الفصل الثالث عشر

السرد الكبير

هناك شعور لا زمني طوال حياتي، لم أعرف بتاتًا كيف أصفه، ولا كيف أسميه. أنا مثل «حوام السهول»١ الذي لا يستطيع أن يرى الطريدة إلا إذا رأى المشهد الطبيعي ككل، لا أستطيع أن أجزِّئ، أو أفصل الأشياء عن بعضها البعض، الحياة بالنسبة لي حساء من المكونات غير المتمايزة والمترابطة بخيوط عنكبوتية من الصعب تبينها، كل مكونات الحياة ما هي إلا أخلاط.

أنا من هذه الناحية فاشل على المستوى الكانطي، ما دمت غير قادر على وضع أي حدود بين الخطابات والكيانات. كيف يمكنني أن أرى النجوم دون أن أرى السماء والليل والبحر والأبدية جنبًا إلى جنب؟ كيف يمكنني أن أدرك نفسي دون أن أدرك الناس الآخرين الذين أعرفهم، والذين لا أعرفهم إلى أن أصل إلى حدود البشرية وما وراء حدود البشرية؟

كل مكونات العالم موضوعة في سلسلة لا نهائية من الترابطات، الحياة عبارة عن سرد كبير، وإذا كان هناك من قلق فلسفي؛ فلن يكون سوى إدراك طبيعة هذه الكلية السردية، تقديم وصفة شاملة لهذا الحساء في مجملِه.

الآن وأنا في منتصف العمر أو يزيد، أعتبر أن مجمل الحكمة التي تعلمتها طوال هذه السنين، هي أن الحياة يمكن التعبير عنها على شكل اختلاط معمم للأشياء، تجاور كلي للمعارف. كنت دائمًا أحلم بكتابة متون يصعب على الآخرين تصنيفها؛ لأن في داخلها يتحرك هذا الحساء المكون من العلم والفلسفة والدين وباقي الفنون والمعارف الأخرى. في هذه الحدود التي تلتقي فيها الحكمة مع الدين، والجمال مع العلم، والموسيقى مع الصمت، والفنون التشكيلية مع كينونة الضوء.

لا أعرف بالضبط ماذا يمكن أن أسمِّي هذا النص الخارق، المتن الذي «يبرشم»٢ كل المعارف الإنسانية. أعرف، قد يقول البعض أن هذا هو الحلم القديم بالكلية والمطلق، نعم، قد تكون الحياة كلية ولكنها كلية لا نهائية، فمن هذا الذي بإمكانه أن يدعي القدرة على وضع خاتمة لهذا السرد العجيب؟!

لدي شعور بأن الانحطاط الحضاري بدأ مع ميلاد التخصصات، لدينا اليوم متخصصون في كل شيء بدءًا من النجوم النيوترونية وإلى غاية الكلاب السَّلوقية، وإذا كان لديك مأتم هناك متخصصون حتى في البكاء والعويل، وآخرون يقفون على أبواب المحاكم متخصصون في شهادات الزور، جاهزون للعمل متى طلبهم أحدهم.

هكذا لدينا اليوم مِزَق من المعرفة، أما المعرفة ذاتها فقد ضاعت، مزق من الحياة، أما كلية الحياة فقد تبخَّرت، لدينا السنوات التي تمضي وليس الزمان، لدينا فيض هائل في المعلومات وليس الحقيقة، تراكم كبير في خطابات الحب، وليس الحب ذاته.

لطالما حلمت بهذا الطرس المعرفي، طرس الحياة أريد أن أضرب ابن عربي كمعامل أسِي في معادلة شروندنغر، وأن أستخرج الدوران المغزلي للمادة من رقائق مولانا جلال الدين الرومي، أن أسرد المطلق الهيجيلي على طريقة ألف ليلة وليلة، أن أحلم مستيقظًا وأمشي جالسًا، أن أكون عالمًا ومتصوفًا، فيلسوفًا وشاعرًا، نبيًّا ومجنونًا.

١  حوام السهول نوع من الطيور النادرة.
٢  في الثقافة المغربية فعل «برشم» يحيل على إدخال خيوط الحياكة في بعضها البعض، أما في اللغة العربية الفصحى؛ ففعل «برشم» يحيل على دلالاتٍ مختلفة؛ منها إطالة النظر، والتمعُّن في الشيء، أو إظهار الألم والحزن، أو كذلك تنقيط الشيء وتزويقه بنقط مختلفة الألوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤