مقدمة

في هذا الكتاب سوف يظهر اسپينوزا في صورةٍ مختلفةٍ كلَّ الاختلاف عن تلك الصورة أو الصور التي تتبادر إلى الأذهان كلما عَرَض لها اسم هذا الفيلسوف. ولست أدَّعي أنَّ هذه الصورة هي وحدها الصحيحة، وأنَّ كلَّ ما عداها باطل، ولكني أستطيع أن أقول مطمئنًّا من جهةٍ، إنَّها رُسمت بعد دراسةٍ دقيقة للصور الأخرى المخالفة لها، وعن إدراكٍ كامل للنظرة التقليدية إلى هذا المفكر العملاق. وأستطيع أن أقول مطمئنًّا من جهة أخرى، إنَّ هذه الصورة الجديدة التي سنرسمها أكثر اتساقًا من كل ما عداها، وإنَّها أقدر من غيرها على الجمع والتوفيق بين مواقف كثيرة لهذا الفيلسوف يُظَنُّ في معظم الأحيان أنَّها منطوية على تناقضٍ لا يُرفع.

وأبدأ فأقول: إنَّ تفكير اسپينوزا من ذلك النَّوع الذي يُغرِي بأشد التفسيرات تضادًّا؛ فكتاباته، ولا سيما كتابه الأكبر «الأخلاق»، تُغرِي كلَّ عصر بأن يفسِّرها تبعًا لمقتضياته الخاصة، وكلَّ كاتبٍ بأن يجِدَ فيها انعكاسًا لاتجاهاته الفكرية المفضَّلة. وهذه في الحق ظاهرة من أعجب الظواهر في تاريخ الفلسفة؛ فها هو ذا فيلسوفٌ استخدم «المنهج الهندسي» في كتابه الرئيسي، وأراد من هذا الكتاب أن يكون نظيرًا لمؤلَّف إقليدس الهندسي في عالم الفلسفة، وأكد أنه إنما أراد أن يعالج الانفعالات والمشاعر البشرية مثلما يعالج عالم الهندسة النقط والخطوط والمسطحات، وأن ينظر إليها نظرةً علميةً موضوعيةً تجردت من كل عناصر التفسير الشخصي أو الذاتي. مثل هذا الهدف كان كفيلًا بأن يوحِّد آراء الشُّراح أو أن يقرِّب على الأقل بينها ويوجهها كلها وجهةً متَّسقة، ولكن الأمر العجيب حقًّا هو أن ذلك الفيلسوف الذي أخفى شخصيته في كتاباته لأن العنصر في رأيه ينبغي أن يختفي ويتوارى، وأعلن ضرورة استبعاد العنصر الذاتي من التفكير الفلسفي، قد تأثَّر بذاتية المفسرين أكثر من أي مفكر آخر. وصحيح أن كل الفلاسفة الكبار يتعرضون حقًّا لتفسيرات متباينة، ولكن توجد في كل حالة، رغم ذلك، أسس مشتركة أو مبادئ عامة يتفق عليها الجميع، أو تقترب وجهات نظرهم بشأنها. أما في حالة اسپينوزا فالأسس الأولى لفلسفته، بل لشخصيته الفكرية ذاتها ولموقفه الحضاري نفسه، مختلَف عليها إلى حدٍّ لا يترك مجالًا لأي تقريب أو توفيق بين الآراء المتعارضة حوله.

فالصورة التقليدية لشخصية اسپينوزا هي صورة الفيلسوف المعتكف عن الناس، المنعزل عن العالم، الغارق في التأمل بين جدران بيته، بعيدًا عن صخب العالم الخارجي وضجيجه. هذه الصورة التي وُرثت عن مؤرخي حياته الأولين، ظلت هي التي يرسمها له أصحاب الاتجاهات التقليدية المحافظة. وقد اتخذت هذه الاتجاهات شتى الصور، ووصل بعضها إلى تشبيه فلسفته بالمذهب الهندوسي، والتقريب بين صفات الله عنده وبين «براهما» وبين رأيه في النفس والآراء الهندوسية في الروح المسماة «أتمن atmn» وبين كتاب الأخلاق وكتاب الأوبانشاد!١
ومع ذلك فإنَّ البحث الحديث في حياة اسپينوزا قد غيَّر هذه الصورة التقليدية تغييرًا تامًّا؛ إذ أكد كثيرٌ من الكتَّاب أن اسپينوزا كان أبعد الناس عن أن يكون صوفيًّا غارقًا في التأملات، أو مفكرًا منعزلًا منطويًا على نفسه، وإنما كان، كما أكد «بول سيڨك»: «… بعيدًا كل البُعد عن أن يكون ناسكًا هنديًّا غارقًا في التفكير في الأزلية إلى حد نسيان الحاضر. فقد كان، على عكس ذلك، رجلَ عمل، حريصًا على أن يضمن الظَّفَر لأفكاره التي عدَّها خليقةً بتغيير وجه الأرض …»٢

ومن ذلك الحين برزت صورة اسپينوزا بوصفه فيلسوفًا شارك مشاركة إيجابية في مشاكل عصره وسعى عمليًّا إلى حلِّها. ومع ذلك فهذه الصورة ذاتها تتباين كل التباين.

فأصحاب الاتجاهات التقدمية تختلف كلمتهم حوله؛ فمنهم، مثل «فوير Feuer»، من يؤكد أنه كان، في مرحلةٍ واحدة من حياته على الأقل، مفكرًا ثائرًا يختلط بالجمعيات السِّرِّية الثورية التي كانت موضوعًا للشك في عصره، كجمعيات «المينونيين Mennonites» و«الكويكر» والمجمعيين Collegiants،٣ وأنه، مع نزوعه إلى التصوف، كان مفكرًا «يساريًّا» بالمعنى الحديث، يؤمن باشتراكية التملُّك وبضرورة التخلي عن أخلاق المال وقيم التجار. ومنهم من يصوِّره مفكرًا متحالفًا مع البورجوازية، يفلسف قيم الطبقة الرأسمالية الآخذة في الظهور في عصره ويقبل هذه القيم بكل ما فيها من خيرٍ وشر، ويدافع عن طريقتها الجديدة في الحكم بكل قوته.٤

أما المفكرون اليهود، ولا سيما ذوو الاتجاهات الصهيونية المتعصبة منهم؛ فقد استغلوا كون اسپينوزا قد وُلد لأبوين يهوديين، فحاولوا أن ينسبوا إليه — كما سنرى فيما بعدُ — شتى الأفكار المناصرة لدعواتهم، متجاهلين تمامًا واقعة خروجه على الطائفة اليهودية وطرده منها وإعلانه العداء الصريح لها.

وفي العهد النازي نجد من المفكرين الألمان من جعلوا منه عدوًّا خطيرًا للأمة الألمانية — أو للجنس الجرماني على الأخص.٥
وأحدث ما في هذه التفسيرات، بطبيعة الحال، هو ذلك الذي يستغل اسپينوزا في الحرب الباردة، وبالفعل نجد من الكتَّاب من يؤكد أن اسپينوزا يفيد أمريكا في محاربتها للشيوعية، وأن تعاليمه يمكن أن تُقتبَس أثناء وضع الخطط اللازمة للدفاع ضد العدوان السوڨييتي في مجال الفكر، ويجد في بعض نصوصه ما يعتقد أنه يؤيد الرأي القائل بوجوب حل المنازعات بين الدول بالالتجاء إلى الأمم المتحدة!٦

كل هذا، وغيره كثير، يقال على الفيلسوف الذي كان أكثر من غيره حرصًا على الكتابة بأسلوب غير شخصي، وعلى تجنُّب الإهابة بالعوامل الذاتية في كتاباته.

أما المنهج الهندسي؛ فقد كان خليقًا بأن يستهوي العلماء أو ذوي الأذهان العلمية قبل غيرهم. وقد كان هذا بالفعل شأن ذلك المنهج. ومع ذلك تعود المفارقات السابقة إلى الظهور مرة أخرى في هذا السياق؛ فمن العجيب حقًّا أن هذا المنهج، الذي رُوعيت فيه الكتابة بلغةٍ جافة، وعلى صورة نظريات وبراهين هندسية، والذي أُكدت فيه الحتمية والضرورة العلمية بكل قوة، وانطوى على حملة شديدة على كل تشبيهٍ بالإنسان، وإنكارٍ لوجود أي مغزًى أو دلالة لقيم البشر في الكون ذاته؛ هذا المنهج ذاته قد استهوى الشعراء إلى أبعد حد. وكان كتاب «الأخلاق»، الذي طُبِّق فيه هذا المنهج من أقوى الكتب إلهامًا لروح الشعر، وكم تغنى به شعراء مثل جيته ونوفالس! وهذا أمر غريب حقًّا، إذا أدركنا أن من مقومات الشعر الأساسية وجود نوع من تشبيه الطبيعة بالإنسان، أو صبغ الكون بصبغة القيم البشرية، ومن الإيمان بالانفعالات والعواطف (التي كانت عبودية في نظر اسپينوزا)، وبنوع من الحرية (التي أنكرتها حتمية اسپينوزا).

وهكذا يؤدي كتاب «الأخلاق» إلى نتائج تتعارض تمامًا مع صورته الظاهرة، ومنهجه الشكلي، ومع المقاصد والغايات التي أعلن مؤلفه نفسه أنه كان يستهدفها.

ولكن السؤال الأكبر في هذا الصدد هو: هل كان اسپينوزا يستهدف هذه المقاصد والغايات التي أعلنها بحق؟ إن التفسير الذي يتبادر إلى الأذهان هو أنه كان مفكرًا سيء الحظ، لقيت كتاباته من الآخرين استجابةً مناقضة لما كان يرمي إليه، ولكن هناك تفسيرًا، أو على الأصح احتمالًا، أعمق من ذلك، هو: ألَا يجوز أن اسپينوزا كان بارعًا إلى حدِّ أنه كتب بأسلوبٍ وبصورة يحقق بها نتائج لا تخطر على الإطلاق ببال القارئ لأول وهلة، بحيث تتخذ كتاباته مظهرًا بعيدًا كل البُعد عن المعاني العميقة التي يمكن أن تُستخلص منها؟ ألا يجوز أنه كان يريد فعلًا أن تفسَّر كتاباته على نحوٍ مخالفٍ لما توحي به لأول وهلة؟

هذا هو الاحتمال الخطير، الذي سنبحثه في هذا الكتاب بالتفصيل، ونقدِّم من الأدلة ما يُثبت أنه، إن لم يكن هو الاحتمال الصحيح، فإنه على الأقل هو الأرجح.

•••

مثل هذه الغاية التي نستهدفها في هذا البحث، وأعني بها محاولة كشف المعاني الخفية في كتابات اسپينوزا، تقتضي منهجًا في البحث لا يتقيد بالشكل الظاهر للألفاظ والتعبيرات، بل لا يتقيد بالأفكار والآراء التي تعمَّد اسپينوزا أن تُفهم لأول وهلة من كتاباته.

وهنا ينبغي أن نضع تقابلًا أساسيًّا بين طريقتنا في بحث اسپينوزا، وبين طريقة نعدُّها أنموذجًا لما نرمي نحن في هذا البحث إلى تجنُّبه؛ وأعني بها طريقة الأستاذ «ولفسون Wolfson» في كتابه «فلسفة اسپينوزا». هذا الكتاب الضخم، الحافل بالشواهد على غزارة علم صحابه وسعة اطلاعه وجَلَده وصبره في البحث، إلى حدٍّ لا يملك المرء معه إلا أن يشعر بالتواضع الشديد؛ يمثِّل جزءٌ كبير منه، في رأينا، مجهودًا فكريًّا ضائعًا أو طاقةً ضخمةً جبارةً تُنفَق في سبيل هدف عقيم.

ففي هذا الكتاب يأتي المؤلِّف بقائمةٍ طويلة من المفكرين يفترض أن اسپينوزا قد تأثَّر بهم — بعضهم كان تأثيره فيه مباشرًا، والبعض الآخر تأثر به اسپينوزا في فقراتٍ أو قضايا منفردة من كتاب الأخلاق. وهكذا نجد فصول كتاب «ولفسون» حافلةً بالمقارنات البارعة بين اسپينوزا وبين الفلاسفة الوسيطيين والمحدَثين، ويُثبت المؤلِّف علمه الغزير حين يكشف عن التوازي الدقيق بين قضايا كتاب الأخلاق، كلٍّ على حدة، وبين كتابات هؤلاء الفلاسفة.

ولكن، ما قيمة كل هذا الجهد المضني آخر الأمر؟ إن كل ما أثبته «ولفسون» هو أن اسپينوزا قد تأثر في «شكل» كتاباته باتجاهات فكرية سابقة. وهذا صحيح، بل إننا لَنذهب إلى أن اسپينوزا قد «تعمَّد» هذا التأثر؛ أي إنه تعمَّد أن تبدو تعبيراته في شكلها الظاهر مماثلة لتعبيرات الفلاسفة التقليديين، ولكنه كان ينتهي من هذه التعبيرات المتشابهة إلى نتائج مضادة تمامًا لأفكار هؤلاء الفلاسفة؛ ذلك لأنه أراد أن يحارب الاتجاهات السابقة بنفس سلاحها، وأن يستخدم نفس حججها أو اصطلاحاتها، لكي يُثبِت أن التحليل السليم لهذه الحجج أو الاصطلاحات يؤدي إلى نتائج تُخالف تمامًا نتائجهم؛ فالتأثر في هذه الحالة «لحظة مؤقتة» في المنهج، وخطة مرسومة متعمَّدة، وهو يتخذ دلالة تختلف تمامًا عن دلالة التأثر المألوف لدى الفلاسفة بالاتجاهات الفكرية السابقة عليهم، بل إن مجرد اعتقاد الشُّراح بأن هذا التشابه في الشكل، وفي المصطلح، هو «تأثُّر» بالمعنى المألوف، هو في الحق اعتقادٌ ساذج يدل على أن المغزى الحقيقي لخطة اسپينوزا ومنهجه في التَّفلسف قد فاتهم.

وإذن، فالجهد الهائل الذي بذله أستاذ مثل «ولفسون» هو في رأينا جهد معظمه عقيم؛ إذ يُركز كله على التشابه الشكلي السطحي بين اسپينوزا وبين غيره من السابقين عليه، مع أن هذا التشابه لا قيمة له إذا كان المضمون ذاته، والنتيجة النهائية للتفلسف، والأهداف التي يرمي الفكر إلى تحقيقها، مختلفة عن هذه الاتجاهات السابقة اختلاف السماء عن الأرض! ومن العجيب أن ولفسون ذاته يدرك هذا الاختلاف في المحتوى، كما تشهد كتابات أخرى له عديدة عن اسپينوزا، غير أن إدراكه هذا لم يثنِه عن بذل هذا الجهد المضني لغرض هو في ذاته عقيم أو ثانوي الأهمية على أحسن الفروض.

ولنضرب مثلًا واحدًا للجهد الضائع في هذا الكتاب؛ ففي أثناء عرض اسپينوزا لإحدى نظرياته، يقول: «إنني لم أعتدِ الجدل حول الأسماء أو الألفاظ»؛ وهنا يتناول ولفسون هذه العبارة وحدها، وبصورتها المفردة هذه، ويرهق نفسه في البحث عن عبارات موازية لدى الفلاسفة العرب واليهود في العصور الوسطى، ويكشف بالفعل في ذلك عن علمٍ غزير واطلاعٍ واسع،٧ ولكن هذه كلها لا تعدو أن تكون محاوَلةً «استعراضية» عقيمة من وجهة نظر التفكير العميق والوزن السليم للأمور؛ إذ إن العبارة السابقة عبارة مألوفة يمكن أن يدلي بها أي شخص دون أن يكون قد تأثر بغيره. ومن الصعب أن نتصور أن مفكرًا كبيرًا مثل اسپينوزا قد وصل به الهزال الذهني إلى حد أنه لا يستطيع أن يقول بعبارة كهذه إلا إذا كان قد تأثر فيها، عن وعيٍ أو بلا وعي، بآخرين سبق أن قرأها لديهم.

والحقُّ أن الفيلسوف الناضج لا يأخذ أفكارًا منفردةً أو عبارات متفرقةً من هنا ومن هناك ليكوِّن منها بناءه الفلسفي، وإنما قد يتأثر باتجاهات فكرية «كاملة» فحسب. ومن المحال أن يكون اسپينوزا قد التقط هذه القضية من «فلان». وهذه الفكرة من «فلان»، في الوقت الذي كان فيه اتجاهه الفكري العام مضادًّا لتفكيرهما بل هادمًا للأسس التي قام عليها.

وجميع الفلاسفة الذين حاول ولفسون أن يقرِّب بين اسپينوزا وبينهم قد يكونون مشابهين له في تعبيراتٍ لفظية معيَّنة، ولكن اتجاههم العام كان مخالفًا تمامًا لاتجاهه. وهذا يصح على ديكارت، الذي قال عنه باحث ديكارتي مشهور إن تأثيره في فلسفة اسپينوزا كان ضئيلًا، وإن المعالم الرئيسية لفلسفة اسپينوزا كان يمكن أن تظهر لو لم يكن قد قرأ كتاباته على الإطلاق،٨ ويصح على فلاسفة العصور الوسطى الذين سنثبت فيما بعدُ استحالة تأثُّر اسپينوزا بهم من ناحية تفكيره الحقيقي (لا من ناحية شكل كتاباته)، ويصح أخيرًا على القدماء الذين كان تقويم اسپينوزا لهم خارجًا تمامًا عن المألوف، ولا يوجد له نظير إلا لدى الفلاسفة الماديين المحدَثين من ذوي النزعات اليسارية الصريحة، يقول في الرسالة رقم ٥٦: «إن سلطة أفلاطون وأرسطو وسقراط … إلخ، ليست لها في نظري قيمة كبيرة …» بينما يرفع في نفس الموضع مكانة أبيقور وديمقريطس ولوكريتيوس.

وإذن فالفائدة الوحيدة التي يمكن أن تُجنى من مثل هذه المقارنات المرهِقة التي قام بها ولفسون، هي إثبات أن اسپينوزا قد استخدم التشابه الشكلي بينه وبين السابقين عليه مِعْوَلًا لهدم فلسفاتهم، ولإثبات أن هذا النوع من التفكير يقضي على ذاته تمامًا. وهذا الرأي بالطبع مبنيٌّ على القول إنَّ الشَّكل اللَّفظي لكتابة اسپينوزا كان ضئيل القيمة، وأن لهذه الكتابة معاني خفية من وراء هذا الشكل. والحقُّ أن مسايرة المعاني الظاهرة لألفاظ اسپينوزا وتعبيراته كانت هي الصفة الغالبة لدى معظم مَن كتبوا عنه، ومنهم شُرَّاح لهم مكانتهم الكبيرة في عالم الفلسفة. فالكثرة الغالبة من الكتب المؤلفة عن اسپينوزا تبدأ مثلًا بذكر رأيه في فكرة الله، فتشير إلى رأيه في وحدة الوجود والطبيعة، وكذلك في إضافة صفة الجسمية إلى الله، ثم تواصل الكلام عن بقية آراء اسپينوزا عن الله وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن اسپينوزا يماثل أي فيلسوف أو مفكر آخر في نظرته إلى فكرة الله، وكل ما في الأمر أنه أضاف صفة أخرى جديدة إلى الفكرة، هي صفة الهوية مع الطبيعة، أو المادية، ولا شيء غير ذلك. ومثل هذا يقال على فكرة الخلود، وفكرة الحب الإلهي، وغيرها من الأفكار التي اكتسبت عند اسپينوزا في واقع الأمر، معنًى مخالفًا تمامًا لكل معانيها السابقة.

والأمر الذي يُغفله هؤلاء الشُّرَّاح، هو أن المعاني الثورية الجديدة لهذه الأفكار ينبغي أن تُزيل عنها جميع ارتباطاتها القديمة وتُضفي عليها ارتباطات لم تكن معروفة على الإطلاق؛ فمنذ اللحظة التي يعلن فيها اسپينوزا مثلًا، أن فكرة الله مساوية للطبيعة، وأن المادية صفة من صفات الله، تصطبغ الفكرة بصبغة لم تُعرف من قبلُ، بل تغدو فكرة «أخرى» جديدة تمامًا، ولا صلة لها بكل الأفكار السابقة في هذا المجال. ويكون من واجب الشارح أن يفسِّر كل قضية وكل عبارة ترد فيها كلمة «الله» تفسيرًا جديدًا، وأن يستحضر في ذهنه على الدوام معانيها الجديدة في كل سياقٍ ترد فيه، ويحذر الانسياق وراء المعاني القديمة المألوفة للكلمة.

وهنا تكون فلسفة اسپينوزا اختبارًا عسيرًا لقدرة المرء على التخلص من الارتباطات المألوفة للألفاظ — ونقول: إنه اختبار عسير؛ لأنَّ مُعظم هذه الألفاظ قد اكتسب معانيَ موغِلةً في القِدم إلى حدٍّ أصبحت معه راسخةً كل الرسوخ في أذهان البشر، فضلًا عن أن لها ارتباطات نفسية وانفعالية قوية في نفوس الناس. والأمر الذي أراد اسپينوزا أن يُثبِته أن هذه المعاني وهذه الارتباطات النفسية ليست صحيحة بالضرورة، بل إن الفكر البشري يكون أكثر اتساقًا إذا ما استخدم هذه الألفاظ بمعانٍ جديدة وجعل لها ارتباطات نفسية مغايرة، أو حاول القضاء على كل ما لها من هذه الارتباطات.

والأمر الملاحَظ في كل دراسةٍ عميقةٍ للمؤلفات التي كُتبت عن اسپينوزا أن القليلين جدًّا هم الذين عرفوا كيف يخلِّصون أذهانهم من هذه الارتباطات الذهنية والنفسية القدمية للألفاظ التي استخدمها اسپينوزا بمعانٍ ودلالات جديدة. وإن مثل هذه الدراسة لتعطينا مثلًا بليغًا لمدى تأثير اللغة في تفكير الناس، ومدى سيطرة اللفظ على الأذهان التي تنقاد وراءه وتظل تردد محتوياته العقلية أو الانفعالية التي ألِفتها، مهما طُلب إليها أن تتناسى هذا كله وتبدأ في النظر إلى الأمور من زاوية جديدة.

وما أشبه محاولة اسپينوزا تحديد معانٍ جديدة للَفظين مثل «الله»، و«الخلود»، بمحاولة الهندسات اللاإقليدية تحديد معانٍ جديدة للفظين، مثل «المثلث» أو «المتوازي»؛ فقد عرَّفت هذه الهندسات المثلث بأنه شكل يبلغ مجموع زواياه أكثر (أو أقل) من قائمتين، والمتوازيين بأنهما خطَّان لا يمكن تقابُلهما. وطلبت من القارئ أن يسايرها في هذه المعاني الجديدة. ونستطيع أن ندرك موقف معظم شُرَّاح اسپينوزا على حقيقته إذا تصورنا باحثًا في الهندسة يعجز ذهنه عن التخلي عن المعاني التي ألِفها لكلمة «المثلث» و«المتوازي»، أو يساير المعاني الجديدة بعض الوقت، ثم يعود ذهنه، بحكم التعود، إلى المعاني القديمة من آنٍ لآخر، فتكون الصورة النهائية لفهمه لهذه الألفاظ مزيجًا غريبًا من القديم والحديث. هذا «القصور الذاتي» للأذهان، في عجزها عن مسايرة المعاني الجديدة التي يُطلب إليها أن تأخذ بها، هو العقبة الكبرى في وجه الفهم الصحيح لفلسفة اسپينوزا، وهو المسئول الأول عن ذلك التباين الهائل في تفسيرات هذه الفلسفة. وقد حاولنا في هذا البحث أن نتخلص من هذا القصور بقدر المستطاع، وأن نكشف عن التناقض أو عدم الاتساق الذي يقع فيه الشُّراح نتيجةً له. أما الحكم النهائي على التفسيرات المختلفة لفلسفة اسپينوزا؛ فهو في رأينا مماثلٌ للحكم على أية مجموعة من النظريات العلمية؛ إذ تُفضَّل دائمًا النظرية التي تفسِّر أكبر عدد من الوقائع بأقصى درجة ممكنة من الاتساق، وأحسب أنه إذا كان لهذا البحث في فلسفة اسپينوزا فضلٌ، فهذا الفضل هو أنه مبنيٌّ على تفسير لهذه الفلسفة يضم — على نحوٍ متسق — عددًا كبيرًا من عناصرها التي تبدو غير متآلفة فيما بينها، على حين أن ما اطلعت عليه من الشروح لهذه الفلسفة يعجز دائمًا — بدرجات متفاوتة — عن تقديم تفسير متسق لهذه العناصر، بل ويؤكد أصحابه، في كثير من الأحيان، أن عدم الاتساق طابع أساسي في فلسفة اسپينوزا، وكأنهم بذلك ينبهون القارئ إلى ضرورة الحذر مما يقدمونه إليه من التفسيرات!

•••

ولي بعد ذلك كلمة أخرى عن المجال الذي دار حوله اهتمامنا في هذا البحث. فكثير من شُرَّاح اسپينوزا يركزون اهتمامهم في التعبيرات والصيغ الميتافيزيقية التي تحفل بها كتابات اسپينوزا، ولا سيما «الأخلاق». وهكذا تجد أبحاثهم عنه تتركز في موضوعاتٍ جافة كالجوهر والماهية واللامتناهي والصفة والحال، بحيث يبدو فيها غير مختلف كثيرًا عن فلاسفة العصور الوسطى الذين قضوا حياتهم في التعامل مع ألفاظ شكلية وكيانات ميتافيزيقية لا علاقة لها على الإطلاق بواقع الإنسان. ونحن، مع تسليمنا بأن هذه الموضوعات كانت لها مكانتها، ومكانتها الكبيرة أحيانًا، في كتابات اسپينوزا، فإنا نؤكد أن دلالتها لديه تختلف كل الاختلاف عنها لدى الفلاسفة المَدْرَسِيِّين؛ إذ إنها لم تكن عنده غاية نهائية للفكر على الإطلاق، وإنما كانت وسيلةً لعرض آراء تمسُّ موقف الإنسان وحضارته، بأحدث معاني هذه الكلمات، مساسًا مباشرًا. وهذا الوجه الأخير، في رأينا، هو الوجه الحقيقي الهام في فلسفة اسپينوزا، وهو الأجدر كثيرًا بالبحث من كل ما عداه؛ ومن هنا فإنا لم ندخل في تفاصيل الأوجُه الشكلية لفلسفة اسپينوزا إلا من حيث دلالتها على موقفه الأصيل من الإنسان وحضارته؛ إذ إنك كثيرًا ما تجد في كتابات اسپينوزا قضايا لو أخذت بمعناها الشكلي أو الحرفي لما كانت تختلف كثيرًا عن القضايا العقيمة المألوفة لدى الفلاسفة المَدْرَسِيِّين، ولكن هذه القضايا، إذا ما وُضعت في سياقها الحقيقي في إطار فلسفة اسپينوزا، وفُهمت الدلالة الخاصة التي أضفاها على مصطلحاتها، تكتسب معنًى مشحونًا بالثورة وبالدلالات الإنسانية العميقة. وهكذا فإن الاكتفاء بالتفسيرات الشكلية لهذه القضايا، على نحوٍ يقارب ببنها وبين التراث السابق عليها ولا سيما في العصور الوسطى، يؤدي في رأينا إلى إغفالٍ مؤسف لأهم ما تتضمنه فلسفة اسپينوزا من عناصر، بل للروح الحقيقية المميِّزة لهذه الفلسفة، في سبيل شكلٍ سطحي وقشور زائلة. وبعبارة أخرى: فسوف نركز اهتمامنا على تلك العناصر الباقية في فلسفة اسپينوزا — تلك العناصر التي كان لها، وما زال، تأثيرُها في حضارة الإنسان وفي فهمه لذاته وللعالم المحيط به، لا تلك العناصر العارضة التي تتمثل في تصورات وحجج مدرسية لا يمكن أن يكون لها في الإنسان أي تأثير باقٍ.

•••

وأخيرًا؛ فقد أفادني في جمع مواد هذا الكتاب اطلاعي على المجموعة الضخمة من المراجع الخاصة بفلسفة اسپينوزا في المكتبة الأهلية ومكتبة جامعة كولمبيا بنيويورك — وفيهما مجموعتان ضخمتان من المؤلفات والأبحاث الهامة في هذا الموضوع على التخصيص. ومع ذلك فلا بد أن أنبِّه إلى أن الرأي الذي كوَّنته عن اسپينوزا قد تكوَّن بناء على تفسيرٍ مستمَدٍّ من قراءة مؤلفاته ذاتها فحسب. أما المراجع المذكورة في هذا الكتاب — وهي غير قليلة — فلا تهدف إلا إلى دعم هذا التفسير، إما بطريقة إيجابية مباشرة، أو بطريقة سلبية عن طريق إثبات استحالة التفسيرات المخالفة، وهو الأغلب. وكل ما أستطيع أن أقوله عن هذه المراجع هو أنني لم أجد منها ما يفسِّر فلسفة اسپينوزا تفسيرًا متسقًا إلى حدٍّ مُرضٍ، وأنني قد اضطررت إلى أن أقف من كثير منها موقف الناقد القاسي؛ وذلك لإيماني القاطع بأن اسپينوزا فيلسوف لم يُفهم بعدُ حقَّ الفهم، وأنه قد نَصَب للمفسرين السُّذج شِراكًا؛ وقع فيها، لسوء الحظ، معظم من كتبوا عنه؛ ولذا كان الرجوع إليهم يفيد في الانتقاد أكثر مما يفيد في الاسترشاد؛ ومن هنا فإني أود أن يَعُدَّني القارئ مسئولًا عن التفسير الذي سيجده في هذا الكتاب لفلسفة اسپينوزا، وعن كل ما قد يستحق استحسانه أو استهجانه في هذا التفسير.

فؤاد زكريا
نيويورك في يناير ١٩٦٢م
١  Kurt F. Leidecker: Spinoza and Hindusim. Open Court, Chicago, Oct. 1934.
٢  Paul Siweck: Spinoza et le panthéisme religieux. Paris (Desclée de Brouwer) 1937. p. 173.
٣  سوف تُشرَح طبيعة هذه الجماعات الفكرية، وكذلك رأي «فوير» هذا، بمزيد من التفصيل في الفصل الخاص بحياة اسپينوزا.
٤  انظر مثلًا كتاب: Desanti: Introduction à l’histoire de la philosophie. Paris (La Nouvelle Critique 1956) وكذلك الفصل السابع (الفلسفة السياسية).
٥  انظر الفصل الثامن (اسپينوزا واليهودية).
٦  J. Dunner: Spinoza and Western Democracy. New York (Philosophical Library) 1955. (وردت هذه الآراء على الأخص في الفصل الأخير من الكتاب المذكور.)
٧  A. Wolfson: The Philosophy of Spinoza. Meridian Books N. Y. 1958. vol. I, p. 190.
٨  انظر مقدمة وخاتمة كتاب: Les origines cartésiennes du Dieu de Spinoza: par Pièrre Lachièze-Ray. Paris (Vrin) 2e éd. 1950.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤