الفصل الثاني

السلطان الغازي أورخان الأول

وعقب ذلك بقليل استُدعي أورخان إلى والده فوجده في حالة النزع، ولم يلبث أن أسلم الروح إلى بارئ النسمات ومبدع الكائنات بعد أن أوصى للملك بعده لأورخان ثاني أولاده المولود في سنة ٦٨٠؛ لاتصافه بعلوِّ الهمة والشجاعة والإقدام، ولم يوصِ بها لبكر أولاده علاء الدين لميله إلى الورع والعزلة، وتوفي — رحمه الله — في ٢١ رمضان سنة ٧٢٦ هجرية عن سبعين سنة قضى معظمها في تأسيس هذه الدولة الفخيمة الملحوظة بعين العناية الربانية وتوسيع نطاقها، ودفن في مدينة بورصة، وبلغت مدَّة حكمه ٢٧ سنة. ومن حسن حظ هذه الدولة أن علاء الدين لم يعارض في هذه الوصية التي حرمته من ملك عظيم، بل قَبِلَهَا مقدِّمًا الصالح العام على الصالح الخاص، واكتفى بوزارة المملكة — وهي الوظيفة المسماة الآن بالصدارة العظمى — التي قلده إياها أخوه أورخان، فاختص علاء الدين بتدبير الأمور الداخلية، وتفرَّغ أورخان للفتوحات ونشر الراية العثمانية على كل ما وصلت إليه يداه من البلاد المجاورة.

ومن أهمِّ أعمال علاء الدين أن أمر بضرب العملة من الفضة والذهب، ووضع نظامًا للجيوش المظفرة وجعلها دائمية؛ إذ كانت قبل ذلك لا تجمع إلا وقت الحرب وتصرف بعده، ثم خشي من تحزب كل فريق من الجند إلى القبيلة التابع إليها وانفصام عرى الوحدة العثمانية التي كان كل سعيهم في إيجادها؛ فأشار عليه أحد فحول ذلك الوقت — واسمه «قره خليل»، وهو الذي صار فيما بعد وزيرًا أوَّلًا باسم خير الدين باشا — بأخذ الشبان من أسرى الحرب، وفصلهم عن كل ما يذكرهم بجنسهم وأصلهم، وتربيتهم تربية إسلامية عثمانية بحيث لا يعرفون أبًا إلا السلطان ولا حرفة إلا الجهاد في سبيل الله، ولعدم وجود أقارب لهم بين الأهالي لا يخشى من تحزبهم معهم؛ فأعجب السلطان أورخان هذا الرأي وأمر بإنفاذه، ولما صار عنده منهم عدد ليس بقليل سار بهم إلى الحاج بكطاش — شيخ طريقة البكطاشية بأماسية — ليدعو لهم بخير، فدعا لهم هذا الشيخ بالنصر على الأعداء وقال: فليكن اسمهم «يني تشاري»، ويرسم بالتركية هكذا «يكيجاري»؛ أي الجيش الجديد، ثم حُرِّفَ في العربية فصار انكشاري.

ثم ارتقى هذا الجيش في النظام وزاد عدده حتى صار لا يعوَّل إلا عليه في الحروب، وكان هو من أكبر وأهمِّ عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية، كما أنهم خرجوا فيما بعد عن حدودهم وتعدَّوا واستبدوُّا بما جعلهم سببًا في تأخر الدولة وتقهقرها، وكان ضباطهم يلقبون بألقاب غريبة في بابها، ولكنها تدل على أن أولئك الجنود كانوا عائشين من إنعامات السلطان وأنهم كأولاده، فمن ألقابهم شوربجي باشي وعشي باشي وسقا أغاشي وأوده باشي إلى غير ذلك. وهذه الألقاب كانت عندهم بمثابة العنوانات الخاصة بالرتب العسكرية، ثم إنهم كانوا يعظِّمون ويجلون القدور التي كانت تقدَّم إليهم فيها المأكولات، فكان الانكشارية لا يفارقون تلك القدور حتى وقت الحرب، وكانوا يدافعون عنها دفاع الجنود عن أعلامهم حتى كان يعتبر ضياعها في القتال أكبر إهانة تلحق بأصحابها العار والفضيحة. وكانوا إذا أرادوا إظهار عدم الرضا من بعض أوامر رؤسائهم يقلبون القدور أمام منازلهم، واستمرت هذه الفئة عونًا للدولة على أعدائها حتى تغيَّرت أحوالها، وازداد طغيانها، وانقلبت فوائدها مضرات؛ فأبطلها السلطان محمود الثاني بعد أن قتل أغلبهم في يوم ١٦ يونيو سنة ١٨٢٦ (٩ ذي القعدة سنة ١٢٤١م)؛ لمقاومتهم إجراءات السلاطين وعصيانهم عليهم وتعدِّيهم على حقوقهم المقدَّسة.

هذا أما أورخان فأول عمل أجراه هو نقل مقر الحكومة إلى مدينة بورصة لحسن موقعها، وأرسل قوَّاد جيوشه المظفرة لفتح ما بقي من بلاد آسيا الصغرى؛ ففتحوا أهم مدنها، وفتح السلطان بنفسه مدينة أزميد، ولم يبقَ من مدن الروم المهمة ببر آسيا إلا مدينة أزنيك، فحاصرها وضيَّق عليها الحصار حتى دخلها بعد سنتين، فسقط بسقوطها نفوذ الروم في بلاد آسيا. ومما جذب إليه قلوب الأهالي أنْ عاملهم باللين والرفق ولم يعارضهم في إقامة شعائر دينهم، وأذن لمن يريد المهاجرة بأخذ كافة منقولاته وبيع عقاراته مع تمام الحرية في إجراءاته، وأسَّس بهذه المدينة عدَّة مدارس وتكايا للفقراء والمعوزين، وجعل أكبر أولاده المدعو سليمان باشا حاكمًا عليها، ولم يلبث في هذا المنصب إلا قليلًا حتى عُيِّنَ صدرًا أعظم بعد وفاة عَمِّه علاء الدين، واشتهر سليمان باشا بفتح عدَّة مدن.

وفي سنة ٧٣٦ﻫ (الموافقة سنة ١٣٣٦م) ضم السلطان أورخان إلى ممالكه إمارة قره سي؛ لوقوع الخُلْف بين ولديْ أميرها بعد موته، ولولا عدم اتفاق الأخوين لما تمكَّن أورخان من ضمها إلا بعد معاناة الحرب والكفاح، وفي ذلك موعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد. وبعد ذلك اشتغل السلطان أورخان بترتيب داخليته وسنِّ النظامات اللازمة لاستتباب الأمن بالداخل، وانتشار العمران في البلاد، وفتح المدارس، وبناء الجوامع والتكايا. فمن آثاره أنه أسس مدرسة عالية في مدينة بورصة وأخرى في مدينة أزنيك، وأجزل العطايا للشعراء والعلماء؛ فأضاف بذلك خيرات السلم إلى فتوحات الحرب.

وبينما هو راتع في بحبوحة الأمن إذ أرسل إليه ملك الروم بالقسطنطينية١ واسمه «جان باليولوج» في غضون سنة ١٣٥٥ وفدًا يطلب منه أن يمدَّه بالمساعدة لصدِّ إغارات «دوشان»٢ ملك الصرب الذي بعد أن جمع تحت سلطانه كافة قبائل الصقالبة الغربية وفتح بمساعدتهم بلاد البلغار زحف على مدينة القسطنطينية، وعرض ملك الروم على السلطان أورخان أن يزوِّجه ابنته في مقابلة هذه المساعدة، فأجاب السلطان طلبه وأرسل إليه عددًا عظيمًا من جنوده لنجدته. لكن فاجأ الموت الملك دوشان قبل وصوله بجيوشه إلى القسطنطينية، وبذلك تخلَّص الروم من شرِّه، وعاد العثمانيون إلى بلادهم.

ولما نزل العثمانيون بساحل أوروبا تحققوا ضعف مملكة الروم وما آلت إليه من الانحلال؛ فأخذ السلطان أورخان في تجهيز الكتائب سرًّا لاجتياز البحر واحتلال بعض نقط على الشاطئ الأوروبي تكون مركزًا لأعمال العثمانيين في أوروبا، حتى إذا سنحت الفرص وساعدت المقادير حاصروا مدينة القسطنطينية برًّا وبحرًا ودخلوها فاتحين.

وفي سنة ١٣٥٧ اجتاز سليمان باشا — أكبر أولاد السلطان أورخان ووليُّ عهده وصدر مملكته الأعظم — بوغاز الدردنيل ومعه أربعون من أشجع جنوده تحت أستار الظلام، حتى إذا وصلوا إلى الضفة الأخرى قبضوا على ما كان بها من القوارب وعادوا بها إلى الضفة المعسكرة عليها جيوشهم، فانتقل الجيش إلى ضفة أوروبا، وكان عدده ثلاثين ألفًا، واحتل ميناء «تزنب»، وساعدتهم المقادير بسقوط جزء من أسوار جاليبولي٣ عقب زلزال شديد، فدخلها العثمانيون بدون كبير عناء، واحتلوا عدَّة مدائن أخرى منها «أبسالا» و«رودستو» وغيرهما.

وفي سنة ١٣٥٩ توفي سليمان باشا — وليُّ عهد الدولة — بسبب سقوطه من على ظهر جواده، وصارت ولاية العهد بعده إلى أخيه مراد، وتولى منصب الصدارة بعده الوزير خير الدين باشا الذي سبقت الإشارة إليه.

١  كانت مدينة رومة وما فتحته من الأقاليم المتسعة مشكلة بهيئة جمهورية من ابتداء وجودها إلى سنة ٢٩ قبل المسيح؛ فجعلها القائد الشهير «أكتافيوس» حكومة إمبراطورية، وأطلق على نفسه لقب «أوغسطس»؛ أي السامي القَدْر، واستمرت هذه المملكة إلى سنة ٣٩٥ ميلادية، حيث قسَّمها الإمبراطور طيودوس بين ولديه إلى: مملكة رومانية شرقية، وجعل مقرها مدينة بيزانطة، التي سميت فيما بعد بالقسطنطينية، وأقام عليها ابنه «أركاديوس»، ومملكة رومانية غربية جعل عاصمتها مدينة رومة، وأقام عليها ابنه الثاني «أنوريوس»، ثم انقرضت الدولة الغربية سنة ٤٧٦ ميلادية؛ بسبب إغارة المتبربرين عليها، واستمرت الشرقية إلى أن فتح العثمانيون مدينة القسطنطينية في سنة ١٤٥٣ ميلادية.
٢  هو إسطفن دوشان الملقب بالقوي. ولد بمدينة أشقودرة ببلاد الأرنئود سنة ١٣٠٨، وصار أميرًا لبلاد الصرب وملحقاتها في سنة ١٣٢٢، وكان بعيد الآمال يطمح بنظره إلى تكوين مملكة مؤلفة من جميع الصقالبة لفتح القسطنطينية وبقايا مملكة الروم الشرقية؛ فاتحد مع جمهورية البندقية وباقي الإمارات الصغيرة المجاورة له، وكاد يتمُّ له المقصود لولا أن فاجأته المنية في ٢٠ دسمبر سنة ١٣٥٥ في ابتداء حربه مع الروم؛ فنقلت جثته إلى «برزرند» بالقرب من أشقودرة، حيث دفن في إحدى الكنائس المعتبرة لدى القوم، ومن بعده تشتت شمل هذه المملكة شيئًا فشيئًا وتناوبتها أيدي الفساد؛ حتى أجهز العثمانيون عليها في واقعة «قوص أوه» سنة ١٣٨٩ كما سيجيء.
٣  مما يكسب هذه المدينة أهمية عظمى وقوعها على ضفة بوغاز الدردنيل، الذي هو الممر الوحيد بين بحار أوروبا وبحر مرمرة، وهي تبعد عن مدينة أدرنة بمائة وأربعين كيلومترًا تقريبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤