الفصل الثاني

دلالة المنهج الهندسي

لم يكن اسپينوزا أوَّل من ربط بين المنهج الهندسي وبين الكتابة الفلسفية؛ فقد استُخدِم هذا المنهج جزئيًّا في العصور القديمة، في كتابات فورفوريوس وپرقلس Proclus وكان طريقة شائعة للشَّرح والبرهان بين فلاسفة العصور الوسطى.١ أما في عصر اسپينوزا ذاته فقد أدت نهضة العلوم الرياضية، ونجاحها الهائل في ميدانَي الفلك والفيزياء، إلى دعوة الكثير من المفكرين، مثل ديكارت وهُبز، ثم ليبنتس فيما بعدُ، إلى الاقتداء بالدقة الرياضية في صياغة الأفكار الفلسفية، وإلى جعل الرياضة أنموذجًا ومثلًا أعلى للمعرفة البشرية في كافة ميادينها، وإذن فلم يكن اتِّباع اسپينوزا للمنهج الهندسي في كتابَي «مبادئ الفلسفة الديكارتية» و«الأخلاق» بدعةً ليست لها سوابق في تاريخ الفكر الفلسفي، ولكن الذي نودُّ أن نُثبته في هذا الفصل هو أن استخدام اسپينوزا لهذا المنهج في كتاباته كانت له دلالة خاصة تزيد على كونه مجرد اقتداء بمثل أعلى سائد في عصره.
ولا بد لأي بحث منظَّم عن الدلالة الحقيقية لهذا المنهج، أن يقدِّم إجابة على سؤال أساسي هو: هل كان المنهج الهندسي عند اسپينوزا أصيلًا؛ أعني هل كان اسپينوزا مقتنعًا بأن هذه هي الطريقة الطبيعية الملائمة للتعبير عن آرائه الفلسفية، بحيث تكون صورة تفكيره، كما قال «چويكم»، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمادته،٢ أم أن المنهج لم يكن أصيلًا، بمعنى أنَّه قد اصطنعه عمدًا لتحقيق أغراض خاصة، أو لتجنب أضرار معينة كان يمكن أن يجلبها عليه التعبير المباشر؟ سنبدأ أولًا بعرض الآراء المختلفة التي تساق لتأييد كلٍّ من هذين التفسيرين.

(١) المنهج الهندسي بوصفه طريقة أصيلة للتعبير

  • (أ)

    أول تبرير لاستخدام هذا المنهج هو أنَّه أفضل وسيلة للتعبير عن الأفكار بدقة كاملة، وقد امتدح «لودڨيك ماير» المنهج الهندسي لهذا السبب في مُقدمته التي صدَّر بها كتاب «مبادئ الفلسفة الديكارتية»؛ فهو أفضل طريقة للوصول إلى اليقين، وللتخلص من الخلط الذي اتسمت به الفلسفات السابقة. وهنا يُعد اتباع اسپينوزا لهذا المنهج تحقيقًا لأمنيةٍ سبق أن أعرب عنها ديكارت، ومهَّد لها الطَّريق بكشوفه الرياضيَّة، وبمحاولته تطبيق منهج الرياضة على الفلسفة في «الرد على الاعتراض الثاني» (الملحق بكتاب «التأملات»).

  • (ب)
    ويقرب من ذلك القول بأن اسپينوزا أراد أن يتجنب الأسلوب البلاغي والإطناب الذي يرتبط عادةً بالكتابة المسترسلة،٣ وأن يكتب على نحوٍ يوصله مباشرةً إلى الحقائق، ويضمن لقارئه أقل قدر ممكن من المؤثرات الانفعالية التي تُبعد ذهنه عن الموضوع الحقيقي.٤
  • (جـ)
    وهناك رأي يربط ربطًا قويًّا بين صورة تفكير اسپينوزا ومحتواه ويؤكد أن استخدام اسپينوزا للمنهج الهندسي لم يكن أمرًا عارضًا أو اختياريًّا، هو الرأي القائل إن المنهج الرياضي يستبعد الطريقة الغائية في التفكير، وأنه يتفق مع روح المعقولية والإيمان بالعلم السائدة في فلسفة اسپينوزا، ويتضمن دعوةً إلى التفكير الدقيق واستبعاد الغائية والخيال المؤدي إلى التشبيه بالإنسان.٥
    ويؤيد هذا الرأي اسپينوزا ذاته؛ إذ يقول في مقدمة كتاب «البحث السياسي»: «لقد اعتزمت، في خوضي موضوع السياسة، أن أبرهن بطريقة مؤكدة يقينية في الاستدلال … على أكثر الأشياء اتفاقًا مع الواقع الفعلي. ولكي أبحث موضوع هذا العالم بنفس حرية الروح التي نستخدمها عادةً في الرياضيات؛ فقد بذلت كل جهدي حتى لا أسخر أو أنعى أو أغضب، بل لأفهم أفعال البشر. ولهذه الغاية نظرت إلى الانفعالات كالحب والكراهية والغضب والحسد والطموح والشفقة وغير ذلك مما يعكر صفو الذهن، لا على أنها رذائل في الطبيعة البشرية، بل على أنها خصائص مرتبطة بهذه الطبيعة، مثلما يرتبط الحر والبرد والعواصف والرعد وما شابه ذلك بطبيعة الجو، وهي كلها ظواهر، وإن تكن معكرة، فإنها مع ذلك ضرورية، ولها أسبابها الضرورية.»٦
  • (د)
    ويربط «برنشڨك Brunschwicg» بين المنهج الهندسي عند اسپينوزا وبين نظريته عن الحقيقة، فيقول: «إن الحقيقة عند اسپينوزا طابع كامن في الفكرة، والفكرة تتصف بالحقيقة لا لأنها تطابق شيئًا خارجًا عنها، وإنما لأنها كافية adéquate؛ أي لأنَّها فعل ذهني متكامل؛ فالفكرة لا تستمد قيمتها من عدد الأشياء التي تصدق عليها … وكل معرفة تشكل على مثال الهندسة، بفضل تقدُّم الذهن الذي يضع ذاته في مواجهة ذاته، وينشر سلسلة الحقائق العقلية بفضل خصوبته الخاصة وحدها.»٧ فهنا يغدو المنهج الهندسي خير منهج يعبِّر عن أفكار فيلسوف يرى أن الحقيقة هي معيار ذاتها، وأن الفكرة الصحيحة تستمد صحتها من ذاتها، وذلك بطبيعة الحال تفسير مثالي متطرف لموقف اسپينوزا، توجد ضده شواهد لا تقل عن الشواهد المؤيدة له قوة، وربما كانت كفتها هي الأرجح.
  • (هـ)
    وأخيرًا، فإن «ڨندلبنت Windelband» يربط بين المنهج الهندسي عند اسپينوزا، وبين رأيه في علاقة الله بالعالم. فاسپينوزا في رأيه، يتأثر بالفكرة الدينية القائلة إن الأشياء تصدر عن الماهية الإلهية الواحدة، ومثل هذه الفكرة «تقتضي منهجًا للمعرفة الفلسفية تستمد في الآن نفسه من فكرة الله أفكار الأشياء جميعًا؛ ففي الفلسفة الحقة ينبغي أن يكون نظام الأفكار هو ذاته النظام الفعلي للأشياء، ولكن هذا يستتبع وجوب النظر إلى العملية الفعلية التي تصدر بها الأشياء عن الله من خلال تشبيهها بالظهور المنطقي للنتيجة من أساسها (مقدمتها) أو سببها. وهكذا كانت طبيعة المنهج الذي حدده اسپينوزا للمشكلة الفلسفية تتضمن مقدمًا الطابع الميتافيزيقي لحلها.»٨ وفي موضعٍ آخر يشرح «ڨندلبنت» الفكرة ذاتها شرحًا أدق، فيقول: إنَّ اسپينوزا لا يعترف بأن علاقة الله بالعالم علاقة خلق، وإنما يتلو العالم بالضرورة من طبيعة الله، مثلما يتلو من تعريف المثلث كون مجموع زواياه قائمتين؛ فالعلاقة إذن منطقية رياضية، أشبه بعلاقة المقدمة أو الأساس بالنتيجة، وهي كذلك لا زمانية، شأنها شأن الموضوعات الهندسية.٩ وهكذا فإن علاقة «الاستتباع» الرياضية بين الله والعالم هي التي تجعل استخدام المنهج الهندسي — في رأي ڨندلبنت — أمرًا لا مفر منه في فلسفة كفلسفة اسپينوزا.

    وهذا الرأي، كما هو واضح، يفترض مقدمًا قضايا معينة سوف نثبت، خلال البحث، خطأ البعض منها؛ فهو يفترض أن اسپينوزا في تحديده للعلاقة بين الله والعالم، متأثر بالأفكار الدينية، وفي هذا فهم غير صحيح لفكرة الله عند اسپينوزا. هذا فضلًا عن أن القول إن علاقة الله بالأشياء أشبه بالعلاقة بين تعريف المثلث وبين خصائصه المختلفة، لا يستتبع بالضرورة أن «تُعرض» هذه الأفكار ذاتها بالطريقة الهندسية، بل إن من الممكن أن تتخذ عملية «العرض» أي شكل آخر.

(٢) المنهج الهندسي بوصفه طريقة مصطنعة للتعبير

كان أصحاب الآراء السابقة جميعهم يؤكدون أن المنهج الهندسي أمرٌ تحتِّمه فلسفة اسپينوزا، وأنه بوصفه شكلًا للتعبير، يرتبط أوثق الارتباط بمحتوى الأفكار التي يعبِّر عنها.

وسنبحث الآن في التفسير الثاني، الذي يُنظر فيه إلى المنهج الهندسي على أنه طريقة مصطنعة في التعبير، وبالتالي على أنه يُستخدم، لا لإيضاح آراء اسپينوزا وإلقاء ضوء عليها، وإنما لإخفاء جوانب معينة، أو لإظهارها، في أعين فئة معينة من الناس، بمظهرٍ مخالفٍ لحقيقتها.

وأول ما ينبغي أن نبحثه في هذا الصدد، هو السؤال: هل كانت طريقة اسپينوزا في تدوين أفكاره تتفق مع طريقة ظهور هذه الأفكار؟ أعني هل تكونت أفكار اسپينوزا ذاتها على شكل قضايا وبراهين ونتائج، أم أنها تكونت بطريقة مسترسلة متصلة، ثم نظَمَها هو فيما بعدُ بالمنهج الهندسي، واتخذ من هذا المنهجَ طريقةً لعرض هذه الأفكار؟ لا شكَّ أن الاحتمال الثاني هو الصحيح؛ فلا بد أن الأفكار قد ظهرت أولًا بالطريقة التي تظهر بها في جميع الأذهان، وبعد ذلك صاغها اسپينوزا في قالب هندسي، فالمنهج إذن يُمثِّل خطة متعمدة في عرض الأفكار بتسلسل خاص قد يكون مخالفًا تمامًا للتسلسل الذي ظهرت به في ذهن صاحبها، وبأسلوب مخالف للأسلوب الذي كان يمكن أن يعرضها به لو تركها تعبِّر عن ذاتها دون تغيير لمجراها الطبيعي.

هذه الحقيقة تؤدي بنا مباشرةً إلى التفكير في الأسباب التي ربما كانت قد دفعته إلى اصطناع هذا المنهج وتعمُّده. أما القول بأن اسپينوزا قد استخدم هذا المنهج لتأكيد النظرة الرياضية إلى الأشياء، فهو، كما يقول ولفسون، قول غير دقيق؛ ذلك لأن النظرة الرياضية إلى موضوعات الفلسفة لا ترتبط بالضرورة بطريقة هندسية في التعبير أو العرض الأدبي. وكل ما تؤدي إليه النظرة الرياضية في الفلسفة هو إنكار غائية الطبيعة وحرية الإنسان. غير أن هذه أفكار لا تقتضي التعبير عنها بالصورة الهندسية وحدها، فليس من الصحيح أن الشكل الهندسي في التعبير هو وحده الملائم للمحتوى الرياضي في التفكير.١٠

ومن الواجب أن نتذكر في هذا الصدد أن ما يصح على الهندسة لا ينبغي أن يصح على الفلسفة بالضرورة، فعندما يُتبع ذلك المنهج في الرياضيات، يُعرف كل رمز بدقة، ويستطيع الرياضي أن يتحكم في استدلاله بحيث لا يحدث أي تحريف في معاني الرموز أثناء عملياته الاستدلالية، أما عندما يُستخدم في الفلسفة، فإن خطر التحريف يكون قائمًا على الدوام؛ إذ إن أداة الفلسفة هي اللغة المعتادة، ومن المحال أن تتَّصف عملية الاستنباط فيها — ولا سيما إذا سارت مراحل طويلة — بنفس الدقة التي تتصف بها في الرياضة. ولو حدث في إحدى حلقات هذه العملية أقل انحراف عن المعنى الدقيق للفظ ما، لازداد هذا الانحراف اتساعًا كلما مضى الاستنباط شوطًا أبعد، ولأصبحت النتائج النهائية غير موثوق بها على الإطلاق.

ولقد أخذ هيجل على اسپينوزا أنه لا يُثبت، في البداية، الحقيقة المطلقة لأفكاره الأولى، وإنما يُسلم بها فحسب. وهذا أمرٌ إذا جاز في الهندسة فإنه لا يجوز في الفلسفة، «إذ ينبغي أن يُعرف المضمون في الفلسفة على أنه ذو صحة مطلقة.»١١ ولكن الذي يحدث أن الكلمات وحدها هي التي تعرَّف، بوصفها ألفاظًا. أما محتواها الفعلي فلا نعرف عنه شيئًا،١٢ ويضيف «ياسپرز» إلى هذا النقد عنصرًا آخر هو أن التصورات الأساسية لدى اسپينوزا ليس لها طابع الوضوح الذي تتسم به التعريفات والبديهيات الهندسية،١٣ وأخيرًا فإن «أوبرڨك» يوجه إلى المنهج الهندسي النقدين السابقين، ويضيف إلى ذلك أن اسپينوزا، على عكس إقليدس، لم يكن متسقًا مع نفسه في استخدام ألفاظه؛ إذ كان أحيانًا يستخدم الألفاظ في أول الحجة بمعانيها المألوفة، ثم يستخدمها في آخرها بمعانيه هو الخاصة، ولا يصل إلى النتيجة التي يطلبها إلا بمثل هذا الخلط المنطقي.١٤

فهل غابت هذه الحقائق كلها عن ذهن اسپينوزا؟ وهل بدأ كتابه في «الأخلاق» بوضع تعريفات مسلَّم بها، تتضمن في ذاتها كل النتائج التالية لمذهبه، دون أن يدري أنه يخالف بذلك أساس المنهج الهندسي كله لأنه افترض مقدمًا كل ما يطلب البرهنة عليه؟ إن معالم فلسفة اسپينوزا تتحدد كلها من تعريفاته الأولى للجوهر والصفة والله، فهل غابت عنه حقيقة المنهج الهندسي إلى هذا الحد، أم أنه كان يدرك ذلك، ولكنه استخدم «طريقة العرض الهندسية» لتحقيق أغراض أخرى «غير هندسية» كانت في ذهنه؟ وإذا كان هذا صحيحًا، فما هي هذه الأغراض؟

إن «ولفسون» يعلل استخدام المنهج الهندسي بأنه راجع إلى وضوح هذا المنهج من حيث هو طريقة تعليمية، ومن حيث إنه أداة لنفع القارئ. وهكذا يقول: «لقد استخدم المنهج الهندسي دائمًا لنفع القارئ، وللوضوح الذي يمكن به عرض الحجة في هذا المنهج، لا لأن المذهب الفلسفي ذاته يقتضيه.»١٥ ونحن نوافق على الشطر الثاني من هذا الرأي؛ لأن محتوى مذهب اسپينوزا في رأينا لا يقتضي حتمًا التعبير عنه بالمنهج الهندسي، ولكنا نرفض بكل قوة الشطر الأول، بل إنا لندهش من صدور مثل هذا الحكم الساذج من باحث مثل ولڨسون. وحسبنا أن نحتكم إلى الواقع نفسه، لنجده يكذب هذا الرأي؛ فهل شعر أي قارئ بأن المنهج الهندسي قد نفعه، أو يسَّر فهمه لاسپينوزا؟ إن الجميع، ومنهم معظم الشُّراح المحترفين، يشْكُون من تعقُّد كتابة اسپينوزا بهذا المنهج، الذي يقتضي من المرء تركيزًا شديدًا، ورجوعًا دائمًا إلى قضايا وبراهين سابقة، حتى ليعجز الذهن في كثير من الأحيان عن تتبُّع الحجة، فمما لا شكَّ فيه أن مهمة القارئ، نتيجةً لهذا المنهج، تغدو أصعب بكثير مما لو كان الكتاب قد عُرض بأسلوب مسترسل. ولكَم يشعر المرء بالارتياح أثناء قراءته لكتاب الأخلاق، كلما صادف إحدى هذه «الملحوظات» الطويلة الرائعة التي يعرض فيها اسپينوزا أفكاره بطريقة مباشرة غير هندسية، وأستطيع أن أقول: إنني لم أجد كاتبًا واحدًا، من بين جميع من قرأت لهم، يقول: إنَّ المنهج الهندسي يسَّر عليهم فهم اسپينوزا، فكيف يقول ولفسون، بعد هذا كله، إن المنهج الهندسي قد استُخدم «لنفع القارئ»؟
إنني أعتقد، على العكس من ذلك، أن من الأغراض التي استخدم من أجلها هذا المنهج، التعقيد المتعمد على القارئ. وسأشرح فيما بعدُ ما أعنيه بذلك بالتفصيل، وأود هنا أن أُورد شهادة فيلسوف معروف، انتهى إلى رأيٍ مضاد تمامًا لرأي ولفسون في هذا الصدد، هو نيتشه؛ فهو يرى أن اسپينوزا قد استخدم هذا المنهج «ليبث الرعب على التوِّ في قلب المهاجم الذي يجرؤ على إلقاء نظرة على تلك الفتاة المصونة، ربة الحكمة الأثينية …»١٦ أي إنه أراد أن يخيف القارئ بالتعقيد الشديد الذي تبتدئ به كتاباته؛ حتى لا يستطيع النفاذ إلى الأعماق الحقيقية لأفكاره وتوجيه النقد اللازم لها، فإذا كان نيتشه، وهو على الأقل قارئ ممتاز، قد حكم بأن اسپينوزا يرمي إلى تعجيز القارئ، ألا يكون للمرء أن يدهش لوصف ولفسون للمنهج الهندسي بأنه طريقة تهدف إلى الإيضاح وإلى نفع القارئ؟

(٣) الغرض الحقيقي من المنهج الهندسي

لست أعتقد أن اسپينوزا قد استخدم المنهج الهندسي، كما قال أصحاب الفرض الأول، لأنه يرتبط ارتباطًا ضروريًّا بمحتوى فلسفته كلها أو أجزاء منها، وإنما الأرجح في رأيي أن المنهج الهندسي كان طريقة مصطنعة في التعبير، أخذ بها اسپينوزا لأغراض معينة. فلما كانت الأفكار، كما قلنا، تظهر بطريقة غير هندسية، فإن في استطاعة الفيلسوف باستخدام هذا المنهج أن يرتب هذه الأفكار كما يشاء؛ فهو يضع الاستدلالات وفي ذهنه النتيجة مقدمًا. وهكذا يستطيع أن يتحكم في تسلسل هذه الاستدلالات وفي مراحلها الوسطى، ويعرضها بالترتيب الملائم للهدف الذي حدده في ذهنه.

أما ذلك الهدف فمن المحال، كما قلنا من قبلُ، أن يكون مساعدة القارئ على الفهم وإيضاح الأفكار له، بل إن التجربة الشخصية لكل قارئ كفيلة بإقناعه بأن الأمر على العكس من ذلك تمامًا. نحن إذن نوافق، بمعنًى ما، على رأي نيتشه القائل إن ذلك المنهج كان يرمي إلى التعقيد على القارئ وإخفاء الآراء الحقيقية عليه — ولكنا لا نقبل تعميم الحكم السابق على هذا النحو، وإنما نعتقد أن من الواجب تخصيصه بحيث يكون هدف المنهج هو إخفاء الآراء الحقيقية على «فئة معينة» من القراء، فما هي هذه الفئة، ولماذا أراد اسپينوزا أن يخفي عنها آراءه؟

في رأينا أن اسپينوزا تعمَّد أن يُخفي آراءه عن تلك الفئة التي قد تكون خطرًا على فلسفته؛ أعني القراء غير المستنيرين، المتمسكين بحرفية التقاليد الدينية، فاسپينوزا أراد أن يضع ستارًا بين تعاليمه وبين ذهن القارئ المتعصب ذي النفوذ، الذي قد يستطيع الإضرار به في الأوساط الدينية أو السياسية. أما القارئ اليقظ المستنير، الذي يستطيع أن ينفذ إلى مقاصده الحقيقية، ويكون لديه من الجَلَد ودقة التفكير ما يمكنه من تتبُّع الخيوط المتشابكة المتداخلة لحججه؛ فهو القارئ الذي يرحب به اسپينوزا، والذي حاول، بطريقته الخاصة المعقدة، أن يكشف له عن سره الحقيقي.

وهناك وسيلتان يمكن بهما إخفاء الآراء في المنهج الهندسي:
  • (أ)

    الوسيلة الأولى هي مجرد استخدام طريقة القضايا والبراهين والنتائج … إلخ. فبهذه الوسيلة يستطيع الفيلسوف أن ينتقل بالقارئ تدريجيًّا، وربما دون أن يدرك القارئ ذلك بوضوح، إلى إثبات أعقد قضاياه دون أن يتعرض لخطر التصريح بهذه الآراء بطريقة مباشرة؛ فهو مثلًا يستطيع أن يوزع فكرته بين قضايا متناثرة، ثم يحيل القارئ إلى هذه القضايا التي تفصل بينها صفحات عديدة، وعن طريق التأليف بين كل هذا يصل القارئ — إذا استطاع — إلى الفكرة التي يريدها اسپينوزا، دون أن يضطر هو إلى عرض هذه الفكرة بطريق مباشر قد يكون فيه خطر عليه.

  • (ب)
    الوسيلة الثانية، والأهم في نظرنا، هي «طريقة المعادلات» التي يتيحها المنهج الهندسي، أو الرياضي بوجهٍ عام. فعالم الرياضة مثلًا يستخدم رمزًا مألوفًا لديه، مثل «س»، ليدل به على أعقد الأفكار الرياضية. وقد يستخدم هذا الرمز ليدل على عدد هائل فيقول: س = ١٧١٠، أو على عدد سلبي فيقول: س = −١ أو على عدد أصم فيقول: س = ، وهو في كل هذه الحالات يستخدم الرمز س — بعد أن يكون قد أوضح معناه — بكل سهولة ويسر، مع أننا لو حاولنا أن نضع القيمة الحقيقية لهذا الرمز في كل حالة لغدا هذا في نظرنا أمرًا عظيم التعقيد أو مستحيلًا في بعض الأحيان.

ويبدو أن اسپينوزا قد حرص على أن يستفيد من هذه الصفة في المنهج الرياضي إلى أقصى حد ممكن؛ ففي المعادلات الرياضية، على ما يبدو، طرف مألوف، هو الرمز، الذي تستطيع أن تفهمه بأي معنًى تشاء، ثم طرف آخر هو الدلالة الحقيقية لهذا الرمز، وهي دلالة كثيرًا ما تكون عظيمة التعقيد، وبتطبيق «طريقة المعادلات» هذه في الفلسفة، وجد اسپينوزا الحل الذي ينشده، والذي يكفل له عرض أجرأ الآراء وأبعدها عن المألوف في عصره، على نحوٍ ينأى بها عن أفهام العامة، أما الخاصة الذين سيصلون إلى فهمها، فهؤلاء لا خطر منهم على الإطلاق.

ذلك لأن الطرف المقابل للرمز الرياضي س في معادلة مثل س = هو لغة الفلسفة التقليدية، والطرف المقابل للجذر الأصم هو تعريفات اسپينوزا الخاصة لهذه اللغة. الطرف الأول هو اللغة المدرسية واللاهوتية التقليدية، وهي لغة مألوفة مأمونة يكفي أن يستخدمها المرء في كتابته ليعتقد الناس أنه يتمشى تمامًا مع تراثهم ويكمله. والطرف الثاني هو المعاني الثورية الجديدة، التي خلَت تمامًا من جميع العناصر الأسطورية، والتي كان يحتشد بها ذهن اسپينوزا المفرط في معقوليته. والحل في نظر اسپينوزا هو أن يضع الطرفين معًا في معادلة واحدة، كما يفعل علماء الرياضة، وينبع القارئ إلى هذه المعادلة في البداية؛ فهو يقول أولًا: إن س = ثم يظل يستخدم بعد ذلك الرمز البريء، المألوف، المأمون س، بعد أن نبهك إلى معناه الحقيقي لديه، وبعد ذلك يستطيع أن يطمئن إلى أن القارئ الذكي سوف يستحضر في ذهنه دائمًا المعنى المعقد كلما صادف أمامه س. أما القارئ الساذج الذي يجيء منه الخطر الحقيقي، فسرعان ما ينسى ذلك، ويعتقد، كلما شاهد س، أنها نفس الحرف البريء المظهر الذي يألفه في عالمه المعتاد، وبذلك يكون اسپينوزا قد حقق هدفين مزدوجين: أولهما ألا يصل إلى معانيه إلا القادرون ذهنيًّا على بلوغها، وثانيهما أن يقدم أفكاره إلى السُّذج في صورة تُرضي أذهانهم الضعيفة ولا تنطوي على تحدٍّ أو استفزاز لمشاعرهم.
وأول دليل على هذا التفسير لدلالة المنهج الهندسي، هو ما يعترف به الجميع من أن اسپينوزا كان يستخدم المصطلحات التقليدية بمعانٍ جديدة؛ فمن المؤلفين القدماء نجد «بيل Bayle» يقول في قاموسه: «إذا كان المرء يعجز عن فهم ما يعنيه، فذلك بلا شك لأنه أضفى على الألفاظ معنًى جديدًا كل الجِدة، دون أن ينبه قارئه إليه» (والجزء الأخير باطل قطعًا). كذلك قال الشاعر الألماني الكبير جيته (وكان من أكبر المعجبين باسپينوزا) إن كل شخص يستطيع أن يفهم من كتابات اسپينوزا غير ما يفهم الآخر، وأخيرًا يقول شوپنهور: «لقد ارتكب اسپينوزا، على العموم، هذا الخطأ الكبير، وهو أنه تعمَّد إساءة استخدام الألفاظ للدلالة على تصورات تشير إليها في العالم كله أسماء أخرى، وبذلك نزع عنها المعنى الذي ينسبه إليها الجميع.١٧

على أن هذه المعاني الجديدة لم تكن اعتباطية تمامًا، كما اعتقد هؤلاء المفكرون، وإنما كان اسپينوزا يعدها أكثر اتساقًا مع طبيعة الألفاظ والتعبيرات التي يعرفها، فاستخدام هذا المنهج يحقق في رأيه هدفين؛ إذ يعطي لآرائه الثورية مظهرًا بريئًا، ويؤدي في الوقت ذاته إلى تفسير أكثر اتساقًا للمشاكل التقليدية التي أخطأ فهمها القدماء.

وفي ضوء هذا التفسير للمنهج الهندسي، نستطيع أن نقول إنَّ المنهج، بهذا المعنى، لا يقتصر على كتاب «الأخلاق» وحده. حقًّا إن هذا الكتاب — من بين كتب اسپينوزا الناضجة — هو وحده الذي أُلِّف في صورة قضايا مبرهن عليها هندسيًّا، غير أن اسپينوزا يستخدم في المؤلفات الأخرى بدورها «طريقة المعادلات»، بمعنى أنه يأتي بتعريفات جديدة لألفاظ مألوفة ويعتمد على قدرة ذهن القارئ على تتبُّع هذه المعاني على الدوام. وسنضرب لذلك أمثلة قليلة من كتاب «البحث اللاهوتي السياسي».

فلنتأمل مثلًا تعريفًا كهذا: «أعني بمعونة الله، النظام الثابت المحدد للطبيعة، أو سلسلة الحوادث الطبيعية … بحيث إن القول بأن كل شيء يحدث وفقًا لقوانين طبيعية، والقول إن كل شيء يحدث بأمر الله، يعنيان نفس الشيء … وهكذا فإن كل ما تستطيع الطبيعة البشرية أن تزود به نفسها بجهودها الخاصة في سبيل حفظ وجودها، يصح أن يطلق عليه اسم العون الإلهي الباطن، بينما أن كل ما يعود على الإنسان بالنفع بفعل أسباب خارجية يمكن أن يُسمَّى بالعون الإلهي الظاهر.»١٨
وفي موضعٍ آخر يعرف اسپينوزا الأمر الإلهي، والإرادة والعناية الإلهية، بأنها نظام الطبيعة كما يتلو بالضرورة من قوانينها الأزلية.١٩
ويعرِّف اسپينوزا الطاعة الإلهية بأنها حسن معاملة الناس فحسب، ثم يعرِّف الإيمان بعد ذلك بأنه «معرفة لله بدونها تستحيل طاعته ويتضمنها فعل الطاعة هذا وحده.»٢٠ والنتيجة الواضحة هي أن الإيمان يغدو في هذه الحالة معادلًا للمعاملة الطيبة للناس فحسب.

في هذه الحالات السابقة — التي يحفل ذلك الكتاب بأمثالها — يستخدم اسپينوزا «طريقة المعادلات»، دون أن يكون قد استخدم المنهج الهندسي صراحة. وهو يضع معادلات غاية في الخطورة، يأتي فيها بألفاظ تقليدية مثل الأمر الإلهي، والمعونة الإلهية، والعناية الإلهية، وبتعريفات جديدة تتفق تماما مع الروح العلمية ومع المعقولية. وهو يمضي بعد ذلك في استخدام هذه الألفاظ والتعبيرات التقليدية، بعد أن نبَّه القارئ اليقظ إلى ما يقصده منها، ولكن كم من قراء اسپينوزا يتبع تعاليمه هذه؟ وكم منهم يبعث في ذهن كلمة «القانون الطبيعي» كلما صادف لدى اسپينوزا لفظ «الأمر الإلهي أو العناية الإلهية» مثلًا؟ وكم منهم يتذكر القيمة الحقيقية للرموز المألوفة التي يستخدمها في كتاباته؟

إن القليلين جدًّا ممن كتبوا عن اسپينوزا هم الذين تنبهوا إلى وجود هذه المحاولة لإخفاء آرائه الحقيقية في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» ومن هؤلاء القليلين سنذكر اثنين:
  • (أ)
    فمنهم «ماثيو أرنولد» الذي يقول: «إن أي قارئ ذكي لا يستطيع أن يقرأ البحث اللاهوتي السياسي دون … أن يحس بأنه يفتقر، بمعنًى ما، إلى أساس وبأنه في حاجة إلى دعائم، وبأن هذا الأساس وهذه الدعائم لا توجد، على أية حال، في الكتاب نفسه، ومن الواجب، إن كان لها وجود، أن تلتمس في الكتابات الأخرى للمؤلف.»٢١
  • (ب)
    ومنهم «ليوشتراوس» الذي يقول عن اسپينوزا: إنه كان في ذلك الكتاب «حذرًا بمعنى أنه لم يذكر الحقيقة كلها بوضوح وصراحة، بل أبقى عباراته، بقدر إمكانه، في الحدود التي تفرضها تلك المطالب التي عدَّها مطالب مشروعة لمجتمعه.»٢٢ ثم يضع القاعدة الآتية: «إن القاعدة السليمة لقُراء «البحث اللاهوتي السياسي» هي أنه، في حالة التناقض، ينبغي أن ينظر إلى الرأي الأشد تضادًّا مع ما يعتقد اسپينوزا أنه هو رأي العامة، على أنه هو المعبِّر عن رأيه الصحيح … فاتباع هذه القاعدة في القراءة هو الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من فهم تفكير اسپينوزا كما كان يعنيه تمامًا، ومن تجنب خطر الانخداع بأساليبه الاسترضائية his accommodations».٢٣

وفي رأينا أنه إذا كان اسپينوزا قد تعمَّد هذا الإخفاء في البحث اللاهوتي السياسي، فقد كانت وسيلته إلى ذلك هي اتباع «طريقة المعادلات» التي أشرنا إليها، والتي يمكن، بشيء من التوسع، أن تُعد بدورها تعبيرًا عن المنهج الهندسي.

فالمنهج الهندسي إذن أوسع نطاقًا مما يبدو لأول وهلة، وهو في جميع مؤلفات اسپينوزا (كما ذكرنا في المقدمة) يُمثِّل اختبارًا نفسيًّا لقدرة الذهن على التخلص من الارتباطات التقليدية للألفاظ إذا طلب إليه ذلك. وإذا حكمنا على الأمر من عدد الذين رسبوا في هذا الاختبار — ومنهم عدد ضخم من كبار المفسرين والفلاسفة المحترفين — فلا بُدَّ أن المعاني التقليدية للألفاظ ترسخ فيها، لا سيما إذا كانت كالألفاظ اللاهوتية مشحونة بارتباطات نفسية قوية، إلى حدٍّ تُضطر معه هذه الأذهان إلى الرجوع إليها رغمًا عنها مهما طلب إليها أن تستبدل بها غيرها.

•••

ولكن هذا التفسير الذي نقول به للمنهج الهندسي يحتاج إلى دعامة أخرى بدونها ينهار فرضنا هذا من أساسه. فلماذا كان اسپينوزا حذرًا وما هي مظاهر هذا الحذر عنده؟ للإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نرجع إلى مؤلفات اسپينوزا ذاتها، وإلى ظروف حياته وعصره، لنستخلص منها أسباب الحذر ومظاهره، وسوف نأتي في القسم التالي بالشواهد الكفيلة بإثبات هذا الرأي على نحوٍ قاطع.

(٤) أسباب حذر اسپينوزا ومظاهره

كان حذر الكتَّاب من نتائج آرائهم الجريئة في القرن السابع عشر حقيقة واقعة، وصحيح أن اسپينوزا قد عاش فترة من حياته في ظل جمهورية مستنيرة هي جمهورية «دي ڨيت»، غير أن القوى التي كانت تقاوم اتجاه التسامح هذا كانت عديدة؛ فقد كانت هناك الأوساط الدينية المتعصبة من جهة، والدوائر السياسية الاستبدادية التي تشجع في سبيل الوصول إلى مآربها أشد الحركات الدينية رجعية، وأشد الاتجاهات الاجتماعية ظلمًا. وبالفعل أحرزت هذه السياسة الرجعية انتصارها الحاسم الذي قتلت فيه «دي ڨيت» وشقيقه ومثَّلت بهما وعاد التعصب وضِيق الأفق ظافرًا من جديده، على يد أسرة أورانج. فإذا كنا نجد من الكتَّاب من يقول: إن اسپينوزا كان فيلسوف النظام الجمهوري في عهد «دي ڨيت»، فذلك في الواقع لم يكن تملقًا منه أو رغبة في مسايرة الحكم، وإنما كان دفاعًا عن تلك الفترة القصيرة من الحرية الفكرية، أو على الأصح عن قدرته على إعلان آرائه دون التعرض لخطر شديد.

ومع ذلك فقد كانت الأخطار موجودة وشديدة، حتى أثناء العهد الجمهوري، وكل ما في الأمر هو أن الحاكم، في هذه الحالة الأخيرة، كان يتولى بنفسه ضد الهجمات عن المفكرين الأحرار. والحق أننا ما زلنا في القرن العشرين نجد مجتمعات كثيرة تعد آراء كتلك التي أبداها اسپينوزا أخطر من أن يُسمح بنشرها، فما بالك بالقرن السابع عشر، وفي تلك الظروف الخاصة التي عاش فيها اسپينوزا؟

لقد كان مصدر الاضطهاد في عهد اسپينوزا مزدوجًا؛ فبالإضافة إلى خطر الحكام والسلطات الدينية الرسمية، كان هناك خطر الطائفة اليهودية التي طردته من بين صفوفها وحرَّمت كتبه. وعندما وجدت هذه الطائفة أنه لم يرجع عن موقفه منها، وأنه ظل يتحداها بتفكيره المتحرر، حاولت أن تستعدي عليه السلطات المدنية من جهة والسلطات الدينية المسيحية من جهة أخرى. وكانت هذه الطائفة، كما سنرى فيما بعدُ، تعتقد أن آراءه هذه تهدد كيانها بأسره، وربما جلبت عليها نقمة المجتمع المسيحي الذي تعيش هي أقلية فيه. وهكذا كانت أسرع إلى التبرؤ منه وإلى تحذير السلطات من آرائه حتى لا يلحقها الضرر من انتسابه إليها.

وإذن فقد كان موقف اسپينوزا حرجًا يدعوه إلى الحذر إلى أقصى حد؛ فهو أولًا قد طُرد من طائفته بسبب ما قيل من مروقه وخروجه على الدين؛ أي إن الشبهات كانت تحوم حوله منذ البداية. وهو ثانيًا قد أعرب بالفعل فيما بعدُ عن آراء جريئة إلى أقصى حد، ولا سيما في «البحث اللاهوتي السِّياسي» الذي كانت جرأته فيه تفوق إلى حدٍّ لا يتصور أكثر الآراء تحرُّرًا في عصره، وهو ثالثًا قد شعر بالفعل ببوادر الاضطهاد تحل عليه، فكان من الطبيعي أن يأخذ في التأهب لها.

ولقد أورد «فرويدنتال» أكثر من خمسين وثيقة من كنائس مسيحية ويهودية، ومن جهات مدنية وسياسية، ومن معاهد علمية وجامعية، تندد كلها بكتب اسپينوزا ولا سيما «البحث اللاهوتي السياسي»، وتحرم ذلك الكتاب أو تحكم على صاحبه رسميًّا بالمروق،٢٤ كما قال بيل Bayle في مقاله المشهور عن اسپينوزا في قاموسه أن اسم «الاسپينوزيين» أصبح يُطلق على «من ليس لهم دين، ولا يعبئون كثيرًا بإخفاء ذلك.» بل إن «كوليروس»، مؤرخ حياة اسپينوزا، قد حمل عليه بشدة لأنه لم يعرف عن الله إلا الاسم فقط، ويفهمه بطريقة لم يعرفها أحد من المسيحيين حتى ذلك الحين — ويتساءل كوليروس: «أليس هذا أخطر إلحاد عرفه العالم؟ إن هذا هو ما حدا بالسيد «پورمانوس Burmannus»، راعي كنيسة الإصلاح في «انكهوسه Enkhuise» إلى أن يسمي اسپينوزا، عن حق أفجر زنديق عرفه العالم.» ويعدد كوليروس بعد ذلك النقاد الذين ألَّفوا كتبًا في تفنيد آراء اسپينوزا، ومنهم الفلاسفة ورجال الدين والأساتذة، بل والتجار أحيانًا، وهي كتب تتسم كلها بأنها تستعدي عليه سلطة الإيمان أكثر مما تناقشه على نفس المستوى العقلي الذي كان يتحدث منه.
ويبدو أن تهمة «الاسپينوزية» أصبحت في ذلك العصر تُلقى جزافًا على كل رأي يراد قمعه أو كل شخص يراد التنكيل به أو كل انحراف عن النظام السائد سواء في الدين أو السياسة، وسواء أكان الانحراف يرمي إلى الهدم أم إلى البناء — وواضح أن «للاسپينوزية»، في هذه الناحية، مقابلًا يناظرها في عصرنا هذا إلى حدٍّ بعيد! وهكذا وصل الأمر إلى حد أن الكتاب كانوا يتبارون في انتقاد مذهب اسپينوزا وسب صاحبه، تملقًا منهم للسلطات المسيطرة. أما إذا اشتبه في أن مفكرًا معينًا كان يعطف على اسپينوزا؛ فقد كان هذا المفكر يسارع إلى تفنيد اسپينوزا والحملة عليه علنًا، ويتخذ من ذلك وسيلة لتبرئة نفسه أمام الرأي العام، وأمام السلطات الدينية والمدنية، وهكذا يقول فريدمان: «إنه ليس من المبالغة أن نقول: إنَّ الجو العقلي في ذلك العصر كان له تأثير مثبط، بل مفسد للعقول وكان يزيف العملية الفكرية ذاتها لدى الكثير من هذه العقول.»٢٥

ولقد سبق أن أشرنا من قبلُ إلى تأثير شهرة اسپينوزا هذه بالمروق في كثير ممن اتصلوا به، ولا سيما ليبنتس؛ فقد حرص ليبنتس بقدر استطاعته على أن يُخفي كل أثر لارتباط اسمه باسم اسپينوزا، ولم يذكر عن مقابلاته لاسپينوزا سوى أنها كانت عرضية تناولت موضوعات عامة، مع أن ليبنتس كان من أحرص الناس على الاطلاع على كل ما كتبه اسپينوزا، فضلًا عن أنه ناقشه فيها مناقشات مستفيضة أثناء زيارته له في هولندا.

وهكذا كان الجو في ذلك العصر يُحتم على الكاتب إما أن يتمشى مع الآراء السائدة أو أن يكون حذرًا في كتابته، ويضع قناعًا على شخصيته الحقيقية. وقد اختار ليبنتس الطريق الأول، أما اسپينوزا فقد اختار الطريق الثاني، وآثر أن يستمر في طريق التحرر الفكري، معا محاولته، بقدر الإمكان، ألا يعرض نفسه لسخط السلطات المسيطرة في عصره. وسنرى فيما بعدُ إلى أي حد نجحت هذه المحاولة.

فلننتقل الآن، بعد بحث أسباب الحذر، إلى ضرب أمثلة لمظاهر هذا الحذر عند اسپينوزا، ومن الطبيعي أن الجزء الأكبر من هذه الأمثلة سوف يستمد من رسائله؛ إذ إنها هي التي تكشف، أكثر من غيرها، عن موقفه الشخصي من المشاكل التي واجهها، على حين أن مؤلفاته ذاتها كانت تبتعد عن النواحي الشخصية من حياته قدر الإمكان. ويمكن القول بوجه عام، إن رسائل اسپينوزا تُمثِّل كلها دليلًا واحدًا متصلًا على أن الحذر كان حقيقة أساسية في حياته، وعلى أنه كان يرى في الآخرين «خطرًا دائمًا»، فلم يفصح لهم عن سريرته أبدًا.٢٦
  • (أ)

    وأول ما يطرأ على الذهن هنا، من مظاهر الحذر، هو طبيعة الحال إخفاء اسپينوزا لاسمه في كتاباته؛ فالكتاب الوحيد الذي ظهر باسمه خلال حياته هو «مبادئ الفلسفة الديكارتية»، وهو أيضًا الكتاب الوحيد الذي لا يتضمن آراءه الفلسفية الخاصة، ومع ذلك فإن اسپينوزا كان يرمي من نشر ذلك الكتاب إلى تنبيه الحكام إلى مكانته الفلسفية، لعل واحدًا منهم يضمن له بعد ذلك نشر آرائه الأخرى دون خوف؛ فهو يقول في رسالته رقم ١٣: «ربما كشف هذا الكتاب عن وجود أشخاص ذوي مكانة رفيعة في بلادي، يرغبون في الاطلاع على مؤلفاتي الأخرى التي أعرض فيها آرائي الخاصة، وربما عملوا ما من شأنه أن يمكنني من نشرها دون خطر. ولو حدث ذلك، فلن أتوانى بالطبع عن نشر البعض منها، وإلا فسوف ألزم الصمت بدلًا من أن أفرض آرائي على مواطنيَّ وأكتسب عداوتهم.» وقد سبق أن تحدثنا عن نشره «البحث اللاهوتي السياسي» بغير اسمه، وكتابة اسم ناشر آخر في مدينة أخرى على غلاف الكتاب، وعندما نُشرت مؤلفاته المخلَّفة، حرص أصدقاؤه على أن يحذفوا أسماء مراسليه إذا كانوا هولنديين معاصرين، حتى لا يتعرضوا للخطر.

  • (ب)
    ولقد دارت بين اسپينوزا وبين «أولدنبرج» مراسلات طويلة يلح عليه فيها هذا الأخير على نشر كتبه، ويلزم الأول الحذر لأنه يعرف خطورتها أكثر مما يعرف ذلك أولدنبرج. وتكرر هذا الإلحاح، وهذا الرفض الحذر، مرات عديدة:
    • ففي الرسالة رقم ٣ يطلب أولدنبرج إلى اسپينوزا أن يجيبه إجابة واضحة على أسئلة معينة حول فكرة الجوهر والله … إلخ، ويلح عليه أن يقتنع «بأن جميع الشروح التي ستتفضل بها عليَّ ستظل في طي الكتمان لئلا يؤدي إفشائي لها إلى إفسادها أو إلى الإضرار بك.» ويبدو أن أولدنبرج يحاول في هذه الرسالة كسب ثقة اسپينوزا بالحديث عن جماعته العلمية التي تفسر الأشياء كلها تفسيرًا ميكانيكيًّا، «دون حاجة إلى الالتجاء إلى الصور غير المفهومة والكيفيات الخفية، وهي الملجأ الهين للجهلاء.»

    • ويفضي اسپينوزا إلى أولدنبرج في الرسالة رقم ٦ ببعض مشروعاته، فيقول: «لقد ألَّفت في هذا الموضوع [العلة الأولى] وفي تطهير الذهن مؤلَّفًا كاملًا، وأنا أعمل الآن على تدوينه وتنقيحه. ولكني أترك هذا المؤلَّف أحيانًا؛ إذ لم أتخذ بعدُ قرارًا بشأن نشره؛ فأنا أخشى فعلًا أن يصدم رجال اللاهوت في زمننا هذا، وأن يهاجموني بطريقتهم الكريهة، وأنا على ما تعلم من خوف المشاحنات.» وفي الرسالة ذاتها يطلب إليه أن ينبئه بالنقاط التي قد تُغضب مثل هؤلاء الناس، إذ إنه «… لا يقول بذلك الانفصال بين الله والطبيعة، الذي قال به الكتاب الآخرون، على قدر علمي بهم؛ ولهذا أطلب رأيك» … فيرد عليه أولدنبرج في الرسالة السابعة مُلحًّا عليه أن ينشر كل ما كتبه، ويدعوه إلى أن يتجاهل ذوي الأفق الضيق: «فلتطرح جانبًا يا سيدي كل خوف من إغضاب جهلاء عصرنا؛ فقد طال امتداح الناس للجهل والحمق أكثر مما ينبغي.»

    • وفي الرسالة ١٤ يعاود أولدنبرج إلحاحه على اسپينوزا، فيقول: «اسمح لي أن أعرب لك أيضًا عن أسفي لرفضك نشر المؤلفات التي تعترف بأنها تنتسب إليك في بلد فيه من الحرية ما يتيح للمرء أن يفكر ويعبِّر عن أفكاره كما يشاء، ولكَم كنت أود أن تتحرر من هذه المخاوف لا سيما وفي إمكانك أن تحذف «اسمك، فتكون بذلك بمنأًى عن كل خطر».»

      ويتكرر إلحاح أولدنبرج في الرسالة رقم ٣١؛ إذ يقول: «لمَ التردد يا صديقي؟! وممَّ تخاف؟! جرِّب وابدأ وقم بهذا العمل الهام، وستجد أصوات الفلاسفة جميعًا ترتفع لحمايتك … إن الشك لا يساورني أبدًا في وجود شيء في ذهنك يهدد بالخطر وجود الله والعناية الإلهية؛ وطالما أن هذه الدعامة قد حفظت، فسيكون الدين مرتكزًا على أساسٍ متين، وسوف يتسنَّى الدفاع عن جميع الأفكار الفلسفية أو تبريرها، فلتكفَّ إذن عن التباطؤ ولا تقطع جهودك.»

    • ويبدو أن اسپينوزا قد أحسن الظن وقتًا ما بالجو السائد في عصره، أو أنه خضع لهذا الإلحاح ولغيره، فحاول أن ينشر كتاب «الأخلاق» بالفعل؛ إذ يقول لأولدنبرج في الرسالة رقم ٦٨: «إنه كان يعتزم الذهاب إلى أمستردام لتسليم الكتاب إلى الطابع، ثم بلغه أن هناك شائعات قوية تتردد بأنه سيطبع كتابًا يثبت فيه عدم وجود إله، وانتهز رجال الدين هذه الفرصة فقدموا ضده شكاوى إلى الحكام والأمراء، بل إن أنصار ديكارت أنفسهم لم يُخْفوا كراهيتهم له. وهكذا قرر إرجاء النشر حتى يرى ما تسفر عنه الحوادث.»

  • (جـ)
    وحينما علم اسپينوزا أن شخصًا سيترجم كتابه «البحث اللاهوتي السياسي» إلى اللغة الهولندية، سأل صديقه «يلِّس Jelles» في الرسالة رقم ٤٤، عن صحة هذا الخبر، وألحَّ عليه أن يَحول دون ذلك إذا استطاع؛ إذ إن الكتاب سيمنع من التداول حتمًا إذا ما نشر بالهولندية.
  • (د)
    وتحفل رسائل اسپينوزا بالشواهد على أنه لم يشأ أن يُطلع أحدًا على كتاباته إلا من كان في رأيه قادرًا على فهمها فهمًا صحيحًا؛ ففي الرسالة رقم ٧٠ يحدثه صديقه «شولر» عن صديق ثالث لهما هو «تشيرنهاوز» سأله العالم الهولندي الكبير «هويجنز Huygens» إن كانت لدى مؤلِّف البحث اللاهوتي السياسي كتب أخرى، فردَّ تشيرنهاوز بأنه لا يعرف إلا «مبادئ الفلسفة الديكارتية»، ويقول صاحب الرسالة بعد ذلك: «إن تشيرنهاوز لم يُضِف إلى ذلك شيئًا عنك، وهو يأمل ألا يكون في هذا ما يكدرك». وفي الرسالة ذاتها يبلغه أن تشيرنهاوز يرى في ليبنتس أهلًا للاطلاع على مؤلفات اسپينوزا «بشرط أن توافق أنت على ذلك … أما إذا لم توافق، فلا تخشَ شيئًا؛ إذ إنه سيحتفظ بكتاباتك التي لم يذكر عنها شيئًا حتى الآن.»

    وهكذا يبدو أنَّ اسپينوزا قد نقل الحذر إلى أصدقائه وتلاميذه، وأنَّه كان يطلب إليهم أن يستشيروه أولًا قبل نقل آرائه إلى أي شخص، ومن الواضح أنه كان يودِع لديهم نسخًا، وربما أجزاء، خطية من قضايا كتاب الأخلاق، وألا يسمح لهم بأن يُطلعوا عليها أحدًا إلا بعد موافقته؛ إذ إن هويجنز قد اطلع، كما رأينا، على البحث اللاهوتي، كما أن «مبادئ الفلسفة الديكارتية» كان منشورًا باسم اسپينوزا. فلا بد أن إشارة تشيرنهاوز إلى المؤلفات الأخرى كانت تعني نسخة خطية تامة أو ناقصة من «الأخلاق».

  • (هـ)
    وأخيرًا، فليس أدلَّ على أن الحذر كان حقيقةً واقعة في حياة اسپينوزا، من أنه قد نقش على خاتمه كلمة «حذار!» باللاتينية (Caute) وجعل من هذه الكلمة شعارًا له في حياته.

(٤-١) عودة إلى المنهج الهندسي

هذه الشواهد السابقة كلها تقطع بأن مشكلة التفرقة بين المعنى الظاهر، والمعنى الفعلي الباطن لكتابات اسپينوزا كانت مشكلة حقيقية، وأن المرء لا يستطيع أن يفهم فلسفته حق الفهم إذا تغاضى عن هذه الفكرة الهامة، فكرة وجود «قناع» أو «سر» في فلسفة اسپينوزا. وفي رأينا أن الدلالة الكبرى للمنهج الهندسي هي أنه يتيح للكاتب مثل هذا القناع الذي يُخفى سره الحقيقي.

وحين نقول ذلك لا نعني أنَّ هذا هو الغرض الوحيد من استخدام المنهج الهندسي؛ فقد صرَّح اسپينوزا نفسه بأنه أراد أن يستخدم هذا المنهج ليستبعد من تفكيره كل عامل شخصي، ولكي يبحث في انفعالات البشر بنفس الموضوعية التي يبحث بها عالم الهندسة في النقط والخطوط والسطوح. ونحن لا ننكر هذا الهدف على الإطلاق، ولكننا نعتقد في الوقت ذاته أن المنهج الهندسي، إذا ما نُظر إليه في ضوء ظروف اسپينوزا التي أشرنا إلينا من قبلُ، يغدو في يده وسيلة لإخفاء آرائه الحقيقية عن القراء السطحيين، بحيث لا يتوصل إليها إلا المدققون، الذين يكون لديهم من العمق العقلي ما لا يجعلهم خطرًا عليه.

ولقد توسَّعنا من قبلُ في فهم المنهج الهندسي، من حيث إنه يلجأ إلى طريقة المعادلات، وقلنا إنه بهذا المعنى يمكن أن يعدَّ مطبقًا في مؤلفات اسپينوزا، ولا سيما «البحث اللاهوتي السياسي»، ولكن الأمر الذي لا شكَّ فيه أنَّ أكمَلَ وأدَقَّ تطبيقٍ له كان في كتاب «الأخلاق»، الذي استخدم فيه الأسلوب الهندسي من جهة، و«طريقة المعادلات» من جهة أخرى، بكل براعة.

وما دام المنهج الهندسي في رأينا وسيلة للحذر، وما دام مطبقًا على أكمل وجه ممكن في كتاب «الأخلاق». فلا بد أن هذا الكتاب هو أشد كتب اسپينوزا حذرًا، وأبعدها عن التعبير، بطريقة مباشرة، عن آراء اسپينوزا. وهذا الرأي مناقض تمامًا لرأي «فريدمان»، الذي يقول فيه: إنَّ اسپينوزا كان يحتاط في «البحث اللاهوتي»، بينما لم يكن يحتاط أبدًا في كتاب «الأخلاق»: «الذي أماط فيه اللثام، دون مواربة، عن جوهر تفكيره.»٢٧

ونحن نعترف بأن اسپينوزا كان حذرًا في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» بقدر ما استخدم فيه «طريقة المعادلات»، كما ذكرنا من قبلُ ولكن لا جدال في أنه، مع حذره هذا، لم يتمكن من إخفاء آرائه؛ إذ إن هذا الكتاب كان هو السبب فيما لحقه من اضطهاد، بينما كتاب «الأخلاق» لم ينشر في حياته على الإطلاق، وسنرى فيما بعدُ أمثلة عديدة لآراء أبداها اسپينوزا في هذا الكتاب وكان أقلها كفيلًا باستعداء السلطات الدينية عليه.

ونستطيع أن نقول إنَّ التَّجربة المريرة التي عاناها اسپينوزا من «البحث اللاهوتي» قد أقنعته بأنَّ حذَره في هذا المجال غير كافٍ. وهكذا قرر أن يتمسك بطريقة العرض الهندسية. وكان الوقت أمامه فسيحًا؛ فقد رأينا كيف أن كتاب «الأخلاق» قد عاصره طيلة حياته الناضجة كلها تقريبًا. وقد كان الجزء الأكبر منه تامًّا في ١٦٦٥م، وعندما ظهر «البحث اللاهوتي السياسي» في ١٦٧٠م، ظلت أمامه سبع سنوات كاملة حتى وفاته عام ١٦٧٧م، لا عمل له فيها (بالإضافة إلى الرسائل القصيرة التي لم يتمها في السياسة وإصلاح العقل) إلا صقل هذا الكتاب وزيادة إحكامه، ومن الطبيعي أنه كان يستفيد خلال ذلك بالتجارب التي اكتسبها من رد الفعل على «البحث اللاهوتي»، ويستخدم طريقة العرض الهندسية في توزيع أفكاره بين أجزائه المختلفة وعرضها على النحو الذي يضمن له أكبر قدر من السلامة الشخصية، ولو لم نفترض ذلك لكان اسپينوزا قد ظل طوال السنوات السبع الأخيرة من حياته خاملًا تقريبًا. فكيف إذن يقال على كتابٍ صِيغ بمثل هذه الطريقة المصطنعة، ومر بكل مراحل الصقل هذه، أنه تعبير «مباشر» عن آراء صاحبه؟

(٥) هل كان اسپينوزا يفتقر إلى الشجاعة والإخلاص في تعبيره؟

من أقوى الاعتراضات التي تُوجَّه إلى القول بوجود معانٍ خفية لآراء اسپينوزا تكمن من وراء تعبيراتها الظاهرة — وهو القول الذي يرتكز عليه تفسيرنا لدلالة المنهج الهندسي — أن ذلك معناه أن اسپينوزا كان مخادعًا بمعنًى ما؛ لأنه لم يصرح مباشرةً بما في ذهنه. وهذا أمر يتنافى مع ما عُرف عنه من شجاعة عقلية.

ويستنكر «سليڨان Sullivan» هذا الافتراض بشدة قائلًا: «إن مثل هذه النظرة الپرجماتية إلى كلمات اسپينوزا بعيدة عن مزاجه العقلي ونزاهته الذهنية إلى حدٍّ يكاد يجعلها مستحيلة التصديق.»٢٨ ويقول في موضعٍ آخر: «لم يبلغ التهور بأحد، فيما أعلم، حدًّا يجعله يعدُّ هذا اليهودي الطريد مفتقرًا إلى الإخلاص، إن من الممكن وصفه بأنه كتوم. وقد كان كذلك بالفعل عادةً، ولكنه عندما كان يصرح بما في ذهنه كان قطعًا يعني ما يقول.»٢٩ ويعبِّر «موريس كوهين» عن الفكرة ذاتها حين يصف اسپينوزا بأنه «غير هيَّاب fearless»، ويصف القول بأنه عبَّر عن آرائه الجريئة بلغة دينية لكي يُبعد عن نفسه الأذى الشخصي بأنه قول «ممتنع إلى حد يبعث على الرثاء pathetically absurd».٣٠

ومن هذين المثلين نرى أن الاعتراضات التي يمكن أن توجه إلى التفسير الذي نقدمه ها هنا تنحصر في القول بأن هذا التفسير يؤدي إلى القول بأن اسپينوزا كان يفتقر إلى الشجاعة من جهة، وإلى الإخلاص من جهة أخرى، وهما صفتان تؤكد لنا أبسط دراسة لحياته وشخصيته أن نصيبه منها كان أكبر من نصيب معظم كبار المفكرين من معاصريه.

  • (أ)

    ولكي نرد على النقطة الأولى، ينبغي أن نرجع إلى مفهوم الشجاعة عند اسپينوزا ذاته لنجد فيه الجواب.

    فتعريفه للشجاعة هو: «أعني بالشجاعة animositas الرغبة التي يسعى بها كل إنسان إلى حفظ وجوده وفقًا لما يمليه العقل فحسب.»٣١ هذا التعريف قد يكون مخالفًا تمامًا للتعريفات الشائعة التي لا تذكر شيئًا عن حفظ الوجود، ولا عما يمليه العقل. غير أنَّ تضمُّن تعريف اسپينوزا لهذين العنصرين يدلنا على طريقته الخاصة في فهم الشجاعة؛ فهو يعد نفسه شجاعًا حين يسعى إلى حفظ وجوده، لا خوفًا على نفسه، وإنما لن ذلك هو ما يمليه عليه العقل. ومعنى ذلك أن التهور، والتضحية المقصودة لذاتها دون أن يكون من ورائها فائدة لأحد، ولا نصرة لمبدأ ما، ليست في رأيه من الشجاعة في شيء، وطالما أنه صاحب هدف يريد أن يعبِّر عنه تعبيرًا كاملًا، فلا قيمة للبطولة الزائفة إذا لم يكن من ورائها انتصار لهذا الهدف أو نشر له، وإذا كانت نتيجتها الوحيدة هي الإضرار به، باسم الشجاعة، على نحوٍ يقضي على الإمكانيات الهائلة لتفكيره.
    ولنتأمل ما يقوله اسپينوزا في هذا الصدد في موضعٍ آخر من كتاب «الأخلاق»: «إنَّ فضيلة الرجل الحر تتمثل في توقِّيه للأخطار بقدر ما تتمثل في تغلُّبه عليها.»٣٢ وفي البرهان على هذه القضية يقول: «إنَّ قهر التهور يقتضي من الفضيلة أو العزم ما لا يقل عما يقتضيه قهر الخوف.» وفي نتيجةٍ لهذه النظرية ذاتها يقول: «إنَّ الرَّجل الحر يبدي من الشَّجاعة إذا انسحب في الوقت المناسب بقدر ما يبديه إذا أقدم على النِّضال؛ أي إنَّ الرَّجل الحر يُبدي نفس القدر من الشَّجاعة أو حضور الذهن، سواء اختار أن يُقبل على المعركة أم أن يُدبر عنها.»

    هذه النَّظريات والبراهين والنتائج السابقة مرتبطة أوثق الارتباط بتاريخ حياة اسپينوزا، وهي تعبير منه عن تجربته الخاصة في هذه الحياة ومبادئه التي طبَّقها فيها. ومن القرائن القوية التي تدل على ارتباطها بحياته أنه تحدث في النظريات التي تلي السابقة مباشرةً عن علاقة الإنسان الحر بالجهلاء إذا ما عاش بينهم، وهو تسلسل لا يُبرره إلا الارتباط بين فهمه لشجاعة الإنسان الحر، التي تتمثل في توقِّي الخطر مثلما تتمثل في التغلُّب عليه، وبين الظروف التي يعيش فيها هذا الإنسان الحر وسط جهلاء، وهي نفس الظروف التي عاش فيها اسپينوزا.

    ويتحدد الطرف الثاني في مشكلة اسپينوزا من القضية التي ترِد بعد ذلك بقليل، والتي يقول فيها: «إنَّ الإنسان الحر لا يغش أبدًا، بل يسلك دائمًا سلوكًا أمينًا.»٣٣
    وهكذا تصبح المشكلة الكبرى عنده هي: كيف يوفِّق الإنسان الحر بين السلوك الأمين، وبين وقاية نفسه وسط الجهلاء، وهي الوقاية التي قد تكون، كما رأينا، مظهرًا من مظاهر الشجاعة؟ إن الإجابة على هذا السؤال موجودة في كتابات اسپينوزا ذاتها؛ ففي أول قاعدة مؤقتة وضعها اسپينوزا في كتاب «إصلاح العقل» ليسترشد بها في سلوكه خلال بحثه عن الغاية القصوى للإنسان، يقول بالمبدأ التالي: «التحدث بلغة تقرب إلى أفهام عامة الناس، وعمل كل ما من شأنه ألا يعوقنا عن بلوغ غايتنا … وعلى هذا النحو نكسب جمهورًا يستقبل الحقيقة استقبالًا وديًّا.»٣٤

    على هذا النحو إذن يكون التوفيق بين الغايتين: نقل أفكاره إلى القراء، وعدم استفزاز مشاعرهم، ولا سيما العامة والجهلاء؛ فالمنهج الذي يتبعه هو من جهة، منهج، «التحدث بلغة قريبة من أفهام العامة» — وقد استخدم اسپينوزا من الاصطلاحات والعبارات التقليدية ما يفي بهذا الغرض، ولكنه، من جهة أخرى، يشترط «عمل كل ما من شأنه ألا يعوقنا عن بلوغ غايتنا»؛ أي إنه يقبل مثل هذا التحوط والإخفاء، على ألا يكون ذلك على حساب الحقيقة كما يفهمها؛ فهو يريد أن يعبِّر عن هذه الحقيقة كاملة، ولكن على النحو الذي يضمن عدم استفزاز العامة، وليس في هذا، بالنسبة إلى الظروف التي عاش فيها اسپينوزا، أي افتقار إلى الشجاعة.

    ولقد وُجد من المفسرين بالفعل من ينظر إلى مظاهر الحذر والتحوط هذه على أنها مظاهر للجُبن، ولقي هذا التفسير ترحيبًا شديدًا في الأوساط النازية؛ إذ نجد في هذه الأوساط كاتبًا مثل «جرونسكي» يعدد مظاهر «الجُبن» عند اسپينوزا، وضمنها قاعدة التحوط السابقة، وكذلك امتناعه عن نشر مؤلفاته باسمه … إلخ. ليجد في هذه كلها أدلة على نفاق اسپينوزا وجُبنه،٣٥ ومثل هذا التفسير، بطبيعة الحال، يتغاضى تمامًا، من جهة، عن طبيعة العصر الذي عاش فيه اسپينوزا، وهو عصر لم تكن قد اختفت فيه تمامًا مظالم محاكم التفتيش وتعصب العصور الوسطى وضيق أفقها، ويُغفل من جهة أخرى جرأة آراء اسپينوزا الحقيقية، التي بلغت حدًّا بجعلها لا تقارن حتى بأكثر الآراء تقدمية في ذلك العصر، وربما لم تبدأ نظائرها في الظهور إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي أشد المجتمعات تحررًا فحسب. وفضلًا عن ذلك، فإن أصحاب هذا الرأي يُغفلون الأمر الواقع، وهو أنَّ اسپينوزا قد اتُّهم فعلًا، رغم كل حرصه، بالمروق والخروج على الدين، ولُطخت سمعته إلى أبعد حد، حتى أثناء حياته، ولو كان الجُبن من خصاله لسحب آراءه هذه على التوِّ. وأخيرًا فإن صاحب هذا النقد يتجاهل تصرُّف مفكرٍ «چرماني» أصيل، هو ليبنتس، حين حرص على إخفاء كل أثر لاتصاله باسپينوزا وتصرُّف معظم أعضاء المجامع العلمية الألمانية في ذلك الحين، حين كان كلٌّ منهم يجعل من تجريح اسپينوزا والطعن فيه وسيلةً لتملُّق السلطات الحاكمة، أو لدفع الشبهات عن نفسه.
  • (ب)

    أما الاعتراض الثاني، وهو القائل بأن من المستحيل ألا يكون اسپينوزا مخادعًا غير مخلص في عرضه لأفكاره. فالرد عليه، كما هي الحال في الرد على الاعتراض السابق، هو أن نؤكد أن استخدام اسپينوزا المنهج الهندسي وسيلةً لإخفاء آرائه عن فئة معينة من الناس، لا يعني على الإطلاق أنه كان مخادعًا أو غير مخلص.

    ذلك لأنَّ هناك طريقتين مختلفتين في إخفاء الآراء: إحداهما أن يكتب المفكر ليرضي سلطات أو جهات معينة، أو ليجني لنفسه نفعًا خاصًّا، وفي هذه الحالة يحذف تمامًا ما هو جريء من أفكاره، أو يكتب فلسفتين، إحداهما ليعبِّر بها عن نفسه والأخرى ليتملق بها السلطات. وهذا هو النوع الذي ينطوي على خداع، وهو ينطبق، إلى حدٍّ ما، على ليبنتس.

    والنوع الثاني، الذي يتمثل لدى اسپينوزا، هو ذلك الذي يحرص فيه المفكر على إخفاء آرائه عن فئة معينة من الناس، دون أن يضحي بأي من هذه الآراء أو يحذف شيئًا منها وليس في هذا النوع أي خداع أو افتقار إلى الإخلاص. فرغم كل ما يتميز به اسپينوزا من حذر شديد، فإنه لم يُخْفِ أية فكرة من أفكاره، ولم يكتب إلا ما كان يؤمن به، ولكنه كان يكتب ذلك «بطريقة» حذرة. فجميع أفكاره الجريئة موجودة دون أن يحذف منها شيء، وكل ما على القارئ هو أن ينقب عنها.

    ولم تقتصر أمانة اسپينوزا الفكرية على ذلك، بل إنَّه أعطى القارئ المفتاح الكفيل بإرشاده إلى آرائه الحقيقية؛ فقد قدم إلى هذا القارئ تعريفات لألفاظ وعبارات تقليدية — لا خطر منها — بمعانٍ ثورية جديدة كل الجِدة، وذكر له، من جهة أخرى، أن منهجه هندسي؛ أي إنه ينتظر من القارئ أن يتقيد بهذه التعريفات ويستبدل دائمًا بالرموز قيمها الفعلية كما حددها له. فإذا عاد بعض القراء فأرجعوا ألفاظه، مرة أخرى، إلى معانيها الشائعة، وإذا أهملوا استخدام تعريفات لأنها، مثلًا، بعيدة عن الموضع الذي وردت فيه لأول مرة، أو لأنهم نسوا هذه التعريفات، أو لأن المعاني التقليدية الراسخة لهذه الألفاظ والتعبيرات قد فرضت نفسها عليهم وانزلقت إلى أذهانهم دون أن يشعروا، فلن يكون الخطأ في هذه الحالة خطأ اسپينوزا، وإنما خطأ هؤلاء القراء، ولا يحق لأي شخص، في هذه الحالة، أن يتهمه بالخداع والافتقار إلى الإخلاص.

    وإذن، فاسپينوزا، إذا صح تفسيرنا لمنهجه، بريءٌ تمامًا من تهمة تعمُّد الخداع، وكل ما نستطيع أن نقوله عنه هو أنه كان حذرًا، ولقد كان له في هذا الحذر كل العذر. ولكنه لم يهادن أحدًا على الإطلاق أو يساومه على أفكاره، وظل متمسكًا بهذه الأفكار من البداية إلى النهاية، وأرشدنا، فضلًا عن ذلك كله، إلى الطريق الصحيح لفهمه. ومع ذلك فما أقل أولئك الذين عرفوا كيف يسلكون هذا الطريق، ويطبقون «معادلاته» الفكرية على نحو شامل متسق! وما أكثر الذين رسبوا في امتحانه النفساني الشاق: امتحان قدرة القارئ على التخلص من ارتباطات غير دقيقة لألفاظ وتعبيرات معينة، وعلى فهمها بالمعاني الصحيحة المتسقة التي طُلب إلينا صراحة أن نفهمها بها!

(٦) تعريفات لبعض مصطلحات اسپينوزا

إذا تأملنا فلسفة اسپينوزا من خلال منهجها الهندسي كما فسرناه في هذا الفصل، لوجدنا أنَّ التَّعريف الصَّحيح لمصطلحاتها ينبغي أن يستغرق الجانب الأكبر من أي عرض لهذه الفلسفة، بل إن بعض أوجه هذه الفلسفة لا تعدو أن تكون إيضاحًا للمعاني الاسپينوزية الخاصة لمصطلحات مألوفة مثل الجوهر أو الله أو الطبيعة، والحرية والضرورة، والأزلية، والتقوى والخير، والكمال والواقع … إلخ. فخير عرض وأكمل شرح لهذه الفلسفة هو ذلك الذي يركز اهتمامه في تحديد معاني هذه الألفاظ. وهكذا فإن مشكلة التعريف بالمصطلحات هي، بمعنًى معين، مشكلة عرض فلسفة اسپينوزا بأسرها.

ومع ذلك فلا مفر من أن نبدأ بإيضاح موجز لبعض المصطلحات الرئيسية التي يستخدمها اسپينوزا، على أن يُعد هذا العرض مجرد نقطة بداية تمكِّن القارئ من تتبُّع هذا البحث، الذي لن تكون فصوله التالية إلا إسهابًا لهذه التعريفات. فلا بد للقارئ من تعريفٍ مبدئي مؤقت يستعين به على خوض المشاكل المعقدة التي ينطوي عليها تحديد اسپينوزا بدقة.

ولقد ذكرنا في الفصل السابق أن اسپينوزا تعمَّد استخدام المصطلح الفلسفي التقليدي، كما شاع في العصور الوسطى على الأخص؛ لكي يضفي على فلسفته طابعًا متحفظًا أو ملائمًا لمقتضيات العصر، ولكنه في الوقت نفسه وضع لهذه المصطلحات معاني ثورية سابقة لعصره إلى حدٍّ بعيد. ومهمتنا في هذا المدخل الذي نقدمه الآن هي أن نعرض بعض هذه المصطلحات التقليدية، ونشير من بعيد إلى المعاني التي وضعها لها اسپينوزا، على أن يذكر القارئ دائمًا — كما قلنا من قبلُ — إن بقية هذا البحث لن يكون إلا تعميقًا لمعاني هذه المصطلحات.

•••

وأول مسألة ينبغي أن نبحثها في هذا الصدد، هي طبيعة التعريف عند اسپينوزا. وسوف نسترشد في بحث هذه المسألة بآراء اسپينوزا ذاته كما عرضها في الرسالة رقم ٩ (إلى سيمون دي فريس). ففي هذه الرسالة يفرق اسپينوزا بين نوعين من التعريف: «تعريف ينطبق على موضوع لا نبحث إلا عن ماهيته، التي تكون هي وحدها موضوع التساؤل، وتعريف يُقترح للبحث فقط»؛ فالأول هو تعريف الأشياء الحقيقية الموجودة بالفعل، وهي الأشياء التي نريد معرفة ماهيتها، ومثل هذا النوع من التعريف يحتاج دائمًا إلى برهان. أما النوع الثاني من التعريف فهو فرضي استنباطي يقترحه الباحث ولا يشترط فيه إلا الاتساق، وهو على هذا الأساس لا يحتاج إلى برهان؛ إذ إنه ليس إلا وسيلةً لاستنباط حقائق أخرى فيما بعدُ، ولجعل البحث التالي ممكنًا، ويضرب اسپينوزا لذلك مثلًا بالفرق بين وصف معبد سليمان، وبين وصف معبد يتصوره الشخص أو يضع تصميمه في ذهنه؛ ففي هذه الحالة الأخيرة لا يمكن الاعتراض على أي تعريف لهذا المعبد بأنه باطل.

ويرى اسپينوزا أن تعريفاته التي أتى بها للجوهر والصفة … إلخ. هي تعريفات من النوع الثاني؛ ولذا لم يكن ينبغي أن يُطلب لها برهان، وإنما يكفي أن تكون متسقة. وهذا أمر يرتبط — كما هو واضح — بطبيعة الموضوعات التي تتناولها هذه التعريفات؛ إذ إن هذه موضوعات ميتافيزيقية وليست «أشياء» واقعية. ومع ذلك فإن الكثيرين غيره قد عالجوا هذه الموضوعات كما لو كانت واقعية، ولهذا الاختلاف بطبيعة الحال تأثيره الكبير في الموقف الفلسفي العام لكلٍّ من الطرفين.

  • (١)
    الجوهر: «أعني بالجوهر ما يوجد في ذاته، ويتصور بذاته؛ أي ما لا نحتاج في تكوين تصوُّر له إلى تصوُّر أي شيء آخر.»٣٦ هذا التعريف هو امتداد منطقي للتعريف التقليدي المألوف، ولا سيما لدى ديكارت، ومع ذلك فإنَّ اسپينوزا يستخلص النتيجة المحتومة لهذا التعريف، وهي النتيجة التي لم يستخلصها ديكارت ذاته، فيقول: إن الجوهر بهذا المعنى لا يمكن إلا أن يكون واحدًا، أو على الأصح أنه لا وجود إلا لجوهر واحد لا يخرج عنه شيء. وهذا هو المجال الجديد الذي أدخل فيه اسپينوزا هذه الفكرة التقليدية، وهو كما سنرى فيما بعدُ مجالٌ له نتائج فلسفية عظيمة الأهمية.

    والجوهر بهذا المعنى لا بُدَّ أن يكون لا متناهيًا. وقد انتقد اسپينوزا بالتفصيل في رسالة رقم ١٢ إلى «لودڨيك ماير» فكرة الجوهر المتناهي أو المنقسم، مؤكدًا أن المعنى الوحيد المتسق مع ذاته لفكرة الجوهر هو ذلك المعنى الذي ترتبط فيه باللانهائية ارتباطًا وثيقًا. ومن الممكن أن يُعد تأكيد فكرة اللانهائية هنا تأكيدًا، في الوقت ذاته، لقدم الجوهر، بمعنى أنه غير مخلوق؛ إذ لو كان الجوهر متناهيًا أو جزئيًّا لوجب حتمًا السؤال عن أساسه أو أصله أو السبب في وجوده، وهو سؤال يستبعده اسپينوزا منذ البداية.»

    كما أن الجوهر بهذا المعنى أزلي، وتعريف اسپينوزا للأزلية aeternitas هو: «أعني بالأزلية الوجود ذاته، بقدر ما يتصور على أنه يتلو بالضرورة من مجرد تعريف ما هو أزلي.»٣٧ وهو في الشرح يجعل من هذا الوجود مرادفًا للحقيقة الأزلية، التي لا يمكن تصورها من خلال فكرة المدة أو الاستمرار أو الزمان وهكذا يعمل اسپينوزا منذ البداية على فصل الأزلية عن الزمان، وتصبح هي أزلية الماهية؛ أعني أزلية الضرورة المنطقية؛ فهي الوجود الأزلي للشيء كما يتلو «بالضرورة» من تعريفه. وهذه الأزلية بعيدة كل البُعد عن المعاني الشائعة، ولا سيما المعاني ذات الارتباطات الدينية، لهذا اللفظ؛ إذ إن هذه المعاني الأخيرة ترتبط بفكرة الزمان والمدة رغمًا عنها. أما أزلية اسپينوزا فهي أزلية الضرورة المنطقية فحسب.
    وفضلًا عن ذلك فهذا الجوهر موجود بالضرورة؛ أي إن «وجود ينتمي إلى طبيعة الجوهر»،٣٨ ومعنى انتماء الوجود إلى طبيعة الجوهر أنه لم يلحق به بفضل شيء خارج عنه، وأنه ليس شيئًا اكتسبه الجوهر من الخارج؛ أي إن الجوهر ليس مخلوقًا.٣٩
    ولكي يعبِّر اسپينوزا عن فكرة الوجود الضروري غير المخلوق هذه، يستخدم فكرة «علة ذاته Cause sui»؛ فالجوهر الواحد الشامل هو علة ذاته، بمعنى أنه «ما تنطوي فيه الماهية على الوجود؛ أي بعبارة أخرى: ما لا تُتصور طبيعته إلا موجودة،٤٠ وسوف نتناول فكرة «علة ذاته» هذه بالتفصيل فيما بعدُ، وحسبنا أن نشير هنا إلى دلالتها على فكرة الوجود الضروري، غير المخلوق، للجوهر الواحد، الذي يمكن أن يفهم على أنه يعني الله أو الطبيعة.
  • (٢)
    الصفة attribute: «أعني بالصفة ما يدركه العقل في الجوهر مكونًا لماهيته.»٤١ ومثل هذا التعريف كان ينبغي أن يسبقه تعريفٌ آخر للفظ «الماهية»، طالما أن اسپينوزا هنا بصدد تحديد معانٍ دقيقة لكل لفظ من ألفاظه. ولكنا لا نهتدي إلى تعريف كهذا إلا في بداية الجزء الثاني من «الأخلاق»، حين يقول: «أعني بما ينتمي إلى ماهية الشيء، ذلك الذي إذا وُجد، وُجد الشيء أيضًا بالضرورة، وإذا غاب، غاب الشيء أيضًا بالضرورة، أو بعبارة أخرى: ذلك الذي لا يوجد الشيء ولا يُتصور بدونه، ولا يوجد هو ذاته ولا يتصور بدون الشيء.»٤٢
    فالصفة بهذا المعنى هي الجوهر ذاته، كما يتكشف للمعرفة، أو كما يفكر العقل في طبيعته. وهذا الجوهر يتكشف لنا، في رأي اسپينوزا، على وجهين: وجه مادي ووجه ذهني؛ أي إنَّنا نعرف من الجوهر صفتين: الفكر والامتداد، ولكن ذلك لا يمنع، في رأيه، من وجود عدد لا متناهٍ من الصفات الأخرى للجوهر، لا تصل إليها المعرفة، وحين نتحدث هنا عن المعرفة أو العقل، فليس المقصود هو القول بأي نوع من أنواع النسبة إلى ذهننا نحن، وإنما المقصود هو أن الصفة هي الجوهر كما يُنظر إليه من خلال الإدراك العقلي بما هو كذلك. أما القول بأن اسپينوزا يقصد هنا نوعًا من الإشارة إلى ذهننا نحن، فهو، كما قال «هاليت»، قراءة لاسپينوزا من خلال التطورات المثالية التي كان متحررًا منها تمامًا؛ إذ ليست الصفة هي الجوهر كما يُنسب إلى العقل البشري أو حتى الإلهي، وهي ليست «مظهرًا» يرجع إلى نسبة عقلنا، وإنما هي الجوهر ذاته، كما يدركه العقل كلما بحثه.»٤٣

    ويُبنى هذا التَّعريف لصفات الجوهر على القول بأن صفتَي الجوهر، كما يدركهما العقل، ليستا مجالين منفصلين «ينقسم إليهما» الجوهر؛ فالجوهر، من حيث هو يشمل الوجود بأسره، لا يتضمن مجالين منفصلين يقف كلٌّ منهما إلى جوار الآخر، وكأن الامتداد جزء من الجوهر والفكر جزء آخر منه، وإنما تنتظم كلٌّ من هاتين الصفتين الجوهر بأَسْره، كلٌّ تبعًا لنوعها الخاص. وهذا هو تفسير عبارة «لا متناهٍ من حيث نوعه» التي يستخدمها اسپينوزا لبيان طبيعة الصفة؛ فصفة الامتداد لا نهائية، وتشمل كل خصائص الامتداد، بل هي تشمل الجوهر كله أو الكون بأسره، منظورًا إليه على أنَّه كائن ممتد، وكذلك الحال في الفكر، الذي لا يشغل مجالًا خاصًّا من الكون «إلى جانب» الامتداد، وإنَّما هو ذاته الكون كله، منظورًا إليه من خلال صفة الفكر. وبعبارة أخرى فالواقع كله، وكذلك كل جزء منه، يتصف بالصفتين معًا. ولهذه الفكرة كما سنرى فيما بعدُ، أهميتها الكبرى في حل مشكلة علاقة الجسم بالنفس، والمادية والروحية عند اسپينوزا.

    ولا بأس في هذا الصدد من أن نختبر رأيًا طريفًا في معنى لفظ «الصفة» وموقعه في فلسفة اسپينوزا، هو رأي «ميرز Myers»؛ فهو يفسِّر تعدد صفات الجوهر بأنه يعني تعدد النظم أو النسق systems التي تنظر بها إلى الواقع، ويقول: «لقد بيَّن اسپينوزا أن من الممكن وجود عدد لا محدود من النُّسُق (وهي نقطة يزيدها نمو المعرفة تأكيدًا)، كما بيَّن أن كلًّا من هذه النُّسُق يمكن أن يكون فريدًا من نوعه sui generis؛ أي نسقًا صحيحًا، لا ينطوي على تناقض داخلي، ويكون لا متناهيًا في نوعه.»٤٤ وفي موضعٍ آخر يقول: «… إن أفضل طريقة لفهم معنى الصفات عند اسپينوزا هي أن ننظر إليها في ضوء المنظورات (أو النُّسُق) اللامتناهية للموضوع الميتافيزيقي.»٤٥ وإلى هنا يكون هذا التفسير سليمًا ومقبولًا، ولكنه يمضي بعد ذلك إلى القول بأنه «في الوقت الذي تم فيه كتاب «الأخلاق»، لم يكن من الممكن أن تكون لأية واقعة أو موقف معين سوى دلالتين ممكنتين فحسب؛ أعني من حيث هي فكرة، ومن حيث هي تمثِّل شيئًا ممتدًا. أما اليوم فإن هذه الواقعة أو هذا الموقف يغدو له من الدلالات بقدر ما توجد من السياقات المنهجية التي يمكن أن يكون جزءًا منها، ولا شك في أن عدد هذه السياقات يتجه، نظريًّا، إن لم يكن عمليًّا، إلى اللانهائية.»٤٦

    وهكذا يربط المؤلف اقتصار اسپينوزا على نسقين أو منظورين فقط (هما الفكر والامتداد) وبين حالة العلم في عصره، حين كانت للرياضة والفيزياء أهمية كبرى، بينما كانت بقية العلوم في مهدها أو لم تُكشف بعدُ. وهو يرى أن كل علم آخر وصل بعد ذلك إلى مرحلة التقدم، كالاجتماع والكيمياء والأنثروبولوجيا وعلم الحياة … إلخ. يمكن أن يُعَد نسقًا أو منظورًا ينضم إلى المنظورين الممكنين اللذين قال بهما اسپينوزا. (وبهذا يكون اسپينوزا قد توقع على الأقل إمكان كشف منظورات أخرى، حين قال إن صفات الجوهر لا متناهية، وإن لم نكن نعرف منها إلا اثنتين.)

    وهذا التَّفسير في رأينا فيه قدرٌ غير قليل من الإسراف؛ ذلك لأن الفكر والامتداد لا يقاسان بأية منظورات أخرى، كالمنظور الكيميائي أو البيولوجي مثلًا، وإنما هما في مجال التجريد حدَّان نهائيان لا يقف إلى جانبهما شيء؛ أي إن ظواهر الكيمياء أو البيولوجيا مثلًا يمكن، في نهاية الأمر، أن ترد إما إلى الفكر أو إلى الامتداد أو، على الأصح، إليهما معًا مع فارق في درجة التأكيد. وكشف أي مجال علمي جديد لا يعني أننا نعرف الجوهر أو الكون، من خلال هذا المجال، عن طريق صفة أخرى تقف على قدم المساواة مع صفتَي الامتداد والفكر ويكون لها قدر ما لهما من العمومية والتجريد؛ وعلى ذلك يمكن القول، بمعنًى معين: إنَّ قول اسپينوزا باقتصار المعرفة على صفتَي الفكر والامتداد هو قول مستقل عن حالة العلم في أي عصر، لأنه يتعلق بتلك الصفات التي يمكن أن يُرد إليها، آخر الأمر، أي وجه أو منظور آخر يكشف للواقع.

  • (٣)
    الأحوال modes: «أعني بالحال ما يطرأ على الجوهر، أو ما يوجد في شيء غير ذاته ويتصور بشيء غير ذاته.»٤٧ فأحوال الجوهر هي مكونات الكون أو محتوياته الجزئية، وأهم ما تتصف به هو اعتمادها على غيرها لكي توجد وتُتصور. فهي لا تتصف بالضرورة وجودًا ولا تصورًا. وهي على هذا النحو تتمثل في الأشياء الفردية التي يحفل بها عالم التجربة، وهي رغم كونها «ما يطرأ على الجوهر»، ورغم كونها تفتقر إلى الضرورة، موجودات لا شكَّ في حقيقتها، ولا يمكن أن تعدَّ مظاهر خادعة أو زائلة، كما أنها ليست تشويهًا للجوهر أو تزييفًا له، كما وصفت الأشياء الجزئية في كثير من المذاهب المثالية التالية، وإنما تقوم بغيرها وتُفهم بغيرها، بحيث إن أي تفسير لها لا يمكن أن يكون كافيًا إذا ما نُظر إليها من خلال ذاتها، ولا بد أن تربط بالسياق العام الذي تنتمي إليه، والذي يتصف هو وحده بالضرورة المطلقة.

هذه هي المصطلحات الرئيسية الثلاثة التي يستخدمها اسپينوزا بتوسع، والتي ينبغي الإلمام بتعريف عام لها قبل خوض تفاصيل فلسفته. ومع ذلك ففي فلسفته دون شك عشرات المصطلحات الأخرى، وكلها ذات أهمية، ولكن الأفضل ترك هذه المصطلحات الأخرى لتشرح في سياقها من هذه الفلسفة، أما هذه المصطلحات الرئيسية التمهيدية التي شرحناها فقد تضلل القارئ إذا ما تُركت دون إيضاح مبدئي؛ ولذا اقتصرنا عليها في هذا الباب.

١  Wolfson: The Phil. Of Sp. (op. cit.) vol. I, p. 40.
٢  Harold A. Joachim: A Study of the Ethics of Spinoza. Oxford 1901, p. 12, 13.
٣  Elwes: The Chief Works pf Spinoza. Vol. I, Introduction, p. XXII.
٤  كان اسپينوزا لا يلجأ، حتى في كتاباته المسترسلة، إلى المؤثرات البلاغية التي تُلهي الذهن عن تتبُّع تسلسل حججه، ولكنه كان يلجأ من آن لآخر إلى السخرية من خصومه، ومن الأمثلة القليلة للسخرية اللاذعة المقترنة بالدعابة، ما ورد في رسالته رقم ٥٤ ردًّا على رسالة سابقة لهوجو بوكسل Hugo Boxel سأله فيها هذا عن جنس الملائكة، وهل هي ذكور أم أناث؛ إذ يقول اسپينوزا: «مما يدهشني أن هؤلاء الذين رأوا الأشباح عراة لم يدقِّقوا النظر ليتأكدوا من جنسها، أكان ذلك حياءً منهم، أم أنهم ربما كانوا لا يعرفون الفارق بين هذا وذاك؟»
ومع هذا فبقية الرسالة تتضمن ردًّا جديًّا يحوي نقاطًا قيِّمة، وذلك في موضوع كان في أساسه تافهًا، وحوَّله اسپينوزا إلى مناقشة عامة، وكان صبورًا إلى أقصى حدٍّ في ردِّه على الأسئلة السخيفة المشابهة للسؤال السابق.
٥  Darbon: Etudes spinozistes (op. cit.) p. 108, 109. & Cassirer: Spinozas Stellung (op. cit.) S. 337.
٦  Tractatus Politicns. Introduction. (وسوف نرمز إلى هذا الكتاب فيما بعدُ بالرمز TP).
٧  Léon Brunschvicg: L’humanisme de l’occident. Paris (P.U.F.) 1951 p. 113.
٨  W. Windelband: A History of Philosophy (English Trans.) New York, (Harper Torchbooks) 1958 vol. II. p. 396.
٩  Ibid. p. 418.
١٠  Wolfson: The Phil. of Spinoza. Vol. I. p. 45–47.
١١  Hegel’s Lectures on the History of Philosophy (English Trans.) New York (The Humanities Press) 1955 vol. III p. 263.
١٢  أرجِّح أن هيجل قد تأثَّر في نقده هذا بالنقد المماثل الذي وجَّهه كانْت في الباب الثاني من «نقد العقل الخالص» إلى استخدام المنهج الرياضي في الفلسفة، والذي حذَّر فيه من محاولة الفلسفة محاكاة المنهج الرياضي بالبدء بتعريفات، «ما لم يكن ذلك على سبيل التجربة فحسب.» وأكد فيه أن «التعريف بكل دقته ووضوحه ينبغي في الفلسفة أن يجيء في نهاية أبحاثنا لا في بدايتها» (نقد العقل الخالص B 758-759).
١٣  Karl Jaspers: Die Grossen Philosophen. München (Piper) 1957. Bd I, S. 786.
١٤  Friedrich Ueberweg: History of Philosophy (Eragl. Trans) New York (Scribner) 1909. Vol. II. p. 63.
١٥  Wolfson: Op. cit. vol. I p. 56.
١٦  Nietzsche: Jenseits von Gut und Böse, I, 5.
١٧  اقتبس هذه النصوص كلها «ريكتر G. T. Richter» في بحثه: Spinozas philosophische Terminologie. Leipzig 1912. S. II.
١٨  Tractatus Theologico-Politicus. (Trans. By Elwes). p. 44, 45 (وسوف نرمز إليه فيما بعدُ بالرمز TTP).
١٩  Ibid. p. 60FF.
٢٠  Ibid. p. 184.
٢١  Mathew Arnold: Essays in Criticism. No. 9. “Spinoza and the Bible”. London (McMillan) 1865. p. 240.
٢٢  Leo Strauss: Persecution and the Art of Writing. 5th Article: “How to study Spinoza’s “Theologico-Political Treatise””, Glencoe, (The Free Press) 1932. p. 183.
٢٣  Ibid. p. 186.
٢٤  Freudnethal: Die Lebensgeschichte S. 122–189.
٢٥  Friedmann: Leibnitz et Spinoza. p. 180.
٢٦  Robert Misrahi in CEuvres complètes (Trad Fr.) Ed. Gallimard p. 1107–1112.
٢٧  Friedmann: Leibnitz et Spinoza p. 184.
٢٨  Sulivan, Celestine (Jr.): Critical and Historical Reflections on Spinoza’s “Ethics”, University of California Publications in Philosophy. Vol. 32, 1958.
٢٩  Ibid. p. 44.
٣٠  Morris Cohen: The Intellectual Love of God, in “the Menorah Journal”. Vol. Ix, February 1925, No. I, p. 333.
٣١  Ethica, III, 59, mote. (سوف نرمز إلى هذا الكتاب فيما بعدُ بالرمز E.)
٣٢  E, IV, 69.
٣٣  E, IV, 72.
٣٤  القسم ١٧ في «إصلاح العقل» (ص١٦٣ في الترجمة الفرنسية، طبعة جاليمار).
٣٥  Hans Alfred Grunsky: Baruch Spinoza, in “Forschungen zur Judenfrage” Bd. 2. Hamburg 1937. S. 88–90.
٣٦  E, I, Def. III.
٣٧  Ibid. Def. VIII.
٣٨  E, I, 7.
٣٩  Ibid, 8 (note 2).
٤٠  Ibid. Def. I.
٤١  Ibid. Def. IV.
٤٢  Ibid, II, Def. 2.
يلاحظ أن في الجزء الأخير من التعريف خطأ؛ فالقدرة على النمو والتغذي، مثلًا، من ماهية النبات، والنبات لا يوجد ولا يتصور بدونها حقًّا، ولكن العكس غير صحيح؛ لأنَّ من الممكن تصوُّر النمو والتغذي دون نبات، كما في الحيوان مثلًا. وبعبارة أخرى: فليست العلاقة بين الشيء وماهيته علاقة تماثلية.
٤٣  Hallett: Benedict de Spinoza (op. cit.) p. 16.
٤٤  Henry Alonzo Myer: The Spinoza-Hegel Paradox. (Cornell University Press) 1944. Preface, p. X.
٤٥  Ibid. p. 50.
٤٦  Ibid: p. 52.
٤٧  E. I, Def. 5.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤