جمصة البلطي

١

سبحَتْ روحُ صنعان الجمالي في سماء مقهى الأمراءِ فغَشِيَ روَّادَها الكَدَرُ، شهدوا محاكمته، سمعوا اعترافه الكامل، رأَوْا سيفَ شبيب رامة السيَّافِ وهو يطيح برأسه .. كانت له منزلةٌ طيبةٌ بين التُّجَّارِ والأعيان، وكان من القلة النادرة التي يُحبُّها الفقراء، وأمام أولئك وهؤلاء ضُربَت عُنقُه، وشُرِّدَت أسرتُه .. ذاعَتْ قصتُه على كل لسان، هزَّت أفئدةَ الحيِ والمدينةِ، استعادها السلطانُ شهريار مراتٍ ومرات .. وفي جوِّ المقهى المُلَطَّفِ بطلائع الخريف، قال حمدان طنيشة المقاولُ: الله خالق المُلْكِ وصاحبُه، المتصرفُ في شئونه بما يشاءُ، يقول للشيء كُن فيكُون، من منكم كان يتصوَّرُ هذا المصيرَ لصنعان الجمالي؟! صنعان يغتصبُ بنتًا في العاشرة ويخنقُها؟! صنعان يقتل حاكم الحيِّ في أوَّل لقاءٍ معه؟!

فقال إبراهيم العطار: باستبعاد العِفْريت تُصبحُ الحكايةُ لغزًا من الألغاز!

فقال الطبيب عبد القادر المهيني: لعلها عضَّةُ الكلبِ، هي الأصلُ، ثم تفرَّعَ عنها خيالاتُ مرضٍ خبيث لم يعالجْ كما يجبُ!

فقال إبراهيم العطار مُحتَدًّا: لا يُوجد مَن هو أخبرُ مني بمداواة عضَّةِ الكلب، آخرُهم كان معروفَ الإسكافيَّ .. أَليس كذلك يا معروفُ؟

فأجاب معروف من مجلسه في الوسط بين العامَّةِ: الحمد لله الذي أتمَّ عليَّ نعمةَ الشفاء.

فتساءل عجر الحلاق: ولِمَ لا نُصدِّقُ حكايةَ العِفريتِ؟

فقال إبراهيم السقَّاءُ: إنَّهم يفوقونَ الآدميينَ عدًّا.

فقال سحلول تاجرُ المزاداتِ والتحفِ: الموتُ في غنًى عن الأسباب.

فقال معروف الإسكافي: لي مع العفاريت حكاياتٌ وحكاياتٌ.

عند ذلك قال شملول الأحدب، مهرج السلطان: علمنا أنَّ العفاريتَ تتجنَّبُ دارَك خوفًا من زوجتكَ.

فابتسم معروف مسلِّمًا بقضائه .. ولم تلقَ الدُّعابةُ نجاحًا في الجوِّ الكئيب .. وقال جليل البزَّاز: ضاع صنعان وضاعت أُسرته.

فقال كرم الأصيل، صاحب الملايين، والوجه الشبيه بالقرد: ومدُّ يدِ العونِ لأُسرته يعتبرُ تحديًا للإمارة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

فقال إبراهيم العطار: أخوفُ ما أخافُ أن يفرَّ الناسُ من أُسرته اتقاءً لشرِّ العفاريتِ.

فقال حسن العطار الابن: هيهاتَ أن يغيِّرَ شيءٌ ما بيني وبين فاضل صنعان.

وعاد حمدان طنيشة المقاولُ يقول: يقولُ للشيْءِ كنْ فيكُونُ.

٢

انطلق جمصة البلطي، كبيرُ الشرطة، نحو النهرِ ليمارسَ هوايتَه المفضَّلةَ في الصيد — كفَّ نفسَهُ أربعينَ يومًا عن هوايته حدادًا على رئيسه علي السلولي — وقد حزن على القاتل أيضًا — في باطنه — بحُكْم الجيرة والصداقة القديمة التي جعلَت من الأُسرتَين أسرةً واحدةً .. ربَّاهُ! هو الذي قبض عليه، هو الذي رماه في السجن، هو الذي قدَّمه للمحاكمة، ثم ساقه أخيرًا للسيَّاف شبيب رامة .. هو أيضًا من علَّق رأسه بأعلى دارِه وصادرَ أموالَه وطردَ أُسرتَه من الدار إلى النار .. وعلى ما عُرفَ به من شدَّةٍ وصلابة، فقد تكدَّر صفوُه وحزن قلبه — له قلبٌ؛ رغم أنَّ كثيرينَ لا يتصوَّرونَ ذلك — بل أحبَّ هذا القلبُ حسنيةَ، كريمةَ صنعان، وأوشكَ أن يطلُبَ يدها، لولا أن دهَمتْهُ الحوادثُ .. اليوم طاب الجوُّ، وهَامَت في السماء سحائبُ خريفٍ صافيةٌ، ولكنَّ حُبَّه دُهسَ تحت عجلةِ الأحداثِ .. ترك بغلَته مع عبدٍ، ثم دفع القارب إلى وسط النهرِ، ورمى بالشبَكة .. قطراتٌ من الراحة في خِضَمِّ العملِ الشَّاقِّ الوحشيِّ .. ابتسم .. سرعان ما تمَّ التفاهمُ بينه وبين الحاكمِ الجديدِ خليل الهمذاني .. من أين يجيءُ شهريار بهؤلاء الحكام؟! أسفَر الرجل عن وجهه عند أوَّلِ تجربة .. التجربة كانت أموالَ صنعان المصادرةَ .. استولى على نصيبٍ منها لا يُستهان به، وألقَم بطيشة مرجان، كما ألقَمه نصيبَه .. وأضاف المُتبقِّي إلى بيت المال .. استولى على نصيبه، بالرغم من حزنه لمصير صديقه؛ معتذرًا أمام نفسه بأنَّ الرفض يعني تحديًا للحاكم الجديد .. في قلبه موضعٌ للعواطف، وموضعٌ للقسوة والجشع .. قال لنفسه: «من تعفَّف جاع في هذه المدينة.» .. وتساءل ساخرًا: «ماذا يجري علينا لو تولَّى أُمورَنا حاكمٌ عادلٌ؟!» .. أَليس السلطانُ نفسُه هو من قتل مئاتٍ من العذارى، والعشراتِ من أهل الورَع والتُّقى؟! ما أخفَّ موازينَه إذا قيس بغيره من أكابر السلطنة .. تنفَّس بعمق .. حقًّا إنَّه يومٌ جميل .. السماء منقوشةٌ بالسحب .. الهواء معتدل، مُضَمَّخٌ برائحة العشب والماء، الشبكة تمتلئ بالسمك، ولكن أين حسنية؟ أَأسرةُ صنعانَ تقيمُ اليوم بحُجرة بِرَبْع؟ .. بعد الجاه والجواهر والإصطبل .. أُمُّ السعدِ تصنعُ الحلوى التي كانت تَسحَرُ بها ألبابَ الضيوف، وفاضل يسرحُ بها كبائعٍ جوَّال، أما حسنيَّة فتنتظرُ عريسًا لن يأتي .. هل حقًّا سخَّركَ عِفريتٌ يا صنعان أو أَتْلَفَتكَ عضَّةُ كلب؟! لن أنسى نظرتَكَ الزائغة واستغاثتَك بي: «أُسرتي يا جمصة» .. هيهات أن يجرؤَ إنسانٌ على مدِّ يدِه إلى أُسرتك .. ابنك فاضل أيضًا ولَدٌ ذو كبرياء .. ضعتَ يا صنعان وما كان كان .. إن يكن عِفريتُك مؤمنًا حقًّا فليفعل شيئًا .. عجيبةٌ هذه السلطنةُ، بناسها وعفاريتها .. ترفع شعار الله، وتغوص في الدنس .. وبغتةً تحوَّل وعيُه إلى يده .. ثقُلَت الشبكةُ مُبشِّرةً بالخير .. جذَبها بسرور، حتى استوَتْ فوق سطح القارب .. لم يَرَ بها سمكةً واحدة!

٣

ذُهِل جمصة البلطي .. ثمَّة كرةٌ معدنيةٌ ولا شيءَ سواها .. تناولَها حانِقًا، قلَّبَها بين يدَيه، ثم رمَى بها في باطن القارب .. أحدثَت صوتًا عميقًا مؤثرًا .. حدَث بها شيءٌ غيرُ ملحوظٍ فتمخَّضَ عن انفجار .. انطلَق منها ما يشبهُ الغُبار مُدَوِّمًا في الجوِّ حتى عانَق سُحبَ الخريف .. وتلاشَى الغبار تاركًا وجودًا خفيفًا جثَم عليه فملأ شعوره بحضوره الطاغي .. ارتعب جمصة على إيلافه مواقف الخطر .. أدرك بسابق علمه أنَّه حِيالَ عِفريتٍ منطلقٍ من قمقم .. ما ملَك أن هتف: الأمان بحقِّ مولانا سليمان!

فقال صوتٌ لم يسمع له مثيلًا من قبلُ: ما أعذبَ الحريةَ بعد جحيمِ السجن!

فقال البلطي متودِّدًا بحلْقٍ جافٍّ: خلاصُك تمَّ على يدي.

– أخبِرْني أولًا عمَّا فعل الله بسليمان؟

– مات سيدُنا سليمان منذ أكثرَ من ألف عام.

– مباركةٌ مشيئةُ الله، هي التي سلَّطَت علينا إرادةَ آدمي لا يرقى تُرابُه إلى نارنا، وذلك الآدميُّ هو الذي عاقَبني على هفوةٍ من هفوات القلب يغفر الله أكبرَ منها برحمته.

فقال جمصة بأملٍ متصاعدٍ: هنيئًا لك الحرية، فانطلِق واستمتِع بها.

قال بسخرية: أراكَ تطمع في النجاة!

– بما كنتُ وسيلةً إلى خلاصك!

– ما حرَّرني إلا القَدَر.

فقال جمصة بلهفة: وكنْتُ أداةَ القدَر.

فقال بحَنَق: في سجني الطويل امتلأتُ بالحَنَقِ والرغبةِ في الانتقام.

فقال بضراعة: العفو عند المقدرة من شيم الكرام.

– بارعونَ أنتم في الحفظ والاستشهاد والنفاق، وعلى قَدْر عِلمكُم يجب أن يكون حسابُكم، فالويلُ لكم.

فقال جمصة البلطي باستعطاف: نحن نخوض صراعًا متواصلًا مع أنفسنا والناس والحياة، وللصراع ضحايا لا يُحيط بهم حَصر، والأمل لا يَنعدِم أبدًا في رحمة الرحمن.

فقال العِفريت في صرامة: الرحمة لمن يستحق الرحمة، ورحاب الله مفروشة بأزاهيرِ الفرصِ المتاحةِ لمن استمسك بالحكمة؛ لذلك لا تحقُّ الرحمةُ إلا للمجتهدين وإلا أفسدتِ الروائحُ الكريهةُ نقاءَ الجوِّ المضيءِ بالنور الإلهي، فلا تعتذرْ عن الفساد بالفساد.

– نحن نؤمن بالرحمة حتى ونحن نضرب الأعناق ونَجْتَزُّ الرءوس.

– يا لك من منافق! .. ما عملُك؟

– كبير الشرطة.

– يا لها من ألقاب! هل تؤدي واجبك بما يُرضي الله؟

فقال جمصة بقلق: واجبي أن أُنفِّذ الأوامر.

– شعارٌ لا يصلُح لتغطية الخبائث.

– لا حيلةَ لي في ذلك.

– إذا دُعيتُم لخيرٍ ادَّعيتُم العجز، وإذا دُعيتُم لشرٍّ بادرتم إليه باسم الواجب!

وقع جمصة في حصارٍ مُحْكَم، وهَفَتْ عليه نُذُر الوعيدِ، فتراجَع إلى حافَة القارب وهو يرتعد .. في ذات الوقت شعَر بنفاذ وجودٍ جديدٍ هيمن على المكان، فآمن بمقدم عِفريتٍ آخَر وأيقن بالضياع .. قال القادم الجديد مخاطبًا الأولَ: هنيئًا لكَ الحرية يا سنجام.

– الشكر لله يا قمقام.

– لم أَرَكَ منذ أكثرَ من ألف عام.

– ما أقصرَها بالقياس إلى العمر، وما أطولَها إذا انقضَتْ في قمقم!

– وقعْتُ أنا أيضًا في شِباك السحر وهو يُضاهِي السجنَ في عذابه.

– ما تُصيبنا آفةٌ إلا من بني آدمَ.

– في فترة غيابكَ وقعَتْ أحداثٌ وأحداث، فلعلَّكَ يهمُّكَ أن تُلِمَّ بما فاتَك.

– بلى، ولكني أُريد أن أتخذَ قرارًا نحو هذا الآدمي.

– دَعْنا منه الآن، هيهاتَ أن يُفلِت من يدَيك إذا أردتَه، ولكن لا تتخذ قرارًا وأنت حانِق، فما هلَك منَّا عِفريتٌ إلا فريسةً لِغَضبه، هَلُمَّ بنا إلى جبل قاف نحتفل بتحريرك.

قال سنجام مخاطبًا البلطي: إلى اللقاء يا كبيرَ الشرطة.

مضى الوجود المهيمن يَخِف، حتى تلاشى تمامًا .. استردَّ جمصة حرية أعضائه، ولكنَّه تهاوى فوق سطحِ القارب، خائرَ القوى وثَمِلًا بالأمان في آنٍ.

٤

وثب جمصة البلطي إلى الشاطئ، فاستقبلَه العبد منحنيًا، ثم مضى يطوي الشبكة وهو يقول: ما في الشبكة سمكةٌ واحدة.

فقال جمصة بريقٍ جافٍّ: أَكنتَ تنظرُ نحوي وأنا في القارب؟

– طيلةَ الوقتِ يا مولاي.

– ماذا رأيتَ؟

– رأيتُكَ وأنتَ ترمي الشبكة، وأنتَ تنتظر، ثم وأنتَ تَجذِبها؛ لذلك أدهشَني أن أجدَها فارغةً.

– أَلَمْ ترَ دُخَانًا ينتشر؟

– كلَّا يا مولاي.

– أَلَمْ تسمعْ صوتًا غريبًا؟

– كلَّا.

– لعلَّكَ غَفوتَ!

– أبدًا يا مولاي.

– ما كان بوُسعِه أن يشُكَّ فيما وقع له .. إنَّه حقيقيٌّ أكثَر من الحقيقة نفسها .. وقد حُفرَ في ذاكرته اسمُ قمقام بمثل القوَّة التي حُفرَ بها اسمُ سنجام .. فذكَر اعترافاتِ صنعانَ في صورةٍ جديدة، فَخُيِّل إليه أنَّ صديقَهُ القديمَ راح ضحيةً تعيسةً .. وتساءل بقلقٍ عمَّا يخبئُه له الغيبُ.

٥

طوى سِرَّه في صدره .. حتى رسميةُ زوجتُهُ لم تعلمْ به .. وهو سرٌّ يثقلُ على الصدر والقلب، ولكن ما الحيلةُ؟ .. إذا فشا يومًا أَضرَّ بمركزه وأَفقدَه وظيفتَه .. وأَرِقَ الليلَ متفكرًا في العواقب مُصمِّمًا على الحذَر .. سنجام مؤمنٌ فيما بَدَا، وسيحفظ له جميلَ تحريرِه ولو صدْفةً .. نام عقبَ صلاةِ الفجرِ ساعةً، ثم استيقظ على حالٍ أفضلَ .. كان بطبيعته قويًّا يتحدَّى الصعابَ والوساوسَ .. لقد استأنس السلوليُّ والهمذاني، وليس سنجامُ بأشدَّ مِراسًا منهما .. وقالت له رسمية وهما يشربانِ لبن الصباح: أمسِ زارَتْني جارتُنا القديمةُ أمُّ السعد.

توتَّرت أعصابُه فجأةً .. قدَّر خطورةَ الزيارة تقديرَ شرطيٍّ عالمٍ ببواطن الأمور، وقال بجفاءٍ: أرملةٌ مسكينةٌ، ولكنْ …

وتردَّدَ لحظةً، ثم واصل حديثَه: ولكن زيارتها لنا تضرُّ بمركزي.

– حالها تُقطِّع القلب.

– هكذا حالُ الدنيا يا رسمية، ولكن لِندَع ما للهِ لله!

– جاءت بأمل أن تُعينَها على تقديم التماسٍ للحاكم بردِّ أملاكِ الأُسرة.

فهتف: يا لها من جاهلة!

– قالت إنَّ الله لا يأخذ الأبناء بذنوب الآباء.

– شهريار نفسُه هو الذي أصدَر الحكم!

ثم قال بوضوح: صنعان كان صديقي ولكن ما قُدِّر كان، ولعل قتل البنت بعد اغتصابها لا يُعَد شيئًا بالقياس إلى قتل حاكم الحي؛ فالسلطانُ يعتبرُ الضربةَ الموجَّهة إلى نائبه موجَّهةً إلى شخصه، وما زال السلطان سفَّاكًا رغم تغيُّرِه الطارئ، فلا تُشجِّعيها على التردُّدِ عليكِ وإلا حلَّت بنا لعنةٌ لا قِبَل لنا بها.

فوَجمتِ المرأةُ منكسرةَ الفؤاد، فقال: إني في الحزن مثلك، ولكن لا حيلةَ لنا.

٦

إنَّه صادق فيما قال .. حزنه على آل صنعان لم ينقشع، ومرجع ذلك ليس العشقَ وحدَه .. أحبَّ الرجلَ من قبلِ أن يحبَّ كريمتَه .. وهو لا يخلو دائمًا من عواطفَ طيبة، ومن ذكرياتٍ دينية، ولكنَّه لا يجدُ بأسًا من ممارسة الانحراف في عالَمٍ منحرف .. الحقُّ أنَّه لا يُوجد قلبٌ في الحيِّ كقلبه في جمعه بين الأسودِ والأبيض .. لذلك دعا فاضل صنعان إلى داره في زيارةٍ أحاطها بالكتمان .. جاء الفتى في زيِّه الجديدِ المُكوَّن من الجِلباب والصندل، زِيِّ البيَّاعِ الجوَّال .. أَجلسَه إلى جانبه في المنظرة، وقال: يسرُّني يا فاضل أنَّكَ تواجِهُ مصيرَكَ بشجاعةٍ فائقة.

فقال فاضل: أحمَدُ الله الذي أبقى عليَّ ديني بعد ضَياع الجاه والمال.

أُعجبَ به حقًّا، وقال: استدعيْتُكَ احترامًا لعهدنا القديم.

– بارك اللهُ فيكَ يا سيدي.

فنظَر إليه مليًّا، ثم قال: لولا ذلك لأبحْتُ لنفسي القبضَ عليك.

فدُهشَ فاضل متسائلًا: تقبض عليَّ؟ .. لماذا يا سيدي؟

– لا تتظاهر بالجهل .. ألم يكْفِكُم ما حاق بكم من شرٍّ؟! اسعَ لرزقكَ بعيدًا عن مصاحبة المخربينَ من أعداء السلطان!

فقال فاضل بوجهٍ شاحب: ما أنا إلا بائعٌ جوَّال.

– دَعِ المناورةَ يا فاضل، لا شيءَ يغيبُ عن جمصة البلطي، ومهمَّتي الأولى كما تعلم هي مطاردةُ الشيعةِ والخوارج.

فقال فاضل بصوتٍ منخفض: لستُ منهم، وقد كنتُ تلميذًا في مطلَع حياتي للشيخ عبد الله البلخي.

– وكنتُ أنا أيضًا تلميذه، من مدرسة البلخي يخرجُ كثيرون؛ أهل الطريق، أهل السنة، كما يخرج شياطينُ منحرفونَ عن الخطِّ الأوَّل.

– ثقْ يا سيدي من أنَّني أبعدُ ما يكونُ عن الشياطين ..

– لكَ رفقاءُ ورفقاءُ منهم!

– لا شأنَ لي بعقائدهم!

فقال مُحذِّرًا: في البداية رُفقةٌ بريئةٌ ثم تجيءُ النكسةُ، وهم مجانينُ، يُكفِّرون الحكَّامَ، ويُغرِّرون بالفقراء والعبيد، لا يعجبُهم العجب ولا الصيامُ في رجب، كأنَّ الله اصطفاهم دون عباده، احذرْ مصيرَ أبيك؛ فللشيطان طرقٌ شتَّى، أما أنا فلا أعرفُ إلا واجبي، وقد بايعتُ السلطانَ كما بايعتُ حاكمَ الحيِّ على إبادة المارقينَ.

فقال بنبرةٍ فاترة: توكَّدْ يا سيدي من أنني أبعدُ ما يكون عن المارقينَ.

فقال جمصة: منحتُكَ نصيحةً أبويةً فقدِّرْها.

– شكرًا لمروءتكَ يا سيدي.

وجعل يتفرَّسُ في وجهه بحثًا عن مواقع الشبَه بينه وبين حسنية أختِه، انتشى لحظاتٍ بالوَجْدِ، ثم قال: وثمَّة مسألةٌ أخرى، أرجو أن تُبلِّغ والدتكَ أنَّ تقديم التماسٍ بردِّ أملاكِ الأُسرة يُعتبرُ تحدِّيًا للسلطان، فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله!

فقال فاضل بتسليمٍ: هذا هو رأيي أيضًا يا سيدي.

وانتهتِ المقابلةُ في سِريَّةٍ كما بدأَتْ، وتساءل جمصة: تُرى هل يُتاحُ له يومًا أن يستدعيَه ليطلبَ منه يدَ حسنية؟!

٧

لعل جريمة صنعان الجمالي هي الحدثُ الخطيرُ الوحيدُ الذي وقع في خدمة جمصة البلطي .. ولم يُحمِّله أحدٌ مسئوليتَهُ خاصةً بعد ما عُرفَ من تدخُّلِ العِفريتِ فيه .. وليس كذلك ما يقعُ في اليوم في الحيِّ .. فقد تتابعَتْ حوادثُ قطعِ طريقٍ داخلَ سورِ الحيِّ وخارجَه بكثرةٍ مزعجة، فنُهبَت أموالٌ وسلعٌ واعتُدِي على رجال .. وغَضِب جمصة البلطي غضبَ شرطيٍّ قديرٍ حائزٍ للثقة .. بثَّ المخبرينَ في الأماكنِ النائية، ونشرَ الدورياتِ نهارًا وليلًا، وتفقَّد الأماكنَ المشبوهةَ بنفسه، ولكنَّ الحوادثَ مضَت في جريانها هازئةً بنشاطه ولم يُقبضْ على مجرمٍ واحد.

وقال كرم الأصيل صاحبُ الملايين في مقهى الأمراء: كان حال الأمن أفضلَ على عهد المرحوم السلولي.

فقال الطبيبُ عبدُ القادر المهيني ضاحكًا: لم يُوجدْ قاطعُ طريقٍ على عهده سواهُ!

فقال عجر الحلاق: جمصة البلطي في أسوأ أحواله.

وهو يطَّلِع على أحوال السادة، وهو يُقدِّم لهم خدماتِه — كحلَّاق — في دورهم. فقال إبراهيم العطار: الأمنُ حياةُ التجارةِ، والتجارةُ حياةُ الأُمَّة، أقترحُ أن يذهبَ منَّا وفدٌ إلى حاكم حيِّنا الهمذاني.

٨

ودعا خليل الهمذاني جمصة البلطي إلى دار الإمارةِ، وقال له بعنف: المدينةُ تُخرَّبُ وأنت تَغُطُّ في النوم.

فقال كبيرُ الشرطةِ بصوتٍ منهزم: ما نمْتُ وما قصَّرتُ.

– العِبرة بالخواتيم.

– إنَّ يديَّ مغلولتان.

– ماذا تريد؟

– الصعاليكُ الذين سبق القبضُ عليهم ينطلقونَ الآن للانتقام.

– ثبتَ من اعتراف صنعان أنَّهم كانوا أبرياء.

– لذلك فهم ينتقمون، ولا مفرَّ من اعتقالهم مرَّةً أخرى.

فقال الحاكم بحدَّة: لقد سَخِط الوزير دندان على اعتقالهم في المرَّة الأولى، فلن أسمح به مرَّةً أخرى.

فقال جمصة البلطي بأسًى: على أيِّ حال، إنِّي أخوضُ معركةً بقوَّةٍ لا تعرف الهوادة.

فقال الحاكم: لا بُدَّ من ضبط الأمن وإلا عزلتُك!

هكذا غادر جمصة البلطي دارَ الإمارة يجرُّ أذيالَ الإهانةِ لأوَّل مرَّة في حياته.

٩

غضب حِيالَ الإهانة، فهيمنَت عليه طبيعتُه القويةُ المتحدية .. غاصَتْ نوازعُ الخير فتوارَتْ في أعماقٍ بعيدة .. تصدَّى للهزيمة بوحشية رجل يستبيحُ أيَّ شيءٍ في سبيل الدفاع عن سلطته .. لقد استوعبَتْهُ السلطةُ وخلقَته خلقًا جديدًا فتناسى الكلماتِ الطيبةَ التي تَلَقَّاها على يد الشيخ في الزاوية على عهد البراءة .. سرعان ما جمع أعوانه، فصبَّ عليهم السيل الذي انصَبَّ عليه في بهو الإمارة، وفتَح نوافذ الجحيم على مِصراعَيها .. وكلما وقع حادثٌ جديد، قبض على عشراتٍ بلا دليلٍ أو قرينة، وعذَّبهم بلا رحمةٍ .. وخفَّتْ تبعًا لذلك متابعتُه للشيعة والخوارج، فضاعفوا من نشاطهم، وحرَّروا الصحائفَ السريةَ تطفحُ بتجريم السلطانِ والولاة، وتُطالِب بالاحتكام إلى القرآن والسنة .. وجُنَّ جُنونُه، فاعتَقل الكثيرين حتى خيَّم الخوف على الحيِّ جميعًا، ومادَتْ به الأرضُ .. واستفظَع الهمذاني عنفَ الإجراءات، ولكنَّهُ أغمض عينَيه طمعًا في الفرج .. على ذاك كله ازدادَتِ الحوادثُ عدًّا وعنفًا.

١٠

انهزم جمصة البلطي، ولكنَّهُ أبَى الاعترافَ بالهزيمة .. وجعل يبيتُ لياليَ عديدةً في دار الشرطة، حتى تَسلَّط الإرهاقُ على قوَّته الخارقة .. وغلَبه النوم مرَّةً في حجرة عمله، فاستسلم له كأسدٍ جريح .. لم يَفُزْ بالراحة المنشودة، ولكنَّه طُرِحَ تحت ثقلِ وجودٍ غليظٍ احتلَّ جوارحَه .. همس في حَيرةٍ: سنجام!

فجاء الصوت مقتحمًا وجدانَه: أَجَلْ يا كبيرَ الشرطة!

فسأله مستنكرًا: ماذا دعاكَ إلى الحضور؟

– غباءُ من يَدَّعُونَ الذكاء!

– تَنَوَّرَ عقلُه فجأَةً، لم تجْرِ له في خاطر، فقال: الآن عرفْنَا سرَّ قُطَّاعِ الطريقِ الذين لا يعثرونَ لهم على أثَر!

– الآن فقط؟

– من أين لي أن أُخَمِّن أنَّك صاحبُهم؟!

– اعترِف — رغم غرورِك — بأنَّك غبي.

فسأله بتحدٍّ: كيف هانَ عليكَ نهبُ الأموال وذِكرُ اللهِ يتردَّدُ على لسانك؟!

– لم يُصِبْ غضبي إلا الطغمةَ المستغِلَّة للعباد.

فتأوَّه قائلًا وكأنما يُحادِث نفسه: سأفقِد عملي من أجل ذلك.

إنكَ أيضًا من الطغمة الفاسدة.

فقال بفخارٍ: إني مَثَلٌ أعلى في أداء الواجب.

– والمالُ الحرامُ؟

– ما هو إلا فُتاتٌ يتساقطُ من موائد الكبراء.

– عذرٌ قبيح.

– إني أعيش في دنيا البشَر.

– ماذا تعرف عن الكُبراء؟

– كلَّ كبيرةٍ وصغيرة، ما هم إلا لصوصٌ أوغاد!

فقال الصوتُ متهكِّمًا: لكنَّكَ تحميهم بسيفك البتَّار، وتُطاردُ أعداءَهم الشرفاءَ من أهل الرأي والاجتهاد.

– إنِّي منفِّذ الأوامر، وطريقي واضحة.

– بل تُطارِدكَ لعنةُ حمايةِ المجرمينَ واضطهادِ الشرفاء.

– ما فكَّر رجلٌ وهو يؤدِّي واجبي هذا إلا هلَك.

– إذن أنتَ أداةٌ بلا عقل.

– عقلي في خدمة واجبي فحسبُ.

– عذرٌ من شأنه أن يُهدِرَ إنسانيةَ الإنسان.

ولمَح في وجدانه خاطر، فتفتحَت له أبوابٌ ونوافذ، فقال بدهاء: الحقُّ أنِّي لست راضيًا عن نفسي.

– محضُ كذب.

فقال بحرارة: لم أُفلحْ أبدًا في اقتلاع الهواتفِ الشريفة، إنَّها دائمًا تُحاورُني في سكون الليل.

– لا أجدُ لها أثرًا في حياتك.

فقال بلباقةٍ: تُعوِزُني قوَّةٌ تسندُني عند الحاجة!

– بل إنَّك تُطارِدُ الهواتفَ الشريفةَ كما تطاردُ الشرفاء.

فقال بتَحدٍّ: إنِّي أضعُ نفسي تحتَ الاختبار.

– أفصحْ عمَّا تُريد.

– اجعلْ قوَّتكَ في مساندتي لا في معاندتي.

– ماذا تريد؟

– أُهلِك المجرمينَ، وأحكُم الأُمَّةَ حكمًا عادلًا نقيًّا!

جلجلَتْ ضحكةٌ، ملأَت الكونَ، وقالَ: تودُّ أن تمكرَ بي لتحقيق أحلامِكَ الدفينة في القوَّة والسلطان!

– كوسيلةٍ لا كغاية!

– ما زال قلبُكَ غارقًا في العبودية!

– جرِّبْني إذا شئْتَ.

– إني عِفريتٌ مؤمن، ولا أتجاوزُ حدودي أبدًا ..

فقال جمصة يائسًا: إذن ابتعدْ عن طريقي بسلام.

– الحقُّ أنِّي فكَّرتُ بهدوءٍ فوقَ جبلِ قاف، فاقتنعتُ بأنَّك أدَّيْتَ لي خدمةً غيرَ منكورة، وإنْ تكنْ غيرَ مقصودة، فقرَّرتُ أن أرُدَّ الصنيعَ بمثله ودون تجاوزٍ للحدود.

فقال بحَيْرة: ولكنَّكَ تفعل نقيضَ ما تَقصِد؟

– يا لكَ من غبي!

فقال بتوسُّلٍ: أوضحْ لي هدفَك.

– لكَ عقلٌ وإرادةٌ وروح!

– ألقِ عليَّ بصيصًا من نور.

– لكَ عقلٌ وإرادةٌ وروح.

همَّ بالتوسل إليه، ولكنَّ الآخَر أطلَق ضحكةً ساخرةً، ثم سحب وجودَه بسرعةٍ وتلاشى.

استيقَظ جمصة البلطي على نَقر الباب .. دخل وكيلُه ليخبرَه بأنَّهُ مدعوٌّ إلى لقاء الحاكم الهمذاني.

١١

تمنَّى لو تُركَ لنفسه ليتأمَّل، ولكنَّه لم يجدْ من الذهاب بُدًّا .. ما توقَّع خيرًا من المقابلة .. لم يعُد ينتظرُ خيرًا على الإطلاق .. اختفَتْ بروقُ الآمالِ في سماءِ الخريف، وصمَتتْ طبولُ النصرِ .. سيتأرجحُ طويلًا بين الحاكمِ وعبثِ سنجام .. غاص في دوامةٍ لا قرارَ لها فوق مَتنِ بَغلَتِه في الطريق إلى دار الإمارة .. الطريق مُفعَمٌ بالحركة والصوت، تُحاصِره مطالب الحياة، الأعيُن تُتابِعه بازدراء .. لا سرور ولا غرور .. انقضَتْ أيامُ الاختيال .. حقيرٌ يقتات على الحقارة، هذا ما أقنعَهُ به سنجام .. عزاؤه الوحيدُ كان أنَّه سيفُ الدولة .. فُلَّ السيف، وتقوَّضَ الأمن، فأيُّ وزنٍ له؟! .. لصٌّ قاتل، حامي المجرمين، ومعذِّب الشرفاء .. نسيَ الله حتى ذكرَّه به عِفريتٌ من الجن.

١٢

وجد خليل الهمذاني واقفًا وسط البهو كرمحٍ مستعدٍّ للقتال. قال جمصة بهدوءٍ: سلام اللهِ عليكَ أيُّها الأميرُ.

فصاح الحاكم بصوتٍ متهدِّجٍ من شدة الغضب: انعدَم السلامُ بوجودك.

فقال بحزنٍ: إنِّي أعمل حتى الموتِ.

– لذلك سُرقَت جواهرُ حريمي من أعماق داري!

فاق ذلك توقُّعَه .. تساءل عما يُريد سنجام .. وَجمَ صامتًا.

صاح خليل الهمذاني: ما أنتَ إلا حشَّاشٌ أو شريكُ اللصوص.

قال بصوتٍ غليظ: إنِّي كبير الشرطة.

فصرخ: موعدُنا المساء، وإلا عزلتُكَ وضربتُ عنقَك.

١٣

أيُّ جدوى تُرجَى من البحث؟ ماذا يفعل رجاله حِيالَ قوةِ سنجام؟ سوف يُعزَلُ ويفقدُ شرفَه وتُضرَبُ عنقُه .. إنَّه مصيرٌ طالما ساق الناسَ إليه، فكيف يتهِمه؟! .. لكن جمصة لن يقبل مصيرَه دون دفاعٍ، ودون دفاعٍ شرس .. أمامه نهارٌ واحدٌ ولا وقتَ للتردُّد .. ها هي حياته صفحة مبسوطة أمام عينَيه .. شهادة مجسَّدة ومُرعبة .. بدأَت بعهد الله وانتهَتْ بعهد الشيطانِ .. عليه أن يزلزلَها قبل الموت .. وخطر الشيخُ على قلبه كما تخطُر نسمةٌ شاردةٌ في جحيم القيظ .. هفَت محمولةً بين طياتٍ مُقَطَّرة من حنين .. قال لنفسه: «هذا وقته» .. جذبه على أيِّ حالٍ من أعمق أعماقه، عندما هتكَتِ الأحزانُ القشرةَ الصلْبةَ الملطَّخةَ بالدماء.

وجده في حُجرة الاستقبال البسيطة كأنَّه ينتظر .. انحنى فوق يده صامتًا، وتربَّع على شلْتةٍ بين يدَيه .. تنَشَّق الذكرياتِ كعطرِ وردةٍ مُحنَّطةٍ، وتجسَّدتْ له في الفراغ آياتٌ وأحاديث، ومخلَّفاتٌ من النوايا الطيبة كالدماء .. ارتوى من السكينة حتى غلَبه الحياءُ، فقال بحزنٍ: إني أقرأ شعوركَ نحوي يا مولاي.

فقال عبد الله البلخي بهدوئه الخالد: عِلمُ ذلك عند الله وحده، فلا تَدَّعِ ما ليس لك به عِلم.

فقال بحزنٍ: أنا في رأي الناس شرطيٌّ سفاحٌ.

– تُرى لِمَ يزورُني السفاحون؟

فقال مُتشجِّعًا: ما أعذبَك يا مولاي! الحقيقةُ أنَّ لديَّ حكايةً أودُّ أن تسمعَها.

فقال بزهوٍ: لا رغبةَ لي في ذلك.

– يجب أن أتخذ قرارًا، وهيهاتَ أن يُدركَ مغزاهُ دون سرد الحكاية.

– القرارُ كافٍ لإدراك مغزى الحكاية.

فقال بقلقٍ: الأمرُ يحتاج إلى مشاورة.

– كلَّا، إنَّه قرارُكَ وحدكَ.

فقال بتوسُّلٍ: اسمعْ حكايتي العجيبة.

فقال بهدوئه: كلَّا، يهمُّني أمرٌ واحد.

فسأله بلهفة: ما هو يا مولاي؟

– أن تتخذ قراركَ من أجل الله وحده.

فقال بحَيرة: لذلك أحتاج إلى الرأي.

فقال الشيخ بهدوءٍ حازم: الحكايةُ حكايتُكَ وحدَك، والقرارُ قرارُكَ وحدَك.

١٤

غادَر دار الشيخ مُوزَّعًا بين الشك واليقين .. كان الشيخ يعرف حكايته وقرارَه، وكأنَّه يُبارِك قرارَه تحت شرط أن يكونَ من أجل الله وحده؟! .. أَلَمْ يلعبِ اليأسُ دورًا؟ أَلَمْ يلعبِ الدفاع عن النفس دورًا آخَر؟ أَلَمْ تلعبِ الرغبةُ في الانتقام دورًا ثالثًا؟ تُرَى هل يُهوِّن من شأن التوبة أنْ تُسبَق بمعصية؟! .. العِبْرة بالنية الأخيرة وبالإصرار عليها حتى النهاية .. إنَّه على أيِّ حال، يُدْفن جمصة القديم ويُبعَث آخَر جديد .. ولمَّا قرَّ قرارُه تنهَّدَ بارتياحٍ عميق .. وتضاعفَ نشاطُه طيلةَ الوقت، فزار داره، وجالس رسمية زوجتَه وأكرمان ابنته، فجاش صدره بعواطفَ حارَّةٍ خفية، أشعرَته بوحدته أكثرَ وأكثر .. حتى سنجام تركه لوحدَته .. غير أنَّ تصميمه كان نهائيًّا ولم يعرفِ التردُّد .. وواجه أخطر موقفٍ في حياته بشجاعةٍ نادرة وإقدامٍ لا يلوي على شيء .. ورجع إلى مركز عمله فأفرجَ بقوَّته الذاتية عن الشيعة والخوارج، في ذهولٍ كاملٍ شمل الجنود والضحايا .. وعند مطلعِ المساء، مضى من تَوِّه إلى دار الإمارة .. أعرض عن النظر إلى الوجوه والأماكن في طريقه، كأنَّها لم تعُدْ تعنيه .. ورأى أخيرًا خليل الهمذاني ينتظر في هدوءٍ وتصميم، فلم يشُكَّ في أنَّه اتخذ قرارَه أيضًا .. ضمَّهما البهو في وحدةٍ إلا من عذابات البشَر المتجمِّعةِ وراء الوسائدِ والطنافس .. وشهود من جميع الأجيالِ الغابرة .. لم يتبادلا تحية، وسأله الحاكم ببرود: ماذا وراءك؟

فأجاب جمصة البلطي بثقة: كل خير!

فتساءل الرجل بتفاؤلٍ طارئ: أَقبضتَ على اللص؟

– من أجل ذلك جئتُ.

فقطَّب الحاكمُ متسائلًا: أَتظُنه في داري؟

فأشار جمصة إليه قائلًا: ها هو يتكلَّم بلا حياء.

ذُهل خليل الهمذاني وهتف: جُنِنتَ وربِّ الكعبة!

– إنَّه الصدقُ يُقال لأوَّل مرَّة.

تحفَّز الحاكم للعمل، فامتشق جمصة سيفه وهو يقول: ستنال جزاءَكَ الحقَّ.

– جُنِنتَ، إنَّكَ لا تدري ما تفعل.

فقال بهدوءٍ: إنِّي أقوم بواجبي!

فقال باضطرابٍ وذُعْرٍ شاملٍ: عُدْ إلى رشدك، إنَّك تُلْقِي بنفسك إلى النطْعِ.

فوجَّهَ إلى عنقه ضربةً قاضية، فاختلطَت صرختُه المذعورةُ بخُوَارِه، واندفَع مثلَ نافورة.

١٥

أُلقِيَ القبضُ على جمصة البلطي وانتُزعَ السيفُ من يده .. لم يُحاولِ الهرب .. ولم يقاومْ، آمن بأنَّ مهمتَه قد انتهَت .. لذلك حلَّ به هدوءٌ وصفاءُ ذهن، وعلَت في وجدانه موجةُ الشجاعةِ الخارقة، فشَعَر بأنَّه يخطو فوق جلَّاديه، وبأنَّه لا يُبالي الموتَ بأيِّ قَدَرٍ جاء .. وقال لنفسه: إنَّ الإنسان أعظم مما تصوَّر، وإنَّ الدنايا التي اقترفَها لم تكن جديرةً به على الإطلاق، وإنَّ الإذعان لسطوتها كان هوانًا دَفعَه إليه السقوطُ والتَّنكُّر لطبيعته الإنسانية .. وقال أيضًا: إنَّه يمارسُ الآن عبادةً صافيةً يغسلُ بطُهرِها قذرَ أعوامِ النفاقِ الطويلة.

وانتشَر الخبر مع هواء الخريف فصار حديثَ العامَّةِ والخاصَّة، وفجَّر الذهولُ تساؤلاتٍ لا حصر لها ولا عَد .. وتضاربَت النبوءاتُ واحتدَم هَذَيانُ المجاذيبِ فانطلقَ الاضطرابُ يجتاحُ الحيَّ والمدينةَ ويصعدُ بِهَرجِه إلى القصر السلطاني .. وما لبث أن انتقل الوزير دندان إلى دار الإمارة بالحي على رأس كوكبةٍ من الفرسان.

١٦

استُدعيَ جمصة البلطي مُكبَّلًا بالحديد للمثول أمام العرشِ في بهو الأحكام .. وتبدَّى شهريار في عباءته الحمراءِ التي يرتديها إذا جلس للقضاء، على رأسه عمامةٌ عاليةٌ تتراسلُ في جنباتها فصوصُ الجواهرِ النادرة .. إلى يمينه وقف دندان، وإلى يساره رجالُ السلطنة، على حين اصطفَّ الحرسُ على الجانبَين، أمَّا وراء العرشِ فقد مَثلَ شبيب رامة السيَّاف.

تجلَّت في عينَي السلطان نظرةٌ ثقيلةٌ مُحمَّلةٌ بالفكر، ومضى يتفرَّسُ في وجه كبير الشرطة مليًّا، ثم سأله: ألا تُقِرُّ بفضلي عليك يا جمصة؟

فأجاب الرجل بصوتٍ قويٍّ مثيرٍ للأعصاب: بلى، أيها السلطان.

فآنس السلطانُ منه تحديًا لموقفه المُكبَّلِ بالحديد، فقطَّبَ وسأل: أَتعترفُ بأنَّكَ قتلتَ خليل الهمذاني نائبي في حيِّكُم؟

– أجل أيها السلطان.

– ماذا دفعكَ إلى ارتكاب جريمتِكَ الشنعاء؟

فقال بوضوحٍ ودون مبالاةٍ بالعواقب: أنْ أحقِّقَ إرادةَ الله العادلة!

– ومن أدراكَ بما يريدُ الله سبحانه؟

– هذا ما أُلهِمتُه خلالَ حكايةٍ عجيبةٍ غيَّرتْ مجرى حياتي!

انجذب وجدانُ السلطانِ نحوَ لفظةِ «حكاية» فتساءلَ: وما الحكاية؟

روى جمصة البلطي حكايتَه .. مولدهُ من أبوَين من عامَّةِ الشعب، تلمذته في الزاوية على يد الشيخ عبد الله البلخي، انفصاله عن الشيخ بعد تعلُّمِ مبادئِ الدينِ والقراءةِ والكتابة، قوة بدنِه التي أهَّلَته للخدمة في الشرطة، اختياره كبيرًا للشرطة لكفاءته النادرة، انحرافه خطوةً فخطوةً حتى انقلب مع الزمن حاميًا للمنحرفينَ وجلَّادًا لأصحاب الرأي والاجتهاد، ظهور سنجام في حياته، أزماته المتتابعة، وأخيرًا توبته الدامية.

تابعه شهريار باهتمام .. وضَح أنَّه انفعل بأقواله انفعالاتٍ متضاربة .. قال ببرود: سنجام جمصة، عقب قمقام صنعان الجمالي، أصبحْنا في زمن العفاريت الذين لا همَّ لهم إلا قتلُ الحكام!

فقال جمصة: ما زدْتُ على الحقيقة حرفًا واللهُ شهيد.

– لعلك تحلُمُ بأن ينقذَكَ ذلك من العقاب؟

فقال باستهانة: إقدامي يقطعُ بأنني لا أُبالي.

فقال شهريار بحَيرة: سنجعلُ منك مثلًا للمتمردين، فَليُضْربَنَّ عنقُك، وليُعَلَّقنَّ رأسُكَ فوق باب دارِك، ولتُصادَرْ أموالُك.

١٧

في سجنٍ تحت الأرض، وفي ظلام .. كافح آلامَه واستمسك بشجاعته .. أثار حنَق السلطانِ فانتَصر عليه .. تركه فوق عرشه يتعثَّر في هزيمته .. وتذكَّرَ بأسًى رسمية وأكرمان .. وطافت بخياله حسنية .. ستلقى أُسرتُه من الهوان ما لَقِيَته أُسرةُ صنعان ولكنَّ رحمةَ اللهِ أقوى من الكون .. وظنَّ أنَّ السُّهادَ لن يفارقَه ولكنَّه نام نومًا عميقًا لم يستيقظْ منه إلا على جلَبة وضوءِ مشاعل .. لعلَّه الصباح، وها هم أولاءِ الجنودُ قد حضروا ليسوقوه إلى النطْع .. سيكتظُّ الميدانُ بأهل الفضولِ وسيموجُ بالعواطف المتضاربة .. لِيَكُن .. ولكن ماذا يرى؟ يرى الجنود تنهالُ بالركَلات على جمصة البلطي، وهذا يستيقظ فزعًا متأوهًا.. ما معنى هذا؟ أَيحلُم؟ إذا كان هذا هو جمصة البلطي فمن يكونُ هو؟! كيف لا ينتبهُ إليه أحدٌ وكأنَّما هو غيرُ موجود؟! ذُهل وخاف أن يفقدَ عقلَهُ .. بل لعلَّه فقد عقلَه .. إنَّه يرى جمصة البلطي أمامه .. الجنودُ تسوقُه إلى الخارج .. وإنَّه — بخلافه — شديدُ الفزعِ والانهيار .. وجد نفسه أيضًا محرَّرًا من القيد، فعزم على مغادرة السجن، وتبع الآخرينَ لا يلتفتُ إليه أحد .. ربَّاه! .. المدينةُ منحشرةٌ في ميدان العقاب .. نساءٌ ورجالٌ وأطفال .. في الصدر السلطانُ ورجالُ الدولة .. النطْع في الوسط وشبيب رامة ونفرٌ من المساعدين .. لم تحضرْ رسمية ولا أكرمان فهذا حسَن .. ما أكثرَ الوجوهَ التي عرفَها وتعامل مع أصحابها! إنَّه ينتقلُ من مكانٍ إلى مكانٍ فلا ينتبهُ إليه أحد .. أما جمصة البلطي فيقتربُ من النطْع بين حُراسه .. وجهٌ واحدٌ تراءى له كثيرًا حتى عَجبَ لشأنه هو وجهُ سحلول تاجرِ المزاداتِ والجواهر .. وعندما هيمنَت لحظةُ الصمتِ المؤثِّر، وخطفَ النطْع الأبصارَ من جميع الجهات، خفق قلبه، وخُيِّل إليه أنَّه سيلفظُ روحَه عقب سقوطِ رأسِ الآخَر. وفي اللحظةِ المُفعَمة بالصمت ارتفع سيفُ شبيب رامة، ثم هوى كالصاعقة، فسقط الرأس، وخُتمَت حكايةُ جمصة البلطي.

توقَّع جمصة البلطي الموت ولكنه مرَّ به وذهب .. وتضاعف ذهولُه وسط تيارِ المنصرفين حتى خلا الميدانُ تمامًا .. تساءل: «أَأنا جمصة البلطي؟» وإذا بصوت سنجام يقول: كيف تشُكُّ في ذلك؟

فهتف الرجل في غايةٍ من التأثُّر: سنجام؟! .. أنت صاحبُ المعجزة!

– إنَّك حيٌّ، وما قتلوا إلا صورةً من صنع يدي!

– إنِّي مدينٌ لك بحياتي فلا تتخلَّ عني.

فقال بوضوح: لا، الآنَ لا عليَّ ولا لي، أستودعكَ الله.

فهتف مذعورًا: كيف لي بالظهور أمام الناس؟!

فقال الصوت: هيهاتَ أن يعرفَك أحد، انظُر في أوَّل مرآةٍ تصادِفُك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤