب إحاطة عن الفرد المسلم، والمرأة المسلمة، والمجتمع المسلم، وأحوالهم في البلاد الموطوءة، وهو ما يطلبه كل المشتغلين علينا بالدين في أيامنا هذه؛ يريدون لنا: الفرد المسلم والمرأة المسلمة، والمجتمع المسلم، إن الإخوان المسلمين يطلبون لنا ما لم يطلبه لنا الصحابة الأجلاء في زمن الإسلام الذهبي.

لقد كان الخليفة عمر بن الخطاب يعادل في زمنه الرئيس الأمريكي جورج بوش اليوم، لكن كان زمانًا له قيمه المختلفة، التي حملها شعب لا علاقة له بالحضارة، خرج من بيئة متبدية وثقافة بُدائية، زمنًا لم تكن فيه أمم متحدة لتراقب، ولا مجلس أمن ليحاسب، ولا ضمير عالمي قادر على إعلان صرخته الاحتجاجية. كانت قمة اﻟ «١٧» اجتماعًا يليق بزمانها وبأصحابها، أصحابها الذين نسوا تمامًا وبالمرة الهدف الذي كانوا يفتحون البلاد من أجله، وجلسوا يتباحثون في توزيع الأرضين والبشر أطفالًا ونساءً والبهائمِ بينهم فيئًا.

قد يذهب حسن الظن بالقارئ هنا إلى أن الفاتحين قد فتحوا البلاد ثم جلسوا هناك ينتظرون موافقة قمة اﻟ «١٧» لينالوا فيئهم وغنائمهم، وهذا هو الخطأ نفسه؛ لأن الفاتحين قد نالوا غنائمهم على أرض المعركة فورًا مع كل موقعة ومع كل مدينة ومع كل قرية ومع كل رجل أو امرأة أو حتى طفل. لقد كانت مطالبهم أبعد من ذلك، كانت مطالبهم بعد كل ما غنموه وسلبوه وسَبَوه هي: الأرض بمن عليها، كانت مطالبهم قسمة الأرضين عليهم بعد أن أفاءها الله عليهم بسيوفهم.

•••

يحكي «أبو هريرة الدوسي» ما أصاب الصحابة من الدَّهَش والحيرة والفجأة لما أصبح بين أيديهم، فيقول: «قدمت من البحرين (ساحل الأحساء حاليًّا) بخمسمائة ألف درهم، فأتيت عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — مُمْسيًا، فقلت: يا أمير المؤمنين اقبض هذا المال. قال: كم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم، قال: أوَتدري كم هي الخمسمائة ألف؟ قلت: نعم، مائة ألف خمس مرات، قال: أنت ناعس، اذهب الليلة فَبِتْ حتى تصبح. فلما أصبحت أتيته فقلت: اقبض هذا المال، قال: وكم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم، قال: أمِن طيِّب هو؟ قلت: لا علم لي بذلك، قال الخليفة: أيها الناس قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم أن نكيل لكم كِلنا، وإن شئتم أن نعُدَّ لكم عددنا» (أبو يوسف، الخراج، ٤٩).

كان هذا المال قادمًا من منطقة هي الأشد فقرًا في الجزيرة، وليست بغنى بلد كالعراق أو الشام، فقد غنموا بعد ذلك ما كان يصيب بالبهتة، فجاءوا من خزائن كسرى بثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار، ووجدوا بالقصر من التحف والأمتعة ما لا يقيَّم بمال، من ثياب منظومة بالجواهر إلى حُلل مكللة بالديباج منظوم فيها اللؤلؤ.

هذا غير ما غنمه المحاربون الفاتحون مباشرة بالاستيلاء عليه، فكان جيش سعد بن أبي وقاص من ستين ألف فارس، أصاب كل فارس اثني عشر ألفًا، ثم إن سعدًا بعدما أصاب أهالي البلاد المفتوحة الذعر! فتفرقوا هاربين بجلودهم فزعًا، قام فقسم المنازل والدور بين رجاله وأنزل العيالات (القبائل الزاحفة من الجزيرة لنهر الفرات) في الدور فأقاموا بها.

وهو ما يذكرنا بحكاية دير ياسين وقِبية وكفر قاسم، نفس الممارسة ردًّا على ذات الفعال. إنها ثقافة البداوة المقدسة المعلومة عند كليهما … أليسا بني عمومة؟ وإن العرق دساس كما قال النبي محمد .

عن موسى بن يزيد قال: «حمل أبو موسى الأشعري إلى عمر بن خطاب — رضي الله عنه — ألف ألف، فقال عمر: بكم قدمت؟ قال بألف ألف، فأعظم عمر ذلك وقال: هل تدري ما تقول؟ قال: نعم، قدمت بمائة ألف عشر مرات، فقال عمر: لئن كنت صادقًا ليأتين الراعي نصيبه وهو باليمن» (أبو يوسف، ٥٠).

إن هذا المال الذي كانت كثرته كفيلة بالإقناع أنه «من طيب هو»! قد جاء بلاد العرب حلالًا زلالًا وفق شريعة الجهاد الخيبرية. خالد بن الوليد مثلًا فتح حصنًا لمدينة صغيرة بالعراق تدعي بانِقْيا، فقتل كل من كان فيه من الرجال، وسبى كل من كان فيه من الأطفال والنساء، ثم أمر بإحراق الحصن وهدمه لتذروَه الرياح، ثم قرر على أهل القرية جزية سنوية مقدارها ثمانون ألف درهم (أبو يوسف، ١٥٧)، فإذا كانت تلك القرية العراقية المنكوبة المنكورة قد تقرر أن تدفع هذا المبلغ بعدما سُلبت ونُهبت وخُرِّبت، فكم بالأحرى كان يدفع العراق كله، أو الشام كله، أو مصر كلها؟

عاد العراق برزقه الذي «من طيب هو» لكل فارس محارب بأربعة عشر ألفًا، ولكل محارب راجل سبعة آلاف ومائة سهم، وأسهم لعيال الشهداء وللنسوان من صُلب هذه الفيء (اليعقوبي ١٤٥/٢). أي إنه كان على المفتوحين أن يدفعوا دية الميت الفاتح، وأن يعولوا عياله ونسوانه … هل تذكرون صدام حسين عندما كان يأخذ ثمن الرَّصاصة من أهل المقتول بعد أن يُقتل أمام عياله؟ يبدو أن صدام كان خليفة زماننا النموذجي! هذا رغم أن توزيع مال الفيء على العيال والنسوان مخالف لشريعة الجهاد؛ لأنهم لم يُوجِفوا مع المجاهدين بسيف ولا ركاب حسب الشرع القرآني. أما مدينة المدائن الشهيرة فقد فاضت ﺑ «طَيِّبها الحلال» فأصاب الفارس في الموقعة اثني عشر ألفًا، وكانوا ستين ألف فارس (الكامل في التاريخ، ج٢، ص٥١٨).

أما النساء السبايا من المليحات من شاميات وعراقيات وفلسطينيات، فترصدهن لنا كتب التاريخ الإسلامي وكتب الخراج بأيما فخر وأيما اعتزاز، فسبى خالد في سيره من الحيرة، بعد إنهائها من الوجود، إلى دمشق ألفَ رأس منتقاة، وسبى من دمشق وحدها خمسة آلاف رأس من النوع الأبيض الأشقر الذي يعشقه العربي، أما بنات جَلُولاء الحرائر فقد فاضوا سبيًا وخيرًا عميمًا تم توزيعه على الأعراب في مضاربهم بالجزيرة، وفاضت السبايا من جداتنا وأمهاتنا البعيدات، حتى أتى الأعرابي لذته نصيبًا وهو مسترخٍ على مؤخرة بعيره باليمن.

وبين أهازيج الفتوح، ومفاخر الفاتحين، تجد نوادر يتامى ممن ذهبوا للفتح فلم يروا في هذا الجهاد ما رآه السادة من الصحابة، مثل ذلك الذي اسمه ثعلبة، الذي أوجعه ما كان يرى في الفتوح من آلام المفتوحين، فعاد ليخطب في مسجد بني حِمَّان مُقْسمًا قائلًا: «لله عليَّ ألا أرجع إلى سواد العراق مما رأيت فيه من الشر» (القرشي، الخراج، ٤٥).

•••

المشتغلون علينا بالدين يؤكدون أن أهم أهداف الفتوح الإسلامية هو تحقيق العدل، وإقامة المساواة، ونشر الحريات، وترسيخ الإخاء، وحقوق الإنسان، والقضاء على العبودية. لكن يبدو أن تلك الأهداف لم تكن واضحة لصحابة رسول الله في زمنهم، فلم يخطر لأحد من هؤلاء الصحابة الكبار أن يطرح أيًّا من تلك الأهداف ولو في مداخلة استفسارية في قمة اﻟ «١٧» التي عقدها الخليفة عمر بحضور سبعة عشر من كبار الصحابة. لم يطلب الصحابة المساواة والإخاء والعدل والقضاء على العبودية في بلادنا الموطوءة، بل طلبوا بوضوح ودون أي تزويق، ودون أي تحرُّج انعدامَ المساواة وانعدام الإخاء وانعدام العدالة بالكلية مع مزيد من العبودية، طالبوا بامتلاك الأرضين بمن عليها سادةً كانوا أو عبيدًا، مِلكًا خالصًا لهم يورثونه أولادهم وأحفادهم، كريم لكريم وشريف لشريف وكابر لكابر. الفرق بين هذه القمة وقمم الدنيا كلها أن قرارات اﻟ «١٧» كانت قرارات مقدسة، تحولت إلى قوانين شرعية استفاضت في تشريعها وتسنيدها كتبُ الفقه على مختلف مذاهبها، وما ترتب على ذلك بالضرورة أن أصبحت قراراتها أبدية.

يحكي أبو يوسف في الخراج (ص٢٤) وأبو عبيدة في كتاب الأموال (ص٥٩) ما توصل إليه المجتمعون في قمة اﻟ «١٧» بقولهما: «والذي رأى عمر الامتناع عن قسمة الأرضين بين من افتتحها».
أما كيف انتهى عمر إلى هذا القرار، فقد حدث: «عندما عرَّفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك، توفيقًا من الله كان له فيما صنع، وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين (يقصد العرب). وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين لعموم النفع لجماعتهم؛ لأن هذا لو لم يكن موقوفًا على الناس (العرب) من الأعطيات والأرزاق لم تُشحن الثغور، ولم تقوَ الجيوش على السير في الجهاد.»

واضح أن الاهتمام تركز في نهاية اجتماع هذه القمة كما كان في بدايتها، على الأعطيات والأرزاق للعرب، وتقوية جيوشهم في الثغور حتى لا يعود الروم أو الفرس لاختطاف الفريسة مرة أخرى، الاهتمام بالمنافع المادية والأعطيات والأرزاق دون أي إشارة توضح أي اهتمام من جانب أي واحد فيهم بالدين ذاته وحقوقه والعبادات وأصولها وحقوقها. وقد تأكد لأبي يوسف وأبي عبيدة أن الله قد أظل قمة اﻟ «١٧» بظله. بل وشارك فيها بفاعلية، فقام بتعريف عمر بن الخطاب بالصواب توفيقًا منه، وهو أن تتحول الأرضين من فيء يوزَّع على المحاربين حسب شريعة الجهاد، إلى فيء موقوف على العرب كملكية عامة على المشاع بجميع أجيالهم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكانت هذه المشاركة السماوية في قمة اﻟ «١٧» بغرض تسديد عمر وإلباس قراره رداءً قدسيًّا بهذه القمة المباركة. وهو ما سيطبَّق بعد ذلك على مصر بعد فتحها، حين رفض عمرو بن العاص مطلب الزبير بن العوام بتقسيم مصر على الفاتحين، وإعماله التوصيات التي انتهت إليها القمة بشأن بلاد الشام والعراق. ولم يقم بعد هذه القمة أي خليفة بمحاولة تغيير في هذه التوصيات، فلم يغير من بعد عمر لا عثمان ولا علي؛ لأنهما كانا من أعضاء القمة ووافقوا على ما انتهت إليه من توصيات.

وكان «علي» يقول في خلافته بهذا الخصوص: «إن عمر كان رشيد الأمر، ولن أغير شيئًا وضعه عمر». وهو ما استمر قائمًا في الزمن الأموي والعباسي والعثماني، ولم تسترد هذه الشعوب مقدراتها وأرضها وحدودها إلا بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وبسبب الاتفاقية المعروفة باسم «سايكس بيكو»، التي يصفها القوميون والإسلاميون ﺑ «المشئومة»!
إن القوميين ومشايخ الدين وكل فرق الفاشية العنصرية والطائفية تحمل بشدة على اتفاقية «سايكس بيكو» ويصفونها بالملعونة، لكنهم لا يقومون — إخلاصًا للمبدأ القدسي، ومدًّا لحبل الإيمان على استقامته، ودون إسقاطٍ لما يترتب على المبدأ من فروض — بسداد جزية بلادنا للحجاز التي هي القيمة الإيجارية لأصحاب الحق القدسي في بلادنا، وكذلك لا يرسلون نسواننا لمتعة العربي في الحجاز وإلى الراعي المسترخي على مؤخرة بعيره في اليمن، ولا يرسلون بنات جَلُولاء وصبايا دمشق من الشوام وعَذارَى دجلة والفرات لأصحاب الحق في ركوبهن، حتى يكون لكلامهم معنى! وحتى يتموا صحيح الدين، إن كان الدين هو شاغلهم حقًّا. وعليهم أيضًا إعلان التراجع الكامل بل وإعلان الأسف والخجل من أطماعهم في كرسي الحكم في بلادنا؛ لأنه لن يكون (مع مد الخيط على استقامته) لغير قرشي، حسب نص الحديث الصحيح مرويًّا عن أبي بكر: «الخلافة في قريش». هذا مع علمهم أن منهجهم يفترض أن إعلاء كلمة الله هو الأهم من كل مشاغباتهم السياسية وجرائمهم التي تُرتكب كل يوم في حق الإنسانية، وأنها الأعلى من كل المنافع والمناصب الدنيوية التي يصبون إليها.

أهل الدين والمسترزقون به يسلكون مسلك السلف في طلب منافع الدنيا، ويريدون تزوير الشريعة؛ يطلبون الحكم وهو ليس لهم شرعًا. والدليل أنهم لا يُتمون هذا الشرع بإرسال حق الوقف لأصحاب الوقف الشرعيين في الحجاز؛ لأنهم ليسوا بأصحابه، بل هم أنفسهم فيء ضمن الفيء، وعليهم دفع ضريبة رءوسهم لأهلها، فهم ليسوا أكثر من عبيد، لا يحق لهم مجرد القول أو إبداء الرأي. ولعل أهم ما يميز قمة اﻟ «١٧» عن قمم العرب التي نعرفها في أيامنا هذه، أنها قد صاحبتها إجراءات تنفيذية فورية لتطبيق التوصيات دون تسويف أو مماطلة أو تأخير. فقد انتدبت القمة رجلًا مجربًا محنكًا في قياس الأراضي وتقويم جودتها هو «عثمان بن حنيف»، وأمدته بمساعد خبير بذات الشأن هو «حذيفة بن اليمان»، وأمرهما الخليفة بعمل قياس مساحي لأراضي السواد بالعراق، وعمل تقدير لقيمتها الخراجية موزعة على الوحدات بدقة تحقيقًا للعدالة، ومنعًا للجور والظلم الذي قد يؤدي بالعربي إلى أخذ نصيب أكثر من أخيه العربي، أو أكثر مما يستحق حسب منزلته في التراتب العربي لمنازل الناس وطبقاتهم، ذلك التراتب الذي كرسه الخليفة عمر في توزيع هذا الفيء، فقد وجد أن مساحة سواد العراق ٣٦ ألف ألف جَريب؛ أي ٣٦ مليون جَريب، فوضع على كل جَريب من الحِنطة قَفيزًا ودرهمًا، أو أربعة دراهم، وعلى كل جَريب شعيرٍ درهمين، وعلى كل جَريب كروم عشرة دراهم، وعلى النخل ٨ والقصب ٦ والرطب ٨. وفي ذلك يقول الشاعر زُهير بن أبي سُلْمى:

تغل لكم ما لا تُغِل لأهلها
قرًى بالعراق من قَفيزٍ ودرهم
بعد حصر الغلة جاءت مرحلة التوزيع، ومن أجل هذا التوزيع، وليس من أجل نشر الدين، تم تشكيل اللجان، «فدعا عمر «عَقِيل بن أبي طالب» و«مَخْرَمة بن نوفل» و«جُبَير بن مُطعِم»، وكانوا من نسَّابة قريش، وقال لهم: اكتبوا الناس على منازلهم»؛ أي إن المسلمين أنفسهم لم يعودوا كأسنان المشط، بل أصبحوا رُتبًا ومنازل ودرجات وطبقات، وهي منازل لا تعتمد على مدى التقوى أو الإيمان ودرجته، ولا على حسن السير والسلوك، ولا على مدى الزهد والورع، إنما هي رتب عصبية قبلية جاهلية، أولها المهاجرون من قريش يتوارثون ذلك في أجيالهم ونسلهم، وهم بدورهم رتب؛ فأولهم من حضر غزوة بدر، ثم هاشم ثم بقية قريش، ثم الأنصار، ثم عرب الشمال، ثم عرب الجنوب … إلخ.
انظر معي قارئي ونحن على المائدة الإسلامية والأكَّالون (بتشديد الكاف) بيعزموا بينا على بعض: «سأل عمر: بمن أبدأ؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك. قال: لا، لكني أبدأ ببني هاشم، فبدأ بالأقرب من رسول الله — والأقربون أولى بالمعروف — ففرض للعباس ثم لعلي، ثم والى بين خمس قبائل، حتى انتهى إلى الأنصار … وكان يفضل في العطاء على قدر السابقة في الإسلام، وعلى قدر القربى من رسول الله، ولكل من شهد بدرًا ٥٠٠٠ درهم في السنة، ولكل مهاجر قبل الفتح ٣٠٠٠ درهم، ولمن أسلم بعد الفتح ٢٠٠٠ درهم.
وفرض لنساء المهاجرين والأنصار ٦٠٠، ولعيال المقاتلة وذراريهم العشرات، ولكل مولود يولد ١٠٠ درهم، وقال عمر: لئن كثر المال لأفرضن لكل رجل أربعة آلاف درهم؛ ألفًا لفرسه، وألفًا لسلاحه، وألفًا لسفره، وألفًا يخلِّفها في أهله.»
وهكذا ومع الفتوح الإسلامية المباركة ظهر في التاريخ لأول مرة جماعة بشرية، ترى نفسها المالك الوحيد للبلاد التي تحتلها بما فيها من أراضٍ وبما على الأرض؛ اقرأ معي: «روى الشعبي، قال: اشترى عتبة بن فرقد أرضًا على شط الفرات، فذكر ذلك لعمر بن الخطاب، فقال له: ممن اشتريتها؟ قال: من أربابها. فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال عمر: هؤلاء أربابها، فهل اشتريت منهم شيئًا؟ قال: لا، قال عمر: فردها على من اشتريتها منهم وخذ مالك.»
ويشرح الماوردي ما ذهب إليه الإمام الشافعي فيما انتهت إليه قمة اﻟ «١٧» من قرارات، فيقول: «الظاهر من مذهب الإمام الشافعي رحمه الله في سواد العراق، أنه فُتح عَنوة واقتسمه الغانمون ملكًا لهم وحدهم، ثم تنازلوا؛ استنزلهم عمر عنه فنزلوا (أي تنازلوا عن حق الملكية الفردية مع الاحتفاظ بحق عائده كوقف لملكية العرب الجماعية) إلا طائفةً رفضت، فاستطاب نفوسَهم بمالٍ عوضهم به عن حقوقهم! فلما خلَص للمسلمين ضرب عليه عمر الخراج».
و«الخراج»، بحسبانه بديلًا عن حقوق العرب في امتلاكنا ملكيةَ البعير والماعز والنساء والعبيد، كلمةٌ تحتاج إلى تعريف دقيق، أو بالأحرى هي بحاجة لفض وفضح مصطلحها الدلالي؛ فالخراج هو الكلمة التي تدل على غلة العبد أو الأمة عندما يفيض العبيد عن حاجة السيد، فيتفق السيد والعبد الزائد عن الحاجة على إطلاقه يعمل فيما يجيده في الأسواق، فيقال: فلان خارَج غلامه؛ أي اتفق معه على ضريبة يؤديها العبد المخارَج لسيده كل يوم خراجًا، ويكون مخلِّيًا بينه وبين العمل فيقال له: «عبد مخارَج». فالخراج هو غلة العبد المخارج؛ ومن ثم تم اعتبار شعوب البلدان المفتوحة عبيدًا مخارَجين يدفعون غلة العبد لمالكي رقابهم خراجًا. يقول ابن الأثير: «قال رسول الله لعمه أبي طالب: ألا أدعوهم إلى كلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها رقاب العجم.» (ج٢، ص٢٣-٢٤).
كان الخليفة عمر بن الخطاب بحسبانه رئيس قمة اﻟ «١٧» يعمل بآيات القرآن: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (التوبة: ٢٩).
الآيات لم تقل «حتى يُسلِموا» وهو دليل عدم إكراه في الدين، الإكراه فقط في دفع الخراج ضريبة رقبة عبد مخارَج، لهذا يتضح السبب في عدم تطرق قمة اﻟ «١٧» لمسائل الدين ونشره والدعوة إليه. كانت قمة من أجل الغنائم ليضمنوها شرعًا قدسيًّا لهم ولنسلهم من بعدهم. نفس حكاية إبراهيم وربه في التوراة عندما منحه ربه الأرض قائلًا: «لنَسلِك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات.» (سفر التكوين). أما المسلمون فلم تكن للأرض المملوكة لهم ولنسلهم حدود، كانت أرضُهم المعمورةَ كلها، وغيرَ المعمورة، المسكونةَ وغير المسكونة.
ظل العبد المخارَج شرعًا معمولًا به، وأحدَ معالم الإسلام في الحجاز حتى اليوم، كل ما في الأمر أنه تم إعطاؤه تسمية جديدة هي «الفيزا الحرة» التي يستورد بها السيد السعودي عددًا من العمال من مصر أو الشام أو السودان أو العراق، ويطلقهم للعمل، وعلى كل عامل أن يسدد لسيده كل شهر مبلغًا من المال يشرُطه السيد عليه، ولا يحصل على جواز سفره إلا بعد أن يسدد لسيده كامل غلة العبد المخارَج!وتحيا الأمة العربية!

وبعدما ملك العرب رقاب العجم، فإن خليفتهم الذي وزع على عرب الجزيرة هذه الأموال والنساء الوافدة من البلاد المفتوحة، لمن شاء عدَّ، ولمن شاء كال بمكيال، هو من مات قتيلًا بسبب ما لا يزيد عن درهم أو درهمين؛ فبعدما حطم العرب العروش شمالًا وشرقًا وغربًا، سقط في ذل الاستعباد أبناء تلك البلدان، بعدما كانوا يعيشون في بلدانهم أحرارًا. ومن بين نكِدي الحظ كان «فيروز أبو لؤلؤة» المانَوي؛ لذلك يلقب بالمجوسي، والمانَوية نحلة متطورة من الزِّرادَشتية، فكان من نصيب المغيرة بن شعبة الثقفي.

كان الخليفة قد سن قانونًا بعدم دخول العبيد البالغين عاصمته يثرب، لكن «المغيرة» تمكن من أخذ استثناء من الخليفة لعبده «فيروز» لأنه كان عالمًا مخترعًا، لديه من العلم ما ينفع به الناس. ومثل هذا المخترع لا شك أنه كان يعيش في موطنه عيشة السيادة والرفاهية في رعاية الدولة وربما في رعاية كسرى نفسه، ولا شك أنه كان يغشى القصور ويعرف أهل الأرستقراطية؛ فقد رُوي عنه أنه كان يمشي في أسواق العبيد في يثرب يمسح بيده على رءوس الأطفال الملكيين والأرستقراطيين المسلسلين، ويزفِر بالعبرات بكاء ونشيجًا؛ ولهذا السبب وصفته كتبنا الأخبارية بأنه كان خبيث النفس!

ولا شك أيضًا أن عالمًا خبيرًا مقربًا من القصر عندما يجد نفسه عبدًا وأولاد الملوك في الأسواق مع أهليهم يباعون بيع الماعز، لا بد أنه قد استشعر إزاء هؤلاء القوم البُدائيين في بواديهم ما جعله يكتوي نارًا وبغضًا وكراهية لهم ولدينهم.

خارَج المغيرة عبده المخترع «فيروز» على أربعة دراهم كلَّ يومٍ ضريبةَ رقبته، وأطلقه يعمل بالمدينة، فذهب فيروز يستعطف الخليفة أن يخفف عنه درهمين أو درهمًا، فرفض الخليفة واعتبرها ضريبة عبد مخارَج عادلة. بعد أيام التقى الخليفة فيروزًا فقال له: « بلغني أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحًى تطحن الطحين بالريح»، فرد عليه فيروز بنغمة صارمة: «لأصنعن لك رحًى يتحدث بها الناس. فأقبل عمر على من معه فقال: توعدني العبد.»
وقرر فيروز أن يتحول عن العلم والاختراع إلى النقمة الفدائية، فكمَن للخليفة بالمسجد، فلما قام الخليفة لإمامة الناس قفز عليه فيروز فطعنه ثلاث طعنات نافذة، فصرخ عمر: «قتلني الكلب»، فتكاثر الصحابة على فيروز بسيوفهم ومعه خنجر، فتقاتلوا، فقتل منهم سبعة، وأصاب سبعة آخرين، حتى إذا ما رأى أنه مأخوذ نحر نفسه بخنجره، فكان من احتز رأسه عبد الله بن عوف.

•••

بشأن التاريخ الجهادي العربي النبيل يقدم لنا الكاتب الإسلامي المستنير «فهمي هويدي» تعريفًا له يقول: «إن العقل الغربي ينظر إلى الجهاد على أنه Holy war حرب مقدسة، وهي في الحقيقة كلمة لا مرادف لها عندهم (طبعًا)؛ فالجهاد يتميز عن القتال أو النضال الذي قد يكون في سبيل أي شيء آخر ولا ينتقص منه شيئًا، بينما الجهاد يفقد مضمونه ويفقد شرعيته إذا لم يكن في سبيل الله» (كتابه: مواطنون لا ذميون، ٢١٨–٢٢٠).
وبغض النظر عن كون التعريف الهويدي يتضمن دعوة صارخة للتخلي عن مفهوم المواطنة والوطن، بتعارض مطالب الدين مع مطالب المواطنة، فإننا نتابع الاستماع إليه مستطردًا: «والإسلام لم يأمر أمته بالعدوان»! … بسيطة … ماذا يسمي هويدي ما فعله العرب الفاتحون؟ ما هو بالضبط؟ يستكمل هويدي: «ولم يأمر أمته بترويع الآمنين ولا بسلب مقدرات الآخرين ولا الاستعلاء عليهم قط!» (قط؟!) ألم يطالع هذا الرجل تاريخ أسلافه الكرام البررة؟ أم هو كاذب؟ والكذب شر بالضرورة، فما بالك إذا كان يكذب على أمته وعلى العالمين؟ يتابع الكذوب الشرير ليقول: إن «الجهاد في الإسلام شُرع لنشر الإسلام ونصرةً للحق ودفعًا للظلم وإقرارًا للعدل والسلام والأمن، وتمكينًا للرحمة التي أُرسلَ بها محمد للعالمين ليخرجهم من الظلمات إلى النور؛ لذلك هو فريضة شرعية»! لكن ألا يرى هويدي وفقًا لهذه المبادئ السامية فعلًا؛ الرفيعة حقًّا، أنه كان على العرب أن ينسحبوا من البلاد المفتوحة بعد أن أبلغوهم بالإسلام، أو أن يعلنوا ذلك على الأقل في أي كلمة أو نص أو حرف في مكتبتنا الإسلامية الهائلة، كما تعلن أمريكا عن ذلك بشأن العراق اليوم؟ حتى يتركوا أهالي البلاد المفتوحة أحرارًا حقًّا يحكمون بلادهم بأنفسهم؟ أم أن من ضرورات اكتمال الجهاد حيازة الأرض والبشر عبيدًا، والجزية وغلة خراج العبيد والسبي، ميراثًا لهم كابرًا عن كابر؟ وإذا كان الإسلام ونشره هو غرض الجهاد كما يقول، فلماذا لم يكن ذلك على بند كبار الصحابة في قمة اﻟ «١٧». إلى جوار بنود اقتسام الفريسة بأشد وأقسى وأبشع ما عرَف الناس على يد أي احتلال آخر بطول التاريخ؟ ولم يكن الجهاد الفاتح نشرًا للدعوة المكلف بها؛ لأن الدعوة لو كانت حاضرة حقًّا وراء تلك الفتوح، لرأى العالم من العرب فِعالًا تحببهم فيها وترغبهم في الدين الجديد، بالسير فيهم بالعدل والإحسان حتى يدخلوا فيه حبًّا وطوعًا لا كَرهًا.

هويدي يرى أن الجهاد هو تحرير البلاد، وهو ما يقوله المشتغلون بالإسلام للمؤمنين الذين اختاروا تسليم أوطانهم مقابل استلامهم الدين. لكن ألا يرى هويدي أن الفعل الذي تقوم به الجيوش المحاربة هو ما يحدد طبيعة الفعل العسكري ومسماه؟ مثلًا للتوضيح: ذهبت الجيوش المصرية وشاركت في حرب تحرير الكويت، وسُميت حربها هناك تحريرًا لأن القوات ذهبت وعادت، فماذا عن الجهاد المقدس؟ هل كانت الجيوش العربية جيوش تحرير أم غزو أم احتلال أم استعمار استيطاني أم هو إحلالي؟ أي اسم سيختار هويدي؟

العراق هذه الأيام هو هَمُّ الأستاذ هويدي الشاغل لأنه يرزح تحت نِير الاحتلال الأمريكي، لكن السؤال: هل العراق بذلك يكون تحت الاحتلال؟ الإجابة بالقطع هي نعم، لكن يأتي السؤال الثاني وهو: ماذا تفعل قوات الاحتلال هناك؟ هل تغزو؟ أم تستوطن؟ هل تم استقدام القبائل الأمريكية مع النساء، وهل أنزلوا العيالات القادمة من كاليفورنيا ونيويورك وشيكاغو في دورٍ فَرَّ أهلوها فزعًا بالنجف والفالوجة؟ أم أنها قد حررت العراق من الطاغية؟ هذا مع الإعلان الدائم أنها مهمة لها نهايتها وأن الجيوش ستعود إلى بلادها بعد استقرار الأوضاع. وفي ظل هذا الاحتلال العجيب الشأن بين ألوان الاحتلال عبر التاريخ، عاد الصوت العراقي مرة أخرى، وعاد شعبه المجيد يُسمِع صوته للدنيا سواء في مظاهرات دائبة، أو انتخابات حرة لم يحدث مثلها على أرض تلك الأوطان منذ الفتح العربي الميمون، تسمع الدنيا أن هنا شعبًا عريقًا وأن هنا حرية، إن الفعل هو ما يحدد الاسم وليس العكس.

إن سحب مفاهيم اليوم عن العدل والمساواة والحريات على تاريخ الإسلام هو ظلم لكليهما، والعدل هو تسمية الأشياء بأسمائها، دون تزويق لشأنٍ تعجِز كل مساحيق التجميل في الدنيا عن إخفاء تشوهاته وقبحه وبشاعاته. وإن ما فعلته قمة الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية يأتي بعد قرون متطاولة من التطور القِيَمي والأخلاقي والإنساني، بعد انتصار نموذج الدولة الديمقراطية العلمانية كأفضل نظام عالمي اليوم. لذلك عندما جلسوا لم يبحثوا في توزيع الأرضين، وغلة العبيد المخارَجين، وتوزيع النساء المَسْبِيَّات حتى يأتي الكاوبوي نصيبه من اللذة وهو مسترخ على مؤخرة حصانه في تكساس. كانت العلمانية الراقية هي سيدة الموقف منذ عصر التنوير؛ مما أمكنها أن تفرز رقيًّا ونبلًا وسموًّا وتحضرًا ما كان أن تفرزه أبدًا حضارة البداوة الفقيرة المدقعة حتى في مفاهيمها وطرق اجتماعها وتحضرها بالضرورة.

إن خلط أهل الدين بين الزمنين يضر بديننا ودنيانا؛ لأن اليوم غير الأمس، ولأن بوش أو بلير غير أبي بكر أو ابن الخطاب، رغم أن كلًّا منهم هو سيد زمانه، وأمريكا غير الحجاز والناس غير الناس، وكل شيء غير كل شيء؛ لذلك لا تشبه قمة الحلفاء ولا مستنداتها ولا جدول أعمالها ولا أهدافها قمة اﻟ «١٧» في شيء.

هويدي وأمثاله يقولون لنا: «إحنا بتوع الحرية» إسلامنا عدل وإخاء ومساواة، هو القيم الأولى والأخيرة الأزلية الأبدية، هو نهاية التاريخ، لا تسايره ولا تطاوله قيم أخرى، ناهيك أن تعلو عليه. لكنهم لا يوضحون لنا لماذا لم تكن هذه القيم معلومة لأصحابها من صحابة رسول الله؟ لأنها لو كانت معلومة ولم يفعلوها فإنهم يكونون قد خرجوا عن صحيح الدين، وإن لم تكن معلومة ولا من صحيح الدين يكون ذلك هو القول الأدق والأكثر عدلًا وحقًّا، ويكون هويدي كذابًا أشِرًا.

إن سادتنا اللاعبين بالإسلام علينا يرددون اليوم كلام روسو ومونتسكيو وفولتير، إنهم لا يرددون هنا كلام محمد والإسلام، إنما يرددون منتج الحداثة العلمانية لينسبوه للإسلام، ثم يكفِّرون به العلمانية! إن هذه المبادئ والقيم ليست من ثقافة العرب والمسلمين؛ لذلك لم تكن معلومة لديهم، حتى لا نظلمهم بادعائنا علمهم بها وتنكبهم سبلها؛ فهي لم تكن ضمن مخزونهم الثقافي «قط»، وهذه اﻟ «قط» هي الصدق غير الكذوب.

وانتهى اجتماع قمة اﻟ «١٧» دون إصدار أي تعليمات جديدة بالتوقف عن السلب والنهب والسبي والنكح بعد مدة محدودة مثلًا لكل جيش، حتى يتفرغ الفاتحون بعد الأكل والنكح، للدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويعفو الله عما سلف. بل انهمك الخليفة عمر بعدها مسافرًا في فيافي العُربان ومفاوز الصحاري بالجزيرة العربية، يحمل إليهم نفقاتهم (حقوقهم) وحظهم من الغنائم والفيء. كان عمر مخلصًا لبني عنصره وجلدته إخلاصًا عظيمًا مأجورًا عند الله، عطوفًا بهم رغم قسوته؛ لأنه كان عادلًا عدلًا بلا نظير، لكن هذا العدل كان قاصرًا على عنصر العرب ونوعهم وحدهم، كانوا هم الرعية. أما أهل البلاد المفتوحة فشعوبها لم تكن ضمن الرعية، إنهم كانوا فيء الرعية، إنهم كانوا يدفعون للرعية، ويعولونها.

في عام الرمادة شارك الخليفة عمر رعيته في جوعهم وشظف عيشهم حتى اسود وجهه من أكل الشعير الملتوت بالزيت. وكلمة عام تطلق هنا مجازًا لأنها كانت بضعة أشهر، فقد كتب عمر إلى ولاته وأمرائه على الأمصار طالبًا الغوث، فأرسل عمرو بن العاص قافلة من السوائم على ظهورها الخيرات من مصر إلى يثرب قائلًا: «أرسل لك قافلة أولها عندك وآخرها عندي». لكن عسر الطريق ومشقته كان يقضي في كل مرة على معظم السوائم عطشًا وجوعًا، فكتب عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر: إنه كان في مصر قناة تربط النيل بخليج السويس (القلزم حينذاك)، وأن القبط سدوه في حروبهم مع الروم، وأن فتحه سيؤدي لخروج خيرات مصر بالسفن من حقولها طازَجة إلى الحجاز، وهو — بقول عمرو بن العاص — ما يجعل سعرها بالحجاز مثل سعرها بمصر. ولكن هذا المشروع سيحتاج كل المصريين للسخرة فيه، وهو ما سيؤدي إلى خراب مساحات كبيرة من الأرض الزراعية بغياب اليد العاملة عنها، وأيضًا سيؤدي إلى كسر الخراج في الأعوام المقبلة.

«فكتب إليه عمر أن افعل وعجِّل في ذلك، فقال له أهل مصر: خراجك زاجٍ وأميرك راضٍ، فإن تم هذا، انكسر الخراج بسبب نقصان الإنتاج لانشغال الفلاحين في الحفر وإهدار الماء (النيل) في البحر. فكتب إلى عمر ذلك، وذكر فيه انكسار خراج مصر وخرابها، فقال له عمر في كتابه: اعمل وعجِّل فيه … أخرب الله مصر في عمران مدينة رسول الله وصلاحها» (الطبري … على اتفاق بين كتب التاريخ الإسلامي، كتاب التاريخ، بيروت، دار الكتب العلمية، مج٢، ص٥٠٩).

إن عمر بن الخطاب كان عادلًا صارمًا مؤمنًا صادقًا قوي الإيمان، ولم يجد في دينه وإيمانه ما يمنع من خراب مصر لصالح مدينة رسول الله؛ لأن الإنسان الذي يشكل مفهوم الرعية عند عمر هم عرب الجزيرة وحدهم، وفيما عدا ذلك هم مصدرٌ ومحلبٌ ومجلب، وربما لم يكونوا بشرًا؛ فهم لجلب المنافع، هم والسوائمُ واحد.

طريقة الفتوح نفسها تشير إلى هذه المعاني؛ فلم يتم إرسال كتب الهداية أو المبعوثين للدعوة والوعظ والإرشاد المتقدم قبل الفتح، ولا نجد في تاريخنا أي حكم أو دروس أو حجج قدمها المسلمون لأهل البلاد المفتوحة قبل أن يفتحوها ويسلبوها ويهتكوا عِرضها كعقوبة لعدم الاستجابة للدعوة. ولم يذكر لنا تاريخنا أي إشارة لأي مؤتمر بين الطرفين يناقش الأمر ليعلَن على الناس. كل ما نقرؤه حرق ودمار وهتك أعراض، في مفاجآت كارثية تأتي من خارج الحدود على أفراس العُربان مرددين صياحهم في خيبر: «إنا إذا نزلنا بساحة قوم … فساء صباح المنذَرين.»

أحيانًا تصيبك الدهشة من ذكاء مشايخ قنواتنا الفضائية الذين يؤكدون أن كل تلك الأموال المنهوبة، كانت تصب في النهاية في فوائضها في بيت المال للإنفاق في سبيل الله! وهو ما يعني أنه ما كان لأصحاب تلك الأموال الأصليين معرفة بالإنفاق، وأن العرب وحدهم هم من يعرفون كيف ينفقون، وعليهم جمع الأموال من أصحابها ليقوم العرب خبراء الإنفاق … بالإنفاق!

نبوءة النبي «والذي نفسي بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر وتنفقونها في سبيل الله»، تحققت مما يعني أن إنفاق غير العرب هو في غير سبيل الله، وهو الإنفاق الذي لم يعد على البلدان المفتوحة سوى بالذل والعبودية والخراب، وهو ما يعني أيضًا أن هويدي لا يرى حتى اليوم أن المسلم العراقي أو الشامي أو المصري أو المغربي أهل للإنفاق في سبيل الله؛ لأنها خبرة عربية قدسية قاصرة على العربي وحده.

مرة أخرى أعود فأؤكد أني لا أتهم هويدي بالجهل، بل بالتزوير الفاضح والكذب الشرير المَقيت على ناسه وأهله وبني ملته، وكذبه ليس أبيض بحال، بل هو كذب أسود حالك شديد الظلمة، والظلم، والعتمة، والزيف، والضلال. هو بيع للوطن في صفقة علنية لا تَخْزَى ولا تستحي … مع الشيطان.

١  سبق نشره على موقع الحوار المتمدن على حلقات بدءًا من تاريخ ٢٠٠٧/١/٣١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤