السندباد

١

رفَع معروف حاكمُ الحي — بكل خشوع — اقتراحًا للسلطان بنقل سامي شكري كاتم السر، وخليل فارس كبير الشرطة إلى حيٍّ آخر، على أن يتفضَّل السلطان بتعيين نور الدين كاتمًا للسر، والمجنون كبيرًا للشرطة باسم جديد هو «عبد الله العاقل» .. ومن عَجبٍ أن السلطان استجاب له، ولو أنَّه سألَه: أَتطمئنُّ حقًّا إلى المجنون كبيرًا لشرطتكَ؟

فقال معروف بثقةٍ: كلَّ الاطمئنانِ يا مولاي.

فدعا له بالتوفيق، ثم سألَه: ماذا عن سياستكَ يا معروف؟

فقال الرجل بتواضُع: عشتُ عمري يا مولاي أُصلِح النعال حتى استقر الإصلاح في دمي.

وقد قلِق الوزير دندان، فقال للسلطان عقب انصراف معروف: ألا ترى يا مولاي أن حكم الحيِّ أصبح بيد نفَرٍ لا خبرة لهم؟

فقال السلطان بهدوءٍ: دعنا نُقدِم على تجربةٍ جديدة.

٢

وكان روَّاد مقهى الأمراء يتسامرون في مرحٍ يوافق ما طرأ على حيِّهِم عندما ظهر في مدخل المقهى رجلٌ غريبٌ، نحيل القامة مع ميلٍ للطول، أَسْودُ اللحية، رشيقُها، يستقر في عباءةٍ بغدادية، وعمامةٍ دِمشقية، ومركوبٍ مغربيٍّ، وبيده مسبحةٌ فارسيةٌ حبَّاتُها من اللؤلؤ النفيس .. انعقدَت الألسنة وانجذَبتْ نحوه الأبصار .. وبالرغم من أنَّه غريب إلا أنَّه أجال بينهم عينَين باسمتَين مشبعتَين بأُلفة أهل الدار .. وعلى حين فجأة، وثَب رجب الحمَّال قائمًا وهو يصيح: سبحانكَ ربي، ما أنت إلا السندباد!

قهقه القادم بحبور، تلقَّى بين ذراعَيه رفيقه القديم فتعانقا بحرارة .. وسرعان ما تلاقت الأيدي في مصافحةٍ صادقة، ثم مضى إلى موضعٍ خالٍ جنب المعلم سحلول ساحبًا معه صديقه وهذا يُقاوِم في حياءٍ هامسًا: هذا مكان السادة!

فقال السندباد: أنتَ وكيل أعمالي منذُ الساعة!

وسأله شملول الأحدب: كم عامًا مضت في غيابكَ يا سندباد؟

فقال بحَيرةٍ: الحقُّ أنني نسيتُ الزمن!

فقال عجر الحلاق: كأنها عشرةُ قرون!

فقال الطبيب عبد القادر المهيني: رأيتَ عوالم وعوالم، ماذا رأيتَ يا سندباد؟

فنَعِم الرجل بالاهتمام كثيرًا، ثم قال: لديَّ ما يسرُّ ويُفيد، وكلُّ شيْءٍ بأوانه .. صبركم حتى أستقرَّ.

فقال عجر: نُحدِّثكَ نحن عما وقع لنا!

– ماذا فعل الله بكم؟

فأجابه حسن العطار: مات كثيرون فشبعوا موتًا، ووُلِدَ كثيرون لا يشبعون من الحياة. هبط من الأعالي قومٌ وارتفع من القَعر قوم، أثرى أناسٌ بعد جوع، وتَسوَّل آخرون بعد عز، وفَد على مدينتنا عددٌ من أخيار الجن وأشرارهم، وآخر أخبارنا أن وَلِيَ حكم حيِّنا معروف الإسكافي.

فهتَف السندباد: حسبتُ الأعاجيب قاصرةً على رحلاتي، الآن يحقُّ لي العجب.

وقال إبراهيم السقَّاء: لا شكَّ أنَّكَ أصبحتَ من الأغنياء يا سندباد!

فقال بامتنانٍ: الله يهَب الرزق لمن يشاء بغير حساب.

فسأله جليل البزَّاز: هلَّا حدَّثتَنا عن أعجبِ ما صادفكَ؟

فلوَّح بالمسبحة الفارسية قائلًا: كل شيء مرهونٌ بوقته، عليَّ أن أبتاع قصرًا، وأفتح وكالةً لعرض النوادر من نفائس الجبال وأعماق البحار ومجهول الجزر، وسأدعوكم قريبًا لعَشاءٍ أُقدِّم فيه غرائب الأطعمة والأشربة، ثم أروي لكم رحلاتي العجيبة.

٣

في الحال وقع اختياره على قصر بميدان الفرسان، فعهد إلى سحلول مهمة تأثيثه وتزيينه، وفتح وكالةً جديدة في السوق أشرف عليها من اليوم الأول رجب الحمَّال، وفي أثناء ذلك زار الحاكم، وما إن خلا إليه حتى تعانقا عناق الرفاق القدامى .. وحكى له معروف حكايته بنفسه، فحكى له ما شاهد وما وقع به في رحلاته السبع، وقال له السندباد بعذوبةٍ: إنك أهلٌ لمنصبكَ.

فقال بإيمان: إني خادم الفقراء برعاية الله.

وزار معلِّم صباهُ الشيخَ عبدَ اللهِ البلخيَّ، فقبَّل يدَيه، وقال له: لم أمكث في رحابكَ إلا ما اقتضته التربية الأولية، ولكني ربحتُ منكَ كلماتٍ أضاءت لي الظلام في المُلِّمَات.

فقال الشيخ ملاطفًا: لا جدوى من بذرةٍ صالحة إلا في أرضٍ طيبة.

فقال بحماس: لعلَّكَ راغب في سماع مغامراتي يا مولاي؟

فقال الشيخ باسمًا: ليس العلم بكثرة الرواية، إنَّما العلم من اتبَعَ العلم واستعملَه.

– ستجد فيها يا مولاي ما يسرُّك.

فقال بفتورٍ: طوبى لمن كان همُّه همًّا واحدًا، ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه وسمعَت أذناه، ومن عَرفَ الله فإنَّه يزهد في كل شيءٍ يشغلُه عنه.

وتَمَّ له الاستقرار، ودعا أصحابه إلى الوليمة، وهناك روى لهم ما حدَث له في رحلاته السبع، ومنهم انتشَر في الحيِّ، ثم في المدينة، فهزَّت الأفئدة وأشعلَت الأخيلة.

٤

وذات يومٍ استدعاه حاكم الحي معروف وقال له: أبشر يا سندباد، مولانا السلطان شهريار يرغب في رؤيتكَ.

فسُرَّ بذلك أيَّما سرورٍ، ومضى من فوره إلى القصر بصحبة كبير الشرطة عبد الله العاقل .. غير أنَّه لم يتشرَّف بالمثول بين يدَي السلطان إلا أوَّلَ الليلِ فذهبوا به إلى الحديقة .. جلس حيث أُجلس في ظلمةٍ شاملة، وأنفاسُ الربيع تنفُذ في أعماقه أخلاطًا من روائحِ الزهورِ تحت سقفٍ يُومِض بالنجوم .. كان السلطان يتحدَّث بهدوءٍ ولطفٍ فاطمأن قلبه وزايلَته الرهبة وحلَّ الأنس والحب .. سأله عن عمله الأول وعن حظِّه من العلوم وعمَّا جعله يعزم على الرحلة .. فأجاب بإيجازٍ يناسب المقام، وبصراحة وصدق .. قال شهريار: حدَّثني قومٌ عن رحلاتكَ، فرغبتُ أن أسمعَ منكَ ما تعلَّمتَه منها إن كنتَ حظيتَ منها بعلمٍ نافع، فلا تُكرِّر إلا ما تقتضيه الضرورة.

فتفكَّر سندباد مليًّا، ثم قال: الله المستعانُ يا مولاي.

– إنِّي مُصغٍ إليكَ يا سندباد.

ملأ الرجل صدره بالأريج الطيب، ثم قال: تعلَّمتُ يا مولاي أوَّل ما تعلَّمتُ أنَّ الإنسان قد ينخدع بالوهم فيظنُّه حقيقة، وأنَّه لا نجاة لنا إلا إذا أقمنا فوق أرضٍ صلبة؛ فإنَّه لما غرقَت سفينتُنا في رحلتنا الأولى سبَحتُ متعلقًا بلوحٍ من ألواحها حتى اهتديتُ إلى جزيرةٍ سوداء، شكرنا الله، أنا ومن معي، وجُلنا في أنحائها نفتِّش عن ثمرة، ولمَّا لم نَجد تجمَّعنا على الشاطئ متعلِّقةً آمالُنا بأيِّ سفينةٍ تعبُر .. وما ندري إلا وأحدنا يصيح: الأرض تتحرك!

نظرنا فوجدناها تميدُ بنا فركِبَنا الفزع، وإذا بآخر يصيح: الأرض تغرق.

أجل، كانت تغوص في الماء! ورميتُ بنفسي في الماء .. وضَح لنا أنَّ ما ظننَّاه أرضًا لم يكن إلا ظهر حوتٍ كبير، أزعجَتْه حركتُنا فوقه فمضى إلى عالمه يحُفُّ به الجلال .. وسبَحتُ مُسَلِّمًا أمري للمقادر حتى ارتطمَت يداي بصخور، ومنها زحفتُ إلى جزيرةٍ حقيقية يجري فيها الماء وتكثُر الفاكهة، عشتُ بها زمنًا حتى مرَّت بي سفينةٌ فنجوتُ بها.

فتساءل السلطان: وكيف تُفرِّق بين الوهم والحقيقة؟

فقال بعد تردُّدٍ: علينا أن نستعمل ما وهبنا الله من حواسَّ وعقل.

فهز السلطان رأسه، وقال: استَمِرَّ يا سندباد.

فقال السندباد: تعلَّمتُ أيضًا يا مولاي أنَّ النوم لا يجوز إذا وجبَت اليقظة، وأنَّه لا يأس مع الحياة؛ فقد ارتطمَت السفينة بصخورٍ ناتئةٍ فتحطَّمتْ وانتقل مَن عليها إلى جزيرة، جزيرةٍ جرداءَ لا ماء فيها ولا شجر، ولكننا حمَلْنا معنا أغذية وقرب مياه، ورأيتُ صخرةً كبيرة على مبعدةٍ يسيرة فقلتُ أنامُ في ظلِّها ساعة .. ونمتُ، وصحوتُ فلم أجد لإخواني أثرًا، ناديتُ فلم أسمع مجيبًا، عَدَوتُ نحو الشاطئ فرأيتُ سفينةً تنحدر وراء الأفق، ورأيتُ الأمواج تَهدرُ منشدةً نشيد اليأس والموت، أدركتُ أنَّها انتشلَت أصحابي، وأنَّهم في نشوة النجاة نسُوا صاحبهم النائم وراء الصخرة، لا نَأْمَةَ تصدُر عن حي، ولا شيء يعلو عن سطح الأرض الجرداء إلا الصخرة، ولكن أي صخرة؟! نظرتُ بعينَيَّ اللتَين أحدَّهما الفزع فتبيَّن لي أنَّها بيضةٌ لا صخرة كما بدت لعينيَّ المرهقتَيْن، بيضةٌ في حجم بيتٍ كبير، بيضة أيِّ طائر؟! ودهمَني الفزعُ من ذاك العدوِّ المجهول وأنا أغوص في خلاء الموت البطيء .. وإذا بنور الشمس ينطفئ وينتشر جوٌّ أسمر كالمغيب فرفعتُ بصري فرأيتُ كائنًا كالنسر ولكنه يفوقه في الحجم مئات المرات، رأيتُه يهبط وئيدًا حتى يرقُد فوقها، أدركتُ أنَّه يحتويها ليطير بها، فخطَرتْ لي فكرةٌ جنونية فربطتُ نفسي في طرفِ ساقه الشبيه بالصاري، وحلَّق بي طائرًا فوق الأرض، فبدا لعيني كلُّ شيء صغيرًا تافهًا، كأنَّما لا ينبض به أمل أو ألم، حتى حطَّ فوق قمة جبلٍ، ففكَكتُ رباطي وزحفتُ إلى ما وراء شجرةٍ فارعة لم أرَ مثلها من قبلُ، واستراح الطائر ساعةً ثم واصل رحلته نحو المجهول فقهَرني النوم، ولمَّا استيقظتُ كانت الشمس تشتعل في الضحى، التهمتُ من حشائش الأرض ما أسكَت جوعي وروَيتُ عطَشي من نقرةٍ مُترَعة بماءٍ صافٍ، عند ذاك انتبهتُ إلى أنَّ الأرض تعكس إشعاعًا يبهرُ البصر، فتفحَّصتُه فتكشَّف لي سطح الأرض عن ماسٍ حر، وتحرَّك طموحي رغم تعاستي، فقلعتُ منه ما استطعتُ وصَررتُه في سروالي، وانحدرتُ فوق السطح حتى انتهيتُ إلى شاطئ، حيث أنقذَتني سفينةٌ عابرة.

قال شهريار بهدوء: إنَّه الرُّخُّ الذي نسمع عنه ولا نراه، إنَّك أول إنسان يُسخِّره لأغراضه يا سندباد، فاعلم ذلك أيضًا.

فقال سندباد بحياءٍ: إنَّها مشيئة اللهِ المتعالِ.

ثم واصَل حديثه قائلًا: تعلَّمتُ أيضًا يا مولاي أنَّ الطعام غذاء عند الاعتدال ومهلكةٌ عند النهَم، ويصدُق على الشهوات ما يصدق عليه؛ فقد تحطَّمتِ السفينة كسابقتها فوجدنا أنفسنا في جزيرة يحكُمها ملِكٌ عملاق لكنه كريمٌ مضياف، رحَّب بنا ترحيبًا فاق جميع آمالنا، ولم يكن لنا في كنَفه إلا الاسترخاءُ والسمَر، وقد قدَّم لنا من صنوف الطعام وألوانه ما لا يخطُر ببال، فأقبلنا على الطعام كالمجانين، غير أنَّ كلماتٍ قديمةً تلقَّيتُها في صباي عن مولاي الشيخ عبد الله البلخي صدَّتني عن الإفراط ويسَّرتْ لي وقتًا طويلًا للعبادة، على حين أنفق أصحابي وقتهم في التهام الطعام والنوم الثقيل في أعقاب الامتلاء، فازداد وزنهم زيادةً فظيعة واكتظُّوا باللحم والدهن، فانقلبوا كالبراميل .. وجاء الملك ذات يومٍ فتأمَّلَنا رجلًا رجلًا، ثم دعا أصحابي إلى قصره والتفت إليَّ قائلًا في ازدراءٍ: إنَّكَ كالأرضِ الصخرية لا تُثمر.

فحزنتُ لذلك .. وخطَر لي أن أتسلَّل بليلٍ لأرى ما يفعل أصحابي، فرأيتُ رجال الملك وهم يذبحون الربَّان، ويقدِّمونه للملكِ فالتهمه بوحشيةٍ وتلذُّذ .. فَطِنتُ في الحال إلى سِر كرمه، وهربتُ إلى الشاطئ حتى أنقذَتني سفينة.

تمتَم السلطان: أبقاكَ تورُّعُكَ يا سندباد.

ثم قال وكأنما يُحادِث نفسه: ولكنَّ الملك أيضًا في حاجة إلى الورع!

استبقى السندباد صدى تعليق السلطان دقيقة، ثم واصل حديثه قائلًا: تعلَّمتُ أيضا يا مولاي أنَّ الإبقاء على التقاليد البالية سخفٌ ومهلكة؛ فقد غرقَت السفينة وهي في طريقها إلى الصين، فلُذْتُ ومعي نفَر من المسافرينَ إلى جزيرةٍ غنية معتدلة الجوِّ يسودها السلام ويحكُمها ملكٌ طيب، وقال لنا: سأعتبركم ضمن رعاياي. لكم ما لهم، وعليكم ما عليهم.

فسُرِرنا بذلك ودعونا له .. ومبالغةً في إكرامنا وهبَنا من جواريه زوجاتٍ جميلاتٍ .. فطابت لنا الحياة وتيسَّرتِ المعيشة .. وحدث أن تُوفِّيتْ إحدى الزوجات فجهَّزها الملك للدفن، وقال لصاحبنا الأرمل: يؤسفني فِراقُكَ، فإنَّ تقاليدنا تقضي بدفن الزوج حيًّا مع زوجته الميتة، وهو يجري على الزوجة إذا سبقَها الزوج إلى النهاية.

فارتعَب صاحبنا، وقال للملك: ولكن ديننا لا يكلِّفنا بذلك.

ولكن الملك قال له: لا شأن لنا بدينكم، وتقاليدنا مقدَّسة.

ودُفن الرجل حيًّا مع جثمان زوجته، فتكدَّر صفونا، وتجهَّم لنا المستقبل .. وجعلتُ أُراقب زوجتي مُشفِقًا، وكلما اشتكَت توعُّكًا خفيفًا زلزل كياني كله .. وعندما جاءها المخاض ساءت حالتُها فما كان منى إلا أن هربتُ إلى الغابة حتى عبرَتْ سفينةٌ ذات يومٍ قريبًا من الشاطئ فألقيتُ بنفسي في الماء، وسبَحتُ نحوها وأنا أستغيث، حتى انتشلَتني وأنا على وشكِ الغرق.

فغمغم السلطان وكأنَّما يخاطب نفسه: التقاليد هي الماضي، ومن الماضي ما يجب أن يصبح في خبر كان!

خُيِّل إليه أنَّ لحديث السلطان بقيةً فآوى إلى الصمت، غير أنَّ شهريار قال: استمرَّ يا سندباد.

قال السندباد: تعلَّمتُ أيضًا يا مولاي أنَّ الحرية حياة الروح، وأنَّ الجنة نفسها لا تُغني عن الإنسان شيئًا إذا خسر حريته؛ فقد لَقِيَت سفينتُنا عاصفةً أَودَتْ بها، فلم ينجُ من رجالها أحدٌ سواي .. قذف بي الموج إلى جزيرةٍ فيحاءَ، معتدلة الجو، غنية بالثمار والجداول، فشَبعتُ، وارتوَيتُ، واغتسلتُ، ومضيتُ في جنباتها مستطلعًا، فصادفَني عجوزٌ ملقًى تحت شجرة، لا حول له ولا قوة، فتَوسَّل إليَّ قائلًا: إنِّي عاجز كما ترى، فهلَّا حملتَني إلى كوخي؟

وأشار بذَقنه ناحيةً فما تردَّدتُ عن حمله .. ورفعتُه فوق منكبي، وسرتُ به إلى حيث أشار .. لم أعثُر لكوخه على أثَر فسألتُه: أين مأواكَ يا عم؟

فقال بصوتٍ قوي غير الذي خاطبَني به أول مرة: الجزيرة مأواي، وهي جزيرتي، ولكني في حاجةٍ إلى من يحملُني!

فأردتُ إنزاله عن كاهلي، ولكني عجزتُ عن زحزحة رجلَيه عن عنقي وضلوعي، كأنما هو بناءٌ مثبَّت بالحديد، فتوسَّلتُ إليه بدوري: اتركني وستجدُني عند الحاجة في خدمتكَ.

ولكنه ضحك ساخرًا مني متجاهلًا لتوسلاتي .. هكذا قضى عليَّ أن أعيش عبدًا له، فلم يطب لي صحوٌ ولا نومٌ، ولم أهنأ بلذيذ المأكل والمشرب، حتى خطَرتْ لي فكرةٌ فجعلتُ أعصر عنبًا في نقرة، وتركتُه حتى تخمَّر، ثم أسقيتُه منه حتى سَكِر، وتراخت عضلاته الفولاذية فرميتُه عن كاهلي، وتناولتُ حجرًا فحطَّمتُ به رأسه وأنقذتُ العالم من شَرِّه .. وسكَنتُ في الجزيرة زمنًا سعيدًا لم أَدْرِه حتى أنقذَتني سفينة.

فتنهَّد شهريار قائلًا: ما أكثَر ما يستعبدنا في هذه الدنيا! ماذا تعلَّمْتَ أيضًا ياسندباد؟

فقال السندباد: أيضًا تعلَّمتُ يا مولاي أنَّ الإنسان قد تُتاح له مُعجزةٌ من المعجزات ولكن لا يكتفي بأن يمارسها ويستعلي بها، وإنَّما عليه أن يُقبل عليها مستهديًا بنورٍ من الله يضيء قلبه؛ فقد غرقَت السفينة كسابقاتها ولُذْتُ أنا بجزيرةٍ تستحقُّ أن أدعُوَها بجزيرة الأحلام .. جزيرةٍ غنيةٍ بالحسانِ من كل لون وشكل .. مال قلبي إلى إحداهنَّ فتزوَّجتُ منها وسَعِدتُ بها .. ولمَّا اطمأن القوم إليَّ ركَّبوا تحت إبطيَّ ريشًا وأخبروني بأنني أستطيع أن أطير وقتما أشاء .. وسُرِرتُ بذلك جدًّا وتوثَّبتُ لاقتحام التجربة التي لم يُجرِّبها إنسانٌ قبلي .. غير أنَّ زوجتي قالت لي سرًّا: احذر أن تذكُر اسم الله وأنت في الجوِّ وإلا احترقتَ!

وفي الحال أدركتُ أنَّ دم الشيطان يجري في دمائهم، فنَفرتُ منهم وطرتُ مصمِّمًا على الهرب، وسبَحتُ في الجوِّ طويلًا ولا هدَف لي إلا مدينتي حتى بلغتُها بعد أن آيستُ من ذلك، فالحمد لله رب العالمين.

صمَت الملك مليًّا، ثم قال: لقد رأيْتَ من عجائب الدنيا ما لم تَرَه عينُ بشر، وتعلَّمتَ دروسًا عن معاناة وخبرة، فاهنأ بما رزقكَ الله من مال وحكمة.

٥

قام شهريار وصدره يجيش بانفعالاتٍ طاغيةٍ .. غاص في الحديقة فوق الممشى الملكيِّ شبحًا ضئيلًا وسط أشباحٍ عمالقةٍ تحت نجومٍ لاحصرَ لها ولا حدَّ .. أطبقَت على أُذنَيه أصواتُ الماضي فمحت ألحان الحديقة، هُتاف النصر، زمجرة الغضب، أنَّات العذارى، هدير المؤمنين، غناء المنافقين .. نداءات اسمه من فوق المنابر .. تجلَّى له زيف المجد الكاذب كقناعٍ من ورقٍ متهرِّئٍ لا يُخفي ما وراءه من ثعابينِ القسوةِ والظلم والنهب والدماء .. لعن أباه وأمه، وأصحابَ الفتاوى المهلكة، والشعرَ والشعراءَ، وفرسانَ الباطل، ولصوصَ بيت المال، وعاهراتِ الأُسرِ الكريمة، والذهبَ المنهوبَ المُهْدَر في الأقداح، والعمائمَ والجدرانَ والمقاعدَ والقلوبَ الخاويةَ، والنفسَ المنتحرة، وضحكاتِ الكونِ الساخرةَ.

ورجَع من رحلته عند منتصف الليل، فاستدعى شهرزاد فأجلَسها إلى جانبه وهو يقول: ما أشبهَ حكاياتِ سندباد بحكاياتكِ يا شهرزاد!

فقالت شهرزاد: جميعها تصدر عن منبعٍ واحد يا مولاي.

صمَت كأنما ليُنصِتَ إلى همس الغصون وزقزقة العصافير، فتساءلَت شهرزاد: هل ينوي مولاي الخروج إلى إحدى جولاته الليلة؟

فقال بفتورٍ: كلَّا.

ثم بصوتٍ منخفضٍ: أوشكتُ أن أضجرَ من كل شيء.

فقالت بإشفاق: الحكيم لا يضجر يا مولاي.

فتساءل بامتعاضٍ: أنا؟! .. الحكمة مطلبٌ عسير، إنَّها لا تورَّث كما يورَّث العرش.

– المدينة اليوم تنعم بحُكمكَ الصالح.

– والماضي يا شهرزاد؟

– التوبة الصادقة تمحق الماضي.

– وإنْ حفَل بقتل الفتيات البريئات والأفذاذ من أهل الرأي؟

فقال بصوتٍ متهدِّجٍ: التوبة الصادقة.

ولكنَّه قاطَعها: لا تُحاولي خداعي يا شهرزاد.

– ولكنِّي يا مولاي أقول الحقَّ.

فقال بخشونةٍ وحزمٍ: الحقُّ أنَّ جسمَكِ مقبلٌ وقلبَكِ نافرٌ.

فزعَت .. كأنما تعرَّت في الظلام، هتفت محتجةً: مولاي.

– لستُ حكيمًا ولكنني لستُ أحمق أيضًا، طالما لمستُ احتقارَكِ ونفورَكِ.

تمزَّقتْ نبراتها وهي تقول: عَلِم الله …

لكنَّه قاطعها: لا تكذبي، ولا تخافي، لقد عاشرتِ رجلًا غارقًا في دماء الشهداء.

– كلنا نلهج بحسناتك.

فقال دون مبالاةٍ بقولها: أتدرين لِمَ أبقيْتُ عليكِ قريبًا مني؟ لأنَّي وجدتُ في نفوركِ عذابًا متواصلًا أستحقُّه، أما ما يُحزنُني فهو أنَّني أومن بأنَّني أستحقُّ جزاءً أشدَّ.

فلم تتمالَكْ أن بكت، فقال برقَّةٍ: ابكي يا شهرزاد؛ فالبكاء أفضل من الكذب.

هتفَت: لا أستطيع أن أتقلَّب في نعمتكَ بعد الليلة.

فقال محتجًّا: القصرُ قصركِ، وقصرُ ابنكِ الذي سيحكم المدينة غدًا، أنا الذي يجب أن أذهب حاملًا ماضيَّ الدامِيَ.

– مولاي!

– على مدى عشر سنوات عشتُ ممزقًا بين الإغراء والواجب، أتذكَّر وأتناسى، أتأدَّب وأفجُر، أمضي وأندم، أتقدَّم وأتأخر، أتعذَّب في جميع الأحوال، آن لي أن أُصْغِيَ إلى نداء الخلاص، نداء الحكمة.

قالت بنبرةٍ اعترافيةٍ: إنكَ تنبذُني وقلبي يتفتَّح لكَ.

فقال بصرامةٍ: لم أعُد أبحث عن قلوب البشر.

– إنَّه قضاءٌ معاكس يعبث بنا.

– علينا أن نرضى بما قٌدِّرَ لنا.

فقالت بمرارةٍ: مكاني الطبيعي هو ظلُّك.

فقال بهدوءٍ لا يتأثَّر بالانفعالات: السلطان يجب أن يذهب بما فقد من أهلية، أما الإنسان فعليه أن يجد خلاصه.

– إنكَ تُعرِّضُ المدينة لأهوالٍ.

– بل إنِّي أفتح لها باب النقاء وأهيم على وجهي باحثًا عن خلاصي.

مدَّت راحتها إلى راحته في الظلام، لكنَّهُ سحب يده قائلًا: انهضي لمهمَّتكِ، لقد أدَّبْتِ الأبَ، وعليكِ أن تُعِدِّي الابنَ لمصيرٍ أفضلَ.

٦

ظنَّ السندباد أنَّه سينعم بمسرَّات العمل والسمر حتى نهاية العمر، ولكنه رأى حُلمًا .. ولما استيقَظ لم ينسَ الحلم ولم يتلاشَ أثَره .. ما هذا الحنينُ؟ هل قُدِّرَ له أن يمضيَ العمرَ تتقاذَفه أمواج البحار؟ من ذا الذي يُناديه من وراء الأفق؟ أَيريدُ من الدنيا أكثر مما أعطَته؟ أغلَق وكالتَه مساءً ومضى إلى دار عبد الله البلخيِّ وهو يقول: عنده الرأي .. ولمح في طريقه إلى حجرة الشيخ زبيدة ابنتَهُ فمادَتْ به الأرضُ واجتاحه هدفٌ جديد للزيارة لم يخطُر بباله من قبلُ .. وجد الشيخ ووجد معه الطبيب عبد القادر المهيني .. جلس حائرًا متردِّدًا، ثم قال: جئتُ يا مولاي طالبًا يد كريمتكم.

فثقَبه الشيخ بنظرةٍ باسمةٍ، وقال: كلَّا، دفعَكَ للمجيء دافعٌ آخَر!

فبُهتَ السندباد ولم ينبِسْ .. فقال الشيخ: ابنتي مذ قُتل زوجها علاء الدين قد كرَّستْ نفسَها للطريق.

فتمتَم السندباد: الزواج لا يصُد عن الطريق.

– قالت كلمتَها النهائية في ذلك!

تنهَّد السندباد آسفًا، فسأله الشيخ: ماذا دفعكَ إليَّ يا سندباد؟

فأطال الصمْت كفاصلٍ بين الادِّعاء والحقيقة، ثم همَس: القلق يا مولاي.

فتساءل عبد القادر المهيني: هل أصاب تجارتَكَ الكساد؟

فقال السندباد: إنَّه قلقُ من لا يجدُ سببًا ملموسًا للقلق.

فقال الشيخ: أفصِحْ يا سندباد.

– كأنَّما تلقيتُ دعوةً من وراء البحار!

فقال عبد القادر المهيني ببساطة: سافر؛ ففي الأسفار سَبعُ فوائد.

فقال السندباد: رأيتُ في الحُلم الرُّخَّ يرفرف بجناحَيه.

فقال الشيخ: لعلها دعوةٌ إلى السماء.

فقال في تسليمٍ: إنِّي من رجال البحر والجزر.

فقال الشيخ: اعلَم أنَّك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات، أولاها أن تُغلِق باب النعمة وتفتح باب الشدَّة، والثانية أن تُغلِق باب العز وتفتح باب الذل، والثالثة أن تُغلِق باب الراحة وتفتح باب الجهد، والرابعة أن تُغلِق باب النوم وتفتح باب السهر، والخامسة أن تُغلِق باب الغنى وتفتح باب الفقر، والسادسة أن تُغلِق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت.

فقال بأدبٍ: لستُ من هؤلاء الصفوة، ولكنْ بابُ الصلاح يتسعُ لآخرينَ.

فقال الطبيب عبد القادر المهيني: نطقتَ بالصدق.

فقال الشيخ للسندباد: إذا أردتَ أن تكون في راحةٍ فكُلْ ما أصبْتَ، والبَسْ ما وجدْتَ، وارضَ بما قضى الله عليكَ.

فقال السندباد: حسبي أني أعبدُ الله يا مولاي.

فقال الشيخ: اطَّلعَ الله على قلوب أوليائه؛ فمنهم من لم يكن يصلُح لحمل المعرفة حرفًا فشغلهم بالعبادة.

فقال الطبيب مخاطبًا الشيخ: لقد رأى وسمع، إني أغبطه.

فقال الشيخ: طوبى لمن كان همُّهُ همًّا واحدًا، ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه وسمعَت أذناه.

– انهمَرتِ النداءاتُ من ألف عجيبةٍ وعجيبةٍ.

فردَّد الشيخ:

أنا في الغربة أبكي
ما بكَت عينُ غريبِ
لم أكُن يوم خروجي
من بلادي بمصيبِ
عجبًا لي ولتركي
وطنًا فيه حبيبي

فنظر المهيني إلى الشيخ مليًّا، ثم قال: إنَّه راحل يا مولاي فودِّعْه بكلمةٍ طيبة!

فابتسم الشيخ برقَّةٍ، وقال للسندباد: إذا سلمَتْ منك نفسُك فقد أدَّيتَ حقَّها، وإذا سلم منك الخلقُ فقد أدَّيتَ حقوقَهم.

فهوى السندباد على يده فقبَّلها، ثم نظر إلى الطبيب ممتنًّا، وهمَّ بالقيام غير أنَّ الطبيب وضع يده على مَنكِبه وقال: اذهب مصحوبًا بالسلامة، ثم عُد محمَّلًا بالماس والحِكَم، ولكن لا تُكرِّر الخطأ.

فتجلَّت في عينَي السندباد نظرةٌ حَيرَى، فقال المهيني: لم يطِر الرُّخُّ بإنسانٍ قبلَك، فماذا فعلْتَ؟ تركتَه عند أول فرصة منجذبًا ببريق الماس.

– بل لم أكَدْ أصدِّقُ بالنجاة.

فقال المهيني بحماسٍ: الرخُّ يطير من عالمٍ مجهول إلى عالمٍ مجهول، ويَثِب من قمة الواق إلى قمة قاف فلا تقنع بشيءٍ؛ فهي مشيئة ذي الجلال!

وكأن السندباد قد شرب عشرة أرطالٍ من الخمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤