ذكر مملكة بابل ومدنها المشهورة

يحدُّ مملكة بابل شمالًا ما بين النهرين، وجنوبًا خليج فارس، وغربًا شبه جزيرة العرب، وشرقًا بلاد شوشانة، ويمر في أرضها نهر الفرات ودِجلة متجهَيْن من الشمال إلى الجنوب، وهذه المملكة تنقسم في نفسها إلى قسمين أحدهما بلاد بابل على الخصوص، وهي الواقعة ما بين النهرين المذكورين والآخر بلاد الكلدان، وهي ما يليها من ملتقى النهرين إلى خليج العجم، وكانت هذه المملكة في قديم الزمان معمورة بالمدائن الكبيرة والأسوار الحصينة والقصور الرفيعة والهياكل الشامخة والأبنية المشهورة، كما سنورد ذكره حتى كانت تسمى بسيدة الممالك، إلا أنه لم يبقَ من جميع ذلك إلا بقايا رسوم يُستدَلُّ بها على مواقع بعض تلك المدن كمدينة بابل وأَرَك وأَكدَّ وكَلْنه — وهي أُور الكلدانيين — وبورسيبا وإيس أو إيوبوليس وصفيرة وسلوقية وأكتزيفون وغيرها.

ذكر مدينة بابل

هذه المدينة كانت أعظم مدائن آسية وأبعدها ذكرًا وأرفعها عَلَمًا وأوسعها ظلًّا، وأكثرها ثروة وعمرانًا، وأمنعها عزة وسلطانًا صحبت الملوك دهرًا طويلًا، وتقلبت في الخصب والدولة أمدًا مديدًا حتى لم يكن لها ضريب في جميع المدن التي تقدمتها في تاريخ العمران، وبها سُميت المملكة ببابل؛ ولذلك يقدمها الكتاب في الذكر على سائر مدن شنعار، وفي تسميتها ببابل أقوال أشهرها أنها إنما سُمِّيَت بذلك أخذًا من بلبلة الألسنة فيها على ما ورد في سفر التكوين (ص١١) من أن بني نوح لما ارتحلوا من المشرق ونزلوا بشنعار أخذوا في بناء برج يبلغ إلى السماء، فبلبل الله تعالى ألسنتهم حتى صار بعضهم لا يفهم كلام بعض فكفُّوا عن بناء البرج؛ ولذلك دُعِيَت المدينة بابل. ا.ﻫ. وهي كلمة عبرانية معناها على هذا البلبلة، وفي رواية أن قومًا من الأقدمين بنوا هناك هيكلًا يجلسون ببابه لقضاء دعاويهم وفض خصوماتهم، فَسُمِّيت المدينة بابل، وأصلها على هذا باب إيل أي باب الإله، وقيل أصل اللفظة باب إيلو وهو إله لقدماء الساميين وهو المسمى آشور أيضًا، إلى غير ذلك من الأقاويل المبنية على ما تحتمله اللفظة من التفسير والتأويل.

وقد اختلفت آراء قدماء المؤرخين في زمن تخطيطها، فمنهم من ذهب إلى أن بانيها بعلوس وهو زُحَل عند اليونان، وقال آخرون: إن أول من وضع أُسُسها الملكة سميراميس زوجة نينوس، وقال ديودورس الصقلي وأميانوس مرشلينوس: إن نينوس بنى هيكل بعلوس، وسميراميس زوجته بنت أسوار بابل.

وهنا بحثٌ؛ هل سميراميس هذه هي نفس سميراميس التي يذكرها هيرودوطس في جملة ملوك بابل؟ فإن هذه كانت قبل الميلاد بما ينيف على ألفي سنة والتي يذكرها هيرودوطس لم يكن بينها وبين الميلاد أكثر من ٨٣٠ سنة؛ لأنه جعل بينها وبين نيتوكريس خمسة قرون، والصحيح في ذلك كما قاله بعض الثقات أن لفظ سميراميس إنما هو محرف عن سمُّوراميت امرأة بعلوخوس الثالث على ما سبقت الإشارة إليه، وكان مالكًا في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد فتكون هي المشار إليها في كلام هيرودوطس، ويكون ما ورد في رواية ديودورس وأميانوس خطأً، وذهب قوم من قدماء المؤرخين وتابَعَهم بعض المتأخرين إلى عكس ما ذكر، وخَطَّئُوا مقالة هيرودوطس في كلام قالوا فيه إنه أراد أن يجعل بينها وبين نيتوكريس خمسة عشر قرنًا، فذكر خمسة إلى آخر ما أوردوه وهو مرجوح عند أكثر المحققين، وزعم البابليون والقول لكهنتهم الكلدان أن مدينة بابل بناها إله من آلهتهم في زمن لا يُعرَف بالتعيين، وذهب مؤرخو الرومان واليونان مع الباحثين المعاصرين، إلى أن بناءها كان عقب الطوفان بزمن يسير خلافًا لما ذكره بيروسوس من أن عشرة من ملوك الكلدان تداولوا سلطنة بابل قبل الطوفان.

ولم تكن بابل في أول عهدها عاصمة للملك ولا من المدن الخطيرة كما تدل عليه الآثار التي كُشِفت في عصرنا هذا جنوبي المدينة، فقد ثبت أن مدنًا أخرى كأَرَك وكلنة وغيرهما من المدن المشهورة كانت قد بلغت المبالغ العظيمة من العزة والغنى وبابل إذ ذاك قرية دنيئة. ثم ضرب الدهر ضرباته وأفضت نوبة الملك إليها في سياق غير معلوم، فبلغت من العظمة والشهرة وسمو المنزلة ما لم تبلغه إحدى تلك المدن من قبل، وجرى فيها من الأعمال العظيمة والإنشاءات الجسيمة ما لم يجر في غيرها ولا يزول ذكره على الأبد، وتحاشدت إليها الجبايات والأرزاق وامتدت إليها أسباب التجارات من كل أوب، واتسع فيها نطاق الثروة والغنى حتى لُقِّبت بمدينة الذهب.

وكان من أشهر ما أُحدِث فيها من الأعمال المذكورة والعظائم المأثورة هيكل بعلوس والقصر الملكي وحدائقه المعلقة. أما الهيكل فقد ذكره جماعة في جملتهم ديودوروس الصقلي وذكر أن بانيه بعلوس، وروى غيره أنه بختنصَّر، والصحيح أن بختنصَّر إنما جدَّد بناءه بعد خرابه على ما سنورد تحقيقه، وقد عاين هيرودوطس اليوناني مدينة بابل في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت قد انحطت عن عظمتها الأولى ووصف في جملة ما شاهده هيكل بعلوس بما تلخيصه: إن في كل شطر من شطري المدينة ما يستحق الذكر، ففي أحدهما بلاط الملك وهو فسيح محكم الإتقان، وفي الآخر هيكل بعلوس وهو باقٍ إلى الآن على شكل مربع طوله إستادتان في عرض مثلهما، وله باب من الشبه وفي وسطه برج حصين طوله إستادة١ في عرض مثلها، ويعلوه برج وفوق البرج برج، وهكذا إلى ثمانية أبراج بعضها فوق بعض يُرقَى إلى كلٍّ منها بسلالم من الخارج وفي وسط الأبراج مقاعد يستريح فيها الراقي إليها، وفي الأعلى منها معبد وسرير كبير وبجانبه مائدة ذهبية، وفي الأخير مسجد لبعلوس يوبتير وفيه سرير كبير حسن الفرش وبجانبه مائدة ذهبية، وليس فيه صور وتماثيل كما في غيره، ولا يبيت فيه أحد ليلًا إلا أن تكون امرأة وقع عليها اختيار الإله تبعًا لما يقول كهنته الكلدان، وعندي أن ذلك كلام لا صحة له، وفي الهيكل مسجد سفلي وفيه تمثال كبير من الذهب يمثل يوبتير قاعدًا وكرسيه وموطئ قدميه وبجانبه مائدة، وجميعها من الذهب الخالص تساوي على قول الكلدان ٨٠٠ زنة من الذهب.٢

وفي خارج هذا الهيكل مذبحان أحدهما من الذهب، ولا يُضحَّى عليه إلا بما كان صغيرًا من الحيوان والآخر كبير أعده الكلدان للذبائح الكبيرة المألوفة، وكانوا يوقدون على المذبح كل سنة في عيد الإله ثلاثة آلاف أُقَّة من البخور، وكان في المقدِس إذ ذاك صنم كبير من الذهب الخالص ليوبتير بعلوس قاعدًا وارتفاعه اثنتا عشرة ذراعًا يصفه الكهنة ولم أَرَهُ، وكان داريوس بن هستاسب قد هم أن يأخذه عَنْوَةً، ثم لم يجترئ على ذلك فاستحوذ عليه بعده ابنه أكزرسيس وقتل الكاهن الذي مانعه من الاستيلاء عليه وحمل جميع ما فيه إلى خزائن قصره. هذا أخص ما في الهيكل، وفيه أيضًا أوانٍ يسيرة. ا.ﻫ.

وذكره إسترابون المؤرخ بقوله: وقرب الحدائق المعلقة قبر بعلوس، وهو خراب تام خرَّبه أكزرسيس وكان على شكل هرم مربع مبنيًّا بالآجُرِّ علوه إستادة واحدة في مثلها طولًا لكل من جهاته، وكان في نية الإسكندر أن يعيد بناءه لأنه كان قد عزم على الإقامة ببابل وجعلها مباءة له ولأعقابه بعده، فعاجله الأمر المحتوم قبل تقرير ما نوى. وذكره ديودوروس في كلام من جملته قوله: وشادت سميراميس عدا هذه الأعمال هيكلًا في وسط المدينة لا تتحقق عنه رواية صحيحة لاختلاف أقوال الكُتَّاب فيه، إلا أنهم أجمعوا على أنه بناء شامخ الارتفاع في أعلاه مرصد للكلدان كانوا يرصدون منه حركات الكواكب فيعرفون أوقات طلوعها وغروبها، وهو مبنيٌّ بالآجرِّ والحُمَر وعلى أعلاه تماثيل يوبتير ويونون وريا وهي مغشَّاة بالذهب وأمامها مائدة مغشَّاة بالذهب أيضًا، وكان عليها أوانٍ وتُحَف كثيرة انتهبها ملوك الفرس. ا.ﻫ. ومن الناس من يظن أن هذا البناء الذي يصفه هو برج بابل المعروف الآن ببرج نمرود وآثاره لا تزال بين أخربة بورسيبا على ما سنذكره بعد، وقد أثبتوا بعد الفحص المدقق أن ارتفاعه كان ينيف على أعلى رءُوس الأهرام المصرية بمائة قدم، وإذا كان ذلك صحيحًا فلا عجب إذا أحصاه المتقدمون في جملة الغرائب.

أما القصر الملكي فمنشؤه بختنصَّر، وقد ورد ذكره في كثير من مصنفات القدماء ولا سيما اليونان، فإنه ما برح عندهم محلًّا للعجب والاندهاش بالنظر إلى ما كان عليه من السعة والعظمة وغرابة الإتقان وما يليه من الحدائق المعلَّقة التي عُدَّت في جملة عجائب الدنيا السبع، ومُنشِئُها فيما روى ديودوروس ملكٌ من أعقاب سميراميس، سألته ذلك حظية له من بلاد فارس أحبت أن يمثل لها ما في بلادها من الروابي المكسوة بخضرة الرياض والبساتين فأمر بإنشائها على ذلك المثال؛ ولذلك جعلها على هيئة سطوح قائمة بعضها فوق بعض، وكل واحد من هذه السطوح يتأخر عن الذي تحته على شكل ما يُسمَّى بالإنفتياتر حتى كانت والأشجار عليها أشبه برابية خضراء ذات مروج وخمائل رائعة، وكانت هذه الحدائق مربعة الشكل طول كل جهة من جهاتها ٤ فلترات؛ أي نحو ١٢٠ مترًا، وكل سطح من السطوح المذكورة يُرقَى إليه بسُلَّم بينه وبين الذي يليه والسطوح برمتها قائمة على عَمَدٍ، وهي مفروشة بصفائح من الرضام طول الواحدة منها ١٦ قدمًا وعرضها ٤ أقدام، وهذه الرضام مستورة بخيزران قد غُمِسَ في الحُمَر وفوقه صفَّان من الآجرِّ المغموس في الجص، وفوق ذلك صفائح من الرصاص تمنع نفوذ الماء إلى ما تحتها من البناء إذا سُقِي ما فوقها من الأشجار، وفوق الرصاص التراب المغروسة فيه أشجار الحدائق، وهو من الكثرة بحيث يمكن أن تُغْرَس فيه أعظم سرحة، وكان هذا الموضع كله مغطَّى بالشجر المختلف والمغروسات الأنيقة ذات النشر والثمر، وفي داخل العَمَد المذكورة غُرف رائعة الإتقان محكمة الوضع ينفذ إليها النور من خلال العمد، وهي الغرف الملكية، وكان أحد العَمَد أجوف من رأسه إلى عقبه وفي داخله آلات ترفع الماء من النهر فتصبه في الحدائق. ا.ﻫ. هذه صفة هذه الحدائق في الجملة، وقد درستها الأيام فيما درسته من تلك العظائم العجيبة، فأصبحت تلًّا من الحجارة والأنقاض.

وذكر ديودوروس في جملة أبنية بابل قصرين أو قلعتين بنتهما سميراميس على كلٍّ من طرفي الجسر الذي ابتنته على النهر، فقال بعد ذكر بنائها للمدينة والسور: إنها بنت الجسر على أضيق موضع من النهر في طول خمس إستادات، وقد رفعته على قواعد راسخة في جوف الأرض بين الواحدة منها والأخرى اثنتا عشرة قدمًا، وشدَّت حجارتها بأربطة من حديد وعقدت بينها بالرصاص المذاب، وزلَّمت نواحيها المعرَّضة لمجرى الماء بحيث لا تتمكن منها قوة الماء في اندفاعه، وسقَّفت الجسر بخشب السرو والأرز على جوائز من جذوع النخل، وكان عرض الجسر ٣٠ قدمًا، وهو يُعَدُّ في جملة أبنية سميراميس العظيمة. قال: ثم بنت على كلٍّ من طرفي الجسر قصرًا يشرف على سائر المدينة، أحدهما ينظر إلى شطرها الشرقي والآخر إلى شطرها الغربي؛ لأن المدينة كانت منقسمة كذلك؛ إذ كان النهر يخترقها من الشمال إلى الجنوب، فكان هذان القصران بمنزلة مفتاحين لشطريها المذكورين، وكانا على أتم صنعة من الإحكام والزخرفة. والقصر الغربي منهما محيطه ٦٠ إستادة، وذلك نحو ١١ كيلومترًا وحوله سور شامخ من الآجر، ويليه من الداخل سور آخر من اللبِن، وعليه صور من الحيوان بديعة الصنعة رائعة الإتقان يتخيل الناظر إليها أنها حية، وطول هذا السور ٤٠ إستادة، وثخنه يعادل ٣٠٠ آجُرَّة، وارتفاعه على ما ذكر أكتزياس ٥٠ أُرجية وهي نحو ٩٠ مترًا.

ثم وجد أمام هذا السور سور ثالث أعلى منه، وهو يلي القصر من حوله، ومحيطه ٢٠ إستادة، وكان على الأسوار والأبراج التي عليها صور من الحيوان في غاية الإتقان وصورة مشهد صيد فيه كثير من أنواع الحيوان، وهناك صورة سميراميس على فرس وفي يدها حربة قد طعنت بها نمرًا، وبمقربة منها صورة نينوس زوجها وفي يده رمح يطعن به أسدًا، وكان للقصر باب ذو ثلاثة مداخل ووراءه غُرَف من الشبَه.

وأما القصر الثاني فكان دون هذا في الرونق والسعة، ولم يكن له إلا سور واحد من الآجُرِّ محيطه ثلاثون إستادة، وهي نحو ٥٥٢٠ مترًا، وكانت فيه تماثيل لنينوس وسميراميس وجماعة من رجال الدولة والعمال، وكلها من الشبه وتمثال يوبتير، وهو الذي يسميه البابليون بعلوس، وفيه فضلًا عن ذلك صور معارك ومصارعات ومشاهد صيد متقنة الوضع محكمة الصنع، وبين القصرين نفق ينفذ إليهما من طرفيه احتفرته تحت النهر ارتفاعه ١٢ قدمًا، وسعته عرضًا ١٥ قدمًا، وسقفه معقود بالأجُرِّ في ثخن أربع أذرع مطليًّا بالحُمَر المذاب، وثخن الجدار ٢٠ آجرَّة وأتمَّته في سبعة أيام. انتهى كلام ديودوروس ببعض تصرف، إلا أن أكثر أهل التحقيق على أن باني القصرين هو بختنصر كما تدل على ذلك كتابة له على بعض الآثار لا سميراميس التي نسب إليها ديودوروس جميع ما سوى الحدائق المعلقة من عظائم بابل، وأخربة القصر الشرقي من القصرين المذكورين باقية إلى الآن، وفيه كانت وفاة الإسكندر.

وبقرب أخربة القصر الملكي آثار مسافتها مائة متر يظن الباحثون أنها الحمامات التي ذكرها أريانوس، ويليها على مقربة منها أخربة يقال لها تل عمران، وهيئتها أشبه بربوة مضلعة تضليعًا أفقيًّا طولها من الغرب إلى الشرق ستمائة وخمسون قدمًا، إلا أنها أدنى ارتفاعًا من سائر الروابي التي تجاورها وعليها بقايا أبنية من الآجر، وقد احتفر فيها بعض السياح، فوجدوا قبورًا مكدونية في بعضها أكاليل ذهبية حملوها إلى قصور التحف في أوروبا، ومن الناس من يظن أن هذه الأخربة هي بقايا الحدائق المعلقة التي مَرَّ ذكرها، إلا أن ذلك ضعيف؛ أما أولًا فلأنه لم يُرَ اسمٌ لبختنصَّر على بقاياها كما هو دأبه في كل ما بناه أن ينقش عليه اسمه، فلو كانت هذه من أبنيته لم يتركها غُفلًا مع ما هي عليه من العظمة والغرابة حتى كانت تُعد من جملة عجائب الدنيا، وأما ثانيًا فلأن مساحة الحدائق المذكورة كانت ٤٠٠ يرد لكل جهة من جهاتها والأخربة المذكورة طولها ١١٠٠ يرد، فبين المساحتين تفاوت بعيد، والله أعلم، وفي جملة ما كشفه الباحثون في بابل أثر سور في جانب النهر قالوا إنه السور الذي بناه نبونيدوس ملك بابل، وقد ذكره بيروسوس فقال: إنه يمتد من طرف السور الشمالي الذي دخل منه قورش مدينة بابل إلى منفذ الفرات في الجنوب، وعليه فتكون مساحة السور مساحة مدينة بابل كلها، والمظنون أن بناءه كان لصيانة الجانب الأدنى من المدينة حين طغيان الماء، ووجدوا أيضًا آثارًا يقولون إنها من بقايا الجسر الذي ذكره هيرودوطس وديودوروس الصقلي، وقال قوم إنها من آثار الأسوار التي كانت لكل من القصرين على جانبي النهر.

وكانت بابل هذه مربعة الشكل طول كل جهة من جهاتها اثنان وعشرون كيلومترًا، وذكروا أن أول من بنى عليها سورًا بلأدان، إلا أن هذا الاسم يُطلق على غير واحد من ملوك بابل يتعذر معرفة زمان كل منهم وتعيين المراد منهم هنا، وفيما قرره بعضهم أن المراد به مرودخ بلأدان الذي كان في خلال القرن الثامن قبل الميلاد، ويرد عليه أن معظم أهل التحقيق على أن نيوبت بيل، وهو السور الأوسط بنته سميراميس وكان عهدها في أواسط القرن التاسع، وعليه فيكون السور الأوسط قد بُنِي قبل الأصغر وهو مخالف لمقتضى النظر؛ إذ السور إنما يُبنَى للإحاطة بالبلد، فإذا كان البلد محاطًا بسور فلا معنى لبناء سور آخر في داخله، ولعله بين بلأدان الذي كان في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فقد تحقق من الآثار أنه سوَّر بعض مدن بابل والله أعلم، وكان السور المذكور يُسمَّى نيوبت مرودخ؛ أي مسكن مرودخ وهو إله لهم مشهور، ولعل هذا أصل ما ذهب إليه بعضهم من نسبة بنائه إلى مرودخ بلأدان للملابسة بينهما في التسمية، وأثر هذا السور فيما يقال باقٍ إلى الآن، وهو لا يحيط إلا بقسم صغير من أخربة بابل.

ثم إنا إذا تتبعنا كتابات الملوك يجتمع لنا عدة أسوار لبابل، وذلك أن بعضًا منهم كانوا يكتبون أسماءهم على أبنية هذه المدينة ويباهون بأنهم قد شيدوا لها أسوارها وشحنوها بالقلاع الكبيرة كبختنصر؛ حيث يقول على بعض تلك الآثار: إني بنيت أميغور بيل ونيوبت بيل سورَيْ بابل العظيمين، مع أن نيوبت بيل كان قبل بختنصر بزمن بعيد، ولعل الواقع أن أحدهم كان إذا رَمَّ في أحد الأسوار موضعًا متهدمًا أو بنى شيئًا من أبراجه سواء كان هو واضعه أم أصلح فيه شيئًا، يدَّعي أنه هو بانيه استئثارًا بالفخر والذكر الدائم، ونيوبت بيل المذكور هو السور الأوسط الذي يلي نيوبت مرودخ وبانيه في قول المحققين سميراميس على ما مر ذكره، ولا يبعد أن تكون هي أسسته وقد تكون رسمته فقط ثم أتمه الملوك من بعدها، وبيل اسم إله آخر لهم ومعنى التسمية مسكن بيل، وارتفاع هذا السور بإجماع المؤرخين كان نحو خمسين ذراعًا، وثخنه ثماني عشرة ذراعًا، ومحيطه ٨٤٠٠٠ ذراع، وارتفاع أبراجه مائة وعشر أذرع، ومساحة البقعة التي يحيط بها ٣٨٣٣٠٠ ذراع مربعة. ثم لما اتسع نطاق بابل وكثر سكانها لم يبقَ موضع لإقامة أبنية جديدة في داخل السور، فأخذ الناس يبنون في رَبَض المدينة حتى كثرت الأبنية والتفَّت من حول السور، فأخذ بختنصَّر في بناء سور جديد وراء الأول وسماه أميغور بيل ومعناه بعل يصون، وكان هذا السور أرفع كثيرًا من السور الأوسط الذي هو نيوبت بيل، ولكن لا يتأتى لنا تحقيق قياسه لاختلاف أقوال المؤرخين فيه، والذي يتلخص من مجموع كلامهم أن ارتفاعه كان نحو تسعين ذراعًا، وثخنه نحو ٨٥ ذراعًا وأن أبراجه كانت أعلى منه بمائة قدم، وكان مكتنفًا بخندق من جهتيه؛ ولذلك لما سقط تكوَّرت أنقاضه في ذلك الخندق وتبدَّد ما بقي منها على تمادي الزمان، فضلَّ رسمه وعفا أثره ولم يبقَ دليل على موقعه الأصلي، وقد أورد هيرودوطس ذكره فقال: إن السور الكبير يحيط بالمدينة على شكل مربع في طول ١٢٠ إستادة لكل جهة من جهاته، ويُسمَّى أميغور بيل ومساحة الأرض التي يحيط بها ٥١٣ كيلومترًا مربعًا. ا.ﻫ. وكان لأميغور بيل مائة باب من الشبه، وهو ضرب من النحاس الأصفر لكل جهة من جهاته خمسة وعشرون بابًا تُغلَق إذا خِيف مهاجمة عدو للمدينة، وكان لهذه المدينة على ما رواه قوم من قدماء المؤرخين أسواق مستقيمة تمتد من كلٍّ من هذه الأبواب إلى ما يقابله في الجهة الأخرى، وبذلك انقسمت المدينة إلى ٦٢٥ مربعًا أو حِواءً في كل منها حدائق ومروج فسيحة فيها من جميع أنواع الأشجار المثمرة وأصناف البقول والرياحين، حتى قال أرسطاطاليس: إن صح أن تُدعَى بابل مدينة واحدة فالبيلوبونسية بأسرها تحسب بلدًا واحدًا. ا.ﻫ. وقد اختلفت الأقاويل في محيط السور على أنحاء شتى، ولعل ما قاله فيه هيرودوطس هو الأصح لما أثبته كثيرون من أن القياس الذي ذكره له هيرودوطس، وهو أربعمائة وثمانون إستادة موافق تمامًا لما ذكره بختنصَّر؛ حيث قال: إني قِسْتُ أميغور بيل سور بابل العظيم الذي لم يسبقني إلى بنائه ملك قبلي، فكان أربعة آلاف مهرغاغار وهي مساحة بابل. ا.ﻫ. وكان أول افتتاح بابل على يد قورش، وهو الذي أخذ أبواب السور، وجاء بعده داريوس فخرَّب جانبًا منه، ويُظَنُّ أن خراب هذا السور تم في عهد أكزرسيس وأرتكزرسيس، ولم يبقَ في عهد الإسكندر إلا السور الثاني المسمى نيويت بيل، ولعل هذا سبب الخلاف الذي بين هيرودوطس ومن تأخر عنه من المؤرخين؛ لأن هيرودوطس لما قدم بابل كان أميغور بيل قائمًا، فما ذكره من قياس السور إنما كان لأميغور بيل، والذين جاءُوا بعده لم يروا إلا نيويت بيل وهو أصغر منه، فهم إنما قاسوا غير السور الذي قاسه هيرودوطس.

هذا معظم ما اتصل إلينا وصفه من أبنية هذه المدينة وغرائبها وهي قديمة عهد بالخراب، فقد ذكر ديودورس أنها كانت في أيامه قد ناهزت الدروس. قال: وفي بابل عدة أبنية عظيمة من أبنية الملوك وغيرهم يتعذَّر عليَّ وصف ما كانت عليه في إبَّان أمرها؛ لأنه لم يبقَ منها إلا بقايا شاخصة ورسوم ناقصة. ا.ﻫ.

أما موقع بابل فقد اجتمع العلماء وأرباب البحث، على أنه المكان الذي فيه تلك الأخربة العظيمة الممتدة إلى مدى شاسع قرب مدينة الحلة على مسافة خمسة أميال منها على ضفة الفرات كما مرَّ ذكره، ومن هذه الأخربة يُستدَلُّ على ما كانت عليه سالفًا من العظمة والأحكام، ومع اتفاقهم على أن هذه البقايا هي بقايا مدينة بابل المشهورة فإنما هو حكم استدلال وغلبة ظن لا يقين قاطع؛ إذ لم يجدوا هناك ما يقضي بالجزم ولم يجدوا مع ذلك ما يناقض هذا الاستدلال فصار قَسْمًا بمنزلة اليقين. ثم إن معظم هذه الأخربة واقع على ضفة الفرات الشرقية وليس على الضفة الغربية إلا جانب صغير، ومن الناس من يقول إن ملوك بابل في إبَّان أمرها كانوا قد حوَّلوا النهر إلى وسط المدينة وزيَّنوا جانبيه بالرُّصُف المتقنة، فكان يقسم المدينة إلى شطرين متآزيين كما أسلفنا ذكره. فلما انقضى أمر أولئك الملوك وسقطت دولتهم أخذت المدينة في الانحطاط وأخطأتها عناية المرمِّمين، ومال النهر مع كرور الأيام إلى مجراه الأصلي شيئًا بعد شيء مستعرضًا إلى جهة الغرب حتى عاد إلى موضعه القديم.

ويؤيد هذا القول أنا نرى بقايا الشطر الشرقي من المدينة أَبْيَن آثارًا وأعرف رسمًا، حتى إن بقايا الرصيف الذي على ميسرة الفرات لم تزل إلى يومنا هذا وعليها اسم آخر ملوك بابل بخلاف الشطر الغربي؛ فإن ماء النهر قد جرف تلك الأبنية وترك موضعها قاعًا بورًا، ومما يزيد هذه المدينة غرابة أنها مع عظم أبنيتها وكثرتها واتساعها كانت تلك الأبنية من طين كانوا يخلطونه بالحُمَر، ويصنعون منه قطع الآجُرِّ واللبن طبخًا بالنار أو تجفيفًا في الشمس ويبنونها موضع الحجارة؛ لأن الصخر قلما يوجد هناك، وبذلك قامت تلك الهياكل العظيمة والأسوار الشامخة والمعاقل الحصينة التي صبرت على مهاجمات الزمان وسطوات الأقدار قرونًا متوالية، وبعد خرابها بقيت زمنًا طويلًا بمنزلة مقلع تُنقَل منه مواد البناء إلى ما يجاورها من البلاد؛ حتى إن سلوقية وأكتزيفون وبغداد والكوفة والحلَّة وغيرها من المدن بُنِيَت من بقايا بابل فضلًا عما بقي فيها من جبال الأنقاض المنتشرة في تلك النواحي، وخلالها بقايا رسوم لا يأويها إلا البوم والغراب، وقد تحققت فيها نبوة رجال الله ولا سيما أشعيا القائل: ويكون من أمر بابل التي هي بهاء الملك وزينة فخر الكلدانيين، كما كان من تقليب الله لسدوم وعمورة، فلا تُعمر أبدًا ولا يأوي إليها ساكن من بعد ولا يُخيِّم هناك أعرابي ولا يُربِض راعٍ سرحه، لكن يربض هناك وحش الصحراء ويملأ بيوتهم البوم وتسكن هناك رئال النعام وتطفر معز الوحش وتصيح بنات آوى في قصورهم والذئاب في هياكل ترفهم (١٣ : ١٩ إلى آخره).

ومدينة الحلَّة مبنية على آثار أخربة بابل، قيل أُحدِثَت سنة ١٠٩٣ ميلادية وبانيها صدقة بن منصور، ويُستفاد من بعض الكتب أنها كانت في أول أمرها مقام قبيلة من العرب، وهي اليوم قرية دنيئة وغالب سكانها قوم صعاليك، وهناك محط للمسافرين من خليج فارس إلى بغداد، وفي شمالها الشرقي آثار عديدة يُظَنُّ أنها من آثار مدينة القوطيين الذين كانوا يعبدون زحل أو المريخ، وفي الجهة الجنوبية منها قاعدة صنم كبير يقال إنها قاعدة الصنم الذي نصبه بختنصَّر وهو المذكور في سفر دانيال.

ذكر مدينة بورسيبا

وكان بين أميغور بيل ونيويت بيل موقع مدينة بورسيبا المشهورة، وبورسيبا كلمة آشورية مركبة معناها برج اللغات، ويُستدَلُّ من الآثار والتقليد البابلي القديم أنه فيها كانت بلبلة الألسنة كما تشير إليه تسميتها، وتُعرف أخربتها اليوم ببرج نمرود وهي تبعد أربعة كيلومترات عن نهر الفرات، وهناك آثار البرج، وهي عظيمة شاخصة في السماء على شكل هرمٍ، وارتفاعها إحدى وستون ذراعًا، ومحيطها تسعمائة وثلاثون ذراعًا، ومعظمها كأنه تلٌّ من الأنقاض في غربيِّهِ قطعة من حائط عظيم قد تعاصت على كرور الحوادث، يبلغ ارتفاعها سبع عشرة ذراعًا، وطولها اثنتا عشرة ذراعًا، وثخن الحائط اثنتا عشرة ذراعًا أيضًا، ويتصل أعلى هذا الحائط بسطح طوله مائة وأربع أذرع، ويُظَنُّ أن هذا الحائط من بقايا الهرم الأصلي وارتفاعه نحو سبع عشرة ذراعًا.

وكان هذا البرج يُسمَّى بهيكل عوالم الكون السبعة يعنون بها السيارات السبع التي كانوا يعرفونها وقتئذٍ كما سنورد تفصيله. وزعم قدماء الكلدانيين أن بانيه ملك من ملوكهم، وذلك عقب الطوفان بزمن يسير ثم جدَّد بناءه بختنصَّر على رسمه القديم كما يتضح ذلك من كتابة له وُجِدَت من عهد قريب، وذلك أن رولنسون الإنكليزي وجد في أخربة هذا البرج سنة ١٨٥٤ ناجودَيْن من الخزف البابلي فحملهما إلى دار الآثار في لندرة، وكانت على إحداهما كتابة يقول فيها: أنا بختنصَّر ملك بابل قد جددت بناء الهرم والبرج ذي الطباق. أنا ابن نبوبولاصر ملك بابل ولدني مرودخ الإله العظيم وأمرني بتشييد معابده. إن الهرم هو أعظم هيكل في السماء وعلى الأرض وهو مقام مرودخ رب الآلهة، وأنا جدَّدت مقدسه مكان قرار جلاله بالذهب الإبريز وجدَّدت برجه ذا الطباق الذي هو مقر الخلد وشيدته بالذهب والفضة ومعادن أخرى وبالآجُرِّ المرصع بالميناء وخشب السَّرْو والأرز وأتممت زينته، والبنية الأولى التي هي هيكل قواعد الأرض القائم بها تذكار بابل قد أتممتها وأقمت أعلاها بالآجُرِّ والشبه، وأما البنية الثانية التي هي هيكل سبعة أنوار المسكونة القائم بها تذكار بورسيبا، فكان قد شرع في بنائها أول الملوك ولم يتمها إلى أعلاها وبيني وبينه اثنان وأربعون زمنًا. ثم أُهملت دهرًا مديدًا، وأعيا الملوك الذين سلفوني مقصدهم من تشييدها، فأخذتها السيول والعواصف وزعزع زلزال الأرض اللبِن وحطم الآجُرَّ المطبوخ وأتلف لبن الطباق، فكان روابي مركومة. فشدَّد مرودخ الإله الكبير عزمي لإعادة بنائها، فأعدتها من غير تغيير في موقعها ولا تعطيل في أُسُسها، وفي شهر الختام في النهار السعيد حوَّطت الطباق من اللبِن والآجُرِّ المطبوخ بأروِقة وجدَّدت السلم المستديرة ونقشت اسمي المجيد في إفريز الأروقة، وقد أسست البناء وجدَّدته على وفق ما رسمه من تقدمني حتى عاد كأنه قد بُني في سالف الأزمنة. ا.ﻫ. وهذا البرج من أهول ما بناه البابليون وأجلِّهِ خطرًا وأعظمه شأنًا، وكان بمنزلة هيكل سباعي للآلهة السبعة التي يلقبونها بسبعة أنوار المسكونة، وكانت له سبع طباق كل طبقة منها خُصِّصت بواحد من تلك الآلهة. فأوَّل طبقة منه وهي السفلى كانت لزُحَل ولونها أسود، والثانية للزُّهَرة ولونها أبيض، والثالثة للمشتري ولونها بردقاني، والرابعة لعطارد ولونها أزرق، والخامسة للمريخ ولونها قرمزي، والسادسة للقمر ولونها فضي، والسابعة للشمس ولونها ذهبي، وقد ذكرنا أن من الناس من استدل على أن بلبلة الألسنة كانت في هذه المدينة، وهم يقولون إن البرج المشار إليه هو البرج المذكور في الفصل الحادي عشر من سفر التكوين، وعلى ذلك تُحوَّل الحادثة المذكورة هناك من مدينة بابل إلى بورسيبا، وقد كثرت أقوالهم في هذا البرج وواضعه وعلة بنائه على أنحاء شتى. فذكر يوسيفوس أن واضعه نمرود بناه بعد الطوفان لينجو الناس إليه إذا حدث طوفان آخر، وذهب غريفل إلى أن أول من بناه ملك من أقدم ملوك تلك البلاد أراد أن يكون ذكرًا مخلدًا للبلبلة؛ أي بلبلة اللغات، وذكر أن ارتفاعه اثنتان وأربعون ذراعًا — أو مقياسًا آخر لا يُعلَم ما هو — وذهب غيره إلى أنه هو هيكل بعلوس الذي ذكره هيرودوطس، وقال إنه ذو ثمانية أبراج أو طباق بعضها فوق بعض وقد تقدم ذكره، وقال قوم إنه كان بناء عظيمًا ذاهبًا في العَنان، استلزم لإقامته عددًا غفيرًا من العَملة، وكان المشتغلون فيه في أول الأمر جميعهم بابليين يتكلمون بلسان واحد، فألجأتهم الحال لتعجيل العمل أن يستعينوا بعملة آخرين من غيرهم، فحشدوا لذلك بنائين ونحاتين من أمم مختلفة يتكلمون بألسنة شتى. فلما كانوا في بعض الأيام هبت عواصف شديدة فنسفت رأس البرج، فَخُيِّل لهم أن الآلهة فعلت ذلك وبلبلت ألسنتهم فكفوا عن بنائه، وشاع هذا الاعتقاد بين الكلدانيين من ذلك الوقت.

ويظهر أن بورسيبا في أوائل الأجيال النصرانية كانت معمورة بالأبنية والهياكل، وقد ذكرها إسترابون على حالها الأخيرة فقال: إن بورسيبا المعروفة الآن باسم بروس هي من المدن المشهورة بنسج الكتان، وفي جملة أبنيتها هيكلان فاخران أحدهما لأبولون والآخر لأرطاميس أخته، قال ويكثر في نواحيها الخفاش وهو أكبر من الخفاش المعروف عندنا وهم يأكلونه وبعضهم يدَّخرهُ مقدَّدًا ومملوحًا إلى حين الحاجة. انتهى. وعلى مسافة يسيرة من أخربة بورسيبا آثار قديمة العهد جدًّا وتعرف بإبراهيم الخليل، وفيها على ما قال كثيرون هياكل أو ونينيب سمدان ونانا التي ذكر بختنصَّر أنها من بنائه، وهناك قبة في الموضع الذي يقال إنه فيه طرح نمرودُ إبراهيمَ الخليل في أَتُّون النار وبقربها تلَّة يبلغ ارتفاعها أكثر من ثلاث وثلاثين ذراعًا، وطولها نحو ٤٦٠ قدمًا وهي على ما قيل نفس الهرم الذي ذكره إسترابون وقال إنه قبر بعلوس وهو غير ثبت، وفي تلك النواحي أخربة كثيرة حفر فيها بعض السائحين، فوجدوا تحفًا كثيرة من أوانٍ وآجُرٍّ وغيرها، وقالوا إن محيط الآثار فيها يبلغ ميلًا.

ذكر سلوقية وأكتزيفون

ومن مدن بابل التي اشتهرت في عصر الملوك البرثيين سلوقية وأكتزيفون اللتان مر ذكرهما، بنى الأولى سلوقوس وهو أحد أعقاب الإسكندر الرومي فَسُمِّيَت باسمه، أراد بها مساماة بابل وحطَّ ما كانت عليه إلى ذلك الحين من العز والفخامة وجعلها مباءة له، فشيد بها المباني الحافلة والمصانع العظيمة والهياكل المرتفعة، وهو الذي بنى سورها فيما يظن فصارت تُعدُّ من المدن الكبيرة بآسيا، وكان موقعها على ميمنة دجلة وبقربها على بعد ٤٠٠٠ أو ٣٥٠٠ متر عن ضفة النهر المذكور إلى الغرب مصب نهر دلاس، وهو يصب في دجلة وبين دلاس ونهر عيسى المعروف بالترعة السقلاوية ١٥٠٠ متر، وكانت سلوقية تجاه مدينة أكتزيفون ولم يكن بينهما إلا مياه دجلة. قال بلينوس: وكثيرًا ما يُطلَق على سلوقية اسم بابل وهي الآن مستقلة، والشائع أن سكانها ينيفون عن ستمائة ألف نسمة وهيئة حدودها على شكل نسر ناشر جناحيه. ا.ﻫ. وقد افتتح هذه المدينة فيروس الروماني ودكَّ سورها وأخربها جملة. قال المؤرخ أميانوس مرشلينوس عند ذكر هذه الحادثة: لما استحوذ قُوَّاد قيصر على سلوقية حملوا جميع كنوزها وغنائمها إلى رومية، وكان في جملة ما نقلوه صنم لأبولون أقامه الكهنة وجعلوه في هيكل له في جبل بلاتين. قال: وبعد هذه الحادثة بأيام رأى بعض الجنود منفذًا صغيرًا بين الأخربة، فظنوا أن هناك مغارة تخيلوا أن فيها كنوزًا ثمينة، فلما حفروا انبعثت من الأرض رائحة كريهة نشأ عنها وباء ذريع، ففشا بين الناس ومات به خلق كثير وما زال فاشيًا حتى انقضى عهد فيروس، وقام بعده مرقس أنطونينوس، والوباء ممتد من حدود مملكة فارس إلى نفس غاليا. ا.ﻫ.

وأما أكتزيفون فموقعها على ضفة دجلة الغربية، وهي من بناء الملوك البرثيين، وأول من شرع في بنائها وردانوس، وقام بعده باكوروس فأقام لها سورًا حصينًا وشاد في داخلها أبنية عديدة، وكان من أكبر علل نجاحها سقوط مدينة بابل، ثم عقبه انحطاط سلوقية عن عظمتها فزاد ذلك في عمارتها وارتفاع شأنها، وكانت مباءة للملوك البرثيين، فكان لها بذلك الحظ الأكبر وتواردت إليها الثروة والجاه، وكثرت فيها المعاقل والحصون وأسباب القوة والمنعة وتعدَّدت فيها الهياكل والأبنية العظيمة؛ إذ كان كل واحد من أولئك الملوك يزيدها من تلك الأبنية ما يفوق به من سلفه حتى صارت بعد حين من أعظم مدن فارس، وما زالت في تلك العظمة والرفعة إلى أن زحف عليها تريانوس القيصر الروماني فضربها واستفتحها عَنْوَةً واستباحها بالقتل والنهب، وكل من تخلَّف عن طاعته من أهلها أخذه أسيرًا وذلك سنة ١١٥ ميلادية. ثم اقتدى به فيروس فنهض إلى سلوقية وأخذها على ما أسلفنا ذكره وزحف منها إلى أكتزيفون فمحا ما بقي من آثارها وردها قاعًا صفصفًا، وبقاياها اليوم تبعد ست ساعات عن مدينة بغداد على مسافة ميل عن ميسرة دجلة، ويقال إنه استُؤْنِفَ بناء سورها في أوائل عهد النصرانية، بدليل أن كثيرين من قياصرة الرومان من كراسوس إلى يوليانوس قصدوها فعجزوا عن أخذها وكاد بعضهم يتفانى تحت أسوارها.

وعليه فالظاهر أن الأخربة الباقية منها الآن هي من بقايا تجديدها ومحيطها ميلان، وقد بقي جانب من سورها ظاهرًا من بين الأنقاض، وهو مبني بالآجُرِّ الذي نُقِل من أخربة بابل، وثخنه يعادل ثخن الأسوار الكبيرة ويكون ذلك إلى ٣٠٠ آجرة، وفي أواسط الأخربة أثر قصر عظيم يقال له سرير إيوان كسرى أو سرير كسرى ويراد به باب النصر، وهو من بقايا قصر بناه أحد الملوك البرثيين، ومن الناس من يظن أنه هيكل لمعبود الشمس أو النور استدلالًا بأثر كشفوه هناك، وقال آخرون إنه بنية أقامها ملك من الملوك الأوروبيين كان افتتح هناك فتوحات فبنى هذا القصر ذكرًا له، ومهما يكن من ذلك فإنه بناء عظيم واسع قديم العهد من أكثر من ألفي سنة وهو مبني بالآجُرِّ واللبِن، وقد أصبحت جميع جدرانه ما خلا الشرقي منها خرابًا تامًّا، وطول هذا الجدار مائتان وسبعون قدمًا وارتفاعه ست وثمانون قدمًا، وفي وسطه قنطرة يليها عقد غوره مائة وأربع وثمانون قدمًا، وارتفاع القنطرة خمس وثمانون قدمًا، وعرضها ست وسبعون قدمًا، وثخن جدارها ثلاث وعشرون قدمًا؛ ولهذا الجدار ستة أبواب متنوعة الأشكال في كل شطر من شطريه على جانبي القنطرة ثلاثة أبواب، وفيه أربعة صفوف من الكُوَى غور الواحدة منها قدم في مثلها طولًا وعرضًا يظن الناظر إليها أنها وكنات طيور، وينبعث الضياء إلى داخل القصر من غير هذا الجدار، وعلى مقربة من القصر جامع كبير يزوره مسلمو تلك النواحي، وهناك بعض أخربة على شكل تلال لم يتيسر للباحثين الوقوف على حقيقتها، وتُعرف أراضي أكتزيفون وسلوقية وما في جوارهما بالمدينتين أو المدائن.

ذكر أُور

وأقدم مدن الكلدان أور أو أور الكلدانيين كانت في أول أمرها دار مملكة، وكان بها مقام الكهنة وفيها من الهياكل ما لا نظير له سعة وإتقانًا حتى كانت مركز الدين عندهم، وهي التي دُعي منها إبراهيم الخليل — عليه السلام — حين أمره الله بالهجرة إلى أرض كنعان وذلك في أوائل القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، ويُستفاد من الكتاب المقدس أن كدر لعومر العيلامي كان مقيمًا بها في عهد إبراهيم المذكور، وفي الآثار ما يؤيد ذلك، وقد عُلِمَ منها أيضًا أن بعض تلك الهياكل من بنائه، وفي آثار أخرى أن أورخامس هو الذي حصنها وبنى عليها سورًا ضخمًا وجعلها مباءة للملك، وذلك قبل عهد كدر لعومر بزمن مديد وشاد فيها هرمًا عظيمًا تخليدًا لذكره، يظنُّ بعض الناس أنه هو الهرم الذي زعم كثيرون أنه برج البلبلة المذكور في الكتاب، وقُرِئَ على بعض تلك الآثار أنه ابتنى في أور هيكلًا فاخرًا جعله لمعبود القمر، وقد كشف الإفرنج هذا الهيكل ووجدوا على حائط منه صورة أورخامس وكتابات بالقلم القديم تشهد بأنه هو بانيه، ومن ملوك أور إسمي داجون وتُنسَب إليه هياكل بناها لمعبودي الشمس والقمر، وفي عهده بلغت أور ذروة العز والشهرة حتى صارت كما في بعض الآثار فريدة المدن، وكان نقل العاصمة منها إلى مدينة بابل في عهد همورابي.

ومنذ ذلك الحين استتبَّت في أور الراحة والسكينة لخلوها عن قلاقل المُلك وانحياز من يقصدها بالشر إلى مقام المَلك في بابل، غير أنه فاتها بعد ذلك ما كان يتوارد إليها من أسباب الغنى والثروة وانتقل كل ذلك إلى مدينة بابل، وآخر من يُذكر من الملوك على آثارها نبونيدوس وكانت وفاته سنة ٥٤٠ قبل الميلاد، ولم يكن له آثار كما لغيره ممن سلفه، وأور اليوم خراب تام ويُعرف موقعها بالمغاور، وقد كشف فيها أهل البحث من الإفرنج قبورًا قديمة العهد جدًّا وهي في داخل الأرض مبنية بالآجُرِّ طول الواحد منها سبع أقدام في ثلاث عرضًا وخمس سمكًا، ومعظم ما بقي من أخربتها بقايا هياكل لسين وهو إله لهم سيُذكَر بُعَيْد هذا، ولعل ما يجاور أور من البلاد إنما سماه اليونان باسم مسيني اشتقاقًا من اسم هذا الإله لكثرة تماثيله فيها. أما تسمية هذه المدينة بأور ففيها أقوال أشهرها أنها سمِّيت بذلك لحصانتها، ومعنى أور الحصن، وقال آخرون: إنها سميت بذلك لكثرة هياكل النار فيها، ومعنى أور في لغتهم النار ولعله الأصح، وأور هذه في رأي أكثر المحققين أنها كلنة القديمة، وموقعها في المكان الذي يقال له المغاور على ما أسلفنا ذكره وذلك قرب ملتقى نهرَيْ دجلة والفرات، ومنهم من يقول إنها مدينة أورفا الحالية استدلالًا بقرب موقعها من حرَّان مع تقارب الاسمين، وهو منقوض بما أوردنا ذكره من شهادة الآثار، وقيل غير ذلك مما لا فائدة من استيفائه، والله أعلم.

ذكر مدن أخرى ببابل

ثم إنه ورد في الفصل العاشر من سِفْر الخلائق ذكر أربع مدن في أرض شنعار، وهي بابل وأرك وأكَّد وكلنة، وإن هذه المدائن كانت أول ملك نمرود ولم يُذكر أن نمرود هو بانيها؛ ولذا يصح أن يقال إنها كانت قبله وأن الطورانيين وهم أول من وفد على مملكة بابل هم الذين ابتنوها، والذي ظهر بعد مطالعة الآثار أن هذه المدن الكبيرة ما برحت عواصم لملوك تلك البلاد وعلى الخصوص في بعيد الأزمنة، لانفرادها إذ ذاك باتساع الثروة وكثرة العمران وانحطاط سائر المدن المشهورة عما بلغته من المَنَعة والأُبَّهة، وكان فيها مقام الأمراء وأعيان الدولة، وكان من تبوَّأ منهم أريكة الملك يجعل سريره في المدينة التي وُلِد فيها ويسمي نفسه ملك الأقاليم الأربعة، يعني المدن الأربع المذكورة؛ إشارة إلى أنها كلها في حوزته وتحت ظله وإن لم يكن مُقامه إلا في إحداها، ولم تلبث هذه المدن عقب أن بدأ فيها الخراب إلا قليلًا حتى صارت قاعًا صفصفًا بعد أن خدمها العز نحو عشرين قرنًا من الدهر، ولم يبقَ منها إلى عهدنا هذا سوى رسوم دوارس لا تزيد على معرفة مواقعها القديمة في الجملة. فأما تمييز بعضها من البعض الآخر بأسمائها فلم يبقَ عليه دليل، وإنما الناس يأخذون في ذلك بالظنِّ، فمن قائل إن مدينة أَرَك هي المعروفة اليوم بورقاء أو أرقاء وموقعها على عدوة دجلة عند حدود بابل وشوشانة، وذهب قوم إلى أنها هي التي كانت تُعرَف عند الأقدمين بإيذسَّا، وقيل بل هي أُورخوه التي ذكرها جماعة من متقدمي المؤرخين، وقالوا إنها على نحو أربعين ميلًا من بابل، ولعل الصحيح كما قاله بعض المحققين إنها كانت في موقع الأخربة المعروفة اليوم بالأراق ومنها اشتق اسم العراق، وموقع هذه الأخربة بين مدينة الحَلَّة وملتقى نهرَيْ دجلة والفرات وجميعها قديمة عهد بالخراب، ومعظمها بقايا هياكل لسين وبعض أبنية أقامها ملك من ملوكها كان يقال له سين سيد، وسين عندهم اسم للقمر وكانوا يعبدونه في أرك وما يجاورها، ولذلك كانوا يسمون أرك مدينة القمر، وكانت له فيها هياكل كثيرة، وكان أكثر الملوك الذين تَبَوَّءُوا سريرها في ذلك العهد يقرنون أسماءهم بلفظة سين تبركًا كسين سيِّد المذكور وقمر سين ونارام سين، إلى غير ذلك.

وأما أكَّد فموقعها إلى الشمال الشرقي مما بين النهرين وهي التي يقال لها نيبور؛ أي مدينة الإله الكبير وتسمى أيضًا نيغار؛ أي مدينة إله الأرض يعنون به ملك الملوك؛ وذلك لأن ملوكها حينئذ كان لهم التقدم على سائر ملوك تلك البلاد، وقد وُفِّقَ فيها منقِّبو الإفرنج إلى الوقوف على بقايا هيكلَيْن من بناء أورخامس، أحدهما لإله الجلد والآخر لبيليت تاءُوث أم الآلهة، وهناك أخربة شتى غير هذين الهيكلين يقولون إنها من نحو أربعين قرنًا، وعليه فيكون عهدها قبل استيلاء العرب على بابل بزمن بعيد، وفي جملة ما وُجد فيها حلي معدنية ضخمة الأشكال تدل على تقادمها، ومن الناس من يزعم أن أرك هذه هي مدينة نصيبين استنادًا إلى تقليدات كانت عند اليهود في أيام إيرونيموس، وفي ذلك كله أقوال وآراء شتى لم يصل إلى تحقيقها أرباب البحث فنقتصر منها على ما ذُكر، وأما كلنة فهي التي يطلق عليها أهل البلاد اسم المدينة وأكثر المحققين على أنها أور الكلدانيين على ما قدمناه قريبًا في الكلام على هذه المدينة.

ومن مدن بابل التي كشفها المتأخرون مدينة صفيرة ذكروا أن بانيها الأول أورخاموس وكثير من أخربتها باق إلى اليوم، وقام بعده ساغركتياس وهو الذي بنى فيها الهيكل العظيم الذي ذكره بيروسوس وقال: إنه مبني في نفس الموضع الذي خبأ فيه أكسيسوثروس حين الطوفان السجلات المسطر عليها تاريخ الخليقة وأخبار الأيام الأولى وأسرار التنجيم والكهانة وغير ذلك، وقد كشف هذا الهيكل بعض سياح الإفرنج فوجدوا في جملة ما كان فيه آنية من المرمر الأبيض الخالص، وهي مزخرفة غاية الزخرفة وعليها اسم نارام سين ومعناه المبتهل إلى سين، وهو من ولد ساغر كتياس مشيد الهيكل المذكور، وقال الباحثون: إن الكتابة التي وُجِدَت على الآنية المذكورة هي أشبه بالكتابة الموسومة بها أبنية أورخاموس، فاستدلوا بذلك على أن هؤلاء الملوك طائفة واحدة.

ومنها مدينة إيس أو إيوبوليس وموقعها على الضفة الغربية من النهر المنسوب إليها وهو يدفع في الفرات على مقربة منها، وأشهر من ذكرها من القدماء هيرودوطس فقال: إنها تبعد ثمانية أيام عن بابل وموقعها على نهر يُسمَّى باسمها يجرُّ ماؤه كثيرًا من الحُمَر، ومنه كان البابليون يحملون الحُمَر لبناء أسوار مدينتهم. ا.ﻫ.

وقد دثرت هذه المدينة من زمن مديد وكان أعظم أسباب خرابها مجاولة أمراء العرب فيها منذ أيام الجاهلية، وعلى موقع أخربتها اليوم قرية حقيرة تعرف بهيت وفيها كثير من النخل على ضفتَيِ النهر ومن حولها الحُمَر، وفيها ينابيع من النفط قد اشتهرت بسببها، وسكانها يقاربون ألف نسمة ومعظم أبنيتهم من الحصى المتلاحمة بالحُمَر واللبِن.

١  قالوا: إن الإستادة تكون ١٨٥ مترًا.
٢  الزنة في أشهر الأقوال تعادل ٧٠٢٠٠ فرنك فيكون المجموع ٥٦١٦٠٠٠٠ فرنك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤