الفصل العشرون

الحدث

أنا على حافة شيء ما لا أعرفه بالضبط، أو إنني أعرف ولكنني أخاف أن أسميه، فالأشياء عادة ما تصبح موجودة بالفعل من خلال تسميتِنا لها. الشيء الوحيد الذي أعرفه حقًّا أنني غير متأكد ممَّا إذا كان هذا المنحدر سيقودني إلى السَّفْح أم إلى القمة. لا أعرف ما ينتظرني هناك في الضفاف الأبدية لحافة الزمان. تجربة حب ستتبخر فيها أنفاسي أم تحلل للخلايا الباقية من دماغي؟

مأساتي الكبرى لطالما بحثت لها عن لغة تصوغُها، لكن هيهات. كل ما بوسعي أن أقوله إنني أسكن هذا الجسد الذي لازمني لمدة طويلة. حوالي أربعين سنة وأنا أدور مع هذا الكوكب حول الشمس، في هامش صغير داخل المدى اللبني لمجرة من بين المليارات من المجرات التي يضمها هذا الكون. وأنتظر أن يحدث شيء ما، حدث خارق يعيد لي وللبشرية جمعاء السؤال الأساسي حول ما فُقد، وما هو في طريق الفقدان. لا أقصد حربًا أو احتراقًا نوويًّا، ولا حتى ترقية إدارية أو بذلة وحذاء جديدًا. ولكن حدثًا من طبيعة خاصة لا أعرفها بالضبط. ربما أن أبكي الليل كله دون انقطاع، وفي الصباح عندما تجف الدموع أعوضها بضحكات هستيرية.

أنا كذلك في انتظار ولادة غامضة لكائنٍ غامض، أتمنى لو كنت نوستراداموس أو أي نبي آخر كي أستوضح جليًّا هذا السر، ولكنني أعرف أن القادم لا يوزع الرحمات، فالنحل لا يريد أن يستقر في مزارعنا، ونجم الشِّعرى اليمانية لا يلوح في الأفق. لا أريد النظر في وجه هذا الكائن، أريد أن أغرق في الفجر أن أومن بالنور. أعرف أنه من أجل هذا الفجر، القصبات الحزينات في الوادي الحزين ينتحبن، بجعات الصيف يغنين نشيد الأسى، ومع شروق الشمس يصعد الغمام، كبحر من الرماد أو النار يمد النهار مرة أخرى مديته، وفي البعيد خلف الوادي الحزين تحترق المراكب وتتحلل آخر أشجار البلح.

وإن تقمصت روح فراشة، أو سكنت قلب أسد، أو جسد حوت ضخم يجوب بحار الصين الباردة؟ هل أكون بذلك قد غادرت نطاق الإنسانية؟ هل يكون هذا هو الحدث المنتظر؟ ألا تجعل هذه الفكرة الحدود بين ما هو إنساني وما هو حيواني ملتبسة؟ الألوهية حاضرة في كل مكان، فيما هو قريب وما هو بعيد، في صدوع الحياة وفي ندى النجوم.

ارتفاع درجة الحرارة يأتي بهَوَامَّ لا تُحتمَل، هناك البق والبرغوث والقمل، أما الذباب فهو أكبر حشرة مشاغبة فوق هذا الكوكب. ها هو ذا في هذا الصباح يسلي نفسه بممارسة طنينه البليد فوق رأسي. يترك المطبخ وبهو الشقة، وكل الغرف الفسيحة ويتقصد عَنوة عزف سيمفونيته فوق أذني، مهما طردته يعود مجددًا. أتساءل أحيانًا ما الجدوى من خلق هذه الحشرة الكريهة؟ وما الدافع إلى خلق كل هذه الوحوش الكاسرة في غابر الزمان؟ الديناصورات الضخمة والتيرانوصورات والتنانين المحلقة، التي كان بإمكانها أن تقتنص فيلًا بكامله بمخالبها، وتصعد به إلى رأس الجبل كي تلتهمه. لقد أدى اختفاء هذه الكائنات العملاقة إلى ظهور الإنسان، ولولا ذلك النيزك الذي أُبارك ساعةَ الطالع السعيدة التي صدَم فيها كوكب الأرض؛ لما كنت هنا الآن مستغرقًا في هذه التأملات «اللاميتافيزيقية».

وهذا الذباب أيضًا كيف لي أن أدرك سر وجوده، وأنا لم أدرك حتى سرَّ وجودي الخاص؟ فيم يفيد وجوده وجودي سوى أن يفسد علي لذةَ النوم في هذا الصباح. ألا يمكن أن يؤدي اختفاؤه إلى ظهور مخلوقات أخرى؟ وأي كائن يمكن أن يعقب اختفاء الإنسان كذلك؟

أتوسل إليك أيتها الذبابة انشري طنينك في مكان آخر. دعيني أغرق في عذرية هذا الحلم. الحدث بالنسبة لي هو أن أنام كما ينام الأطفال، وأستيقظ كما تستيقظ الحياة، وهي تضع مشيمتها على الشاطئ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤