الفصل الثاني

١

كان الزحام شديدًا في المحطة رغم أننا كنا في الفجر. وكان الجوُّ يميل إلى الحرارة، فخلعتُ سُترتي وألقيتُها فوق ذراعي. ووقفتُ إلى جوار طفلة معها عدة حقائبَ مغلَقة في عناية وتتدلَّى من كل واحدةٍ بطاقةٌ تحمل الاسمَ والعنوان.

صَعِدنا إلى القطار. وسمعتُ المفتِّش يقول في أول العربة إن القطار سيتأخر عشرين دقيقة. أخرجتُ تَذكرتَي الذهاب والإياب ليراها. وأخرجَت امرأةٌ أربعينية تجلس أمامي تذكرتَها ومعها ورقةٌ مختومة. لعلها البطاقة المخفَّضة التي تمنحها النقابات.

خاطبَني وهو يقرضُ تذكرتي قائلًا: جوتا؟» ستُغير في إيرفورت. وأضاف كلمةً أخرى لم أتبيَّن منها غير رقم ٢ وكلمة تأخير. كانت عيناه شديدتَي الزرقة في وجهٍ باسم. ويُوجِّه لكل شخصٍ تعليقًا ضاحكًا. وخطر ببالي أنه سلوكٌ غريب، غير مألوف.
تأمَّلتُ المرأة الجالسة أمامي. كانت أربعينيةً ممتلئة في سُترةٍ حمراء اللون ولها يدان جميلتان بأظافرَ مشذَّبة في عناية. ولم يكن بإصبعها خاتم. وكان حذاؤها أبيض اللون فوقه جوربٌ به خطٌّ خفيف من التمزُّق، خصَّصَته في الغالب للسفر وستُبدِله عند الوصول. ومعها طفل، لعلَّه ابنها أو حفيدها، يُمسِك بمجلةٍ مصوَّرة على غلافها ميكي ماوس في رداء رعاة البقر، وفي حجره ترانزستور صغير الحجم (لعلَّها حصلَت عليه من قريبٍ لها في الغرب) طلبَت منه أن يخفض صوته. ثم نَشبَ بينهما خلافٌ عندما أرادت أن يظل المؤشِّر على محطَّة تأتي منها أغنية عن برلين. ناولتُه سندوتشًا صغيرًا، التهَمَه بسرعة، وتبقَّى غلافه الورقي في يده، فأرشَدَته إلى سلَّة المهملات المعدنية المعلَّقة بيننا تحت النافذة. رفع غطاءها وألقى داخلها بالغلاف. ومدَّت المرأة يدها إلى ركنٍ معين في حقيبتها فأخرجت كيسًا من النايلون بداخله مِنشفةٌ مُبلَّلة في حجم اليد مسحَت بها يدَيه. وأعادت المِنشَفة إلى الكيس، ثم طَوَته بعناية ووضعَتْه في نفس الركن من الحقيبة التي برَز منها رأس أرنب ذي عينَين زجاجيتَين ووبَرٍ أصفر.

فكَّرتُ في الاستفسار من المفتِّش عما إذا كان هناك تغييرٌ ما في خط السير، ثم عدَلتُ عن ذلك عندما تصوَّرتُ الصعوباتِ التي ستعترضني في اللغة.

حوَّلتُ اهتمامي إلى الأُسرة التي تجلس على المقاعد الموازية في الناحية الأخرى. تألَّفتْ من شقراءَ انهمكَت في طلاء أظافرها بلونٍ أحمرَ فاقع، ثم تحوَّلَت إلى طفلةٍ كبيرة في العاشرة من عمرها فقبَّلَتها وجذَبَت رأسها إلى حجرها. أما رفيقها فقد أمسكَ بكتابٍ قديم الغلاف وقرأ فيه صفحتَين ثم وضعه جانبًا.

كان وجه الشقراء جميلًا ذا بشرةٍ ناعمة بلا تجعيدةٍ واحدة. ومع ذلك كان في عينَيها نظرةٌ حادَّة وربما قاسية. وكان رفيقها ممتلئًا بلا ترهُّل، يرتدي قميصًا جديدًا وبزَّةً من القماش الاصطناعي اللامع.

تحرَّك القِطار ونهض الثلاثة واقفين. قالت المرأة للأخرى ذات السترة الحمراء إنهم ذاهبون إلى عربة الأكل ورجَتْها أن تأخذ بالها من المقاعد. رحَّبَت المرأة بهذه المهمَّة وأخذَت تستعرض حقائب الأُسرة والكتب التي تركوها على مسند النافذة.

في المحطة التالية صعدَت امرأةٌ شابة خلفها عجوزٌ نَشِطة، يشبه وجهُها الأسمر وجهَ فلاحٍ من الريف المصري مليئًا بالتجاعيد والغضون. وعلى الرصيف وقفَت شابَّةٌ تُعيد عليها بصوتٍ مرتفع قائمةَ توصياتٍ وتشكُرها على زيارتها. توقَّفَت العجوز أمام المقاعد الخالية فخاطبَتْها ذات السترة الحمراء في صرامة: المقاعدُ محجوزةٌ وأصحابها في عربة الطعام.

اعتذَرَت العجوز قائلة: إنتشولديجونج، «آسفة». ونغَّمَتها كما تفعل سيدات باب الشعرية في القاهرة عندما يقلن: «لا مؤاخذة يا أختي». وظلَّت المرأة تُكرِّر هذه العبارة كلما اقترب أحدٌ من المكان.
بعد عدة محطاتٍ وصلنا إيرفورت، وتركنا القطار إلى آخرَ ذاهبٍ إلى مدينة جوتا. وتجمَّع الركَّاب في زحامٍ شديد. كأن الجميع قرَّروا الذهاب إلى جوتا، أو إلى نهاية الخط في أيزناخ.

وقفنا ننتظر ومرَّت عشر دقائق، ثم أعلن ميكروفون شيئًا ما لم أتبيَّنه. وأسرع الواقفون بالجري إلى رصيف رقم واحد. وجاء القطار فركبناه، لكنه ظل في المحطة نصفَ ساعةٍ أخرى.

لمَحتُ على الجدار المقابل مُلصقَين في مستطيلَين خشبيَّين صغيرَين؛ الأول تتصدره ساعة وتحتها عبارة: عقد مع الزمن. والثاني لطاهٍ يحمل طبقًا مليئًا بالبطاطس وفوقه عبارة: ساعدوا فيتنام.
تحرَّك القطارُ أخيرًا، وظهر نفس المفتِّش الذي قرض تذكرتي في القطار السابق. كان ما زال باسمًا. وحدَّقتُ هذه المرة في عينَيه عميقتَي الزرقة. كانتا تبرقان في شيءٍ من الخبل. طلب من عجوزتَين جلسَتا بجواري أن تُرشِداني عندما نبلُغ جوتا. وجاذبَتْهما عجوزٌ أخرى تجلس أمامي الحديثَ بصوتٍ عالٍ سمعَتْه العربة كلها، قائلة إن الأوستزي، بحر البلطيق، لا يضارعه مكانٌ آخر لقضاء العطلات. وإنها ذهبَت إلى هناك عدة مرات. لكنها هذه المرةَ ذاهبةٌ إلى أيزناخ. وفتحَت كيسًا تحملُه وأخرجَت تفاحةً أخذَت تقضمها، ثم سألَت المرأة الجالسة أمامها عما إذا كانت من درسدن وأجابت هذه بالنفي، فقالت الأولى إنها نفسها من مكان بجوار دانزيج يتبع بولندا الآن. وأكَّدَت: داس إيست ماين هايمات، ذاك هو موطني. وكرَّرَت هذه العبارة عدَّة مرات.
من النافذة تخلَّت المصانع والطرق والغابات عن مكانها لحقولٍ خالية إلا من بضع بقراتٍ سوداء مبقَّعة ببقعٍ بيضاء. كنا في قلب ألمانيا الأخضر. وتأمَّلَت حقلًا من القمح الأصفر المتوهِّج تحت الشمس، وبجواره آخر يميل لونُه إلى الدُّكنة، مثل لون وبَر الجِمال ثم حقلٌ أخضر زاهٍ تصطَفُّ خلفه أشجارٌ داكنة الخضرة.
نزلتُ في مدينة جوتا، ووقفتُ حائرًا أمام باب المحطة في ميدانٍ صغيرٍ شديد الازدحام. لمحتُ شابًّا أصلع الرأس يقف جانبًا يُتابِع القادمين والرائحين. ووقعَت عيناه عليَّ فشَمِلتاني بدقة من أعلى إلى أسفل، ومرَّتا على حقيبتي، ثم عادت مرةً أخرى إلى شعري وملابسي قبل أن تتحوَّلا عني إلى غيري. كانت مهنتُه واضحة.
أجلتُ النظر حولي. لم يكن هناك غير سيارات الأجرة. وكان مسئول النقابة في الوكالة قد ذكر أن باصًا سيأخذني من محطة القطار إلى دار العطلات. وقعَت عيناي على باصٍ كبير من سيارات الرحلات ممتلئٍ بالجالسين. تحرَّكتُ نحوه في تردُّد. واقترب مني شابٌّ باسمٌ سألَني عمَّا إذا كنتُ ذاهبًا إلى تامباخ ديتار. أجبتُ بالإيجاب. قال في أدب: بيتاشين، تفضَّل.
صَعِدت إلى السيارة وجلستُ بجوار طفلة أخذَت تتأمَّلني طوال الوقت، وفي مقدمة السيارة وقف رجلٌ طويلٌ عريض ضاحك الوجه. قال مخاطبًا الجالسين عندما تحرَّك الباص: الحرارة شديدة في برلين. نيشت ظو؟ أليس كذلك؟
كانت المدينة الصغيرة تقع على سفح جبلٍ فيما يبدو، وشوارعها صاعدة هابطة مثل شوارع بيروت، لكنها ليست في مثل زحامها، ولا تسمع فيها صوتًا لسائقي سيارة التاكسي أو السرفيس المسرعين.

خرجنا بعد قليل من المدينة وما زال الطريق يصعد عاليًا ثم يهبط فجأةً ثم يُعاوِد الصعود. وامتد القلب الأخضر على جانبَي الطريق حتى الأفق. وبين الحين والآخر ظهَرَت مجموعة من السقوف المائلة المتجاورة لقريةٍ احتمَت بالأشجار.

وقفنا أخيرًا في مدخل منزلٍ صغير مكوَّن من طابقَين أشبه بفندقٍ متواضع في مدخله لافتةٌ تعلن عن: «دار السلام التابعة لهيئة السكة الحديد». تجمَّعنا في الردهة؛ وقدَّم لنا الرجل ذو الوجه الضاحك نفسه على أنه مدير الدار ويُدعى هاينر. عيَّنَ لنا غرفنا ثم قال إن طعام الغداء في الثانية عشرة. ولمحتُ شارةَ الحزب فوق ياقةِ سُترته.

صعِدتُ إلى حجرتي في الطابق الأول. نظيفة مريحة بسرير ومائدة ودولاب وحوض مياه ونافذتَين متجاورتَين تُطِلان على فِناءٍ صغير منحدر، أشبه بحديقة، تتناثر في أرجائه الأشجار والزهور وأرجوحةٌ للأطفال وأريكةٌ خشبية ثم بضع سيارات. وفي نهايته يبدو السقف الأحمر لمنزلٍ آخر.

٢

كانت الساعة الثانية عشرة إلا ربعًا، أو ثلاثة أرباع الاثنَي عشر كما يقول الألمان! لم أكن جائعًا، لكنِّي هبطتُ إلى صالة الطعام وأرشدني «الهر» هاينر إلى مائدتي. كانت في نهاية الصالة بجوار حائطٍ يحمل لوحة بالفحم لشخصٍ أصلع يتحدَّث مع مجموعة من الفلاحين. خِلتُها من صور لينين المعهودة. وتكرَّر نفس الشخص في لوحاتٍ مماثلة، مرةً مع البحارة ومرةً في حجرة أمام مكتب. وعندما اقتربتُ من اللوحة تبيَّنتُ أن الشخص ليس إلا أرنست تالمان الزعيم العمالي الشيوعي الذي أعدمه هتلر. وصوَّرَته لوحةٌ أخرى أمام مائدة في زنزانة وقد تحوَّل برأسٍ غاضب تجاه الباب الذي وقف الحارس أمامه وبجواره شخصٌ آخر يرتدي معطفًا وقبَّعة وهو يمسك بصحيفة في يده. وفي لوحةٍ ثالثة واجه تالمان مُحقِّقًا بوجهٍ شرير الملامح جالسًا خلف مكتبه، بينما وقف في الطريق بعضُ العمال يتابعون زعيمهم في أملٍ واضح، وتحت اللوحة عبارة «الكفاح الطبقي».

جلستُ إلى المائدة وتطلَّعتُ حولي. كان رفاق الباص يجلسون إلى الموائد الأخرى. ولاحظتُ أن أغلبهم متقدِّمون في العمر ويبدو عليهم الإرهاق. فكَّرتُ أن الدار لم تكن مغريةً بالنسبة للشبان.

انضم إلى مائدتي رجلٌ طويل القامة وامرأةٌ عجوزٌ خجول. كان يتكلَّم بصوتٍ جَهْوري وبلهجةِ عمالِ برلين فيقول إيك بدلًا من إيش. أثنى على طبقٍ من الخوخ وسط المائدة وقال إن برلين لم تعرفه منذ شهور. وكانت الأطباق المرصوصة معدَّة لخمسة أشخاص بينما كنا ثلاثةً فقط.
شرعَت العجوز توزِّع الحَسَاء الذي تألَّف من الأُرز والبازلاء والجزر وخضراواتٍ أخرى منها البطاطس بالطبع. راقبتُ يدها المعروقة وشفتَيها الجافَّتَين. وبدأ الجميع يحتسون في صمتٍ، ومصمص الرجل بشفتَيه قائلًا: جشمكت، طيِّب المذاق. نهَرتْه أمه بلطف ليخفض صوتَه الجَهْوري. وما لبث صوت الملاعق وهو يصطدم بالأطباق أن تردَّد متلاحقًا في سرعةٍ متزايدةٍ مع تلاشي الحَسَاء.

قدَّم لي الرجل طَبقًا من شرائح الخبز فتناولتُ واحدة. وكانت المائدة المجاورة لنا خالية رغم أن الطعام فوقها مُعَدٌّ. ولاحظتُ أنه لا يكاد يرفع نظره عن ساعتي الرقمية، النادرة هنا رغم رخص ثمنها.

انتهينا من أطباقنا فتبادلَت العجوز مع الرجل حديثًا هامسًا عن بقية الحَسَاء والمقعدَين الخاليَين، ثم شَرعَت تملأ طبقها في تردُّد، وعرضَت عليَّ طبقًا آخر فوافقتُ، بينما قال الرجل شيئًا عن أن الآخرَيْن لن يأتيا.

خاطبَتْني العجوز متسائلةً عن البلد الذي جئتُ منه. قلت: مصر. بدت مشدوهةً وسألَتني: هل أنت سائح؟ قلت: إني أعمل في برلين. قالت بصوتٍ امتزجَت فيه الدهشة بالزهو: عندنا؟ أومأتُ برأسي. وقدَّم لي رفيقها نفسه باسم هانز، وقال: إنه ميكانيكي في السكة الحديد من برلين والمرأة أمه.
سألَتني عن رأيي في الألمان، ودون أن تنتظره أضافت: الألمان شلشت، سيئون. ثم قالت: إنهم أجلافٌ خَشِنون، صخَّابون، متعصِّبون، لا يعرفون التسامح.
ظهر الهر هاينر مرةً أخرى ومعه امرأة متوسِّطة العمر في رداءٍ أبيض، وقف وسط القاعة وأشار إلى المرأة قائلًا إنها زوجتُه، وإنها تُشرِف على الطعام. كانت قصيرة تتكلَّف الوقار. وفي حاجبَيها المرسومَين بدقَّة شيءٌ من الاحمرار. وقال: إنه يتمنى لنا جميعًا إقامةً طيبة. وإن العَشاء في السادسة مساء، والباب الخارجي يُغلَق في الثامنة، ومن شاء أن يتأخر يأخذ مفتاحًا من لوحة المفاتيح.
شَعرتُ بالامتلاء، فلم أنتظر الأطباق التالية، وصَعِدتُ إلى غرفتي ونمتُ حتى الخامسة، ثم هبطتُ في السادسة تمامًا. وجدتُ القاعة حاشدةً بالآكلين والموائد بأطباق العَشَاء التي تتألَّف من شرائح الخبز والزبد والجبن والليبر فورست، نقانق مسحوق الكبد. وشَغلَ المائدة التي كانت خاليةً عند الغَداء ستةُ أشخاص.
كان بينهم رجلٌ يرتدي عُويناتٍ ملوَّنة وتهبط سوالفه حتى منتصف وجنتَيه، وله لحيةٌ قصيرة من طراز كارل ماركس. وجلس بجوار فتاةٍ رشيقة ذات شعرٍ أسود ووجهٍ شاحب وبشرةٍ لبنية. وكان أمامه شابٌّ آخر أسمر بعويناتٍ قاتمة وطفل وامرأةٌ ممتلئة، وتصوَّرتُ الرجل البدين فنَّانًا والفتاة عشيقته، وعندما قامت لتُحضِر شيئًا وجدتُها ترتدي رداءً قصيرًا للغاية ينتهي عند بداية فخذَيها، بل وتعترضه فتحةٌ جانبية.

اكتشفتُ بعد قليل أنهم مجموعتان منفصلتان. وتأكَّد الاكتشاف عندما ظهَرَت مشكلة اللغة بينهم؛ إذ أخرج الشابُّ قاموسًا واستعان به في حديثٍ متعثِّر مع البدين. وسمعتُ الأخير يسألُه عما إذا كان يتكلَّم الإنجليزية. وقلتُ إنه لا بد مصري أو عربي على أكثر تقدير. وكان هذا آخر ما أبغيه كي لا أتورَّط في أحاديثَ تقليديةٍ بلا معنى. لكنه تكشَّف عن مَجريٍّ مع زوجته القصيرة والبدينة المرحة، وابنهما.

كان هانز يجلس إلى جواري. ورأيتُه يربتُ على بطنه قائلًا إنه لا يفكِّر في مغادرة هذا المكان لأن الأكل جيد. أمَّنَت أمه على كلامه وقالت: أهمُّ شيءٍ هنا أن الطعام جيد، ولا نبذل جهدًا في إعداده أو في غسيل الأواني والمشاغل الأخرى كافَّة.
فرغتُ من الأكل فغادرتُ القاعة والتقيتُ الهر هاينر فسألَني عن جواز سفري. أعطيتُه بطاقة هُويَّتي، وتبعتُه إلى حجرته. سألتُه عما إذا كان لديه بيرة فأومأ بالإيجاب. وأشار إلى ركن مكتبه حيث تراصَّت صناديق البيرة. أعطاني زجاجةً من النوع القديم الذي تُغطِّيه سِدادةٌ خزفية مثبَّتة بحلقةٍ حديدية.
دفعتُ ثمنها، وأراني من النافذة موتوسيكل بمقعدٍ جانبي قائلًا إنه مِلكُه. وقال إن له هنا ستةَ أسابيعَ فقط وقبل ذلك كان يعمل في برلين. وأدركتُ سر الحيوية والابتسام الدائم لشخصٍ مُقبِل على مرحلةٍ جديدة من حياته — بعد فشل السابقة ربما — في مكانٍ وعملٍ جديدَين.

قال إنه درَس في الكلية الحربية، ثم عمل ضابطًا لمدة ثلاث سنوات، لكنَّ قلبَه وقدَمه أخرجاه من العمل، فاشتغل في مصنعِ لحامٍ لمدة عشر سنوات، وهي تكفي كي لا يُصاب في صدره أو عينَيه. أما زوجته فكانت تعمل سائقة ترامٍ وعملَت بعض الوقت في مطعم.

ولج الغرفة طفلٌ قدَّمه إليَّ على أنه ابنُه. وتتابع وصول أطفاله، فقدَّمَهم إليَّ في فخرِ مالكِ قطيعٍ جيد.

قال: أنصحُكَ بعدم الخروج لأننا سنُقيم حفلًا راقصًا.

سألتُه: كم نبعُد عن معسكر اعتقال بوخنفالد؟

أجاب: ليس أكثر من ساعة. يُمكِن أن ننظِّم زيارة له.

قلتُ: شكرًا. زرتُه بالفعل.

كِدتُ أصطدم بالبدين وفتاته عندما غادرتُ الغرفة. وقدَّم لي نفسه على أنه طبيب من مدينة كارل ماركس شتات يُدعى ميتز، وأن الفتاة ابنته وتُدعى هايدي.

خرجتُ إلى الحديقة وجلستُ فوق الأريكة وأشعلتُ سيجارة. وقمتُ بعد قليل إلى الداخل فوجدتُ الموائد قد وُضعَت في صفٍّ واحد بحيث تُركَت مساحةٌ واسعة من القاعة خالية.

جلس الجميع متقابلين على جانبَي الموائد. وفي ركن القاعة جلس رجلٌ قصير بعويناتٍ طبية بجوار طبلة وأكورديون. قلَّب صفحاتِ نوتةٍ موسيقيةٍ قديمة. ثم بدأ يعزف الأكورديون وهو يضرب الطبلة بقدمه.

جلس الطبيب إلى جواري بينما جلسَت ابنته أمامي إلى جوار هانز الميكانيكي. وكانت في رداءٍ أسود من جاكت وسروالٍ فضفاض. وبدأ المجريُّ الرقص بفراو هاينر ثم ثنَّاها برفيقته، ثم بألمانيةٍ بدينة.
سألَني الطبيب عن عملي، وما كنتُ أعملُه في بلدي، وعن المدة التي أنوي قضاءها في ألمانيا. وقام وأحضر عدة زجاجاتٍ من البيرة وزجاجة نبيذٍ روماني.

أخذ يشرب ويُلقي النكات ويمثِّلها. وضحكَت المجرية، ثم خلعَت حذاءها ورقصَت حافية القدمَين.

فرغ العازف الوحيد من كأسه فملأناه له مرةً ثانية. وأخذَته نوبة حماسٍ فجأة؛ فانطلق يغنِّي مع الموسيقى بصوتٍ أجشَّ ثم سكَت. ولم أكن أرفع عيني عن هايدي والميكانيكي إلا بصعوبة، وتابعتُهما يرقصان معًا وقد تعلَّقَت بكتفه المرتفعة بينما يهمس لها.

عندما عادا إلى مقعدَيهما تشجَّعتُ وقمتُ واقفًا وطلبتُها للرقص. نهضَت على الفور والتصقَت بي ودفعَت فخذها بين ساقيَّ.

تولَّت هي القيادة وتحرَّكنا سويًّا في بطء. سألتُها عن مهنتها فضحكَت وقالت: أنا ما زلتُ في المدرسة.

بدَت عليَّ الدهشة فقالت: ماذا كنتَ تظُن؟ أنا عندي ١٨ سنة.

قلتُ: ظننتُكَ في البداية عشيقةَ الطبيب.

ضحكَت، فسألتُها: لديك بوي فريند طبعًا؟

قالت: ليس هناك واحدٌ مخصوص.

أضافت: أنا أومن بعدَم الزواج، وبألا تقتصر علاقاتي على رجلٍ واحد.

التصَق خدِّي بخدِّها بينما ضمَّتنا جدائلُ شعرِها الطويل. أبعدَت وجهَها وتطلَّعَت إليَّ. سألَتني: ما لون عينيَّ؟

تأملتُ عينَيها، فدفعَت رأسها إلى الوراء، وحدَّقَت فيَّ باسمة.

قلتُ: مزيجٌ من اللونَين الأخضر والبني. واستقرَّت عيناي على شفتها السفلى الممتلئة.

انتهت الرقصة، فعُدنا إلى مقعدَينا. وبدأَت الرقصة التالية، فنهضتُ واقفًا لأطلبها من جديد. لكن هانز سبقَني إليها. وفي المرة الثالثة اعتذَرَت بأنها شربَت كثيرًا وبدأ رأسها يدور. جلستُ أرقُبها وهي منهمكة في الحديث مع هانز. سمعتُه يذكُر لها رقم حجرته وهي تذكُر رقم حجرتها ورقم حجرة أبيها، وكان أبوها يرقص الآن مع إحدى الطاهيات الشابَّات، التي زيَّنَت شعرها خصوصًا للمناسبة. وجلسَت فراو هاينر بمفردها منتصبة القامة راسمةً ابتسامة على شفتَيها، ثم قامت وطلبَتْنى لأرقص معها. دُرتُ معها في القاعة وأنا أتطلَّع إلى وجهها. وقلتُ لها معتذرًا إني لا أُجيد الرقص؛ ولهذا لم أطلُبها.
صاح العازف الوحيد فجأةً قائلًا بضع كلماتٍ كأنما يخطُب، ثم شرع يعزف ويغنِّي في نفس الوقت وعقَدنا جميعًا سواعدَنا ووقفنا نتمايل ونحن نغنِّي معه. كانت فراو هاينر على يميني وبجوارها أم هانز، ثم المجري وزوجته ثم هانز وهايدي. وإلى يساري كان أبوها. وكانت الأغنية جميلة وكنا نتمايل ضاحكين، وامتلأ وجه العجوز بالدماء، ولمعَت عيناها، واشتقتُ أن أُقبِّل الجميع.

٣

في الصباح استيقظتُ في السادسة على ضجَّة الأطفال. وجاءني صوت هانز الجَهْوري الذي كانت غرفته فوقي مباشرة. وفي الثامنة نزلتُ إلى المطعم فوجدتُ هانز مع الطبيب. سمعتُه يقول للطبيب: إن لديه ثلاث تذاكر لحفلةٍ راقصة في نادي البلدة. سألَه: هل يمكن أن آخذ هايدي معي لأن زوجتي لم تأتِ بعدُ.

التفت الطبيب إليها قائلًا: لا أعرف إذا كانت ترغب في الذهاب.

قالت: لا أظن أني سأذهب.

أشار الطبيب إليَّ قائلًا: لماذا لا تأخذُه معك؟

ضحِكتُ. قال هانز: على العموم هناك فيلمٌ بوليسي في التليفزيون الساعة العاشرة ليلًا.

بعد الإفطار جلستُ أقرأ في الحديقة، اقتربَت مني طفلة وطلبَت أن أضعها فوق المرجيحة وأهزَّها، وفعلتُ عدة مرات ثم قلتُ: هذا يكفي. فوقفَت واجمة.

أقبل الطبيب مع ابنته وهانز. واقترح الأخير أن نقوم بجولة في عربةِ جيادٍ لمدة خمس ساعات. قالت هايدي إنها لا تريد. وأيدتُها في الرفض. كانت قد جلسَت إلى جواري وأرَتْني صورًا لها في غابة، وفي برلين. وكانت في نفس الرداء القصير، وفي أعلى فخذها ظهر جرحٌ صغير غطَّته بشريطٍ لاصق. وقالت: عندي صورةٌ عارية لي.

عرض عليَّ أبوها أن أُرافقَها إلى حمَّام السباحة بعد الغداء، لكني اعتذرتُ مُفضِّلًا نوم القيلولة.

استقلَّ الطبيب وابنتُه سيارته الفارتبورج الواجن البيضاء. وغادر هانز الحديقة إلى الشارع. وبقيتُ بمفردي.
صَعِدتُ بعد قليل إلى غرفتي، ووقفتُ في النافذة. أحضرتُ الكاميرا وجهاز قياس الضوء. كان المجري يتشمَّس. واقترب منه الهر هاينر مهرولًا وبطنه يهتزُّ أمامه. شكا له من شيءٍ فعلَه ابنه. وعنَّف المجري طفله ثم قال إن اسم الطفل أندروش، واسمه هو أندروش واسم أبيه أندروش أيضًا. التقطتُ لهم صورة ثم أعدتُ الكاميرا مكانها.

نزلتُ مرة أخرى حاملًا الكاميرا. انتحيتُ جانبًا قصيًّا من الحديقة. وعلى مقعدٍ هزَّاز جلسَت امرأةٌ بدينةٌ ذات عويناتٍ بجوار زوجها الذي كان يقرأ. وأخذَت تُداعِبه حائلةً بينه وبين القراءة، فصاح فيها ضاحكًا أن تتركَه. لمحَتْني من بعيدٍ أنظُر إليها وأرفع الكاميرا نحوها فغطَّت ساقَيها.

تطلَّعتُ إلى الساعة. عشر دقائقَ على موعد الغداء.

دقَّ جرسُ الطعامِ فغادرتُ الحديقة إلى المطعم في غيرِ حماس. كان هناك طبقٌ من الطماطم، بدأتُ بها بينما تركَها زملاء المائدة إلى النهاية باعتبارها — بسبب ندرتها — من الفواكه.

اقترح هانز بعد الأكل أن نخرج إلى الغابة، فوافق الطبيب وهايدي. وخرجتُ معهم. هبطنا الطريق المنحدر ثم اتجهنا يمينًا. المنازل متلاصقة ومن نفس الطراز، ولا أحد في نوافذها غير عجوزٍ تطلَّع إلى شعر رأسي المجعَّد بدهشةٍ شديدة.

امتدَّ الطريق صاعدًا إلى هضبةٍ انتشرَت فوقها أشجار البلُّوط الكثيفة. شَقَقنا طريقنا بين أشجار التوت البري. انتقيتُ ثمرةً تلاصقَت فصوصُها الدقيقة في قلبٍ دائري مجوَّف ومدبَّب الطرف. فتحتُها فانبثَق منها سائلٌ أحمر اللون كالدم.

أصبحنا وسط غابةٍ من الأشجار الإبرية التي تنتصب في رشاقة، قوية سمراء، مستقيمة الساق، عارية من الأوراق، تنطلق منها الفروع القصيرة الجرداء. كانت قاعدةُ كل شجرة مُتشبِّثة بالأرض في قوة كقبضةِ يدٍ هائلة. التقطتُ لها عدة صور.

وقفنا على حافة الهضبة وتحتنا جرى جدولٌ صغيرٌ في هدوءٍ ولم يكن هناك أحد غيرنا. وصاح الطبيب: «إيهوووه». وجاء رجع الصدى. قال هانز: إن الأطفال يلعبون الهنود الحمر هنا. واقترح أن نصعد الهضبة الثانية، وكانت أقدامنا تتلمَّس فروع الأشجار الميتة التي دُفنَت في الأرض وتحوَّلَت إلى ما يُشبه الدرَج.
عندما عُدنا توقَّفنا أمام حانوتٍ صغير، واشتريتُ بطاقتَي بريد وأنا أفكِّر في برينبك وإنجمار اللذَين طلبا أن أكتب لهما. في الغرفة كتبتُ الاسمَين والعنوانَين، ثم تركتُ البطاقتَين على الطاولة دون أن أكتب شيئًا. تمدَّدتُ على الفراش وأغمضتُ عينيَّ.
قمتُ بعد قليلٍ وغادرتُ الغرفة. خرجتُ إلى الطريق ومررتُ ﺑ الكونسوم، مجمع البقالة والخضراوات التعاوني، ثم سِرتُ في الشارع الرئيسي المرصوف. شاهدتُ تجمُّعًا من الشباب أمام النادي، حيث يُعرَض فيلمٌ تاريخي من إنتاجٍ فرنسيٍّ إيطالي إسباني مشترك.

دُرتُ عائدًا من طريقٍ آخر أسفل نظراتٍ فاحصة من الشبَّان والعواجيز. وسمعتُ واحدةً تقول شيئًا عن شعري المجعَّد. صَعِدتُ الطريق إلى الدار. وكان المجريُّ وزوجته قادمَين في اتجاهي مع عاملٍ شابٍّ مليء بالحيوية؛ ذكَّرني بالشبَّان الصغار الذين يلعبون الكرة ويتشاجرون ويقودون مجموعاتهم. قالوا إنهم ذاهبون لشراء آيس كريم، ودعوني للذهاب معهم فاعتذرتُ. مشيتُ أتساءل إذا لم يكن من الأفضل الذهاب معهم، لكني واصلتُ السير حتى الدار.

صعدتُ إلى غرفتي، ثم نزلتُ مرةً أخرى، ودخلتُ قاعة الطعام. تناولتُ طعام العشاء ثم انتقل الجميع إلى حجرة التليفزيون.

كان الإرسال مقتصرًا بالطبع على تليفزيون ألمانيا الشرقية. تفرَّجتُ قليلًا على نشرة أخبار، تَبِعها برنامجٌ لمشروعات العطلة الصيفية، ثم غادرتُ القاعة إلى غرفتي. أشعلتُ الضوء وجلستُ أمام المائدة في مواجهة الحائط.
سمعتُ بعد لحظاتٍ صوتَ المجري في الحديقة أسفل النافذة مع هانز. وكان يردِّد في بطءٍ الأرقام وأسماء الأيام بالألمانية.

أخذتُ كأسًا من زجاجة البراندي التي جلبتُها معي ثم أشعلتُ سيجارة. وبعد قليلٍ أطفأتُ النور وغادرتُ الحجرة إلى أسفل.

كان المجري يقف مع آخرين عند المدخل، وجذَبَني من ذراعي لأقف معهم. وكانوا يتحدَّثون عن تشيكوسلوفاكيا. أراد المجري أن يقول شيئًا لكنه لم يجد الكلمات، فأخرج قاموسًا وكان يحاول أن يصف ما فعله المتمردون في بودابست سنة ١٩٥٦، ثم حاول أن يذكُر شيئًا عن دخول قوات حلف «وارسو» إليها، فوصف بيده مجيء السيارات والدبَّابات من كل الجهات، ثم قال: تشيكوسلوفاكيا شلشت، سيئة.
لم أفهم ماذا يعني. العهد الاشتراكي القديم أم حركة دوبشيك الإصلاحية، أم العهد الحالي وهوساك؟ لكن هانز شرح بالألمانية لزوجته ولمهندسٍ بدين أنه يعني دوبشيك. وعَلَت وجه المهندس ابتسامةٌ راضية وهزَّ رأسه في اعتداد؛ فكل شيء الآن تمام، وما حدَث من تدخُّل كان صوابًا. وهزَّت المرأة رأسَها قائلة: ناتورليش، «بالطبع». وقال هانز إن الطلبة هم السبب؛ فهم في موسكو وبراغ وبودابست ووارسو وبرلين متخلِّفون لا يقرءون. وهزَّ المهندس رأسه مؤمِّنًا.
تركتُهم وولجتُ الردهة الخالية. ثم عبَرتُ قاعة الطعام إلى حجرة التليفزيون. جلستُ خلف الطبيب وهايدي. وجعلنا نتحرك في مقاعدنا قلقين حتى بدأَت نشرة الأخبار في العاشرة إلا الربع. وكانت هي نفسها التي سمعتُها من قبلُ مع تغييرٍ بسيط.
بدأ برنامج السهرة عن عائلتَين في الاستوديو تمُرَّان بسلسلةٍ من الاختبارات وتستمعان إلى مقطوعةٍ موسيقية ثم تتلقَّيان جوائز. قدَّمَت إحداهما تمثيليةً عما يجري في مكاتب السفر بين امرأةٍ عصبيةٍ ملحاحة وموظَّفٍ مرهق. ضحك الجميع عندما هدَّدَته بأن تحضر زوجها الذي يشغل منصبًا مهمًّا؛ بائع في كونسوم.
ومثَّلَت العائلة الثانية الاستعداد لسفر العطلة، فأخذَت تُعِد الحقائب وتشحنُها بكل الأشياء؛ أوزَّة كبيرة ومَرتَبة، ريكوردر وقناع غطس وملابس وكتب وأوراق. وضعَها رب الأسرة بصعوبة في مؤخرة سيارة ترابانت. وعندما انطلَق أخيرًا بالسيارة تطايَرَت من النوافذ. انتهت الأخبار في العاشرة والنصف واستعدَدْنا للفيلم، وإذ بالمذيعة تُعلِن عن التعليق السياسي المحتوم ﻟ فون شنيتزلر فتصاعدَت صيحات استنكار من هانز والعمال الشبَّان. وتحدَّث المعلِّق بسرعة كي يخفِّف من وقع المفاجأة، وردَّد نفس المقتطفات من تصريحات زعماء ألمانيا الغربية التي سمعناها من قبلُ مرتَين. وعندما قال: إننا نكافح ونعمل. أكمل معه هانز في سخرية: «ونبني الاشتراكية».

استمَر التعليق مدة ربع ساعة، ثم ظهرَت المذيعة، وفي هدوء وبطء أعلنَت عن الفيلم البوليسي وتمنَّت للمشاهدين سهرةً لطيفة، ثم تنحَّت ليبدأ الفيلم.

كان الفيلم بلغاريًّا شديد السذاجة، فغادرتُ القاعة بعد قليل وصعِدتُ إلى غرفتي.

٤

دقَّت أجراس الكنائس وظهر الجميع بملابسَ زاهيةٍ احتفاءً بيوم الأحد. وكانت الصحف تحمل في صفحاتها الأولى نصَّ خطابِ أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب، في اجتماعٍ عُقِد في مدينة أيزناخ القريبة، بمناسبة مرور مائة سنة على تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي بها.
انتابَني ألمٌ في معدتي بعد الإفطار فبقيتُ في غرفتي. قرأتُ قليلًا، ثم وقفتُ في النافذة. ظهَرَت هايدي في ثوب استحمامٍ بكيني واستلقت على العشب مُعرِّضة جسمها للشمس وأغلقَت عينَيها. كانت في مواجهتي تمامًا. طافت عيناي بجسدها الرخص الذي بدا خاليًا من العظام.

أسرعتُ بإحضار الكاميرا. ضبطتُها على درجة الضوء. التقطتُ لها صورة وانتظرتُ.

رأيتُها تفتح عينَيها ثم تنظر مباشرةُ إلى نافذتي فابتعدتُ عنها بسرعة.

دق جرسُ الطعام الساعة ١٢ ونصف، وجاءني صوت هانز الجَهْوري من خلف الباب يسألُني: ستأتي؟

فتحتُ الباب وأنا أقول: لا. أنا متعبٌ قليلًا.

قال: الطعام رائع. بلوم كوله، قرنبيط، ونبيذ.

أصررتُ على الرفض متذرعًا بمعدتي.

انصرف ونمتُ ثم استيقظتُ وهبطتُ إلى الردهة. لمحَني الهر هاينر من غرفته فصاح بي: أين كنت؟ ضاعت عليك كعكة الأحد.
جلستُ في الحديقة بعض الوقت حتى حان موعد العشاء. وبدا هانز مكتئبًا على مائدة العشاء وهو يُحدِّق أمامه في شرود.

استعلمتُ عن زوجته. قال: إنها لم تأتِ بعدُ. وقال: إنها تعمل في مختبرٍ كيميائي.

أكلتُ قليلًا ثم غادرتُ المطعم. ودعاني الهر إلى مكتبه. جلستُ أمامه أستمع إلى أغنية من الراديو. وأخرج قدَّاحةَ غازٍ سوداءَ في حجم الإصبع وسيجارًا أشعله وهو يقول: قدَّاحةٌ غربية، هديَّة من المجري. وهَزَّ القدَّاحة في يده وقرَّبها من أذنه، ثم وضعها أمامه على المكتب وواصَل النظر إليها.

كانت الأغنية تُدعى «ذات ليلةٍ طويلة قبَّلتَني». وكنتُ أحب هذه الأغنية. أطرقت برأسي مستغرقًا في الإنصات. ولاحظ ذلك فقال: أغنيةٌ جميلة. وطلب مني أن أرفع من صوت الراديو فرفعتُه قليلًا، فطلب أن أرفعه أكثر، فرفعتُه إلى الدرجة القصوى. صاح وهو يُعلي صوته على صوت الراديو لأسمعه: أنا أبحث الآن عن سيستم، نظام لهذه البطاقات.
أشار إلى بطاقاتٍ عديدة أمامه وهزَّ رأسه قائلًا: لا بد من التفكير. كل شيء يجب أن يكون بسيستم. قلتُ: ربما أوحت له الموسيقى بالفكرة. فأمَّنَ ضاحكًا وهو يتراجع إلى الخلف ويربتُ بيده على كرشه. ولاحظتُ أن قسماتِ وجهه تتقارب عند العينَين والفم عندما يضحك فيبدو مثل هاردي، أحد ثنائي لوريل وهاردي.
خرجتُ إلى الردهة فالتقيتُ زوجته على السلم. سألَتني عن معدتي. وجاء هانز خلفها في قميصٍ جديدٍ ملوَّن. دعاني إلى مرافقته إلى حفلٍ موسيقي فأخذتُ البلوفر وغادرنا الدار. هبطنا إلى الطريق، أشار إلى فتاة في نافذةٍ وغمز لها بعينه وصاح: كومست ميت؟ تأتين معنا؟ ضحكَت الفتاة وواصلنا السير إلى الميدان.

التقَينا المجري وزوجتَه فسألناهما عن مكان الحفل الموسيقي، أشارا إلى نهاية الشارع.

وجدنا المكان في الرات هاوس، دار البلدية. وهو مبنًى حديث. دخلنا إلى قاعةٍ واسعةٍ جيدة الإضاءة. جلسنا فوق مقاعدَ خشبية خلف صفٍّ من البولنديين لوَّحَت الشمس وجوههم. قال هانز: إن الفرقة التي ستعزف ممتازةٌ رغم أنها من فِرَق الأقاليم.
ظهَرَت الفرقة مكوَّنةً من فتاتَين وأربعة شبَّان. بدءوا يعزفون مارشاتٍ موسيقية، ثم غنَّت فتاة مع شابٍّ أغاني من نوع: «غابة تورينجيا كم هي جميلة!» ثم قدَّما فاصلًا من النكات.

كان العازفون أربعة؛ الفتاة الأخرى على جيتار، وشابٌّ وسيمٌ أحمر الوجه على ماندولين، وآخر بدينٌ أسمر على آلةٍ كالقانون، ورابع على الأكورديون. وكان عازف الماندولين يقف في الخلف ويُحاوِر عازف القانون. وبينما كانت فتاة الجيتار تغنِّي بصوتٍ جافٍّ تُحاوِل أن تجعله عاطفيًّا أغنية عن مزايا السفر، ضحك عازف الماندولين فجأةً بصوتٍ عالٍ. واستعاد العازف الشابُّ جمود وجهه وجعل يعزف بهدوء كأنَّ شيئًا لم يحدُث. ثم فجأةً غمز بعينه وضحك أحد الجالسين وسرعان ما ضحك الجميع.

ومنذ هذه اللحظة أصبح انتباهُنا كلُّه مركَّزًا على عازف الماندولين، الذي كانت تعابيرُ وجهه تسخر من الأغاني ومن الموسيقى ومن الجالسين الذين استمتَعوا بالأمر.

غادرنا القاعة في التاسعة والنصف. واقترح هانز أن نشرب بيرة. وجدنا جاست شتيته، مطعم صغير، في نفس مبنى القاعة، لكنها مزدحمةٌ إلى أقصاها. فغادرنا المبنى وعبَرنا من أمام فندق واتجهنا إلى اليسار، وقال إنه شهد هذا الصباح امرأةً رائعة الجمال في المنزل رقم ٤٥ بنفس الشارع. جعلنا نعُد أرقام المنازل حتى وصلنا إليه. وكانت نافذته مضاءة والستائر مُسدَلة، وواجهة المنزل تغطِّيها قشورٌ خشبية متلاصقة. مرَرنا من أمامه وعثَرنا على مشربٍ قديم بعض الشيء فدخلناه، ولم نجد مكانًا خاليًا. لكن النادلة قالت إننا نستطيع أن نشرب واقفين. شربنا دورَين من بيرة سيمبول. وعُدنا إلى الدار لنتفرَّج على التليفزيون. لكننا وجدناها غارقةً في الظلام الذي شملَ غرفة التليفزيون. قال: نذهب لنشرب كوبَين من البيرة وسأدفع أنا. أخذنا مفتاح الباب الخارجي من جديد وخرجنا.

سألَني عما إذا كنتُ مُتزوجًا فقلتُ: لا.

قال ضاحكًا: عندكَ صديقةٌ ألمانية في برلين طبعًا.

قلتُ: طبعًا.

– ولماذا لم تأتِ معك؟

قلتُ: تعارفنا بعد أن حجز كلٌّ منا للعطلة ولم نتمكَّن من التغيير.

قال: وكيف هي المرأة المصرية؟ أعتقد أنها تنضج بسرعة وتنتهي أيضًا بسرعة. شرد لحظةً ثم قال: إن نساء براغ رائعات، وإنه ذهب إلى هناك عدة مرات، واقترح أن نذهب سويًّا في نهاية أسبوع.

هبطنا الشارع من جديد وولجنا الفندق. كانت هناك عدة قاعاتٍ مليئة بالجالسين. اتجهنا إلى اليسار وكانت هناك مائدةٌ حولها ستة رجالٍ في قمصانٍ بيضاءَ بأكمامٍ قصيرة وأمامهم عشراتٌ من أكواب البيرة. وإلى مائدةٍ أخرى جلس عدة شبَّانٍ يشربون في صخب. وكان أحدهم يُحاوِل أن يُثبِت أنه يستطيع بحركةٍ من إصبعه أن يرفع صندوق الثقاب في الهواء ويتركَه يهبط على ناحيةٍ معيَّنة.

جلسنا إلى مائدة بجوار رجل وامرأة متقدمَين في السن. وكان الرجل يُدخِّن سيجارًا رخيصًا، والمرأة تُدير كوبًا من البيرة في يدها صامتة. وكانت النادلة ممتلئة لوَّحَت الشمس بشرتها وارتفع شعرها عاليًا فوق رأسها وتتحرك بنشاط، وقد قطَّبَت حاجبَيها، وتتطلَّع كل لحظة في ضيق إلى ساعة الحائط التي أشارت إلى العاشرة والربع.

أحضرَت لنا كوبَين كبيرَين من البيرة. وشعرتُ بالبرد فلبستُ البلوفر. وضعتُ علبة سجائري على المائدة وقدَّمتُ لهانز سيجارة. شربنا ونحن نُردِّد: بروسيت، صحتك.

تطلَّع حوله وقال: هذا المكان لا ينفعنا. وسأل جيراننا عمَّا إذا كان هناك مشربٌ آخر في الناحية. وقال الرجل إنه لا يعرف لأنه ليس من هنا وإنما يقضي العطلة مثلنا. كان يبدو عاملًا والمرأة بدينة بعينَين صغيرتَين وترتدي فستانًا ملوَّنًا وأصابعُ يدها منتفخة تكاد تغطِّي خاتم الزواج. وثبَّت الرجل نظراته على وجهي. توقَّعتُ أن يسألَني عن بلدي لكنه لم يفعل. أخرجَت امرأته من حقيبةِ قشٍّ مفتوحةٍ خارطةً لدُور العطلات ومحلات الشراب والطعام بالبلدة. واكتشفنا أننا رأينا كل الأماكن عدا مكانٍ في نهاية الشارع الذي به الفندق يبعُد نصف ساعة من السير.

غادرنا الفندق وانطلَقنا في الشارع. مرَرنا ﺑ الراتهاوس؛ فاقتَرح أن نُلقي نظرة على المشرب، فربما وجدنا مكانًا. صعدنا الدرَج الخارجي ثم دفَعنا باب المشرب وكانت أغلب مقاعده الآن خالية، فاتجهنا إلى مائدة في الوسط وجلسنا. ولمَحَ آلة الأسطوانات فقام وأخرج عُملتَين، ومرَّ بإصبعه على أسماء الأغاني الموجودة، ثم اختار واحدةً ووضَع العملتَين. وضغط زِرَّين ثم زِرًّا أخضر وجلس. تابعتُ صفَّ الأسطوانات وهي تتحرَّك في بطء حتى نهاية المجرى ثم تعود وتتوقَّف، ثم ترتفعُ منها الأسطوانة التي طلبناها.

طلبنا بيرة. وكان هناك زوجان شابَّان رأيناهما في الحفل الموسيقي. وإلى مائدةٍ أخرى جلَس ثلاثة شبان. ما لبثَ اثنان منهما أن قاما وتركا الثالث الذي كان في كامل ملابسه. وقام الزوجان بعد أن ظلَّا مدةً طويلة صامتَين. وكانت المرأة جميلةً بأسنانٍ بارزة وبشرةٍ مشمَّسة ورداءٍ أحمر وتواليت كامل. وظل خلفنا شابٌّ أحاط فتاةً شقراء كالحمامة بذراعه.

تطلَّع هانز إلى الفتاة، ثم قام واختار أغنيةً اسمها «خسارة أنك متزوجة». وعندما بدأَت الأغنية أنصتَت الفتاة في اهتمامٍ لتتبيَّنها. وقام صديقها إلى الآلة، واختار أغنية اسمها: «قل لي كم عمرك». وعاد إلى مقعده وأحاط الفتاة بذراعه.
سألتُ هانز عن عمره فقال ست وثلاثين. كنا نحن الأربعة بمفردنا في القاعة، فضلًا عن الشاب الوحيد الذي جلس بعيدًا يهزُّ رأسه مخمورًا. ودخل رجلٌ يشبه الأوِزَّة بقميص وبنطلون، وامرأة تبدو أكبر منه في السن بكثير، شاحبة البشرة، بعينَين زائغتَين من تأثير الشراب، وجلَسا إلى المائدة المجاورة.
مال عليَّ هانز قائلًا: يجب أن نلتقي في برلين.
قلت: بيشتمت، أكيد.

قال: نستطيع أن نذهب سويًّا إلى أماكنَ كثيرة.

سألَني إن كنتُ ذهبتُ إلى هاوس برلين، دار برلين.

أجبتُ بالنفي.

مصمص بشفتَيه وقال: النساء هناك رائعات.

سألني عن أماكن شارع فريدريش شتراسه: الكازينو ومرقص التليفونات. قلتُ إني ذهبتُ هناك مرة، وتُوجد نساءٌ كثيرات يَجرين وراء النقود.

قال: بالطبع عندما يرونَ أنكَ أجنبي.

ومال عليَّ وهمس: في براغ دفعت خمسين ماركًا؛ أي مائتي كورونا. يا لنساءِ براغ!
ثم ارتفَع صوته: يجب أن نلتقي في برلين. يمكنكَ أن تخرج مع زوجتي.

قلتُ: زوجتك؟

رسم بيدَيه في الهواء الصدر والأرداف، وقال: إنها جميلة. للأسف لن تنضم إلينا هنا.

سألتُ: لماذا؟

قال: إنها تذهب مع البروفيسور الذي تعمل معه. ربما عندما أعودُ آخذُ حقائبي وأتركها.

فكَّر قليلًا ثم قال: لكن المشكلة في النقود. إذا انفصلنا فسأدفع مائة وثمانين ماركًا كل شهر نفقةً لطفلَينا.
قامت المرأة الشاحبة البشرة، وحاولَت أن تطلُب أغنية، وكانت تتمايل عاجزةً عن استخدام الآلة، والتفتَت نحونا طالبةً مساعدتها. هَبَّ هانز بقامته الطويلة وانحنَى على الآلة، وقالت المرأة شيئًا عن طفلَيها.
سأل هانز: طفلان؟ ممن؟

أشارت إلى الرجل الأوِزَّة، وقالت: منه.

صاح الرجل: هذا ما تزعمه. وانفجر ضاحكًا وهو يخبط المائدة بقبضته.

سأله هانز: من أين؟ ذكَر الرجل اسم مدينة، فقال هانز: لم أسمع عنها قط.
ثار الرجل ومضى يذكُر أسماء عدة مدن، وهانز يهزُّ رأسه في كل مرة، والرجل يقول إن مدينته زهرة هذه المدن وجميعها تقع في محافظة نوية براندنبورج.
قلَّد هانز لهجته في الكلام قائلًا: هؤلاء الناسُ لا يمكن فهم كلامهم. وأخرج من جيبه عُملتَين وضعهما فوق المائدة. ثم قام فاختار أغنيةً وضغط أزرار الآلة عدة مراتٍ دون أن تستجيب. وأشارت الفتاة الحمامة إلى سطح مائدتنا، حيث استقرَّت العملتان ونسي هانز أن يأخذهما.
ضحك فتاها وضحكتُ أنا أيضًا. وجَّه إليَّ الحديث متسائلًا: يو سبيك إنجليش؟ تتكلَّم الإنجليزية؟

سألتُه بدوري: تَعرفُها؟

قال: قليلًا.

سألتُه بالألمانية عما يفعل، فأصَر أن يرُدَّ بالإنجليزية، ولم أفهم سوى أنه يعمل في مؤسسةٍ ما في لايبزيج. وقالت الفتاة إنها من برلين.
سألها هانز من أي مكان، قالت: فايزنسيه.

قال لي هامسًا: ثلاث دقائق بالموتوسيكل بيني وبينها.

صمَت لحظاتٍ ثم قال: العرب نشطون. هل تفضِّل الشقراوات أم السمراوات؟

تذكَّرتُ شعر هايدي الأسود فقلتُ: الشقراوات بالطبع.
قال: هايدي هبشة فراولين، آنسة جميلة.
قلت: فراو، سيدة.

مال عليَّ وسألَني شيئًا فلم أفهم. وكرَّر: أتعتقد هذا؟ ووضع إبهام يده اليمنى بين إبهام اليسرى وسبابتها وقبض يده.

تطلَّعتُ إلى ظُفر إبهامه الذي كان يُطِل من يده الأخرى. وفهمتُ أخيرًا.

قلتُ: ناتورليش، بالطبع. في الثامنة عشرة وليست امرأةً بعدُ؟ لا يمكن في أوروبا.
هزَّ رأسه: ممكن. في ألمانيا ممكن.

قلتُ بخبثٍ إني لاحظتُ أن عينَيها عليكَ.

قال: فعلًا؟

قلتُ: أجل. لقد اعتقدتُ أنكَ نمتَ معها في ليلة الحفلة.

قال: أبدًا.

قلتُ: لم تتكلَّم مع أحدٍ غيرك طَوالَ الوقت.

قال: إنها لا تفهم لهجة برلين جيدًا. ولا بد أن يتكلَّم المرء معها ببطء حتى تفهم. ولم أُدرِك ذلك إلا متأخرًا.
طلبتُ بيرةً جديدة وقلتُ له: ما رأيُكَ أن نشرب شنابس؟ قال: لا بأس. طلبتُ كأسَين من الكورن، الفودكا الشعبية.

جرعنا كأسَينا، ثم ألحقناهما بالبيرة.

قلتُ: يجب أن تتكلَّم معها وتدعُوَها إلى جولة في الغابة.

قال: إنها لا تريد أن تفعل شيئًا، فقط تقضي الوقت كله بالبكيني في الشمس.

كانت الساعة قد أصبحت الثانية عشرة ودارت النادلة تجمع الحساب. وقامت الفتاة الحمامة وأعانها صديقها على ارتداء معطفٍ خفيف. وردَّدا لنا: جوتن ناخت، ليلة طيبة. وصاح بهما الرجل الأوِزَّة: فيل شباس، وقتًا سعيدًا. وغَمَز بعينه. والتفَت الشاب نحونا وهو عند الباب وابتسم باسطًا كتفَيه.
اقترحتُ أن ننصرف، فابتلع هانز ما تبقَّى بكوبه وغادرنا القاعة. قال: غدًا نقوم بجولة ونرى المنزل رقم ٤٥.
صَعِدنا الطريق إلى الدار، وأشار إلى منزلٍ مظلم وقال: هنا تسكُن هبشة فراو، امرأة جميلة. وقال إنه من غرفته في الطابق الأعلى يرى المنازل المجاورة، وهناك ثلاثُ نساءٍ رائعات خلف المنزل المقابل.
فتحنا الباب في هدوء ودخلنا ومضَينا نتحسَّس طريقنا في الظلام في حذر وصمت، وسبقتُه صاعدًا بعد أن همستُ: جوت ناخت، بيس مورجان. ليلة طيبة، حتى الصباح.

٥

في السابعة صباحًا فتحَت طفلة في الحجرة المجاورة جعورتها، وظلَّت تصرُخ حتى الثامنة وفشلتُ في استئناف النوم، فنزلتُ مع دقَّات جرس الإفطار. كان هانز جالسًا بجوار أمه. وظهرَت هايدي متأخِّرة في رداء مشجَّر ينتهي كالعادة فوق ركبتَيها. وقال الأب إنهما ذهبا أمس مع المجريَّين إلى الفندق ورقَصوا.
شَحبَ وجه هانز وقال: كنا هناك ولم نَرَكُم.

قال الطبيب: كنا في الداخل.

قال هانز بصوته الجَهْوري وهو ينظر إلى الفتاة: قابلنا نساءً رائعات.
لحظتُ كهلًا يجلس عن قرب يدقِّق النظر إلى فخذَي هايدي عندما وقفَت تجلب منفضةَ سجائرَ لأبيها، ثم تنهَّد وانهمكَ في وضع الزبد على الخبز.
سمعتُ المجري يقول: قهوة شلشت، سيئة. فاسر، ماء. استقرَّت عيناي على خصلة الشعر الأسود تحت إبط هايدي، ثم على ركبتَيها. التفتَت ناحيتي ووجدَتني أنظر إليها فابتسمَت وابتسَمتُ بدوري.
دخَّنتُ سيجارة وكان هانز يُوزِّع نظراته بين هايدي والنافذة خلفي حيث لا يُوجد شيء. ودعاني إلى جولةٍ معه فاعتذرتُ.
صعِدتُ إلى غرفتي، ودخَّنتُ سيجارةً أخرى، ثم أمسكتُ ببطاقة البريد وقرَّرتُ أن أكتب شيئًا ﻟ إنجمار بالإنجليزية: «عزيزتي إنجي، لا بد أن تكوني قد عُدتِ من الإجازة. في الصورة المنزل الذي أُقيم به. أفتقد كثيرًا أحلى وأرقَّ إنسانٍ عرفتُه.» كتبتُ التاريخ ثم أضفتُ في آخر الكارت: قبلة ﻟ الهر الصغير (ابنها).
وكتبت بطاقة ﻟ بيرينبك: «تحياتي لكَ وللعائلة من المنزل الذي ترى صورتَه. أستمتع للغاية بالطبيعة هنا. وأحاول طَوال الوقت أن أتذكَّر ما قلتَه لي عن المنطقة وتاريخها. بالتأكيد سنلتقي قريبًا.»
وقفتُ في النافذة حاملًا الكاميرا. استقرَّت عيناي على فخذَي هايدي التي تمدَّدَت بالبكيني فوق منشفةٍ على العشب. كانت في نفس مكان الأمسِ الذي يُواجه نافذتي. رأيتُها تُفرِّج ساقَيها لتسمح لأشعة الشمس بالتسلُّل بينهما.

تناولتُ مقياس الضوء وجعلتُه في موقع الكاميرا ثم وجَّهتُه إلى الفتاة. حسَبتُ المسافة بينهما بالتقريب وحدَّدتُ زاوية القياس. وضعتُ المقياس جانبًا ورفعتُ الكاميرا إلى عيني. ركَّزتُ النظر على الدائرتَين اللتَين ظهرتا داخل العدسة واللتَين تُحدِّدان درجة وضوح الصورة. اعتبرتُ الفتاة هدفًا ثابتًا، فاخترتُ الدائرة الداخلية. ضغطتُ بخفَّة تدريجيًّا على زِرِّ الكاميرا حريصًا على ثباتها. التقطتُ عدة صور لفخذَيها المنفرجَين.

ضمَّت فخذَيها فجأة واستدارت على جانبها معطيةً ظهرها لناحيتي. التقطتُ صورةً لجسمها وصورةً أخرى لمؤخِّرتها.

شَعرتُ بوجود هانز في نافذته بالطابق العلوي. لم نكن وحدنا اللذَين لاحظاها؛ فقرب مدخل الحديقة جلَس كهلٌ وسيم ينقل بصره بين الطريق وبينها. كان يكلِّم نفسه ويهمُّ بتوجيه الحديث لمن يمُر به ثم يتراجع.
ابتعدتُ عن النافذة، وغادرتُ غرفتي ثم المنزل، وخرجتُ إلى الكونسوم. كانت هناك لافتةٌ على مدخله عن مبادراتٍ للعاملين بمناسبة العيد العشرين القادم للجمهورية. ابتعتُ فرشاةً لياقة القميص ودهانًا للحذاء وقطعةَ شكولاتة بالبندق مستوردةً من ألمانيا الغربية لم أشاهد مثلها في برلين. كانت لذيذة الطعم وبأربعة ماركات؛ أي أربعة أضعاف ثمنها الأصلي ﺑ المارك الغربي، وتقريبًا نفس السعر طبقًا لسعر التبادل في السوق السوداء.

شَعرتُ بالبرد في الطريق. والتقيتُ شبانًا وتلاميذَ مدارس ثم عدة عائلاتٍ لوَّحَت الشمس وجوه أفرادها الذين حملوا الكاميرات وعِصيَّ تسلُّق الجبال.

قضيتُ بعد الظهر في الحديقة بعد أن ارتديتُ بلوفر. وكانت هايدي في ثوبها القصير تتأرجح كاشفةً عن فخذَيها.
ظهر هانز فاقترحتُ عليه أن نذهب للفيلم الإسباني الإيطالي الفرنسي فرحَّب وعرضتُ على هايدي أن تأتي معنا فوافقَت.
مشت بجواري، فطلب منها أن تمشي بيننا قائلًا إن هناك كتابًا مطبوعًا عن هذه القواعد. وعبرَت فتاتان أمامنا فتطلَّع إليهما. قالت هايدي إنه في الكتاب المطبوع يجب ألَّا ينظر رجل إلى فتاةٍ أخرى حينما يكون مع واحدة. وقالت: في الغرب عندما يريد شابٌّ أن يرقص مع فتاةٍ يشير لها بإصبعه من مقعده. أما هنا فإنه يقوم ويذهب إليها وينحني أمامها.
حدَّثتُهم عن الطفلة التي تفتَح جعورتها بالصباح في الغرفة المجاورة في السادسة والنصف صباحًا، وقالت هايدي إن هانز يدق باب حجرتها كل يوم في نفس الموعد ليسأل مرةً عن عود كبريت ومرةً عن معجون أسنان.
لحق بنا الطبيب في دار السينما. وكان الفيلم عن قصة سكاراموش المعروفة، ومليئًا بالمبارزات. وبدأ الطبيب يتململ أثناء المبارزة الختامية، وعندما أُضيء النور هَبَّ واقفًا وهو يقول: هيا نشرب.
جلسنا في مشرب مجاور للسينما. وخلفنا صُفَّت عدة موائد متجاورة، والتفَّ حولها عددٌ من الشبان والفتيات يصخبون. أخذتُ أتأمَّلُهم. وقالت لي هايدي: أنتَ دائمًا تبحث بعينَيكَ عن الفتيات.
شربنا بيرة وبراندي، ثم عُدنا أدراجنا إلى الدار لنلحق العشاء، ثم خرجَت هايدي إلى الحديقة. وتبعتُها فوجدتُها تلعب الراكيت مع فتاةٍ صغيرةٍ سمينة تُدعى ميريام. جلستُ على مقعد أرقبها عندما تقفز في الهواء ويرتفع رداؤها القصير إلى أعلى. وكان فستانها ورديًّا مرتفع الخصر تحت الثديَين مباشرة.
رآنا هانز من نافذته فجاء مسرعًا وجلس إلى جواري. كانت هايدي قد تجنَّبت النظر ناحيتي وفجأةً فعلت وسألَتني: تُحب أن تلعب؟

قلت: ربما يُحب هو.

قالت: تلعب معه.

قلتُ: لا. يلعب هو معكِ.

تناول المضرب من الفتاة ووقف ناحيتي. طوَّحَت هايدي بالكرة وعجز عن التقاطها بمضربه وجرى، ثم أحنى قامته الطويلة ليأخذها، فاحتكَّ حذاؤه بالأرض في صوتٍ عالٍ. قالت بعد قليلٍ إنها متعَبة. وأعطَت المضرب للطفلة وجاءت وجلسَت بجواري. أعطيتُها سيجارة. وقلتُ لها بعد قليل إني قرأتُ في الصحيفة المحلية اليوم عن عرضٍ لفيلم «رجل وامرأة» الفرنسي.

قالت: شهدتُ جزءًا منه في برنامجٍ تليفزيوني.

ترنَّمَت بلحن الفيلم الرئيسي، ثم طلبَت مني أن أحكي لها عن الأفلام التي رأيتُها. وتحدَّثنا عن الممثلين وقالت إنها تُعجَب ﺑ جريجوري بيك ومارلون براندو ويول براينر ورود شتايجر، لكن معبودها هو سيدني بواتييه.
فرغ هانز من اللعب وجاء وجلَس بجوارنا. سألتُه هايدي إذا كان يعرف الممثل سيدني بواتييه. قال إنه لم يَسمَع عنه قَط، فصاحت مستنكرة. وقالت بعد قليلٍ إنها تشعُر بالبَرد.
مد هانز يده، وأمسك بقدَمها وتحسَّسها، وقال: إنها باردة. ثم قال: يبدو أن نساء كارل ماركس شتات باردات.

قرَّبَت رأسها من رأسه في تحدٍّ قائلة: كيف عرفتَ؟

قال: الأمر واضح.

هزَّت رأسها متسائلة: هل نمتَ مرة مع واحدةٍ منهن؟

قال: لا.

قالت: إذن لا تتكلم.

سألها بدوره: هل رجال كارل ماركس شتات ساخنون؟

أجابت: أجل.

قال: كيف عرفتِ؟

أجابت في جدِّية: نمتُ مع كثيرين منهم.

بدأ الظلام في الانتشار؛ فاقترح هانز أن نتمشى، وقال لها: تعالي معنا.

قالت: لا أريد.

مضت إلى الداخل بينما غادرنا الدار إلى الطريق. مشينا قليلًا صامتَين، وفجأة سمعتُ صفيرًا ونظرنا خلفنا، ولمحنا شخصًا يجري مسرعًا ناحيتنا ثم همس هانز غير مصدق: هايدي.

هبطَت الطريق المنحدر جريًا ففتح لها ذراعَيه. وصلت إلينا لاهثةً واستقرَّت بين ساعدَيه ضاحكة.

كانت تحمل بلوفر على كتفها فارتدَته قائلة: الدنيا برد. سارت بيننا ثم سألَتني عن برلين الغربية وكيف تبدو. استمعَت مبهورةً إلى مشاهداتي؛ الزحام. السيارات الأمريكية الحديثة. الباصات الأنيقة. الطلبة والشبان بملابسَ مهملَة وشعورٍ طويلة. الجامعة. إعلانات الطلبة؛ شراء أو بيع وطلب عمل عدة ساعات لتغطية نفقات التعليم. المظاهرات. المباني العالية والسينمات الكثيرة بمختلف الأفلام والصحف اليمينية واليسارية والفنون وحوانيت الجنس.
قالت: أُمنيتي أن أعيش في برلين.

هطَل المطر فجأةً بشدة، فعُدنا جريًا إلى الدار.

٦

طرق الطبيب بابي صباحًا في السابعة والنصف. وظهرَت هايدي خلفه وبرفقتها ميريام. قال إنه اتفق مع المدير على أن يعطينا سيارةً بسائق لنذهب إلى مغارةٍ تاريخية، وسألَني إن كنتُ أرغبُ في الذهاب معهم. وافقتُ واغتسلتُ بسرعة ثم هبطتُ لتناول طعام الإفطار، ووجدتُ هايدي بمفردها إلى المائدة.
قلتُ: هناك من سيغضب إذا ذهبتُ معكم. ضحكَت وقالت: أجل. هانز.
احتل الطبيب المقعد المجاور لسائق الفارتبورج بعد أن طلب مني أن أجلس بين الفتاتَين. جلسَت الصغرى على يميني وهايدي على يساري. وانطلقنا في الطريق إلى جوتا ومنها إلى إيرفورت وقبل أن نصلها انحرفنا إلى اليمين.
تبادلَت الفتاتان الغناء طول الطريق؛ أزنافور والخنافس وهاري بالافونت. وغنَّينا معًا «لايلا»، و«غرباء في الليل»، وأغنية عن فيتنام، ثم مصطفى يا مصطفى أنا أحبك يا مصطفى.
سألتُ هايدي إذا ما كانت تعرف معنى كلمات الأغنية فأجابت بالنفي. ترجمتُها لها قَدْر ما استطعتُ فنظرَت في عيني وغنَّت من جديد. وعند المنحنيات كانت العربة تميل إلى اليسار فأرتمي على ميريام، ثم تميل إلى اليمين فأرتمي على هايدي ونضحك.
توقَّفنا عند المغارة بعد ساعتَين. طُفنا بها ثم أكلنا بوكفورست وشربنا كونياك رومانيًّا وأصَر الطبيب على الدفع، ثم اتخذنا طريق العودة، وواصلَت الفتاتان الغناء.
وضعَت هايدي ساعدَها خلفي فأسندتُ رأسي إليه. وفتحَت ميريام حقيبةً جلديةً مربَّعة وأخرجَت أنبوبة كريم وضعَته على ذقنها ثم وضعَت كحلًا فوق عينَيها. وأخذَت هايدي منها قصَّافة وجعلت تُعنى بأظافرها الطويلة الفضية.
قال الطبيب إنه يريد أن يرى القاهرة. أعطيتُه عنواني في القاهرة وفي برلين، وأعطاني هو عنوانه قائلًا: زرتُ كل البلاد الاشتراكية، ووجدتُ أحسن ناس في رومانيا والقوقاز. إذا أعجبكَ شيء في منزلهم أصرُّوا أن تأخذه. هذه هي روح الشرق.
وصلنا الدار في السادسة والنصف. وولجنا قاعة الطعام. كان هانز جالسًا يُحدِّق أمامه شاردًا. وضعتُ يدي على كتفه وحيَّيتُه فلم يرُدَّ.

جلستُ آكل. ولم يكلِّمني ثم غادر المائدة في صمت. صعدتُ إلى غرفتي ثم هبطتُ ودخلتُ الحديقة.

بحثتُ عن هانز فوجدتُه في ركنٍ بعيد. عرضتُ عليه أن نتمشَّى سويًّا. خرجنا في صمت إلى الشارع الرئيسي ثم انطلَقنا إلى مجلس المدينة ووجدنا المشرب غير مزدحم وأغلب الموجودين من الرجال. قال: دعنا نذهب إلى مكانٍ آخر.
عند المدخل وجدنا المطر يهطلُ بشدَّة فعُدنا إلى الداخل. وسألتُه هل فعل شيئًا بعد مع هايدي.

قال: لا.

قلتُ: لا بد أن تحاول. ثم قلتُ إن اليوم كان مملًّا للغاية.

قال: كيف وأنت تجلس طول الوقت بجانبها.

سألتُه: كيف عرفتَ؟

قال إنه توقَّع ذلك. ثم أضاف: لا أمل لي؛ فهم أغنياء وأنا فقير.

سألتُه: ماذا تعني؟

قال: لا أمل في الزواج بها.

قلتُ: أنت مجنون. إنها أصغر منك بعشرين عامًا ولها عالمٌ آخر.

ضحكَ في خجلٍ، وحرَّكَ يده أمامه في الهواء، ثم قال إنه لم يَرَ أجمل منها.

قلتُ: لا بأس أن تنام معها وهذا كل شيء.

قال: لماذا لا تحاول أنت؟

قلت: لا أحب هذا النوع من النساء. ثم إنها صغيرة. يمكن أن تكون ابنةً لي أو أختًا.

قال: هايدي ستنساني.

قلتُ: بالطبع، وستنساها أنتَ أيضًا.

قال: أبدًا.

نظر في الساعة؛ وقال إنها الآن قد بدأَت تتفرَّج على فيلم في التليفزيون. قلتُ: نعود إذن. تحدَّث معها وكن لطيفًا.

أخرجتُ ماركين من جيبي لدفع الحساب. استوقفَني قائلًا: لماذا تدفع دائمًا؟

قلتُ: أنت أيضًا تدفع. ادفع الآن إن أردتَ.

أخرج ماركين من جيبه.
قلت: خذ الماركين الآن؛ فأنا مدينٌ لك بثلاثة ماركات ونصف. غدًا أعطيك الباقي.

قال: لا بأس.

ثم فكَّر وقال إني دفعتُ له مرةً كوب بيرة.

قلتُ: لا تكن دوف، عبيطًا.
أخرج عُلبةَ سجائر رخيصةً صغيرة الحجم بها ثلاث سجائر عدَّهَا ثم قدَّم لي واحدة أخذتُها. دفع الحساب وكان ماركًا وثلاثين فنيج. وقال للنادل: اجعلهما ماركًا وخمسين فنيج.
شكَره الرجل وأخذ هانز نصف مارك وتركنا الحانوت.
كان المطر قد توقَّف وسِرنا صامتين ثم سألَني عما إذا كنت أفكِّر في الزواج. أجبتُ بالنفي. سألَني مرة أخرى عن المدة التي سأقضيها في ألمانيا، ثم عن مشروعاتي بعد ذلك. وكان اهتمامه مفاجئًا.
بدأتُ أفهم السبب عندما سألَني إذا كان مُصرَّحًا لي بالسفر إلى أماكنَ غير برلين. قلتُ بخبث: مثل كارل ماركس شتات؟ أجل.

وَجمَ فقلت إني لا بد أن أعود إلى بلادي، فانتعشَت ملامحه قليلًا. لكنه قال: لماذا لا تتزوج ألمانية وتبقى هنا؟

خطرَت إنجمار ببالي وقلتُ: لا أريد.
سألَني: أنت مصرح لك بالذهاب إلى برلين الغربية، أليس كذلك؟
أومأتُ بالإيجاب. قال: هل يُمكنكَ أن تُحضر لي بنطلون جينز؟ ثمنه هناك لا يزيد عن ١٦ ماركًا. غربي بالطبع. أما ثمنه هنا فمائة.

أبديتُ استنكاري فقال: الدولة تُضاعِف الأسعار عندما تزيد على عشرة ماركات.

لم تكن هايدي في قاعة التليفزيون. وجلسنا نُشاهِد برنامجًا عن الأفلام القديمة. وكان الفيلم المعروض هو «الملاك الأزرق». تابعنا قصة البروفيسور رات العجوز» في عاطفته المتدفِّقة نحو الغانية راكعًا تحت قدمَيها، ثم وهو ينفجر في طلبته ويصيحون فيه: أونرات، أونرات، الوسخ. وفي النهاية ينهار.

٧

هطَل المطر بشدة في اليوم التالي. ولم يأبَهْ أحدٌ بذلك، فذهب الجميع للتمشية وبقيتُ أنا في غرفتي. ثم نزلتُ إلى قاعة التليفزيون بعد الظهر.

عاد الطبيب وهايدي في موعد العشاء. قال لي: نلتقي في السابعة والنصف لنذهب إلى نادي منظَّمة الشبيبة.

أومأتُ موافقًا. صعِدتُ إلى غرفتي وارتديتُ بلوفر برقبةٍ مطوية، ثم نزلتُ. وبعد قليلٍ فقدتُ الرغبة في الخروج، فقرَّرتُ أن أبقى ولا أذهب معهم.

خرجتُ إلى الحديقة فلم أجد بها أحدًا. صعدتُ من جديد ووقفتُ في النافذة، ثم نزلت وذهبت إلى حجرة التليفزيون. كانت خالية فأدرتُ الجهاز وجلستُ أمامه. ظهر أحد المذيعين معلقًا على ارتفاع درجة الحرارة، وطالب المواطنين بالإقلال من استخدام المياه.

فُتح باب القاعة في هدوء، وظهرَت هايدي في بنطلونٍ أسود واسع عند القدمَين وقميصٍ أبيض من قماش خفيف يغطِّي ساعديها.

سألَتني: هل أنت جاهز؟

قلتُ: لن آتي.

جلسَت بجواري وتطلَّعَت في عيني. قالت بصوتٍ رقيق: لماذا؟ لقد وعدتَ.

قلتُ: إني متعب.

قالت: لا. الآن ستُتلِف كل شيء. يجب أن تأتي معنا.

تردَّدتُ ثم قلتُ: سآتي إذن.

غادرنا القاعة، والتقينا أباها مرتديًا بزةً سوداءَ كاملة.

ذهبنا مع ميريام وكان هانز قد سبقنا. وذهب معنا عاملٌ شاب يُدعى فرانك وزوجته. وكان ثمن الدخول مرتفعًا؛ ماركين و٦٠ فنيج. ووجدنا الموائد الثلاثة محجوزةً في مواجهة حلبة الرقص. وأجلسَني الأب بجوار هايدي في طرف المائدة وجلس أمامنا. وجلسَت زوجة فرانك إلى اليمين وبجوارها ميريام ثم فرانك ثم هانز، الذي أصبح على رأس الموائد الثلاث من اليمين. وكانت عيناه تتنقَّلان بيني وبين هايدي.

قلتُ للطبيب: يجب ألَّا تجلس معطيًا ظهرك للحلبة. أنت أهم شخصٍ بيننا. وقمت واقفًا عارضًا عليه مكاني.

هتفَت هايدي: ماذا حدث؟ في لحظةٍ كنت بجواري والآن ستذهب؟
جلستُ في مكاني وأفسحنا لأبيها مكانًا بجوار هانز.
خلَع الطبيب سترته متأففًا من الحرارة. وعلَّق العامل الشاب بأن ألمانيا لم تعرف منذ قرنٍ حرارة الأسابيع الماضية. وقال آخر: لم يكن الغريب هو الدرجة التي وصلَت إلى ٣٠ مئوية، وإنما استمرارها طوال تلك الفترة بلا انقطاعٍ وبلا يومِ مطرٍ واحد. كانت الحلبة واسعة، والموائد مزدحمة بالشباب المتأنقين. وكانت هايدي تتطلَّع حولها بعيونٍ متفحصة، وقد مالت ناحيتي بجسمها والتصق فخذها بفخذي. مِلتُ عليها قائلًا: سأقتُل من يرقصُ معكَ أكثر من مرةٍ واحدة.

في الناحية الأخرى من الحلبة تحت المسرح مباشرةً كانت هناك مائدةٌ التفَّ حولها ثلاث فتياتٍ وأمامهن زجاجاتُ ليمون. لم يكن معهن رجال. وفكَّرتُ أنهن دفعنَ الماركاتِ الثلاثة على أمل أن يكسبن أصدقاء.

ظهر الباند أخيرا. كان أفراده شبانًا طوالًا ملتحين، وبدءوا يعزفون، ولم ينزل أحد إلى الحلبة. أخذتُ أدُقُّ بيدي على حافة المائدة وبدأتُ هايدي فجأةً تغنِّي أنا بحبك يا مصطفى وهي تنظر ناحيتي. بادلتُها النظر فابتسمَت. حوَّلتُ عيني بسرعة ونظرتُ ناحية هانز وألفيتُ عينَيه مسمَّرتَين عليَّ.

انتقلتُ ببصري إلى فتاتَين وقفَتا بجوار مقعدٍ خالٍ بجوار الطبيب، وكانت إحداهما بيضاءَ ممتلئة ومتجهِّمة والأخرى صغيرةً باسمة الوجه.

مِلتُ ناحية الطبيب وقلتُ له: ما رأيُكَ في أن نُفسِح لهما مكانًا بجوارنا. صاحت هايدي مؤيدة الفكرة، وبدأنا نتحرَّك فوق مقاعدنا بحيث أصبحتُ أجلس بفخذ على مقعدي وفخذي الآخر على مقعد هايدي ملتصقًا بساقها.
مع الرقصة الثانية تشجَّع عددٌ من الحاضرين وبدءوا يرقصون. وقامت هايدي ورقصَت مع ميريام. وتحوَّلَت كافَّة الأنظار إلى الفتاتَين اللتَين كانتا ترقصان بصورةٍ جميلةٍ منسجمة. كانتا تبسطان ساعدَيهما حتى نهايتهما ثم تُدير إحداهما الأخرى من ساعدها في دائرةٍ كاملة أمامها. وعندما عادت هايدي ظلت الأنظار كافَّةً مسلَّطة عليها.
أراد فرانك أن يرقص مع زوجته، وكان عليَّ أنا وهايدي أن نقوم من مكانَينا لنُفسِح لهما الطريق. قامت هايدي أولًا وقمتُ خلفها، ثم أشرتُ لها أن نرقص سويًّا، فمضت أمامي إلى الحلبة.

أحطتُ جسمها الرخص بذراعي ودُرتُ معها بخطواتٍ سريعة. كنا وحدنا في الحلبة وتطلَّع إلينا الجميع.

أبقيتُها بعيدة عني. ولم أكن أفكِّر في شيء وشعرتُ بالضجر. كنت أتحرك بخطواتٍ سريعة. وشعرت بصمتٍ مطبق في القاعة والأنظار مسلَّطة علينا. وسمعتُها تقول: ليس بسرعة. وعندما نظرتُ إلى وجهها رأيتُها واجمة، وأدركتُ أن ثمة خطأً ما. انتهت الرقصة، فعُدنا وهي ما زالت واجمة.

قال لي أبوها: هذه رقصة شارلستون القديمة. سهلة جدًّا. كيف لا تعرفها؟
اقترب منا شابٌّ رشيق بسوالفَ طويلة وبنطلونٍ أسودَ ضيق. عرض على هايدي الرقص فقامت معه. ضمَّها في حضنه، ودسَّت ساقها بين ساقَيه. رقص معها في بطءٍ ملتصقًا بها. وعندما انتهت الرقصة أعادها إلى المائدة. وكانت وجنتاها قد اصطبغَتا بحمرةٍ قانية.

ولأمرٍ ما شعرتُ بالارتباك وخاطبتُه شاكرًا.

همستُ لها: شابٌّ ظريف.

قالت في اقتضاب: طفل. أنا أحب كبار السن.

لم أفكِّر في دعوتها إلى الرقص ثانية. وعرض عليها هانز الرقص معه، فاعتذرَت لكنها رقصَت مع الشاب الأول مرةً أخرى.

٨

استمر هطول المطر يومَين فلزمتُ الدار. لكن الطبيب وابنته وهانز لم ينقطعوا عن الخروج والتجول. وفي اليوم الثالث توقَّف المطر فجأة. خرجتُ أتمشى قبل الغروب وانتهى بي الأمر إلى المشرب القريب. وجدتُ فرانك جالسًا بمفرده. دعاني للجلوس معه وسألَني عن دخلي وعن مستوى الحياة في بلادي. وقال: إنه لو كان في ألمانيا الغربية لعاش حياةً أفضل.

لم أُعلِّق فقال: يجب أن يكون لكلٍّ ما يكسبه.

قلت: الأمر ليس بهذه البساطة فهناك جوانبُ أخرى. تُوجد في الغرب أُسر بلا منازل ولا تُوجد أسرةٌ واحدة هنا بلا مسكن.

ابتسم ساخرًا، وقال: أنت خائفٌ أن تتكلم.

طلبنا بيرة وليمونادة ثم قهوة موكا. وقالت النادلة: إن الموكا غالية فثمنها ٣ ماركات، فقال فرانك: لا بأس. أحضريها.
تحدَّثنا عن هاينر. قال: إنه مرشَّح لعضوية الحزب وسيُصبح عضوًا بعد سنة.

– وأنتَ؟

قال: لستُ عضوًا. ربما أُصبح بعد عدة سنوات عندما يتحسن تفكيري.

سألتُه عن دخله؛ فقال: إن صافي ما يتقاضاه هو ٦٠٠ مارك، وتتقاضى زوجته المدرسة ٧٠٠، أما أخوه الذي يصغره بثلاث سنوات فقد ظل في برلين الغربية ويتقاضى ١٣٠٠ مارك، ويسكن في شقة من حجرتَين يدفع مائتي مارك إيجارًا لها.
انضم هانز إلينا فلزم فرانك الصمت ثم تركنا عائدًا إلى الدار. وقال هانز بمجرد انصرافه إنه عثَر لي على فتاةٍ شقراء رائعة.

أبديتُ اهتمامي فقال: تحمَّسَت عندما ذكرت لها أن لي صديقًا عربيًّا. وهي تنتظرنا الآن في المشرب القديم.

انطلقنا إلى هناك. ووجدنا الفتاة في انتظارنا.

بدَت أصغر في السن من هايدي. كانت ترتدي بلوزةً بيضاء تحت بلوفر أحمر وجوبةً ملوَّنة تصل إلى ركبتَيها. وكان شعرها مصفَّفًا في عناية ويتدلَّى فوق كتفَيها. تبادلنا الأسماء. كانت تُدعى إلكا. وقالت إنها عاملة في مصنعٍ للمشغولات البلاستيكية. طلب لنا هانز بيرة، ثم تركنا وحدنا.

جرعتُ كوبي وبدت هي عازفة عن الشراب. تبادلنا حديثًا متقطعًا تعمَّدَت خلاله أن تتحدَّث ببطء كي أفهمها. وبعد قليلٍ اقترحت أن نمضي إلى الغابة. دفعت ثمن البيرة التي لم تشربها وغادرنا المكان. صَعِدنا مع الطريق حتى بلغنا الغابة وسرنا وسط الأشجار الإبرية العارية من الأوراق.

جلسنا على صخرة فوق هُوَّة. وتحتنا بعيدًا امتدَّت مساحةٌ خضراءُ واسعة تغطَّت أشجارها بالأوراق من أعلى إلى أسفل. عقَّبتُ على ذلك، فقالت إن الشمس تصلُها بسبب الفضاء الرحب، أما داخل الغابة فتنمو الأوراق فقط فوق قمم الأشجار التي تصلُها أشعة الشمس وتبقى الجذوع جرداء.

سألَتني عن الأغاني التي أُحبها. وقالت إنها في منظَّمة الشبيبة وإنها تُحب الأغاني الأمريكية لكن رئيسها في منظَّمة الشبيبة يهاجم هذه الأغاني على الرغم من أنه لا يستمع إلى غيرها.

أحطتُها بذراعي فلم تمانع. قلتُ: أنا معجبٌ بكِ وأتمنى أن تدوم صداقتنا.

قالت: صداقاتي لا تدوم عادةً وهذا يضايقني. ربما تستطيع تغييري.

سألتُ: ألا يُزعجكِ أني أجنبي؟

قالت: أنا أنظر إلى الأجنبي كإنسانٍ مثلنا. بالنسبة لي تمثِّل الشخصية العنصر الأساسي. وأعجب لمن يحملون مَشاعرَ ضد الأجانب.

مِلتُ عليها وقبَّلتُها في خدها فأعطَتني فمها. كانت شفتاها رقيقتَين عديمتَي الخبرة بالتقبيل.

تطلَّعتُ حولي فرأيتُ أننا وحدنا تمامًا وقد انتشر الظلام. أملتُها إلى الوراء وفكَكتُ أزرار بلوزتها. كان صدرها صغيرًا للغاية. مدَدتُ يدي إلى جوبتها فمانعَت، ثم سمحَت لي بأن أرفع الجوبة وأتحسَّس ساقَيها.

فككتُ أزرار بنطلوني وأنزلتُه ثم انحنيتُ فوقها. حاولتُ أن أدخلها فألفيتُها ضيقة للغاية.

كرَّرتُ المحاولة وبدأ العشب يخزُّ ركبتي وتساءلتُ عما أنا فاعل دون واقٍ ذكري ومع طفلةٍ بريئة، وسرعان ما فقدتُ الرغبة.

اعتدلتُ جالسًا وأعدتُ ملابسي إلى سابق عهدها. وفعلَت هي المثل.

قالت: أُحب أن أزوركَ في برلين. لكن يجب أن أصحب صديقتي وهي مثلي لا تملك نقودًا.

قلتُ إني مستعدٌّ لأن أُرسل إليهما بطاقتَي قطار.

قالت: يجب أن أعود إلى منزلي الآن. سأُعطيك عنواني لكن لا تكتب اسم المُرسِل على الخطاب وإلا دفع ذلك أمي لقراءته. يجب ألَّا تعرف أمي شيئًا عن ذلك. أنت تعرف أني صغيرة جدًّا.

سجَّلتُ عنوانها في مفكِّرتي ونهضنا. افترقنا عند أول الطريق بعد أن قالت: لا تنسَني واكتب سريعًا. يُسعِدني أن أتلقَّى صورة لكَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤