أبو الحسن!

جاء صوتُ المذيعة في ميكروفون صالة الوصول بمطار القاهرة يقول: وصلَت الآن الرحلة رقم ٧٣٤ القادمة من «قبرص»، وتستعدُّ الطائرة للهبوط فوق أرض المطار. تبادل الشياطين الأربعة النظراتِ.

وقالت «إلهام»، وقد التمعَت ابتسامةٌ صغيرة فوق وجهها: إنها المرة الأولى التي نمارس فيها دور الشرطي … فنكتفي بالمراقبة ونَحُول دون وقوع الجريمة.

خالد: ولكنها ليست مهمةً عادية بأيِّ حالٍ من الأحوال … فنحن نُطارد فريقًا إرهابيًّا على درجة عالية من المهارة والذكاء … ومن المهم أن نكونَ في أشدِّ الحذر أثناء تلك المراقبة والمطاردة حتى لا نكشفَ أنفسنا.

أحمد: مَن يدري … قد تتحول تلك المراقبة إلى معركة لا هوادةَ فيها.

إلهام: ماذا تقصد يا «أحمد»؟

أحمد: إن عالَم هؤلاء الإرهابيِّين حافلٌ بالمفاجآت غير السارة … وعلينا أن نكون متأهِّبين لأيِّ احتمال في أية لحظة.

وصمتَ «أحمد»، وقد اكتسى وجهُه بتعبيرٍ صارمٍ من القسوة والجدية … وراحَت أعينُ الشياطين تُراقب ركَّاب الطائرة القبرصية الذين بدءوا يغادرون صالة الوصول، ومن بينهم الإرهابيون الأربعة بعد أن اجتازوا الجمارك والتفتيش دون أن يعبثَ أحدٌ بأمتعتهم … فتبادلوا ابتسامةً واثقة ساحرة وهم يدسُّون جوازاتِ السفر الخاصة بهم في جيوب معاطفهم الثقيلة.

وهمسَت الفتاة ساخرةً لزملائها: كنتُ أظنُّ أننا سنتعرض لتفتيش أكثر دقَّة وبعض الريبة أيضًا من سلطات المطار.

أجابها أحد زملائها: إن المصريين هكذا دائمًا … يزدادون حماسًا عند بداية الأحداث، ثم يَخْفِت حماسُهم مع مرور الوقت، ولا تنسَوا أن هناك آلافَ السياح الذين يَصِلون كلَّ يوم … ويستحيل على المصريِّين أن يشكُّوا فيهم جميعًا.

أحكم «جاك» القصيرُ معطفَه الثقيل حول رقبته، وهو يقول: إن الأمور تسير سيرًا حسنًا … هذا رائع.

وغادر الأربعة صالةَ الوصول يدفعون أمامهم حقائبهم القليلة فوق عربة حقائب صغيرة متحركة. وأشارت الفتاة إلى تاكسي، وبعد حديث قصير وافق السائق بهزِّ رأسه، ثم وضع الحقائب فوق السيارة … ودلَف الإرهابيون الأربعة إلى داخل التاكسي، الذي تحرَّك بهم مغادرًا المكان.

وعلى الفور تحرَّكَت سيارة الشياطين خلف التاكسي في هدوء … وكانت سيارة الشياطين من طراز ١٢٨ الصغيرة؛ بحيث لا تُثير الشكَّ في راكبيها، وقد راح «خالد» يقودها على بُعد مسافة غير بعيدة من سيارة التاكسي.

كان الطريق من المطار إلى قلب القاهرة يكاد يكون خاليًا من السيارات والمارة في ذلك الوقت المتأخر من بداية شهر يناير البارد … وقد بدأ رزازٌ خفيفٌ من المطر يسقط في أنحاءٍ متفرقة، وعاد «جاك» القصير يُحْكِم معطفَه حول رقبته وهو يقول: كنت أظنُّ أن الطقس في القاهرة سيكون أكثرَ دفئًا.

أجابه «كارلو» النحيل ساخرًا بالإيطالية: لسوف نجعله أكثرَ دفئًا وحرارة عندما تبدأ قنابلنا في الانفجار.

انتفضَت «صافي» في غضبٍ هائل نحو «كارلو» هاتفةً باليونانية: أيها الغبيُّ، حاذر فيما تقول، وأشارَت نحو السائق إشارةً ذات مغزًى، وأكملَت باللغة التركية: قد يكون هذا السائق يعرف الإيطالية ويفهم حديثَنا … وربما كان يعمل مرشدًا لرجال البوليس في بلاده … فأغلبُ سائقي التاكسي في كل بلاد العالم على اتصال برجال الشرطة.

رمق «كارلو» السائقَ في المرآة الداخلية، ثم قال ساخرًا: إنه يبدو لي شديد الغباء … والجميع يعرفون أن سائقي التاكسي في هذه البلاد لا يُجيدون أيةَ لغة غير بضع كلماتٍ من الإنجليزية أهمُّها كلمة بقشيش.

وانفجر ضاحكًا، فابتسم زميلاه … على حين كانت «صافي» لا تزال على تجهُّمِها وجمودها … وساد السيارةَ صمتٌ ثقيل.

أما في سيارة الشياطين، فكان الأمر مختلفًا … فقد جاءَتهم كلماتُ الإرهابيِّين واضحةً عبر الميكروفون السِّري المزروع داخل سيارة التاكسي … والتي لم يكن سائقها غير مقدم بأمن الدولة، يُجيد ستَّ لغات! تبادل الشياطين النظرات … وقالت «إلهام» مقطِّبة: من الواضح أن الفتاة هي زعيمة الشبكة … فكلماتُها تحمل لهجةَ الأمر …

أحمد: هذا واضح … ومن الواضح أيضًا أنهم جاءوا لتفجير الأماكن … وأن هذه الأعمال الإرهابية تبدو لهم ممتعة.

خالد: ستضيع متعتُهم حالما يُقبَض عليهم متلبِّسين ويقضون بقيةَ أعمارهم خلف القضبان، وأضاء جهاز الاستقبال الصغير في جيب «إلهام»، وأحسَّت بدفئه … وفي الحال بدأَت تتلقَّى الرسالة القادمة من رقم «صفر» … وما إن انتهَت من استقبالها حتى التفتَت إلى زملائها قائلةً: لقد أثبتَ فحصُ أمتعة الإرهابيين الأربعة في المطار، أنهم لا يحملون أيةَ أسلحة في أمتعتهم ولا في ملابسهم كذلك.

أحمد: … هذا لا يُدهشني؛ فإن مثل تلك الأسلحة هي التي تكشف عن أمثال هؤلاء الإرهابيِّين، وبعد أن تمكَّنَت السلطات من القبض على كلِّ مجموعات الإرهابيِّين بأسلحتها، فلا بد أن أيةَ مجموعة إرهابية أخرى قادمة لن تحمل أيةَ أسلحة معها حتى لا ينكشفَ أمرُها … وبعد ذلك سيكون من السهل عليهم الحصول على الأسلحة من الخلايا الساكنة بعد الاتصال بها.

قيس: لقد أصبح هؤلاء الإرهابيون أكثرَ حذرًا.

خالد: إن رجال الأمن عادةً يطوِّرون أساليبَهم بتطوير المجرمين لأسلوبهم.

وعبرَت السيارة التاكسي كوبري قصر النيل متجهةً إلى كوبري الجلاء … ثم انطلقَت باتجاه أحد الميادين، وخلفها سيارة الشياطين.

وتوقَّف التاكسي أمام عمارة كبيرة في قلب الميدان، وغادر الإرهابيون التاكسي حاملين حقائبهم داخل العمارة … فهرع إليهم البواب يساعدهم في حملِها … وبعد دقائق كانت سيارة الشياطين تقف أمام نفس العمارة … وهبط الشياطين الأربعة منها، فهرع إليهم البواب باسمًا، ورفع يده بالتحية قائلًا: لقد قُمت بتنظيف الشقة المفروشة التي استأجرتموها بالأمس … أليست هناك أية حقائب معكم أحملها لأعلى؟

إلهام: لا … سوف نأتي بها غدًا.

ومنحَت البوابَ بقشيشًا سخيًّا، ثم صَعِدَت مع بقية الشياطين لأعلى … وقد حمل كلٌّ منهم حقيبةَ يدٍ صغيرة … وأدار «أحمد» المفتاح الذي أعطاه له البواب في قُفْل باب الشقة … وقد صوَّب نظراتٍ قاسيةً نحو باب الشقة المجاورة … شقة الإرهابيِّين الأربعة.

وما كاد الشياطين يستقرُّون داخل الشقة، ويُغلقون بابها، حتى فتح «أحمد» حقيبتَه الصغيرة، وأخرج منها جهازَ تصنُّتٍ صغير ألصقه بالحائط المجاور لشقة الإرهابيِّين. وألصقَت «إلهام» جهازًا مماثلًا بحجرة النوم … وراح الشياطين يُنصتون من خلالها إلى أحاديث الإرهابيِّين الأربعة.

وجاء صوت «كارلو» يقول: سوف أُجري اتصالًا لأُخبرَ الإخوة بوصولنا.

وما كاد يرفع سماعة التليفون، حتى صاحَت «صافي» به: انتظر أيها الغبي … ماذا تفعل … قد يكون التليفون مراقَبًا.

وفي صوتٍ غاضبٍ حادٍّ أضافَت: لقد زادَت أخطاؤك في الفترة الأخيرة، وبدأت تنسى واجب الحذر. مَن يدري ماذا يحدث حولنا؟ إن كلَّ الأمور تُشير إلى أننا في أمان، ولا أحدَ يشك فينا … ولكنني تعودتُ دائمًا ألَّا أنساقَ وراء المظاهر.

ألبرت: معكِ حق … علينا أن نكون في منتهى الحذر … ولكن كيف سنتصل ﺑ «أبو الحسن».

وقاطعَته «صافي» في عنف: توقَّف عن الحديث أيها الغبي، ولا تذكر أسماء.

ومرَّت لحظةُ صمتٍ متوترة، والشياطين يرمقون بعضهم في انتظار وترقُّب، ولا يدرون ما يحدث في الناحية الأخرى.

وجاء صوت «صافي» بعد لحظة يقول في سُخرية: الآن يمكننا أن نتحدث دون أن نخشى من أن يتصنَّت علينا أحد.

وضغطَت فوق زرِّ التشغيل لجهاز الكاسيت أمامها، فانبعث صوتُ أغنية غريبة ذات إيقاعٍ صاخبٍ عالٍ.

وتبادل الشياطين النظراتِ الغاضبة … كانت «صافي» أكثرَ دهاء مما ظنوا. وكان من المستحيل عليهم أن يستمعوا إلى شيء من حديث الإرهابيِّين بسبب صوت الأغنية الصاخبة.

هتف «خالد» في غضب وانفعال: هؤلاء الماكرون … إن أفضل ما نفعله هو أن نذهب إليهم، ونحطِّم رءوسهم، ونُجبرهم على الاعتراف بأسماء شركائهم من الخلايا الساكنة.

قاطعه «أحمد» في هدوء قائلًا: لن يُفيدَ هذا بشيء؛ فمثل هؤلاء الأفراد لا يمكن إجبارهم على الاعتراف بشيء … كما أنه من المفترض أنهم لا يعرفون أفراد الخلايا الساكنة … بل إن هؤلاء الأفراد هم مَن سيُبادرون بالاتصال بهم وإعطائهم الأسلحة والقنابل.

إلهام: ولكن مَن يكون «أبو الحسن» هذا؟

قيس: لا بد أنه المسئول ورئيس الخلايا الساكنة … وهو المسئول عن إجراء الاتصال الأول بأفراد منظمة «الأصابع الدموية» … ولا شك أن اسمَ «أبو الحسن» اسمٌ كودي، وليس اسمًا حقيقيًّا.

هتف «خالد» في انفعال: إنني مستعدٌّ أن أدفع نصفَ عمري وأعرف ما الذي يتحدث فيه هؤلاء المجرمون.

لم ينطق أحدٌ بشيء … أما «أحمد» فكان غارقًا في تفكير عميق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤