الفصل الثامن عشر

الموسيقى

صبيحة رطبة نزلت على المدينة من السهول المجاورة، الشوارع شبه فارغة إلا من بعض المارة. حالة غير عادية في هذه المدينة المعروفة بازدحامها. إنه البرد من يجعل الناس يُلازمون بيوتهم، البرد الشديد والحرارة المفرطة ضد الطبيعة الإنسانية. الحياة بمجملها تدين للاعتدال الكوني.

نزلت على طول الشارع، وأنا أستمتع برؤية ما لم أعتد على رؤيته؛ وجوه صغيرة نضرة، وجوه شابة عذبة ذاهبة إلى مدارسها، وجوه قرويين وقرويات أتعبها الزمان، تقف في انتظار فرصة عمل قد تأتي وقد لا تأتي، وجوه أخرى ذات معالم حادة، علمتها الحياة طبائع التكيف مع الشر، وجوه حمقى وبُلَهاء ما زالوا مُكوَّمين في صناديق ورقية تحت باحاتِ المتاجر ورفوف المباني.

ناعمٌ هذا الصباح الذي تجري فيه أقدار الناس فوق غمام المدينة. مضيت إلى نهاية الشارع أتأمل الحياة التي عشتها والحياة التي لن أعيشها غارقًا في تجاويفِ الفكر، وفي معنى المصير ومصير المعنى. صوت سماوي قادم من وراء جدران المركز الثقافي البلدي أيقظ سُباتي اللذيذ. كان صوتًا نسائيًّا حنونًا مصحوبًا بنقرات حزينة تنزل كالدموع على مفاتيح آلة البيانو. موسيقى أندلسية، عزفٌ منفرد مما وراء العصور. أحسست كعادتي في هذه الحالات بتقلُّصات في معدتي، وبدموع ممزوجة بضباب الروح تحت الأشجار الخضراء الضخمة التي تظلل الحب الذي أنتظره.

لو كان بإمكاني أن أصعد الدرج، وأن أعبر البهو الطويل إلى غاية الصالة العتيقة حيث يوجد البيانو العتيق، لو كان بإمكاني أن أضعَ قُبلاتي الرقيقة فوق كل أصبع من أصابع هذه السيدة، ربما قد أتحول إلى شمس في قلبها، أو إلى لحن ضائع لم تعرفْ بعد أنه ضاع منها. أقطع كل الصحارى والبراري كي أكون هرًّا ودودًا تحت سريرها.

الموسيقى هي عطر الله، بكاء الملائكة وأنين السماء على مأساة الوجود البشري. في البدء كانت الموسيقى وليس الكلمة كما يقال، الإنسان يصرخ قبل أن يتكلم. هي الجسر الذي يحملنا نحو السماء. حتى المجنون نفسه لا يستطيع أن يحافظ على هدوئه عند سماع أنينِ الكمان. ليس الحس المشترك هو الأعدل قسمة بين الناس بل الموسيقى. إنها أعدل قسمة بين كل الكائنات، الحيتان في البحار الباردة تغني، الطيور والحباحب تؤنس وحدتها في حقول الصيف. الكون كله يهتزُّ كما تقول نظرية الخيوط الوترية. كل شيء له صوت بما فيه الصمت ذاته.

الموسيقى هي ميتافيزيقا كل الناس. إنها العربة الإلهية التي تحمل الجميع نحو البعيد، نحو التماعات القدر. لو أمكن لأفلاطون أن يستمع لإغور سترافينسكي Igor stravinsky أو حتى للصرخات الحنونة لنساء الأطلس، لوضع نظامًا آخر لجمهوريته غير ما نعرفها عليه. لو قُدِّر أيضًا لأرسطو أن يستمتع بالصوت الدافئ لمغنية الفادو أماليا رودريغيز؛ لما عرف كيف يميز بين عالم ما فوق القمر وعالم ما تحت القمر. فشلت الفلسفة في أن تجعل كل الناس فلاسفة، أما الموسيقى فقد حقَّقت ذلك. كل إنسان يصبح فيلسوفًا بالقوة وبالفعل، عندما يسمع الألحان القادمة من مملكة الأرواح العليلة التي بناها كلاوس شولز klaus schulze.

خمرة الروح هذه القادمة إليَّ من داخل الصالة العلوية للمركز الثقافي البلدي التي تقطر من أصابع الحب. دعيني سيدتي أصعد الدرج وأستريح فوق هذه الغيوم. دعيني أطير كالعصافير كي أختبئ بين شفتيك، أن أحملك على القارب، وأجدف بك نحو الجزيرة غير المنظورة، بينما تجلسين أنت وتداعبين نعومة الماء بأصابعك الناعمة. أكون بذلك قد تعمقت في شسوع المصير البشري، وفي الكون الذي هو أنت وعالمك. ولكن وا أسفاه! أيتها الجميلة خلف البيانو، حتى الموسيقى ذاتها لا يمكنها أن ترتق سقطة الزمان التي نعيشها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤