الجزء الثاني

بلاد فارس، كرمانشاه (٤٩٠٠ قدم)، ٢٩ سبتمبر: سافرنا لمدة عشرين ساعة أمس. كان الجهد المبذول في الجدال يفوق جهدَ التنقُّل.

هبَّت علينا عاصفةٌ ترابية حارقة على الطريق المؤدي إلى مدينة خانقين. وعبر الظُّلمة أطلَّ خطٌّ من التلال. أمسك كريستوفر بذراعي. وأعلن بطريقةٍ رصينة: «أسوار إيران!» بعد دقيقة، واجهنا منحدرًا صغيرًا، وأصبحنا على أرضٍ مسطَّحة مرة أخرى. كان هذا يحدث كل خمسة أميال، حتى دلَّ اللون الأخضر اللاذع للواحة على ظهور المدينة وحدودها.

وهنا بدَّلنا السيارات؛ لأن بلدَي فارس والعراق يرفض كلٌّ منهما دخول سائقين من البلد الآخر. فيما عدا ذلك، كان استقبالنا بحفاوة؛ فقد أعرب لنا المسئولون الفارسيون عن تعاطفهم معنا إزاء هذا العمل المثير للاشمئزاز المتعلِّق بالأعراف، واحتجزونا ثلاث ساعات. عندما دفعت رسومًا على بعض أفلام التصوير والأدوية، أخذوا المال وعيونهم تتحاشى النظر إليَّ، مثل دوقةٍ تجمع الأموال للأعمال الخيرية.

عَلَّقتُ لكريستوفر على الحالة المهينة التي عليها ملابس الناس: «لماذا يجعلهم الشاه يعتمرون تلك القبَّعات؟»

«صه. يجب ألا تذكر الشاه جهرًا. سمِّه السيد سميث.»

«دائمًا ما أسمِّي موسوليني السيد سميث في إيطاليا.»

«حسنًا، سمِّه السيد براون.»

«لا، ذاك اسم ستالين في روسيا.»

«السيد جونز إذَن.»

figure
خريطة بلاد فارس.

«ولا اسم جونز يَصلح. لا بد أن يكون من نصيب هتلر بعدما مات بريمو دي ريفيرا. وعلى أي حال، فقد أصبحت هذه الأسماء العادية تختلط عليَّ. من الأفضل أن نُطلِق عليه اسم مارجوريبانكس، إن أردنا أن نتذكَّر مَن نقصد.»

«حسنًا. ومن الأفضل لك أن تستخدمه في الكتابة أيضًا، في حالةِ صادروا يومياتك.»

سأفعل مستقبلًا.

توقَّفنا ساعةً أخرى عند مدينة قصر شيرين، بينما كانت الشرطة تمنحنا تصريحًا إلى طهران. ثم تكشَّفت عظمة إيران بحق. حيث كانت مضاءة من الخلف بفعل الشمس الآخذة في الانخفاض في الأفق، ومن الأمام بالقمر الآخذ في الارتفاع، فتمايلت بانوراما شاسعة من سفوح التلال المستديرة بعيدًا عن الأطلال الساسانية، متلألئةً هنا وهناك بالأضواء الكهرمانية للقرى؛ حتى ارتفعت من مسافةٍ قصية مجموعةٌ هائلة من القمم، فها هي ذي الأسوار الحقيقية أخيرًا. صعودًا وهبوطًا انطلقنا عبر الهواء المنعِش إلى سفوح الجبال، ثم صعودًا أعلى فأعلى إلى مجازة بين قمم متعرِّجة عليها تجمُّعات من أشجار الصَّنَوبر امتزجت بمخطَّط النجوم. على الجانب الآخر كانت توجد مدينة كرند، حيث تناولنا العشاء على أنغام الجداول المائية وصراصير الليل، ونحن نُطِل على حديقة من أشجار الحور المغمورة بضوء القمر، ونلتهم سِلالًا من العنب الحلو المذاق. كان معلَّقًا بالغرفة مطبوعاتٌ تُصوِّر بلاد فارس أنثى راقدة بين ذراعَي مارجوريبانكس، وينظر إليها جمشيد وأرتحشستا وداريوس من أعلى القوس في طيسفون.

طهران (٣٩٠٠ قدم)، ٢ أكتوبر: في كرمانشاه، تخلَّى السائق عن هدوئه. لم يكن يريد أن يقضي الليل في مدينة همدان، بل تمنَّى أن يبيت في مدينة قزوين. لم يستطِع أن يذكر السبب، وأشكُّ أنه كان يعرفه؛ فقد كان مثل طفل يريد دميةً دون أخرى. لوضعِ حدٍّ للجدل، الذي كان قد بدأ يشمل جميع موظفي الفندق، غادرت إلى قرية طاق بستان لتمضية الصباح. وبذلك أصبح من المستحيل علينا أن نذهب أبعدَ من همدان في ذلك اليوم.

لا بد أن أكثر من نحَّات واحد قد عملوا في المغارات في طاق بستان. فالملائكة فوق القوس لها وجوه قبطية، وألبِستها منخفضة ورقيقة كالتي على ميدالية برونزية من عصر النهضة. النحت النافر على الألواح الجانبية داخل القوس أعلى، لكنَّ الألواح نفسها مختلِفة؛ فبينما اللوحة على اليسار مكتملة ومصوغة بإتقان، فإن المقابِلة لها ما زالت غير منتهية، وقد نُحتت في مجموعة من المستويات المسطَّحة التي تبدو كما لو كانت قد تراكمت على الصخر بدلًا من أن تبرُز منه. ثم في الخلف، في تناقضٍ صارخ مع هذه المَشاهد المتحركة، التي تشبه مشاهدَ سينمائية للمطاردة واللعب، يقف الشكل العملاق لملكٍ على صهوة حِصان في مشهدٍ تعيد قساوته الفارغة للأذهان أحدَ الأنصاب التذكارية الألمانية للحرب. هذا نحتٌ ساساني نموذجي. من الصعب التصديق بأن الفنانين الآخرين كانوا فُرسًا على الإطلاق.

نُحِتت المغارات في قاعدة جرف جبلي ضخم، وصورتها منعكِسة على بحيرةِ تخزين مياه. وبجانبها يوجد بيتُ متعةٍ متهدِّم، كانت مجموعة من السيدات، في هذه اللحظة، يُمضين فيه نزهةً خلوية. اكتملت رومانسية المكان عندما انضم إليهن سيدٌ ذو وجهٍ نَحيلٍ وطويل يرتدي قميصًا متسخًا أطرافه خارج سرواله الواسع، الذي كان أرجوانيًّا فاتحًا من قماش الساتان، وجوربًا قطنيًّا تمسكه حمالاتٌ باللون الأرجواني الفاتح.

تأخَّرنا برهةً في مدينة بيستون، بنقوشها المسمارية الكبيرة المحفورة كصفحات كتاب على صخرة بلون الدم؛ وكذلك في كنجاور، وهو مكان صغير متهدِّم يزخر بحُطام معبد هِلينستي ورهط من الأطفال الذين ألقَوا علينا القِرْميد. في همدان، تجاوزنا مقبرتَي إستير وابن سينا، ولكن زرنا جامباد ألفيان، وهو ضريح سلجوقي من القرن الثاني عشر، كانت ألواحه الجصية غير الملوَّنة، التي انتفخت واختُرقَت بفوضى من النمو النباتي الفائض، لا تزال رسمية وثرية مثل فرساي — ربما أكثر ثراءً بالنظر إلى الاقتصاد في الوسائل المستخدمة فيها؛ لأنه عندما تتحقَّق الروعة بإزميل وكومةٍ من الجص بدلًا من ثروات العالم، لا يتبقى إلا روعة التصميم. وهذا أخيرًا يمحو لدى المرء الولع بقصرِ الحمراء وتاج محل فيما يختص بالفن الإسلامي. وقد جئت إلى بلاد فارس للتخلص من ذلك الولع.

كانت نشوة رحلة اليوم جامحة. أخذنا نصعد ونهبط الجبال، ونمرُّ بالمسطحات اللانهائية، نصطدم وننزلق. سلخت الشمس جلودنا. وأوقفت دوامات ترابية ضخمة، تتراقص كالشياطين فوق الصحراء، سيارتنا الشيفروليه المندفِعة وأصابتنا بالاختناق. وفجأةً، من بعيد عبر أحد الوديان، جاء وميض جرة فيروزية اللون متقطِّعًا على الطريق على ظهر حمار. كان مالكه يسير بجواره في رداءٍ أزرقَ باهت. وعندما رأيت الاثنين تائهَين في ذلك الخلاء الحجري الهائل، فهمت السبب في أن اللون الأزرق هو لون بلاد فارس، وأن الكلمة الفارسية لهذا اللون تعني أيضًا الماء.

وصلنا العاصمة مع حلول الليل. ولم يكن ثَمَّة بصيصُ ضوء في الأفق يُنذِر باقترابنا منها. فجأةً أحاطت بنا الأشجار ثم المنازل. وبحلول النهار، أصبحت مكانًا أشبه بالبلقان. ولكن جبال ألبرز، التي تحتل نصف السماء، تمنح أهميةً مفاجئةً للشوارع التي تواجهها.

طهران، ٣ أكتوبر: في النادي الإنجليزي، وجدنا كريفتر، مساعدَ هِرتسفلد في موقع برسبوليس الأثري، منهمِكًا في محادثة مع وادزورث، السكرتير الأول الأمريكي. وكان سرُّهما، الذي كان كلاهما شديدَ التحمُّس لكتْمِه، هو أنه في أثناء غياب هِرتسفلد خارج البلاد، كان كريفتر قد اكتشف عددًا من اللوحات التذكارية الذهبية والفضية التي تؤرخ لتأسيس مدينة برسبوليس على يد داريوس. حسب مواقعها بالاستعانة بالرياضيات التجريدية، ووجدها تقبَع في صناديقَ حجرية عندما حُفرَت الفتحات. على مضض نوعًا ما أرانا صورًا لها، حيث بدت في عينيه لمحةُ غَيرة وتشكُّك أثريين. ويبدو أن هِرتسفلد قد حوَّل موقع برسبوليس الأثري إلى ملكية خاصة له، ومنع أي أحد من تصويره.

بعد ظهيرة هذا اليوم التقيت ميرزا يانتز، وهو سيد مُسنٌّ ضئيل البنية ودَمِث. جلسنا في مكتبه، الذي يُطلُّ على حمَّام سباحة مستدير وحديقة من أزهار الغُرنوقي والبتونيا، التي زرعها بيده. إنه نائب مستعمرة جلفا الأرمينية خارج أصفهان، وقد ترجم قصيدة «القرصان» إلى اللغة الأرمينية؛ لأن ثَمَّة حسًّا وطنيًّا بالاعتزاز ببايرون لاهتمامه بالدير الأرميني في فينيسيا. تحدَّثنا عن الحرب، حيث وضع معظم الفرس أموالهم (حرفيًّا وكذلك مجازيًّا) لدى قوى المحور. ونظرًا لعدم إدراكهم للقوة البحرية، لم يتمكنوا من تخيُّل الضرر الذي كان بإمكان إنجلترا أن تتسبَّب فيه لألمانيا، من على بُعد ٢٠٠ فرسخ. كان ميرزا يانتز أبعدَ نظرًا:

«اعتدتُ أن أحكي للناس القصةَ التالية. كنت مسافرًا ذات مرة من البصرة إلى بغداد، وأقمت بضعة أيام لدى أحد الشيوخ، الذي بذل قصارى جهده في إكرام وفادتي. كان رجلًا ثريًّا، وأعطاني مهرة رمادية جميلة لأركبها، وكانت تتراقص وتقفز، بينما كان هو نفسه يسير بخطًى رصينة بجانبي على ظهر مُهرة سوداء لا تتمتع بالحيوية. فسألته: «لماذا تعطيني هذا الحيوان الجميل بينما اكتفيت لنفسك بهذه المهرة السوداء البطيئة التي تسير ورأسها بين قائمتَيها؟»

قال الشيخ: «هل تظنها بطيئة؟ فلْنَتسابق.»

كنت متقدِّمًا في ربع الميل الأول. ثم نظرت حولي. فإذا بالشيخ يشير بيده هكذا، قائلًا: «استمِر، استمِر.» فتابعت. وبعد قليل، أدركت أن المهرة السوداء كانت تقترب. حفزتُ فرسي. لكن بلا جدوى. فقد تجاوزتني المهرة السوداء، وكانت لا تزال كما بدت بلا روح، ولا يزال رأسها بين قائمتيها.

اعتدت أن أقول للناس إن المهرة الرمادية كانت تمثِّل ألمانيا، وإن المهرة السوداء كانت تمثل إنجلترا.»

قُلهَك (٤٥٠٠ قدم)، ٥ أكتوبر: كان صباحًا خاملًا. الأشجار تُلقي ببقع ظلال على أستار الرواق. وتُرى الجبال والسماء الزرقاء من خلال الأشجار. ويتموَّج جدول من التلال إلى بِركة ذات بلاط أزرق. وموسيقى «أوبرا الناي السحري» تصدح من الجرامافون.

كأننا في شيملا الهندية ولكن في طهران.

وصلت الحقيبة في هذين الأسبوعين من بغداد في عهدة أحد ضباط القوات الجوية، الذي ساعد في إجلاء الآشوريين. قال إنه لو كان هو وزملاؤه الضباط قد تلقَّوا أمرًا بقصف الآشوريين بالقنابل، كما طُرح، لاستقالوا من الخدمة. كانت الجثث تتناثر في المطار الذي هبطوا فيه بالقرب من الموصل، ومعظمها كان قد أُطلقَ عليه النار في الأعضاء التناسلية، واضطر البريطانيون لحرقها. من جهة هبوب الريح من القرية، أتت أيضًا رائحة كريهة مروِّعة، ذكَّرت الضباط الأكبر سنًّا بالحرب. التقطوا صورًا للجثث، ولكنها صودرت عند العودة إلى بغداد، وصدرت الأوامر بالتكتم التام على ما رأوه. كان سخطه عارمًا، كحال أي شخص عندما يتعلَّق الأمر بحفظ ماء وجه بريطانيا بكتمان فظائعها.

على الغداء، قابلنا السيد وايلي، وهو صياد حيوانات كبيرة أمريكي، كان يسعى لاصطياد حمار وحشي بالقرب من أصفهان. دار الحديث حول البَبْر القزويني والفُقْمة القزوينية، والحِصان البري والأسد الفارسي. حيوانات البَبْر والفُقْمات شائعة جدًّا. ويُزعَم أن ألمانيًّا أطلق النار على حصان منذ عامين، ولكن مع الأسف لم يأكل خدمُه لحمَه فقط بل جِلده أيضًا؛ كي لا يراه أحد على الإطلاق. شوهد آخِر أسد في الحرب بالقرب من شوشتر.

بدت الجبال جميلة جدًّا، ونحن نمضي بالسيارة عبر الحدائق والبساتين إلى سفوح التلال الجرداء، واضحة وثابتة كصوت ينادي. وكانت توجد قمَّة ثلجية منفردة في الشرق هي جبل دماوند. هبطت الشمس في الأفق. واستطالت ظلالنا، مندمجةً في ظل واحد ضخم غطَّى السهل بأكمله. كانت التلال الدنيا مغطاة بتلك العلوية، القمم نفسها. كانت أشعة الشمس لا تزال تسقط على جبل دماوند، فبدا جمرةً ورديةً في السماء المظلمة. وبعد ذلك، عندما حوَّلنا وجهة الخيل، عُكس التحوُّل وتكرَّر؛ حيث كانت الشمس قد غربت وراء رُكام من السُّحب، والآن عاودت الظهور تحته. كان دماوند في الظل، بينما كانت سفوح الجبال في الضوء. ارتفع الظل أسرع هذه المرة. وأظلمت سلسلة الجبال. توهَّجت الجمرة الوردية مرة أخرى، لمدة دقيقة واحدة فقط. وخرجت النجوم من مخبئها.

وصلت الأخبار هذا المساء بأن تیمورتاش‎ مات في السجن في الساعة العاشرة في الليلة السابقة بعد أن حُرم من جميع وسائل الراحة، بما في ذلك فِراشه. حتى أنا، الذي كنت في موسكو أثناء استقباله هناك في عام ١٩٣٢، حزنت لذلك، وأولئك الذين عرفوه وأُعجبوا به باعتباره الوزير ذا السلطة المطلقة تأثَّروا أكثرَ بكثير. لكن العدالة هنا ملَكية وشخصية؛ فمن المحتمل أنه كان سيُركَل حتى الموت علانيةً. يحكم مارجوريبانكس هذا البلد بالخوف، وأقصى درجات الخوف هو الخوف من الحذاء الملكي. يمكن القول إن هذا يُحسَب له في عصر الأسلحة التي تُحيق الموتَ من بعيد.

طهران، ٧ أكتوبر: بغيةَ تسهيل رِحلاتي، زرت أشخاصًا مختلفين، بما في ذلك جام، وزير الداخلية، ومصطفى فاتح، مدير التوزيع في شركة النفط الأنجلو-فارسية، وفرج الله بازل، الاختصاصي في دراسة النقوش. ثم تناولت الشاي مع ميرزا يانتز؛ حيث تبادلنا الحديث بالإنجليزية، واليونانية، والأرمينية، والروسية، والفارسية. كان الضيف الرئيسي هو أمير جانج، أخو ساردار أسد وزير الحرب، وأحد القادة البختياريين الكبار. وكان قد جلب هديةً لابنة ميرزا يانتز، عبارة عن أثاث دمية مُذهَّب ومُنجَّد بالقطيفة. أضفى هذا نشوةً على التجمُّع، وصاح الجميع: «بَها! بَها!»

يبدو شير أحمد، السفير الأفغاني، كنَمِر يلبس ثياب يهودي. قلت: «إذا منحتني الإذن سُموك، آمُل في زيارة أفغانستان.»

«تأمُل في زيارة أفغانستان؟ (هادرًا) «بالطبع» ستزور أفغانستان.»

وفقًا له، يوجد بالفعل طريق من هِرَات إلى مزار شریف.

طهران، ١٠ أكتوبر: يوجد برجُ دفن مُخدَّد في مدينة الري على بُعد حوالي ستة أميال، وجزؤه الأدنى سلجوقي، وآخر في ورامين‎ أبعد منه، وهو أكثر جمالًا ولكنه أقلُّ في القيمة الأثرية. ولهذا البرج سقف، وقد كان يشغله مدمن أفيون رفع نظره عن طعام غدائه الذي كان يطهيه ليخبرنا أنه بيته، وأن عمره ٣٠٠٠ سنة. يرجع المسجد في ورامين إلى القرن الرابع عشر. وهو يشبه من بعيد ديرًا محطَّمًا، مثل دير تينترن على سبيل المثال، غير أن له قبَّة وليس برجًا، تنتصب من طابق متوسط ثُماني أعلى غرفة المحراب المربَّعة في الطرف الغربي. المكان كلُّه مبني بقِرْميد عادي بلون القهوة بالحليب، يتسم بالمتانة والبساطة وحسن التناسب، ويعبِّر عن فكرة المحتوى كما لم تعبِّر عنها عمارة واجهات مبانٍ مغربية وهندية من قبل. بالداخل، يوجد محراب من الجص بالتقنية نفسها المستخدَمة في قبَّة العافية في همدان؛ غير أن التصميمَ، كونه أحدثَ، فظٌّ ومرتبك.

انضم إلينا في المسجد رجلٌ يشبه حمَّال سكة حديدية ضعيفًا، كما كان يعمل معظم الفارسيين في ظل القوانين الحالية الضاغطة للإنفاق. وكان يجثم على معصمه صقرٌ مرقَّط باللونين الرمادي والأبيض، ويرتدي غطاءً جلديًّا. كان قد أخذه من العُش.

تناولنا العشاء مع هانيبال، الذي ينحدر، مثل بوشكين، من سلالة العبد الزنجي للإمبراطور بطرس الأكبر، وهو بذلك قريب لبعض العائلات الملَكية الإنجليزية. بعد هروبه من البلاشفة، أصبح مواطنًا فارسيًّا، ويعيش الآن بنمطٍ أكثر فارسية من الفرس. قادنا خادم يحمل فانوسًا ورقيًّا بارتفاع ثلاث أقدام إلى منزله عبر متاهات البازار القديم. الضيفان الآخران كانا أميرًا قاجاريًّا، ابن فيرمان فيرما، وزوجته، التي نشأت في هونج كونج. ونظرًا لكونهما أكثرَ إنجليزيةً من الإنجليز، فقد كان يربكهما أن عليهما تناوُلَ الطعام على الأرض. كان المنزل شديدَ الصِّغر، لكنَّ برج رياحه المنمنم وفناءه المنخفض منحاه تميُّزًا. هانيبال مشغول بتأسيس مكتبة للفردوسي تكريمًا للذكرى الألفية للشاعر التي تحلُّ العام القادم.

زنجان (٥٥٠٠ قدم)، ١٢ أكتوبر: كنا نحاول، ولا نزال، الوصولَ إلى تبريز بالشاحنة. حتى الآن، لم تَسِر الرحلة كما هو مخطَّط لها. كان من المقرَّر أن تغادر الشاحنة في الساعة الرابعة. وفي الرابعة والنصف، أرسلنا القائمون على المرأب في سيارة أجرة إلى مرأب آخر خارج بوابة قزوين. وفي الخامسة، حاول هذا المرأب أن يصرفنا في حافلة متعطِّلة، مفصِحًا في الوقت نفسه عن أنه لم تكن توجد أي شاحنة على الإطلاق. لذلك، استأجرنا سيارة، ولكننا صمَّمنا قبل الانطلاق أن نجعل المرأب الأول يردُّ إلينا الأموال التي أودعناها لديه. تسبَّب هذا في اضطراب وصخَب. في تلك الأثناء، إحدى الشاحنات قد أصبحت متاحة، وحينئذٍ هدَّد سائق السيارة بإبلاغ الشرطة إذا تركناه. فلم نفعل.

في صباح اليوم التالي في قزوين، استأجرنا سيارةً أخرى، رفض سائقها أن يغلق غطاء السيارة. ومن ثَم عندما هبطت سرعته إلى أربعين ميلًا في الساعة، واصطدم رأسي بقضيب خشبي، نخسته نخسةً حادة في ظهره. توقَّفت السيارة تمامًا. طلبنا منه المواصلة. ففعل بسرعة عشرة أميال في الساعة. طلبنا منه أن يُسرع. ففعل لفترة وجيزة، ثم أبطأ السرعة مرة أخرى.

قال كريستوفر: «أسرع! أسرع!»

فقال السائق: «كيف يمكنني القيادة وأنتما الاثنان تضربانني؟»

أنا: «هيا!»

فقال السائق: «كيف يمكنني القيادة إذا كنت لا أروق للأغا؟»

كريستوفر: «قُدْ بحذر. نحن لا نَكرهك، ولكننا نكره القيادةَ الخطِرة.»

السائق: «وا حسرتاه! كيف يمكنني القيادة؟ الأغا يكرهني. أيامي مريرة.»

كريستوفر: «الأغا يحبك.»

السائق: «كيف يمكن أن يحبني وقد حطَّمت رأسه؟»

وهكذا لأميال، حتى وصلنا إلى مركز شرطة. هنا توقَّف تمامًا، قائلًا إنه يجب أن يسجِّل شكوى. لم يكن بوسعنا سوى أن نفعل شيئًا واحدًا، وهو أن نشتكي أولًا. قفزنا من السيارة وسِرْنا في اتجاه المركز. أفزع هذا الرجلَ؛ لأنه كان جليًّا أنه إن سعينا في طلب الشرطة بمثل هذه الحماسة فلا بد أنها ستكون في صفِّنا وليس في صفِّه. اقترح أن يواصل الرحلة بدلًا من ذلك. فوافقنا.

كان الحادث تمثيلًا، وتحذيرًا، من الرعب الشديد الذي يشعر به الفرس حتى تجاه التظاهر بالعنف البدني.

ميلًا بعد ميل، تبعنا مسارًا مستقيمًا بين سلاسل جبال متقابلة. لاحت قبَّة السلطانية‎ فوق الصحراء. للوصول إليها، كان علينا أن نقوِّض نظامَ ري كاملًا. وهناك وجدنا بلاد فارس مختلفة. فمع أننا لم نبعد سوى بضعة أميال عن الطريق الرئيسي، حلَّت القلنسوة القديمة التي تشبه الخوذة، التي تظهر في نقوش موقع برسبوليس البارزة، محلَّ القبعة البهلوية الحديثة. كان معظم أبناء القرية يتحدثون اللغة التركية. بعدما تحصَّلنا على سلطانية من خُثارة اللبَن وقطعة من الخبز بحجم خيمة من صالة الشاي، دخلنا الضريح.

figure
سلطانية: ضريح أولجايتو.

أتَمَّ الأمير المغولي أولجايتو بناء هذا المبنى المميز عام ١٣١٣. تستقر قبَّة على شكل بيضة بارتفاع ١٠٠ قدم تقريبًا على مُثمَّن طويل، ويحيط بها سياج من ثماني مآذن تستند على حواجز المُثمَّن عند الأركان. القِرْميد ضاربٌ إلى اللون الوردي. لكن المآذن كانت في الأصل باللون الفيروزي، وكانت الأشكال الثلاثية باللون نفسه، ومحاطة بحصًى، يتلألأ حول قاعدة القبَّة. يقف هذا النصب التذكاري العملاق لإمبراطورية المغول، في مواجهة الصحراء المنبسطة، المنسحقة تحت ثقل الأكواخ الطينية المتناثرة هنا وهناك، شاهدًا على قوة آسيا الوسطى التي أنتجت، تحت حكم السلاجقة والمغول والتيموريين، أروعَ إلهامات العمارة الفارسية. هذه بالطبع هي عمارة واجهات المباني؛ النموذج الذي قامت عليه عمارة تاج محل ومئات الأضرحة الأخرى. ولكنها لا تزال تنبض بالقوة والمضمون، بينما لم تحقِّق العمارة الناشئة عنها سوى المظهر الجمالي. إنها تتمتع بجرأة الابتكار الحقيقي، حيث تخدم الزخارف الفكرة، وتجسِّد النتيجة، التي قد تكون غير مكتملة، انتصارَ الفكرة على القيود التقنية. كثير من العمارة العظيمة من هذا النوع. وهنا يخطر ببالي برونليسكي.

الخان هنا مكتوب عليه «الفندق الكبير — دار البلدية». لم نكن معتمدين اعتمادًا كليًّا عليه، حيث دعانا حسين محمد أنجوراني، الوكيل المحلي لشركة النفط الأنجلو-فارسية، إلى عشاء خفيف. استقبلَنا في غرفة بيضاء طويلة ذات سقف مرسوم ببراعة، حتى الأبواب والنوافذ كانت مكسوَّة بالموسلين الأبيض. وكان الأثاث يتكون من هيكلَي سريرَين من النحاس الأصفر مفروشَين بمساند من الساتان، وحلقة من الأرائك الصلبة المُنجَّدة باللون الأبيض، وأمام كلٍّ منهما وُضعَت طاولة صغيرة مغطَّاة بغطاء باللون الأبيض وعليها أطباق شمام وعنب وحلوى. في منتصف الأرضية، التي كانت مغطَّاة بطبقتَين من السجاد، وُضعَت ثلاثة مصابيح زيتية طويلة غير مظلَّلة. تولَّى خِدمتَنا قهرمان رمادي اللحية يرتدي سترة لامعة مشقوقة الذيل، كان مضيِّفنا يناديه بلقب «أغا».

كانت رسالتنا التعريفية الأولى تقول إننا نرغب في زيارة السلطانية‎. قال مضيِّفنا إننا إذا عُدنا لهذا الطريق، فسيأخذنا في سيارته. هل ثَمَّة مشكلة في ذلك؟ كان يزور السلطانية‎ كلَّ يوم من أجل العمل أو الترويح عن نفسه. في الواقع، كان يمتلك منزلًا هناك، كان بوسعه استضافتنا فيه. من سذاجتي، كنت أصدِّق هذه المجاملات. لكن كريستوفر كان أكثرَ دراية. بعد وجبة ضخمة، أكلناها بأيادينا، عاد بنا القهرمان إلى مهجعنا الخاوي في الفندق الكبير — دار البلدية.

أجلس في الشارع خارجه، حيث شمس الصباح هي مصدر الدفء المتاح الوحيد. ظهر فجأةً رجلٌ عجوز ومغرور يرتدي التويد ذا المربَّعات ويشبه لويد جورج، وعرَّف نفسه بأنه «رئیس شوسه». هذا يعني قائد طرق، أو بعبارة أخرى مُلاحِظ طرق المنطقة. وقد رافق الرجل الإنجليزي إلى باكو، حيث كان جزاء مساعدته أن دخل سجنًا بلشفيًّا.

تبريز (٤٥٠٠ قدم)، ١٥ أكتوبر: أخيرًا في زنجان استقللنا شاحنةً. بينما كان كريستوفر يلتقط لي صورةً أثناء جلوسي في الخلف، تقدَّم شرطي وقال إن التصوير ممنوع. كان السائق آشوريًّا من مكانٍ قريب من بحيرة أرومية، وكانت تجلس بجانبه معلِّمة آشورية كانت عائدةً من مؤتمر تبشيري في طهران. قدَّمت لنا على سبيل الضيافة شرائحَ من السفرجل. كانا مهتمَّين كثيرًا بمعرفتي بمار شمعون، ونصحاني بألا أقول شيئًا عنه في تبريز، حيث كان يوجد اضطهاد للمسيحيين في ذلك الوقت، وقد أغلقت الشرطة نادي سيدات السيدة كوشران في أرومية. عندما تذكَّرا هذا، أنشدا ترنيمة «قُدني أيها النور العطوف» بانسجام، وأخبرتني المعلِّمة أنها علَّمتها للسائق لتمنعه من أن يغني أغاني السائقين المعتادة. قلت إنني كنت سأُفضِّل أغاني السائقين المعتادة. أضافت أنها قد أقنعته أيضًا بإزالة الخرز الأزرق من فوق غطاء مبرِّد المحرك؛ فقد كان من خرافات «هؤلاء المسلمين». عندما قلت لها إنها كانت خرافاتٍ يمارسها عادةً المسيحيون المنتمون إلى الكنيسة الأرثوذكسية، أصابها الذهول. واعترفتْ بعد ذلك بأن الخرافات أحيانًا ما تجدي نفعًا؛ فقد كان هناك شيطان يُدعى، مثلًا، مِهمِت، وكانت له زوجة من الإنس، والتي تنبَّأ من خلالها بالحرب في رَدهةِ حميها. أطلقت على نفسها وصف عاملة بالكتاب المقدَّس، وأرادت أن تعرف إن كان معظم الناس في إنجلترا يدخنون أم لا. لم تستطِع أن تفهم لماذا لا يمنع الأطباء التدخين وشرب الكحول، بدلًا من أن يدخِّنوا ويشربوا الكحول هم أنفسهم.

بدأت أتعاطف مع السلطات الفارسية. يؤدي المبشِّرون أعمالًا نبيلة. ولكن بمجرد أن يحوِّلوا أناسًا إلى المسيحية، أو يجدوا سكانًا أصليين مسيحيين، لا يكون نفعهم كبيرًا.

كان كريستوفر، في هذه المرحلة، يقرأ في مؤخرة الشاحنة، حيث كان يجلس بجواره رجل من طهران، وآخر من أصفهان، وبغَّالان، ومساعد السائق.

الطهراني : «ما هذا الكتاب؟»
كريستوفر : «إنه كتاب تاريخ.»
الطهراني : «أي تاريخ؟»
كريستوفر : «تاريخ الروم والبلاد المجاورة، كفارس ومصر وتركيا وبلاد الفرنجة.»
المساعد (وهو يفتح الكتاب) : «يا علي! يا لها من أحرف!»
الطهراني : «هل يمكنك قراءته؟»
كريستوفر : «بالطبع. إنها لغتي.»
الطهراني : «اقرأه لنا.»
كريستوفر : «لكنكم لن تتمكنوا من فهم اللغة.»
الأصفهاني : «لا يهم. اقرأ قليلًا.»
البغَّالان : «هيا! هيا!»
كريستوفر : «قد يكون من المفاجئ قليلًا أن بابا روما أقام محكمةً، في قلب فرنسا، صبَّ منها لعناته على الملِك، ولكن سرعان ما ستختفي دهشتنا عندما نُقيِّم تقييمًا عادلًا ملِكًا فرنسيًّا في القرن الحادي عشر.»
الطهراني : «عمَّ يدور ذلك؟»
كريستوفر : «عن البابا.»
الطهراني : «مَن؟ مَن ذلك؟»
كريستوفر : «خليفة الروم.»
البغَّال : «إنه تاريخ خليفة الروم.»
الطهراني : «اصمت! هل هو كتاب جديد؟»
المساعد : «هل هو مليء بالأفكار الطاهرة؟»
كريستوفر : «إنه لا ديني. فالرجل الذي كتبه لا يؤمن بالأنبياء.»
الطهراني : «هل يؤمن بالله؟»
كريستوفر : «ربما. ولكنه يزدري الأنبياء. يقول إن يسوع كان رجلًا عاديًّا («لقي هذا موافقة من الجميع»)، وإن محمدًا كان رجلًا عاديًّا («أحبط هذا الجميع»)، وإن زرادشت كان رجلًا عاديًّا.»
البغَّال (الذي يتحدث التركية ولا يفهم جيدًا) : «هل كان يُدعى زرادشت؟»
كريستوفر : «لا، بل جيبون.»
الجميع معًا : «غيبون! غيبون!»
الطهراني : «هل هناك أيُّ دين يقول بأنه لا يوجد إله؟»
كريستوفر : «لا أظن ذلك. لكنهم في أفريقيا يعبدون الأوثان.»
الطهراني : «هل يوجد وثنيون كثيرون في إنجلترا؟»

أدَّى الطريق إلى جبال، حيث قادنا أخدود كبير إلى نهر السبَّاح الذهبي. كان راعيًا، مثل ليندر في الأساطير الإغريقية، الذي اعتاد السباحة عبر النهر لزيارة محبوبته، حتى شيَّدت في النهاية جسرًا رائعًا حقًّا، عبرناه نحن أيضًا. تحرَّك بخفة على طول الطريق بجوارنا قطيعٌ من الغزلان. وأخيرًا، خرجنا إلى مرتفعات أذربيجان، وهو بلد يجتاحه لونٌ بنِّي ضارب إلى الرمادي مثل إسبانيا في فصل الشتاء. مررنا عبر ميانا، الشهيرة بحشرةٍ تلدغ الغرباء فقط، وقضينا الليلة في خانِ مسافرين منعزل، حيث كان يوجد ذئب مربوط في الفناء. في تبريز طلبت منا الشرطة خمس صور لكلٍّ منا (لم يحصلوا عليها) والمعلومات التالية (التي كانت مكتوبة باللغة الفرنسية):

إشعار
أنا الموقِّع أدناه روبرت بايرون كريستوفر سايكس
الجنسية  إنجليزي إنجليزي
المهنة  رسَّام فيلسوف
تاريخ الوصول ١٣ أكتوبر  ١٣ أكتوبر
بصحبته زجاجة جِن كتاب لهنري جيمز … إلخ.

سِمات تبريز هي مشهدُ جبالٍ ذات لون بنفسجي مخملي، يمكن الوصول إليها عن طريق سفوح ليمونية اللون، ونبيذ أبيض صالح للشرب وبيرة مقرفة، وعدة أميال من البازارات البديعة المقنطرة بالقِرْميد، وحديقة بلدية جديدة بها تمثال برونزي لمارجوريبانكس مرتديًا عباءة. ويوجد مَعْلمان أثريان: أطلال المسجد الأزرق الشهير، المكسو بفُسيفساء القرن الخامس عشر، والحِمى، أو القلعة، وهي جبل من قِرْميد خمري اللون صغير مرصوص بطريقة فنية شديدة البراعة، ويبدو كما لو كان مسجدًا يومًا ما، ولو أنه كان كذلك، فقد كان من أكبر المساجد التي بُنيت على الإطلاق. اللغة التركية هي اللغة الوحيدة هنا، عدا فيما بين الموظفين. كان التجار أثرياء في السابق، ولكن إيمان مارجوريبانكس في اقتصاد مُخطط قد دمَّرهم.

مراغة (٤٩٠٠ قدم)، ١٦ أكتوبر: مضينا بالسيارة هنا هذا الصباح لمدة أربع ساعات، عبر منطقة ذكَّرَتني بدونيجال. ظهرت من بعيدٍ بحيرة أرومية، على هيئة شريط من اللونين الأزرق والفضي، والجبال خلفها. وقد أعطت أبراج الحمام المربَّعة، المخرَّمة من الأعلى، للقرى مظهرًا حصينًا. في الأرجاء، كانت توجد كروم عنب وأيكات من أشجار السنجق،١ التي لها أوراق رمادية رفيعة وعناقيد من فاكهة صفراء صغيرة.

مراغة نفسُها ليست جذَّابة. فقد شُقَّت شوارعُ مستقيمة واسعة عبر البازارات القديمة، وسلبتها طابعها. قادنا طفل يتحدَّث الفارسية ذو رموش بطول رموش العُقاب إلى المسئولين المعنيين، الذين بدورهم أرَونا برجَ دفن مضلَّعًا رائعًا يعود للقرن الثاني عشر، وهو معروف بأنه قبر والدة هولاكو وهو مبنيٌّ من قِرْميد برقوقي اللون مرصوص في أنماط ونقوش. كم هو جميل ومدهش أثرُ هذه المادة القديمة الحميمة، التي بدا وكأنها نُقلت من حديقة مطبخ إنجليزي لخدمة النصوص القرآنية، ورُصِّعت بلون أزرقَ زاهٍ. يوجد إفريز كوفي بالداخل، بُطِّنت الجدران أسفله بحُفرٍ لأعشاش الحمام.

فكَّرنا في الركوب من هنا مباشرةً إلى ميانا؛ ومن ثَم نقطع ضلعَي مثلث قمَّته تبريز. سيأخذنا هذا عبر منطقة غير معروفة، غير معروف على الأقل على النطاق المعماري؛ فهي فارغة جدًّا على الخريطة. من الصعب ركوب الخيل هنا. فقد وافقنا على سعر أحد المالكين، الأمر الذي فوجئ به كثيرًا؛ إذ كان قد فقد زوجته مؤخرًا، ولم يكن لديه أحد ليعتني بأطفاله أثناء الرحلة. غير أن ساعة من الجدال قد تغلَّبت على هذا الاعتراض. ولكن بعد ذلك، بعدما رأينا الخيول، استحضرنا هذا الاعتراض بأنفسنا كي نهرب من المساومة. يبحث صاحب النُّزل عن آخرين. نأمُل أن ننطلق مساء غد. فالعادة في هذا البلد أن تنطلق في المساء.

تازه كند (٥٠٠٠ قدم تقريبًا)، ١٧ أكتوبر: لقد بذلتُ قُصارى جُهدي في تهجئة اسم هذا المكان، مع أنه ليس مهمًّا، ويتألَّف من منزل واحد، ويبعُد فرسخًا واحدًا من مراغة. ما سيهمنا الآن هو الفرسخ (فرسخ زينوفون). «استُقر» على أنه أربعة أميال، ولكن في اللغة الدارجة تقع الفراسخ ما بين ثلاثة إلى سبعة أميال.

معاطفنا المصنوعة من جِلد الغنم وأكياس نومنا منتشرة في الغرفة العلوية. وعبر النافذة غير المُزجَّجة، تبدو قمم أشجار الحَوْر وآخرُ وميض لسماء تنذر بقُرب حلول الشتاء … ارتعاشات لهب عود ثقاب، فانوس يضيء فيُظهِر خشونة الجِدار الطيني؛ النافذة تُعتِم. يجثم الشرطي عباس فوق الموقد، يُسخِّن مكعبًا من الأفيون في مِلقَط. كان قد أعطاني للتو نفَسًا، يشبه في طعمه البطاطس. البغَّال في الركن يُدعى حاجي بابا. لا يزال كريستوفر يُطالِع كتاب جيبون. والدجاج والبصل يغليان في قِدر. وفكَّرت في أننا لو كنا توقَّعنا هذه الرحلة، لربما كنا أحضرنا بعض الطعام، ومبيدات حشرية أيضًا.

كان الموظفون في مراغة قد سمِعوا عن «رصد خانة»، التي تعني «منزل النجوم» أو المرصد، ولكن لم يكن أيٌّ منهم قد رآها من قبل. بناها هولاكو في القرن الثالث عشر، وكانت أرصادها هي آخرَ إسهام للمسلمين في علم الفلك إلى أن عدَّل أولوغ بيك التقويم في بداية القرن الخامس عشر. انطلقنا في رحلتنا مبكرًا، وجابهنا جبلًا ونحن نعدو بالجياد بأقصى سرعة، ووجدنا أنفسنا على نَجدٍ منبسط، حيث يمكن بلوغ عدة روابٍ من جهات الأرض الأربع عن طريق دروبٍ مستقيمة مرصوفة بالحصى تتقاطع في زوايا قائمة. ظننا أن هذه الدروب شُيِّدت لمساعدة الحسابات الفلكية؛ كانت الروابي بقايا مبانٍ. ولكن إذا كان هنا مقصدنا فأين بقية الجمع، العمدة ورئيس الشرطة والحاكم العسكري، الذين كانوا قد سبقونا؟ بينما كان مرافقنا يعدو بالفرس هنا وهناك بحثًا عنهم، وقفنا على حافة النَّجد، مُطِلَّين على امتدادٍ عظيم لمنطقةٍ تُرى فيها بحيرة أرومية من بعيد، ومتوقعين بعض الشيء أن تخرج الكلاب من سِتر بين أشجار الحَوْر عند سفح الجبل. فجأةً عُثِر على الموظفين المفقودين في منتصف الطريق إلى أسفل الجرف عند أقدامنا، وحرفيًّا أسفلنا مباشرةً؛ فعندما نزلنا إليهم، جاعلين الجياد في الصدارة، رأينا أن الصخر قد تجوَّف على شكل نصف دائرة، وأنه في منتصف هذا كان هناك مدخل كهف. ربما كان الأخير في الأصل طبيعيًّا، ولكنه بالتأكيد قد وُسِّع على يد بشر.

داخل الكهف وجدنا مَذبحَين؛ أحدهما مواجهٌ للمدخل صوب الجنوب، والآخر جهة اليمين أو الشرق. كلاهما منحوت من الصخر في موضعه، وقائم فيما يشبه هيكلًا مرتفعًا له قبَّة مدبَّبة. نُحِت محرابٌ غير مستوٍ في الجدار الذي خلف المذبح القائم على اليمين، في الاتجاه المعاكس لمكة. على جانبَي المذبح الخلفي كان يوجد مدخلان لنفقين. هذان النفقان كانا يُفضيان إلى غرفٍ صغيرة، كان على جدرانها قواديسُ لحمل المصابيح، ثم يمتدان، لكنهما كانا مسدودَين بالتراب لدرجةٍ لا تتيح لنا الاستمرار فيهما. تساءلنا عما إذا كانا يومًا ما متصلين بالمرصد أعلاهما، وإن كان الأمر كذلك، فهل كانت الأرصاد تجري في ضوء النهار. يقولون إنه من الممكن رؤية النجوم من قاع بئر عندما تكون الشمس ساطعة.

بينما كنت أصوِّر باطن الكهف، وأفكِّر في أن النتائج لن تبدو مثيرةً لاهتمام الآخرين، سمِع كريستوفر مصادفةً رئيسَ الشرطة وهو يهمس للحاكم العسكري قائلًا: «أتعجَّب من السبب الذي يجعل الحكومة البريطانية تريد صورًا لهذا الكهف.» حسنًا، فليتعجَّب كما يشاء.

سُحبت الخيول، وهي جالسة على أعجازها، على الجرف إلى القرية بالأسفل. انزلقنا خلفَها لنجد فاكهةً وشايًا وشراب العَرَقي في انتظارنا في بيت رئيس الشرطة.

بينما كنا نغادر البلدة هذا المساء، لمحت برجًا آخر يعود للقرن الثاني عشر خارج البوابة، ومجددًا كان مصنوعًا من القِرْميد القديم بلون الفراولة، ولكنه مربَّع، ومُركَّب على أساس من حجارة مُقطَّعة. كان كل جانب من ثلاثة من الجوانب مقسمًا إلى لوحين مقوَّسين، والقِرْميد فيها مرتَّب في أنماطٍ تشبه أنماط قماش التويد. وكانت الأركان ملتفَّة بأعمدة شبة دائرية. على الجانب الرابع، يوجد لوح واحد كبير، مؤطَّر بقطعةٍ مُبيَّتةٍ مقوَّسة، يحيط بمدخلٍ مزيَّن بنقش بخط كوفي وترصيع أزرق. كشف الجزء الداخلي عن قبَّة منخفضة مدعومة بأربعة حاملات قباب عميقة ولكنها شديدة الانخفاض. لم تكن توجد أي حلية هنا، ولم توجد في أي وقت مضى في الواقع؛ فالنِّسب كانت كافية. مثل هذا الكمال التكعيبي الكلاسيكي، الشديد الشاعرية والقوة في الآن نفسه، يكشف للرجل الأوروبي عن عالَم معماري جديد. إنه يتخيَّل أن هذا الطابع من ابتكاره الخاص، بصرف النظر عما يوجد من مَواطنِ جَمالٍ أخرى في البناء الآسيوي. ليس المذهل فقط أن نجده في آسيا، بل بأسلوب معماري مختلِف بالكلية.

صومعة سرا (٥٥٠٠ قدم تقريبًا)، ١٨ أكتوبر: كان عباس والبغَّالون مخدَّرين للغاية بالأفيون هذا الصباح لدرجةٍ تَحُول دون انطلاقهم في الوقت المحدَّد. عندما اشتكينا، ضحِكوا في وجوهنا. في الواقع، أخلاقهم وضيعة؛ وفي بلدٍ يقدِّر الأخلاق تقديرًا فوق العادة، لا حاجة للمزاح حول الأمر. لذلك، عندما بدءوا في هذا المساء الاستقرارَ في غرفتنا، طردتُهم هم والنارجيلة، ووعاء السَّماوَر لتحضير الشاي، وكل شيء. كان كريستوفر قلقًا، وقال إن هذا يتنافى مع العُرف، وأوضح مقصده بقصةٍ حكى فيها أنه ذات مرة، عندما كان مقيمًا مع قائدٍ بختياريٍّ، ورغب في أن يقول شيئًا على انفراد، أفزع مضيِّفه بلا شك عندما اقترح إخراج الخدم من الغرفة. أجبته بأنني أنا أيضًا لي أعراف، وأحدُها ألا يزعجني أحد بتدخين الغليون أو بوجود بغَّالين تحت إمرتي.

ركِبنا الخيول مسافةَ خمسة فراسخ اليوم، لا يسدُّ رمقَنا سوى سلطانية واحدة من خُثارة اللبن ونتعذب من الجلوس على السروج الخشبية. بعد تازه كند بقليل، تقاطع الطريق مع جسرٍ قديم ورفيع، كانت أقواسه الثلاث، التي تتناوب مع قوسين صغيرتين أعلى الدعامات الحجرية، مرة أخرى من قِرْميدٍ أحمر مبهج. صعدنا بعد ذلك إلى مرتفعات متماوجة، كانت واسعة، وجرداء، وكئيبة في الخريف الذي أوشك على الانتهاء. بعض الأجزاء كانت محروثة؛ مما كشف عن تربةٍ بُنية خِصبة، لكن المنطقة كلها كانت صالحة للزراعة، ويمكن أن تمدَّ بالغذاء عددًا من السكان أكبر ممن تمدُّهم. كانت هذه أولى القرى الكبيرة. في وسطها ينتصب لوحٌ حجري ضخم مدعم بمِدَك حجري بدائي، يصنع عليه أهل القرية زيتهم.

نشغل أفضلَ غرفة في منزلِ كبير القرية، وهي التي فوق الإسطبل وتفوح منها رائحته. الجدران مبيَّضة حديثًا، وتوجد مِدفأة حقيقية في أحد الأطراف، وفيما حول الحوائط من الداخل كوات بها أدوات منزلية وأباريق وأحواض وأكواب بيوترية، ويحتوي بعضها على خليط من أوراق ورد عطرية مجفَّفة وأعشاب. لا يوجد أثاث ولكن يوجد سَجَّاد. على طول الكسوة الخشبية للحوائط وُضعَت كومات من مساند وألحفة، مكسوة بقماش قطني من طراز قديم مطبوع بنقشات زهور. قبل الحرب كانت هذه الأقمشة المزهرة تُصنع خصوصًا في روسيا لسوق آسيا الوسطى: يوجد مَسند واحد عليه رسومات لبواخر، وسيارات قديمة ذات محرِّك، وأول طائرة، كلها منقوشة برسوم صغيرة في دوائر من أزهار على خلفية قرمزية اللون. تبدو زاهية ونظيفة. لكنَّ برغوثًا قفز لتوه من يدي، وقضيت الليلة في رعب، ليس عليَّ أنا الذي لم أُلدغ من قبل، ولكن على كريستوفر الذي كانت البراغيث أكثر إزعاجًا له من نكتةٍ من النكات التي تُلقى في المسارح الغنائية.

وصلت سلطانية من الحليب دافئة مباشرةً من البقرة. وفتحنا زجاجة الويسكي تكريمًا لها.

عند التحدث بالفارسية، ينطق أبناء أذربيجان الحرف k كالحرفين ch. بينما ينطقون الحرفين ch كالحرفين ts.
کالا جلك (٥٥٠٠ قدم تقريبًا)، ١٩ أكتوبر: تلمع السُّحب الصغيرة في السماء الزرقاء. نصعد عبر منحدرات سهلة إلى بانوراما من منطقة ريفية تتقلب ما بين أرضٍ محروثة باللونين الأحمر والأسود، وقرًى رمادية مسكونة ذات أبراج صغيرة في حظائرها، عابرين الجبال البعيدة إلى تلالٍ مخطَّطة باللونين الوردي والليموني، تحدُّها أخيرًا سلسلةٌ تلو أخرى من الجبال المتعرِّجة الأرجوانية. ترافقنا القمم المزدوجة التي تعلو تبريز. وكذلك يفعل سِرب من الفراشات الصفراء. من بعيد بالأسفل يقترب خيَّال. «السلام عليكم.» «وعليكم السلام.» ثم يغادر مع صوت حوافر جواده ونعود وحدنا.

أمسِ أعطى كريستوفر لمضيِّفنا ورقةً نقديةً بقيمة تومانَين ليفكَّها. هذا الصباح، رفض عباس الذي أخذ النقود إرجاعها. سأله كريستوفر: «هل أنت لص؟» فأجاب: «نعم، أنا كذلك.» ثم اشتكى باستياء من الإهانة، قائلًا إن معه ١٠٠٠ تومان في جيبه، وتساءل في الجملة نفسها كيف يمكنه أن يعيش دون هدية من حين لآخر. ازدادت علاقتنا معه، التي كانت باردة بما فيه الكفاية، توترًا عندما حاول سرقة المال الذي دفعناه مقابل استعارة المنزل الذي كنا سنتناول فيه الغداء. رفع سوطه في وجه المالك، الذي كان رجلًا مسنًّا، وكان سيضربه به لولا أنني باعدت بينهما ودعوت عباس ﺑ «ابن الأب المحروق» (هذا التعبير في الفارسية يُقصَد به أن أبا الشخص لن يدخل الجنة).

ثم كان من المهين أن نكتشف، بينما كنا نمضي ممتطين الخيول بجوار مجرًى مائي مالح عبر وادٍ ساكن ومنعزل، أن كريستوفر قد فقد محفظته وبها مالنا؛ إذ صِرنا الآن معتمدين اعتمادًا كاملًا على عباس في تسول مأوًى مجاني لنا. في تلك اللحظة كان وراءنا، ويقول إنه لا بد أن يزور قريةً منعزلةً، وشككنا في أنه قد وجد المحفظة وأخفاها نهائيًّا. بعد بضع دقائق عاود الالتحاق بنا. فشرحنا المأزق الذي نحن فيه. اغتبط قليلًا، ولكنه أرسل أحد البغَّالَين ليعود للبحث عن المحفظة.

وتعويضًا لنا بعض الشيء، قوبلنا هنا بحفاوة بالغة من قهرمان أحد الأقطاب المحليين، والآن نجلس متكئَين بجوار نيران زكية الرائحة ونلعب البريدج الثنائي. ثَمَّة راحة في صوت غَلَيان وعاء السَّماوَر لإعداد الشاي. أتضرع إلى الرب أن يكون البغَّال قد وُفِّق في مهمته — كان قد دخل لتوه. كلا لم يدخل، في الواقع لم يكن قد انطلق بعد، والآن يريد أن يذهب حاجي بابا معه، مقابل تومان لكل واحد منهما. أعطيتهما تومانَين من التومانات الاثنتَي عشرة المتبقية معي، وها نحن أُولاء في وسط أذربيجان ومعنا ما يزيد قليلًا عن جنيه واحد لنرجع به إلى طهران.

«مرَّ بعض الوقت». وجد كريستوفر المحفظة داخل قميصه. كان قد فات أوان إيقاف البغَّال، لكننا كنا قد أعطينا عباس تومانَين لتعويضه عن شكوكنا، دون أن نُفصِح عن أنهما كانا من أجل ذلك.

أقبلاغ (٥٥٠٠ قدم تقريبًا)، ٢٠ أكتوبر: كان كريستوفر يشعر بالإعياء حين استيقظ، وذلك من أثر البراغيث. عندما رأى القهرمان ذلك، أحضر له قمعًا من العسل الأسود وقال إنه إذا أكل هذا لمدة أربعة أيام، مع الامتناع في الوقت نفسه عن تناول خُثارة اللبن والروجن، وهو الزُّبد العفِن الذي يطهون به كل شيء، فستتجنَّبه البراغيث كما تتجنَّبني. عندما كنا نتناول الإفطار المكوَّن من حليب وبيض بجوار النار، دخل صبي في نحو الرابعة عشرة من عمره بصحبة رجل مُسنٍّ وحاشية من الخَدم. بدا أن هذا كان الإقطاعي، الذي ندين له بكثير من الطعام والرعاية، وأن الرجل المُسن كان عمه. اسمه محمد علي خان، ووصفه مضيِّفنا لليلة بأنه «سيد جميع القرى».

سار البغَّالان عشرين ميلًا في الليل، إلى القرية التي انطلقنا منها، ورجعا. كانا اليوم نشطين كعادتهما، وربما أكثر؛ لأنه لم يكن معهما أي أفيون.

بعدما قطعنا فرسخًا واحدًا وصلنا إلى سراسكند، وهي بلدة قروية بها صالة شاي قديمة من القِرْميد تُضيف عليها فخامة. أحضرنا هنا بعض العنب من أحد المتاجر، والذي كان يبيع أيضًا أقلام رصاص بافارية، ورءوس أقلام حبر من الصلب، وأقمشة مزركشة. وصلنا عصرًا إلى داشبلاغ، واسترحنا بجوار مجرًى مائي لنتأمل المجموعات الصغيرة من المنازل الطينية الرمادية، والأبراج المخروطية المغمورة بروث مجفَّف، والجذوع البيضاء الطويلة للأشجار ذات اللون الأخضر الذهبي أمام التلال الجرداء المخضَّبة بلون وردي.

تقع أقبلاغ في مكانٍ أعلى ومكشوفة جدًّا؛ فسترها الوحيد هو شجرة واحدة شديدة القِصَر تعصف بها الرياح. غربت الشمس وراء القمم المزدوجة. على ضوء فانوس في غرفتنا الحقيرة العديمة النوافذ، أخذت أضع كمَّادات الماء على جبهة كريستوفر؛ إذ كانت لدغات البراغيث قد أصابته بالحمى، وفي الواقع كان بعضها متقرحًا جدًّا حتى إننا وضعنا الويسكي عليها، بدلًا من أي مطهِّر آخر. لحسن الحظ أنه لم يكن شديد الإعياء للدرجة التي تمنعه من الرد على عبارات المجاملة التي ألقاها السيد:

«السلام عليكم.»

«وعليكم السلام.»

«هل حالة سُموك جيدة، بإذن الله؟»

«شكرًا للرب، جيدة بفضل إحسان فخامتكم.»

«كل شيء تأمر به سُموك سيسعى عبدك المحبُّ إلى أدائه. هذا البيت هو بيتك. جُعلتُ فِداك.»

«عمرًا مديدًا لفخامتكم.»

إنه رجل مُسنٌّ يتسم بالوقار، وهو يجلس الجِلسة الرسمية، واضعًا رجليه أسفله، ويداه مخفيتان، وجَفناه مرتخيان، بينما نتمدَّد على البُسُط كأطفالٍ رُضَّع خارجين عن السيطرة. يقول إنه منذ سبع عشرة سنةً جاء إلى هنا أربعة من الروس، وقبل ذلك لم يكونوا قد رأوا إفرنجيًّا، ومنذئذٍ لم يروا واحدًا. يجلس ابنه إسماعيل بجواره، وهو صبي ضعيف البنية كان مريضًا جدًّا منذ بضع سنوات، فذهب أبوه إلى مدينةِ مشهد ليدعو له.

بغرض التداوي كان كريستوفر قد أخذ جرعةً من الأفيون وتناول سلطانيةً من العسل الأسود السائل. هذا أفضل ما بوسعنا فِعله.

زنجان، ٢٢ أكتوبر: «الفندق الكبير - دار البلدية» مجددًا.

أصبح النزول الطويل إلى ميانة مضجرًا أكثرَ فأكثر؛ إذ أبى ذلك المكان أن يظهر. طلب منا صبيٌّ راعٍ يشبه داريوس في ثيابه «بَرديةً»، وكان يقصد الكلمة الروسية التي تعني سيجارة. كثيرًا ما كان الناس يخاطبوننا بالروسية في صالات الشاي على طول الطريق، ولكنه بدا غريبًا أن نسمع ذلك في هذه التلال المنعزلة النائية. كان البغَّالان وعباس يدخِّنون غليون الظهيرة في منزلٍ منعزل مشيَّد من جذوع الأشجار، كان المنزل الوحيد الذي مررنا به في مسافة عشرين ميلًا. عندما ظهرت ميانة للعِيان، أسرعتِ الخيول مع أنها كانت لا تزال على بُعد ساعتين. بعد أن عبرنا مجرى نهرٍ واسع، دخلنا البلدة من جهة الغرب.

بدا وكأننا هبطنا من السماء. حيث تدافع الناس خارجين من عتبات منازلهم. وأحاط بنا حشد من الناس. تحملت الجانب الأكبر من عبء التعامل مع الشرطة المدنية. ذهب كريستوفر إلى شرطة الطرق، التي ينتمي إليها عباس، وعاد بقائدها. كان مرتابًا بشدة.

«هل صورت أيَّ شيء على الطريق؟»

أجاب كريستوفر بلا مبالاة: «أجل، حجرًا قديمًا رائعًا، مِدكًّا في الواقع، في صومعة سرا. حقًّا أيها الأغا عليك الذَّهاب وإلقاء نظرة عليه بنفسك.»

لم يسكن ارتيابُه عندما أكَّد عباس صِدق هذا القول.

كان قد قيل بالطبع للبغَّالين أن يأخذوا من المال أكثرَ مما كان مستحقًّا لهم. أعطاهم كريستوفر إحدى بطاقات الزيارة الفارسية الخاصة به، واقترح عليهم إما أن يضربوا ربَّ عملهم أو أن يشتكوا للقنصل البريطاني في تبريز. قفزنا في شاحنة، ووصلنا هنا في الساعة الواحدة صباحًا، وأُعطينا غرفة التخزين لننام فيها. هذا الصباح قتلتُ ست عشرة حشرة بق، وخمسة براغيث، وقملة، في كيس نومي.

كريستوفر في حالة يُرثى لها. فرِجلاه متورِّمتان إلى الرُّكبة وتغطيهما نافطات (بُثور مائية). حجزنا مقاعد في سيارة ستغادر من هنا عصر اليوم، ومن المقرَّر أن تصل طهران عند منتصف الليل.

هوامش

(١) هكذا يسميها الأتراك المحليون، بالفارسية: سينجيد، وهي قريبة لشجرة الغُبَيراء الإنجليزية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤