السلطان

١

مضى الرجال الثلاثة يخوضون الظلماء في ثيابِ تُجارٍ غرباء، شهريار ودندان وشبيب رامة .. اقتربَت منهم أشباحٌ ثلاثة ولما حاذتهم سألهم أحدهم: ماذا تفعلون في هذه الساعة من الليل؟

فأجاب شهريار: تُجارٌ غُرباء يتداوَوْن من الضجر بأنسام الربيع.

فقال صاحب الصوت: أنتم ضيوفي يا غُرباء.

فدعَوا له بالبركات، ومضُوا جماعةً واحدةً وشهريار يتساءل: ترى من يكون مُضَيِّفُنا الكريمُ؟

فقال صاحب الصوت: صبرًا يا سادةُ يا كرامُ!

٢

ساروا حتى شاطئِ النهرِ .. اتجهوا نحو سفينةٍ تنتظر، تَشعُّ منها أضواء المصابيح كالكواكب .. تساءل شهريار: نحن مرتبطون بالسوق فهل ترومون سفرًا؟

فأجاب صوتُ آخر: أيها الغرباء، إنَّكم بحضرة مولانا السلطان شهريار، فأدُّوا له تحية الملك، واحمدوا الله على حظكم السعيد.

عقدَت الدهشة ألسنة الرجال الثلاثة .. أيُّ سلطانٍ؟ وأيُّ شهريار؟ وتجمَّدوا في ذهولهم فلم تنِدَّ عنهم حركة .. عند ذاك صاح صاحب الصوت الثاني: التحية يا غرباء.

أفاق شهريار من ذهوله .. صمَّم على خوض التجربة حتى نهايتها .. سرعان ما انحنى أمام السلطان المزعوم فتَبِعه في الحال دندان وشبيب رامة .. قال: نضَّر الله وجه أمير المؤمنين وأطال عمره وأدام عهده ..

تَبِعوه ضمن الحاشية حتى جلس على عرشٍ تحت مظلَّة في أعلى السفينة، فاتخذوا مجالسهم فوق وسائدَ مطروحة على فسحةٍ منبسطة فيما أمام العرش .. وأقلَعتِ السفينة في جوٍّ ربيعيٍّ تحت بسمات النجوم الساهرة.

٣

رست السفينة إلى شاطئ جزيرة .. استقبلها الحرسُ بالمشاعل .. همس شهريار الحقيقي في أذن دندان: إنَّها لمملكةٌ جديدةٌ ونحن نيام!

– لعله الحشيشُ يا مولاي؟

– ولكن مِمَّ ينفقون على هذه المظاهر الباذخة؟

فقال الوزير بقلقٍ: عمَّا قليلٍ تنطق الحقيقةُ بلسانها الخفي.

دخلوا سُرادقًا مثيرًا، فوجدوا سِماطًا حافلًا بالأطعمة والأشربة في انتظارهم .. تحلقه جمع غفير من رجال المملكة، فأصابوا من الطعام حتى شبعوا، ومن الشراب حتى توهجَت أرواحهم بالنشوة والبهجة .. وأنشدَت جارية من وراء ستار:

لسانُ الهوى في مهجتي لك ناطقُ
يُخبر عنِّي أنني لكَ عاشقً

فهمس شهريار في أذن دندان: يا لها من مأْدُبةٍ ملكيةٍ وما نحن إلا رعيةٌ ..

وعند لحظةٍ معينةٍ صاح السلطان الآخر: آن لنا أن نعقد المحكمة الإلهية ..

فسأل دندان مولاه: ألا نستأذن في الانصراف حتى نرسل الجند لمحاصرتهم قبل أن يتفرقوا؟

فقال شهريار: بل نبقى لأشهد بعينيَّ ما يجري مما لم يجرِ لي في خاطرٍ ..

وسرعان ما رفَع قوم السِّماط .. وجِيءَ بمِنَّصة محكمةٍ فنُصبَتْ في صدر السرادق .. جلس عليها السلطان الآخر، وقف إلى يمينه وزيره، وإلى يساره السياف .. وانبعث في الأركان الحراس شاهري السيوف .. وجلس شهريار الحقيقي وتابِعاه ضمن قلةٍ من الصفوة أُذِنَ لها بمتابعة محكمة العدل الإلهي.

٤

قال السلطان الآخر من فوق المِنَّصة مخاطبًا الصفوة الحاضرة: أحمد الله الذي يسَّر لي التوبة بعد انغماسي في سفك الدماء البريئة ونهب أموال المسلمين، إنَّه سبحانه واسع الرحمة والمغفرة.

فامتُقِع وجه شهريار الحقيقي، ولكن لم تنِدَّ عنه حركةٌ واحدةٌ .. وواصَلَ السلطان الآخر حديثه قائلًا: هذه المحكمة تنعقد للتحقيق في شكوى مرفوعة من رجلٍ بسيط، لو صح ما جاء بها لكشَف عن جريمةٍ بشعة، اغتيلَت فيها البراءة لحساب الخسَّة والدناءة والظلم، والله المستعان أولًا وأخيرًا، فليدخل صاحب الشكوى عجر الحلاق ..

ودخل الرجل، فوقف أمام المِنَّصَةِ في حذرٍ وخشوعٍ، فقال له السلطان: ما شكواك يا عجر؟

فقال الرجل بصوتٍ متهدجٍ: ابني الوحيد علاء الدين راح ضحية مؤامرةٍ وحشيةٍ غادرة.

– ما التهمةُ التي ضُرب عنقُهُ من أجلها؟

– التآمرُ ضدَّ السلطانِ وسرقةُ جوهرة الست قمر الزمان زوجةِ الحاكمِ الفضلِ بن خاقان.

– من المُدَبِّرُ للمؤامرة في رأيك؟

– حبظلم بظاظا وأبوه كبير الشرطة درويش عمران، وقد استعانا بالمعين بن ساوي المنبوذ لانحرافاته، فنجَح في سرقة الجوهرة كما نجح في دسِّها في صوان علاء الدين مع رسائلَ مزوَّرة تنطق بخيانته لمولانا السلطان.

– وما الدافعُ وراء المؤامرة؟

– الانتقامُ من علاء الدين؛ لأنَّه تزوج زبيدة كريمة ولي الله البلخي الذي رفض أن يزوِّجها من حبظلم بظاظا لسوء خُلقه وخَلْقه.

– هل لديك دليلٌ على ما تقول؟

– براءة علاء الدين فوق أيِّ دليلٍ، سَلْ عنه أهلَ الحيِّ جميعًا، والمؤامرة حقيقية يؤمن بها الجميع، ولو كان عندي دليلٌ واضحٌ لأنقذتُ عنقَ البريءِ الطاهرِ، ولكني أضع أملي على عدل السلطان وتأثيره الذي لا يُقاوَم.

وفي الحال نحَّى السلطان عجر، واستدعى حاكمَ الحيِّ الفضلَ بن خاقان، فمثَل الرجل بين يدَيه تنطق قسماتُ وجهه بالرهبة والانكسار .. قال له السلطان: أيها الحاكم، لا شك عندي في أنَّكَ من الصالحين، لقد اخترتُكَ بعد تربيةٍ وتجربةٍ، أستحلفكَ بالله العظيم أن تُفضِيَ إليَّ بسرِّ هذه القضيةِ؛ فلا شكَّ عندي في أنَّكَ عليها مُطَّلِعٌ.

بسط الحاكم راحتَيه مغمغمًا: اللهم فاشهد.

ثم قال مخاطبًا مولاه: عقب مصرع علاء الدين نما إليَّ ما يتهامس به الناس من براءته وإجرام الآخرين، فانزعجْتُ انزعاجَ رجلٍ نشأ مُتشبِّعا بمبادئ الدين الحنيف، وبثَثتُ عيوني بين الرجال والأحياء، فظَفِروا بالحقيقة من فم المعين بن ساوي وهو سكران، فما كان مني إلا أن هممتُ بالإيقاع بالمجرمين، غير أنِّي …

صمَت الحاكم مليًّا، ثم قال بذلٍ: غير أنِّي ضعفتُ يا مولاي؛ فأنا الذي حاكَم علاء الدين وقضى بضرب عنقه، خفتُ عواقب الكشف عن الحقيقة وإعلانها؛ فمن قتل نفسًا فقد قتل الناس جميعًا.

فقال السلطان: وخفتَ العواقب على سمعتكَ ومركزكَ كحاكم!

فنكَّس الرجل رأسه ولاذ بالصمْت .. فسألَه السلطان: هل علم كاتمُ سرِّكَ بالحقيقة؟

فقال الرجل بأسًى: نعم يا مولاي.

قال السلطان مخاطبًا الجميع: لله حكمتُه في خلقه، أما نحن فلنا الشريعة .. لذلك قضينا بضرب أعناق المعين بن ساوي، ودرويش عمران، وحبظلم بظاظا، كما قضينا بعزل الفضل بن خاقان وهيكل الزعفراني مع مصادرة أملاكهما!

٥

وجيءَ بالنطعِ والمجرمينَ فتحرَّك السياف .. عند ذاك لم يتمالك شهريار الحقيقي من أن يقف قائلًا بصوتٍ جَهْوري: كفُّوا عن هذه المهزلة!

توثَّب الحراس، وهتَف السلطان من فوق المِنَّصة: من أذنَ لك بالكلام أيها الغريب المجنون؟

فنهَره السلطان قائلًا بحزم: أَفِقْ من جنونكَ أنتَ، إنَّكَ تُخاطبُ السلطان شهريار.

ألجمَت المفاجأةُ الألسنةَ، وقف إلى جانبَي السلطان دندان وشبيب رامة شاهرَيْ سيفَيهما .. أما السلطان فأخرج من جيبه خاتم الملك ولوَّح به في وجه الآخر .. أفاق السلطان الزائف من ذُهولِه فوثَب من فوق المِنَّصَة، ثم سجد بين يدَي السلطان، وقال بنبرةٍ مرتعشةٍ: عبدك إبراهيم السقَّاء.

– ما معنى هذه المهزلة؟

فقال الرجل وهو ينتفض من الرعب: عفوًا يا مولاي .. إيذن لي برواية حكايتي واغفر لي حماقتي.

٦

قصَّ إبراهيم السقَّاء قصته على السلطان بمجلسه الصيفي بالقصر .. قال: منذ صباي يا مولاي وأنا من المتوكِّلين على الله، أكدَح من الفجر حتى المغيبِ، رزقي محدود وقلبي قنوع وسلوتي في الجوزة .. ويسَّر الله لي نعمةً كبيرة فتزوَّجتُ من أرملة جمصة البلطي، ولم أكن أحلم بأكل اللحمة إلا في عيد الأضحي .. ولما قُتل ابن صديقي عجر الحلاق انقلَبَت موازيني، وسمعتُ ما يتهامس به الناس، فهيمن عليَّ حزنٌ لم أعرفه من قبلُ وقلت إننا نحن الفقراء ليس لنا إلا الله .. وكان القَدَرُ يُخبئُ لي مفاجأةً لا تخطُر بالبال، فعثَرتُ على كنزٍ خارج البوابة وصِرتُ من أغنى الأغنياء .. فكَّرتُ — وهو المألوف — أن أستأثر بالمال وحدي، ولكن حبِّي للفقراء دفعَني إلى سبيلٍ آخرَ، فصمَّمْتُ على إنشاء مملكةٍ وهمية نهيم فيها جميعًا يدًا واحدة.

تبسَّم شهريار، وقال مقاطعًا: الحشيش استهلكَ عقلكَ.

– لا أُنكِر ذلك؛ فالفكرة لا تخطُر إلا ببال حشَّاش، وتحمَّس الصعاليكُ لها أيَّما تَحَمُّس .. وقع اختيارنا على تلك الجزيرة المهجورة، توَّجتُ نفسي سلطانًا، واخترتُ من الحفاة الجياع الوزراءَ والقادةَ ورجال المملكة، ولم نكن نتلاقى لتمثيل لُعبتنا إلا في الليل، فننقلب من صعاليكَ متشردينَ إلى رجالِ مملكةٍ عظام، نأكل ما نشتهي ونشرب ما نُحب، ونتبادل الأحاديث في شئون المملكة؛ كلٌّ بحسَب موقعه ودرجته .. ولمَّا كانت المؤامرة التي أهلكَت علاء الدين تُلحُّ علينا، فنعقد كل ليلةٍ محكمةً يأخذُ فيها العدل مجراه بعد أن عزَّ عليه ذلك في الدنيا.

فتساءل السلطان ساخرًا: وأضعتَ الكنز يا حشاش؟

– لم يَبقَ منه إلا القليل، ولكنا اشترينا به سعادةً لا تُقدَّرُ بمال!

٧

سُرَّ شهريار بحكاية إبراهيم السقَّاء سرورًا لا مزيد عليه، ولكنه قال لدندان: وافِني بما يُشاع عن مصرع علاء الدين بن عجر الحلاق.

فقال الوزير: ستجد المفتاح يا مولاي عند الفضل بن خاقان، فاستَدْعِه ولكَ عليه التأثير الأكبر.

فتساءل السلطان: أَترى أن نسترشد بما فعل السلطان إبراهيم السقَّاء؟

فقال دندان: الحق يا مولاي أنَّها كانت محاكمةً عجيبة تقطع بأن الحشيش لم يستهلك كلَّ عقلِه.

فقال شهريار: لا أُخفي عنك أنِّي أُعجبتُ بالحكم أيضًا!

هكذا جرت الأمور، فوقع الظالمونَ، فضُربت أعناق المعين بن ساوي، ودرويش عمران، وحبظلم بظاظا، وعُزل الفضلُ بن خاقان، وهيكل الزعفراني، وصُودرتْ أملاكُهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤